دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
77

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

تصانيف

تعال ولا تتردد، لم تتوقف عند الباب ولا تدخل؟ ابرز من وراء الشجر أو اهبط كملاك أو حط علي كجناح غراب أو نسر أسود، ألم تصدق أن الأبواب فتحت دائما في وجهي، وأن بابي لم يغلق في وجه أحد؟ أنت يا من كنت أشعر به يتبع خطواتي، وأحس أن ظله يلاحق ظلي، كيف أغلق بابي في وجهك؟ •••

لم أستطع أن أكتب الوصية، وبماذا أوصي ولمن؟ أليست حياتي هي وصيتي؟ ألا يكفيك أنني عشت وأحببت وتعاطفت وأعطيت ولم أغلق باب الكوخ ولا باب القلب؟ ألا يكفي أن تكون هيبارخيا قد ختمتها بقبلة لم تغب حلاوتها عن شفتي؟ أليست هذه هي وصيتنا لابننا الغائب الذي جرفه الإعصار وذهب ولا ندري إن كان سيرجع؟ ألا تصلح لكل الأبناء وتغني عن كل الوصايا ؟! •••

تعال ولا تتردد، قلت إنني على استعداد للقائك، كنت دائما على أتم استعداد، لا تريد أن تدخل الآن؟ تريد أن تفاجئ وتباغت كعادتك؟! ليكن هذا لك، فيوما ستأتي وسأكون أنا وهيبارخيا في انتظارك، لكن أرجوك ألا تخطئ، أرجوك أن تبدأ بالمسخ القبيح والأحدب الحزين، بالكلبي الذي أراد أن يحول الكلاب إلى بشر، أن ينهي عصر الكلب ليبدأ عصر الإنسان، وإذا كان الزمن قد تغير دون أن يتغير الناس، فربما أكون قد تغيرت قليلا قبل حضورك وربما أنجح في تغيير إنسان يسمع عني أو يقرأ وصيتي التي عشتها ولم أكتبها، وصيتي التي بدأتها هيبارخيا بقبلة وختمتها بقبلة. •••

وتذكر يا صديقي أنني إذا كنت قد فشلت فقد حاولت وحاولت، واذكر حتى لا تخطئ هدفك أنني كراتيس ابن أسكونداس ووالد بازيكليس، الكلبي المشهور في زمانه باسم المسخ القبيح والأحدب الحزين، الذي عاش في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، وازدهر وبلغ الشهرة الزائلة في المهرجان الأوليمبي الثالث عشر بعد المائة عندما بلغ من عمره الأربعين، والذي ينتظرك الآن وقد جاوز السبعين.

دموع البلياتشو

1

وهو خارج من الباب الجانبي لوزارة المالية تذكر أمرين لم يدر كيف شغلته عنهما الحسابات وكشوف المرتبات ومراجعة الأعداد والأرقام: السؤال عن مصير طلب النقل الذي سلمه لرئيسه الأستاذ محمود عبد المعين راجيا الموافقة على تحويله بدرجته الوظيفية للعمل بالسيرك القومي، والحلم الذي رآه ليلة الأمس وما زال يتذكر، برغم الصور والأصوات المشوشة التي أخذت تفر منه هاربة كصور السينما الصامتة التي كان يعشق منها أفلام شارلي شابلن وغيره من المضحكين والمهرجين، كيف تجلى له وجه أبيه كالبدر وراح يسأل عنه وعن أولاده ويوصيه بصوته المتهدج الحنون وصايا كثيرة، لم يبق منها إلا الحروف التي تنطق باسم بدر. واجهته ضوضاء الشارع الذي يقطعه كل يوم في طريقه على محطة الأتوبيس، والفوضى التي تصب كل شيء يراه أو يسمعه في بحرها الجهنمي المضطرب: نداءات باعة الليمون والبصل والخضروات والفاكهة والروبابيكيا، الأصوات العالية التي لا تخلو أبدا من البذاءة، ضجيج أجهزة التخلف والغباء - كما كان يحلو له أن يسميها - التي تتقاطع وتتصادم بالأخبار والضحكات والشتائم والأغاني الهابطة ومباريات الكرة وحنجرة أم كلثوم الذهبية، ثم هذا الملل والضجر الفظيع الذي يخيم على الأرض والسماء والتعاسة التي تسيل أنهارا من عيون الأطفال العائدين من مدارسهم ومن عيون الكلاب العجفاء الجائعة التي يطاردونها بالحجارة، توقف عند بائع الخضر والفاكهة الذي يعرفه ويألفه منذ سنين، وتدخلت بينه وبينه صورة الأب الذي رآه في الحلم وبدأت تتضح له الآن بالتدريج فلم يدر إلا والبائع يضع في يده وعلى ذراعه كيسين لم يعرف بماذا ملأهما ويده التي بقيت حرة تمتد إلى جيبه وتنقده الثمن الذي طلبه.

وحمل الكيسين في يد وضم الأخرى على الأهرام وبعض الأوراق التي تتطلب المراجعة في البيت، وسار في طريقه المعتاد وصورة أبيه وحديثه يشغلانه عن كل ما حوله ومن حوله، تذكر أنه هتف به فرحا لا يصدق: أبي؟ - كيف حالك يا بني وكيف حال بدر؟ - بخير يا أبي يقبلان يديك وعينيك.

تذكر أنه سأل نفسه في الحلم إن كان يعني ابنه بدرا أم يقصد البلياتشو الذي اشتراه له وهو صغير ولم يزل يحتفظ به ويتطلع لوجهه المضحك كل يوم، ولم تطل حيرته كثيرا حين تغير صوت أبيه وأدرك فجأة أنه تركه طفلا صغيرا يذهب إلى المدرسة الابتدائية بالمريلة الصفراء والشريط الأحمر المعقود على صدره. - أقول لك بدر فتقول يقبلان يدي؟ هل أصبحتم تخلطون بين المفرد والمثنى؟ هل فسد التعليم إلى هذا الحد؟

قال له مكررا أسفه: معذرة يا أبي، نسيت أن الزمن لم يتوقف وأن الدنيا تغيرت.

صفحة غير معروفة