وأرح النفس مع الجسم!
آه! ها أنا ذا أنساق مرة أخرى وراء الشعر الذي هجرني في شبابي ويصر الآن على أن يزورني معك، وأنسى وكيف أنسى العينين اللتين أنقذتاني من شد الحبل على الرقبة وإراحة النفس مع الجسم.
كانتا تتبعاني دون أن أشعر بهما، ترمقاني في المواقف الصعبة فتسكبان ماء الحنان على رأسي الغبي الخشن، وتسبحان بجسدي المرهق وعقلي المكدود من أرض الحرمان إلى سماء الحب والصفاء، لم أفطن إليهما ولا إلى الوجه الصبوح الفاتن إلا كما يفطن التائه في البيداء أو الضائع في الغابة المظلمة الكثيفة الأحراش إلى ومض البرق الخاطف والنجم المرتعش في الأفق البعيد، لكنها كانت هناك على الدوام، تراني ولا أراها، تسمعني ولا أحس صوتها، وتعد الطوق والقفص الذهبي للمخلوق العنيد العجوز الذي نسي نفسه وهو يحرس الأغنام الفقيرة وينبح الذئاب المسعورة ويمد يديه إلى المكسورين والمجروحين.
بعد أن وزعت ثروتي على عبيدي وخدمي وعمال مزارعي ومراكبي وسفني وحراس قصيري وسياسي خيولي ورعاة أغنامي وقطعاني، انتبه أهلي الذين باغتتهم المفاجأة، كنت أجتمع بأصحابي وتلاميذي القليلين تحت أريكة عتيقة على ربوة تطل على المدينة عند طرفها الجنوبي وتقع في خرابة رحبة تناثرت فيها أشجار الصبار والحجارة الكابية والشواهد الباقية من مقبرة مهجورة وأطلال معبد قديم، وكنت أواصل خطبي ودروسي مع مواصلة تعذيبي لنفسي وجسدي، في مبدأ الأمر كان جمهوري مجموعة من المتسولين والمتسكعين الذين دفعهم الفضول والفراغ لحضور دروسي، ثم توافدت أعداد أخرى من العبيد والمزارعين والرعاة والصيادين الفقراء، ومع الأيام تنادت أصوات المظلومين والمعاقين والساقطين في قاع «هاديس» مدينتنا المزدحمة كغيرها من المدن بالمنسيين، وازدادت شعبيتي كما يقال فشرعت وجوه بعض الوجعاء والرؤساء تظهر أبهتها وزينتها وسط جموع الأشباح المتلفة حولي كالزهور المعتدة بجمالها بين أوراق الخريف، كانوا يأتون رغبة في الترفيه عن أنفسهم والتسلي برؤية وسماع «الكلبيين»، أولئك الذين يدعون أنهم رسل الآلهة إلى البشر المتكالبين على اللذات والصراعات والطموحات، وأنهم ينقذونهم من حياة الكلاب التي يعيشونها بالإمعان في حياة الزهد والبؤس والعري والاستغناء التي لا يعرفها إلا أبأس الكلاب، وينصرف أكثرهم حين لا يجدون عندنا مذهبا ولا مدرسة ولا ثرثرة بليغة مما ألفوا سماعه في الأكاديمية واللوقيون وحديقة أبيقور. كنت أتابع أحاديثي عن الرجوع إلى الطبيعة والفطرة، وأصب لعناتي على المدينة والمدنية، وألقي أحجاري على مرايا الحضارة والتحضر التي يتلذذ أبناء نرجس المغرورين بالنظر فيها ليل نهار، وأسوق قطيعي المحزون في الحواري الضيقة والشوارع الموحلة والقرى المنسية والخيام والأكواخ المنبوذة على أطراف المدينة ونعيش كالكلاب لكي نقول بصمتنا وخرقنا البالية أنهم هم الكلاب. إن الإنسان قد وجد على الأرض ليكون سيد نفسه وحاكم عقله ومالك قدره، نعم! كنا نتضع إلى الحضيض ونتحمل احتقار السادة وسخرية الغانيات وهتافات الصبية وحجارتهم التي يقذفوننا بها لكي ينطق بؤسنا وعرينا بأننا الكلاب الحارسة للرعاة الحقيقيين: للحرية والإنسانية والسعادة والطبيعة الطيبة الحنون، لم أشك لحظة في أن طريقنا سيجتذب الطيبين مع المحتالين، والقديسين مع الأوغاد، والحكماء مع الدجالين، ولم أتوقف لحظة عن الحلم بالإنسان المثل والإنسان الملك والإنسان الإلهي الذي سيخرج من وسط حشود المحتقرين والمهانين كما تحتقر الكلاب وتظلم وتهان في المدن المسعورة، وعرفت وعرف أصحابي وتلاميذي أننا نذر الاحتجاج الصامت على هذه المدن. أجراس الخطر المعلقة في عنقها المهول، وبلغ الأمر حد التبشير بفردوس كلبي سميته «بيرا» وحاولت أن أقيمه مع تلاميذي على حدود الجحيم الذي نعيش داخل حدوده، ساخرا بطبيعة الحال من مدينة الثرثار الرائع أفلاطون، من حراسه الأغبياء وحكمائه المعتوهين وصناعه وزراعه المستعبدين وعدالته الظالمة ونظامه السخيف المستحيل. •••
وذات يوم ونحن في ظل الأريكة نجتر همومنا وذكريات خيباتنا ونستعد للقيام بجولتنا اليومية، إذا بعاصفة من الضوضاء المرعبة تزحف علينا، وعندما انجلى الغبار وأسفرت الأقنعة عن الوجوه تبينت ملامح أعرفها جيدا، كان نفر من أهلي وأقاربي قد انقضوا علينا كالوحوش الكاسرة. اضطرب نظام الجماعة فتقدمت الصفوف لأواجه خناجرهم وعصيهم وأكفهم الشرسة، وزعق صوت أليف: أيها المجنون الجاحد! كيف تبدد ثروتك على الكلاب! قلت بهدوء: هي ثروتي التي جمعتها بجهدي ووزعتها باختياري. قال شاب تفرست في وجهه طويلا قبل أن أتذكره: تترك أبانا المريض وتنثرها على حشرات الأرض؟ أجبت في هدوء أشد: وألقيها في البحر طعاما للأسماك، ما شأنكم أنتم؟! زمجرت الحناجر الصاخبة واشتعل الغضب في العيون المكفهرة: سنرفع دعوى الحجر عليك، سنثبت أنك مجنون أحمق، وأنك تئوي المجرمين وتحمي اللصوص وتتخلى عن لحمك وذوي قرباك. أردت أن أقول إنني لم أتخل عن أحد ولم أنس نصيبهم ولم أحم اللصوص والمجرمين، لكن اللكمات والصفعات والضربات التي انهالت على كتفي ورأسي وضلوعي غيبت صوتي وعقلي وألقت جسدي على صخور الحقد والكراهية، ولبثت وقتا لا أعلم مداه حتى فتحت عيني على الوجه الصبوح والعينين الواسعتين اللتين تسكبان ماء الحنان على الرأس المنهك الذي بدأ يفيق من الصدمة، قال الصوت الناعم الحنون: اطمئن يا راعي الطمأنينة! فر الكلاب والذئاب نادمين. قلت وأنا أستجمع أشعة نفسي وأوتار حنجرتي: هل كنت هنا عندما هبت العاصفة؟ قالت ضاحكة: أنا معك على الدوام، قبل العاصفة وبعدها! هززت رأسي متحيرا وسألت: أو استمعت إلي ورأيتني قبل الآن؟ علت ضحكتها قائلة: وصحبتك في جولاتك يا من لا ترى غير أفكارك ولا تسمع غير كلماتك! أردت أن أحتج على سخريتها وأخرج من دائرة حصارها ولكنها أسرعت بوضع يدها على فمي، ثم مدتها وجذبت رأسي إلى الوراء وهي تشير قائلة: انظر هذا الذي يراقبنا هناك. وانفلتت جارية وهي تصيح: إنه أخي بتروكليس، انتظر لحظة واحدة. حدقت في الشبح الواقف بعيدا بقدر ما استطاعت عيناي المتورمتان، كان واحدا من السادة الذين أعلنت عليهم حرب احتقاري وقذفتهم بحجارة لعناتي، يتدثر في عباءة سوداء فضفاضة، ويبدو تحت ظلال أشجار الصنوبر التي تغطيه ساعة الغروب في هيئة الذئاب الجشعة التي تتربص بأغنام المساكين. رأيتها تحرك يديها كأنها تؤكد عباراتها التي لا أسمعها وتدعم تصميمها عليها، وما هي إلا لحظات حتى رجعت ضاحكة كاللبؤة المنتصرة، تهتف صائحة بصوت ذكرني بصيحات عرافة أبوللو المشحونة بأسرار النبؤة: زيوس يدعوك للمثول أمامه، وهيرميس جاء يبلغك رسالته! سألتها في هدوء: زيوس ورسوله، ماذا تقصدين؟ قالت وهي تضحك وتمسك بذراعي: الرسالة واضحة يا فيلسوف الكلاب الإلهية! رفعت حاجبي دهشة فوضعت ذراعها في ذراعي وهي تدفعني إلى الأمام مع اندفاع جسدها اللدن الجميل وضحكات فمها الصغير العذب: لقد اخترتك وهو يريد أن يقنعك بأن تقنعني بالعدول عن اختياري! وشدت يدها على يدي، فسرى الدفء في دمي مع أغنيات الطيور التي هجرته مع أزمان وتركته لنعيب البوم ونعيق الغربان، وطفقت أفكر فيما قالته وأستعيده وأفسر ألفاظه التي أخذت ترتسم أمامي وتتشابك في بعضها كحروف لغة لا أفهمها ولا أدري كيف أفك أسرار رموزها، وعندما طارت حمامة يدها من يدي انتبهت عليها وهي تدق على فتاحة باب ضخم لم يلبث أن انفتح وظهر وراءه السيد الذي حدثتك عنه. قالت وهي تضرب صدره بقبضتها مداعبة: هذا هو شقيقي الفيلسوف بتروكليس الذي لم يعرفه أحد حتى الآن، وهذا ... قاطعها الشاب الطويل الواسع العينين وهو يصافحني: الفيلسوف الذي لا يجهله أحد. •••
وجدت نفسي في قاعة فسيحة تضيئها أنوار شموع انعكست ظلالها على وجوه تماثيل تحدق في عيونها الرخامية المطفأة من كل جانب، وفي صدر القاعة جلس رجل ضخم البنيان وقور الملبس والملامح والشعر الذي جلله ثلج الشيخوخة، أقبل علي مرحبا وشد على يدي ثم جذبني إلى ركن تحتله أصص تطلع منها شجيرات الصبار كصفحات سيوف خضراء لامعة: مرحبا بك في بيتي وفي قاعة «هيبا رخيا». سألت وأنا أخفض رأسي وبصري: مرحبا يا سيدي ، ولكن من هي؟ ماذا قلت؟ أقبلت مسرعة حين سمعتني وتدخلت قائلة: هكذا هو يا أبي، هل رأى أحد خطيبا يجهل اسم خطيبته التي لم تحب سواه؟! تلعثمت مرتبكا وأنا أقلب بصري بينها وبين أبيها: ولكن يا سيدي ... زجرها أبوها بنظرة غاضبة: هيبارخيا، اتركينا الآن.
دعاني إلى الجلوس منفردين في الركن القصي بجانب الشجيرات التي تلمع فروعها بأشواك ناتئة أحد من الظنون والهواجس التي تجرح عقلي. قال هامسا: أرأيت الآن أي ورطة أوقعتك فيها هيبارخيا بعد أن ورطتنا؟ حاولت أن أشرح له موقفي، فأشار بيده ألا أكمل، واستطرد يقول وهو يطرق برأسه الثلجي الشعر: هذه هي ابنتنا الوحيدة العنيدة، لم تكتف بترك أبيها وأمها العجوزين لتهيم وراءك أنت وأصحابك حتى جاءت بك لترغمني على ابتلاع قرارها، لا تقل شيئا! أعلم أنك كنت مشغولا عنها كما أعلم أنها لم تشغل بغيرك، لكني أطمح أن تقدر مشاعر أبوين عجوزين وحيدين، فكر كذلك ... قلت وأنا أسحب عصاي وأقف غاضبا: فيما سيقوله الناس ويروجه الأصدقاء والحساد من أرباب الثراء والشهرة، لا داعي لتضييع الوقت، تعالى يا هيبارخيا، تعالوا جميعا لأكملكم على طريقتي.
لم أنطق بحرف واحد، فالفعل دائما هو حجتي وبرهاني. وجدتني أخلع معطفي وهلاهيلي المليئة بالثقوب والرقع والبقع المسودة الداكنة كأنها خرجت لتوها من جحر الفئران، ألقيتها على الأرض ووقفت أمام عيونهم التي تحاصرني بدهشتها واستهجانها كالقرد العاري، ثم ألقيت العصا التي أستند عليها، فاصطدمت بالأرض وأخرجت صوتا مكتوما، وتناولت جرابي الجلدي المغبر الذي طالما جعلته مخدتي عندما أنام في العراء، وأخرجت منه الصحن النحاسي الصدئ الذي أضع فيه طعامي وأستغنى به عن موائد اللئام، وقلت بصوت رن بأرجاء القاعة الرحبة وارتعشت لصداه أجساد الشمع المرتعشة تحت نيران اللهب الأزرق: هذا هو عريسك، وهذا هو كل ما يملك، انظري وفكري جيدا ثم اتخذي قرارك.
تقدمت هيبارخيا بخطوات بطيئة نحو الكومة الراقدة في وسط القاعة كالشبح الفاتن الحزين لأويريديسه الخارجة من أعماق هاديس في أثر شاعرها الإلهي الملهوف. انحنت على المتاع المتهالك على الأرض مثل جثة قطة سوداء ظلت صغارها ترضع من أثدائها دون أن تدري أنها ماتت وتركتهم وحدهم، والتقطت المعطف البالي وبسطته على كتفيها قبل أن تدخل فيه ذراعيها، ثم انحنت مرة أخرى ككاهنة تؤدي طقسا مقدسا، فأخذت العصا والجراب ووضعت فيه الصحن الذي حملته بحرص وحنان كأنه تحفة ذهبية ثمينة، وأقبلت علي متهللة الوجه متألقة العينين مفترة الشفتين عن بسمتها الساحرة العذبة وهي تقول بصوت هامس ولكنه مسموع: وأنا رضيت بحياتك وقررت أن أشاركك فيها. ثم التفتت إلى الوجوه المذهولة ورفعت صوتها: أشاركك فيها حتى أموت معك ولأجلك يا زوجي وحبيبي الأحدب الحزين، هيا نخرج من هذا البيت ولا نرجع أبدا. •••
غادرنا القصر الشامخ والقاعة الفخمة دون أن نلتفت وراءنا. كانت دهشتي أعظم من دهشة أورفيوس لو كذبنا الأسطورة وتصورنا أنه وجد نفسه خارج العالم السفلي وفي ذراعه زوجته وحبيبته الجميلة، أما دهشة الأب والأم والأخ الغاضب فسمعنا أصداءها المدوية قبل أن نغلق باب السور من خلفنا. زعق الأب كالأسد المحتضر: وا فضيحتي في السوق والشارع ومجلس المدينة! وصرخت الأم المشلولة كأن الزلزال فك الأغلال عن جسدها وصوتها المرتجف: ضاعت ابنتي وجنت! وانتهت إلينا صيحة الأخ الثائر يهدد بالانتقام من الكلب العجوز الذي ربط الزهرة في ذيله وهرب. وشدت هيبارخيا على يدي وهي تقول: يكفيني أن أكون معك ولك. نظرت إليها وابتسمت: إلى الأبد؟! قالت بتواضع كلبية أصيلة: إلى آخر العمر المحدود على الأرض المحدودة.
صفحة غير معروفة