تحقيق الوحدة في مواجهة التجزئة، وهذه قضية أخرى نفكر فيها ليل نهار، تقام من أجلها الدول، وتنهار الأنظمة، وتندلع الثورات ثم تقام الثورات المضادة. كل الأحزاب وحدوية، والأحزاب المخالفة انعزالية طائفية. أمة موحدة تاريخا ولغة وحضارة، ومصلحة وهدفا ومصيرا. جزأها الاستعمار، واحتلت الصهيونية قلبها، عزلت كبراها، وتفردت بصغراها واحدة تلو الأخرى. وقضية الوحدة معروضة في أصل الوحي:
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف : 39]،
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء: 92]. وأفاض الحكماء والصوفية في الحديث عن الواحد والوحدة، والاتحاد والحلول والفناء، وفضح المتكلمون الثنوية والتعدد والشرك، وعشقوا أفلوطين. وقامت أحزابنا كلها باسم الوحدة، واندلعت ثوراتنا من أجل الوحدة، وفتحت السجون أبوابها لدعاة الوحدة. وما زلنا نعاني من التجزئة، وقد احتلت الأراضي، وتوالت الهزائم بسبب التجزئة، ومع ذلك لم تطرح في مناهجنا فلسفات الوحدة وتجاربها، ولا جعلناها مادة أساسية في التكوين. وقد غزانا هيجل لأن فلسفته تقوم على الوحدة. وحتى الآن لم تصغ الوحدة حتى كسؤال ميتافيزيقي، مع أن القدماء قد وضعوا هذا السؤال في مباحث الوحدة والكثرة عند المتكلمين، ومباحث التوحيد عند الحكماء، ونظريات الاتحاد والحلول ووحدة الوجود عند الصوفية، ووحدة الأمة عند الفقهاء. (5)
تحقيق الهوية في مواجهة التغريب. وهذه قضية أساسية تطرق إليها المثقفون، وانقسمت الأمة بسببها إلى قسمين: دعاة المحافظة على الهوية بأي ثمن مما أدى إلى ظهور الجماعات الدينية المحافظة كرد فعل على ظاهرة التغريب والارتماء في أحضان الآخر. فالتحدي الأعظم بالنسبة لكل فرق الأمة حاليا هو كيف يمكن المحافظة على الهوية دون الوقوع في مخاطر الانغلاق على الذات ورفض كل مساهمة للغير، وكيف يمكن مواجهة ثقافات العصر دون الوقوع في مخاطر التقليد والتبعية؟ إن هذه هي القضية التي نثيرها جميعا باسم الأصالة والمعاصرة، وهي موجودة في أصل الوحي عندما أبقى الإسلام على الهوية العربية وبعض قيم الجاهلية وأعرافها وطورها في منظوره الجديد، وهي قضية عرض لها الحكماء فظلوا مفكرين إسلاميين متمثلين لثقافات الغير، وفي مقدمتها ثقافة اليونان، وهي القضية الأساسية التي تعالجها العلوم الاجتماعية الغربية الآن لدراسة تطور المجتمعات النامية. (6)
تحقيق التقدم في مواجهة التخلف. وهذه قضية يتناولها الجميع ويتناقل الفاظها، حتى أصبحت من أكثر القضايا شيوعا وشهرة؛ هذا متقدم، وهذا متخلف، وهذا تقدمي، وهذا رجعي. وما زال اللفظان يثيران الشباب. وقد تعرض أصل الوحي للمفهومين:
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر [المدثر: 37]. بل إن تطور النبوة ذاتها يمثل تقدما للوعي الإنساني من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. ورسالات الأنبياء إنما كانت علامات مميزة لمراحل التاريخ. وقد أسس التراث الغربي لمفهوم التقدم علما بأكمله هو فلسفة التاريخ ، محاولا وضع قانون لتطور المجتمعات، ومراحل تاريخها ابتداء من المرحلة الدينية إلى مرحلة الميتافيزيقا إلى مرحلة العلم، ومن مرحلة الآلهة إلى مرحلة الأبطال إلى مرحلة الإنسان، أو من الصيد والقنص إلى الرعي إلى الإقطاع إلى الرأسمالية وأخيرا إلى الاشتراكية. ولم ندرس فلسفة التاريخ في جامعاتنا إلا كمادة إضافية دون أن نصوغ قانونا لها، ودون أن نراجع أحكام الغرب على الشرق أو نراجع ابن خلدون في تصوره للدورة والسقوط ونحن في عصر النهضة.
6 (7)
تجنيد الجماهير ضد السلبية واللامبالاة. وهذه قضية قد لا تبدو فلسفية في ظاهرها، إلا أنها في حقيقة الأمر قضية فلسفية بالأصالة. فالفكرة ليست تصورا فارغا، بل قدرة على تحريك الناس، وإلا فلماذا انضم الشباب إلى الماركسية ووجدوا فيها وحدة النظر والعمل. ليس المفكر فكره فقط بل جمهوره، وليس نظرياته فقط بل أمته التي يتحدث إليها ويعمل من أجلها. ولطالما اشتكينا في واقعنا المعاصر من سلبية الجماهير، وعدم تحريكها، وعزلة المثقفين عنها. لقد قاد موسى أمته إلى الخارج، وقاد محمد أمته إلى الداخل، وكان المفكرون في الغرب وراء التاريخ والسياسة: أرسطو والإسكندر، غاريبالدي وماتزيني، هيجل وبسمارك، فولتير والثورة الفرنسية، وابن خلدون وتيمورلنك، ولطالما تحدث الفلاسفة عن «ثورة الجماهير» (أورتيجا أي جاسيه).
سابعا: خاتمة
لا يعني الفيلسوف عندنا إذن صاحب المنصب الشامخ بمعنى كانط وهيجل؛ فهذه المذاهب قد نشأت في ظروف خاصة، وبعد تعرية العالم من أغطيته النظرية الموروثة. إننا لم نمر بعد في هذه الظروف، ولم تحدث عندنا بعد عملية التعرية المشار إليها. ولا يعني الفيلسوف عندنا، مرة أخرى، من يتساءل عن معاني الحياة والوجود الإنساني كما هو الحال في الفلسفة المعاصرة. فقد نشأ ذلك في الغرب بعد أن احتوت المذاهب حياة الإنسان واعتبرته جزءا من كل، ترسا في آلة كبيرة، وليست هذه قضية الإنسان عندنا، قضيتنا غياب الإنسان كله، وما زلنا ندرس «الله» عند الكندي والفارابي وابن سينا. ليس الفيلسوف كل من ادعى رأيا أو من صاغ نظرية من إبداعه أو تقليدا للآخرين: قدماء أو محدثين؛ فالآراء الأصيلة لا يمكن أن توجد لأن الغطاء النظري الموروث ما زال واردا، والغطاء النظري الحديث مزاحم له. ولا يوجد الرأي الأصلي إلا عند بعض الفئات القليلة خاصة في المجال العلمي والتقني والفني. ولكن النملة لا تزاحم فيلا، والفأر لا يزحزح أسدا. وعادة ما يكون أصحاب الموقف دعاة ظهور، وأصحاب بطولات فردية، وليس في الموقف نزال، لكنه يتجاوز مبارزة الشجعان.
صفحة غير معروفة