للوعي الأوروبي إذن تطور وبناء. له بداية وتطور ونهاية، له ظروف تاريخية واجتماعية خاصة ممثلة في الرومانية القديمة، ومعطى ديني خاص هو المسيحية، ونظام ديني خاص هو الكنيسة، وبناء ذهني خاص يقوم على التقسيم، وأحادية الطرف والتعارض بين عوامل الظاهرة الواحدة. وإن الحديث عن عقليات بدائية، أفريقية أو آسيوية، هو في حقيقة الأمر إسقاط من العقلية الأوروبية على غيرها. فأين نحن من هذا كله؟ ديكارت محاولة لإثبات عقائد الدين بحجج العقل والبرهنة على صدق الايمان، وهو تقليد شائع في حضارتنا القديمة كلها عند المتكلمين والفلاسفة. والفلسفة النقدية كأول محاولة للتعرف على إمكانية المعرفة في مقابل الدجماطيقية. والشكية هو ما كان يفعله الفقهاء، من نقد نظريات الحكماء ولاأدرية الشكاك والمذاهب الحسية التي كانت تدافع عن المعارف الحسية، والمشاهدة والتجربة. دعامة العلم الجديد هو ما كان يفعله المتكلمون والأصوليون من اعتبار شهادة الحس ومجرى العادات مصدرا للعلم. والفلسفات الإنسانية والحيوية هي أشبه بمحاولات الصوفية عندنا من تركيز على التجارب البشرية والوجود الإنساني والانفعالات النفسية مثل المقامات والأحوال، وما الفرق بين كيركجارد الصوفي والوجودي؟ لا يعني ذلك أننا أسبق من غيرنا في شيء، أو أن لدينا ما لدى غيرنا، فنثق بالنفس، ونفخر بالأجداد، بل يعني أن المذاهب الفلسفية لا تزرع خارج بيئاتها الأولى، فإذا ما تشابهت المذاهب واختلفت البيئات فذلك لأن الأبنية الذهنية والنفسية والمواقف الحضارية والمراحل التاريخية قد تكون أيضا واحدة. وما دام المذهب الفلسفي قد اجتث من جذوره فلا يمكن فهمه أو الحكم عليه أو التعرف على نشأته. ومن ثم لا يتعلم الطالب أو يفهم شيئا باستثناء مجموعة من المعلومات المتراصة المتراكمة، يحفظها للامتحان وينساها بعده، لا تؤثر فيه ولا يؤثر هو فيها، فقد تم الفصل بين المذهب والموقف، بين العلم والنشأة، بين الفكرة والتكوين؛ ومن ثم لم ينشأ عندنا فكر تكويني يدل على موقف، بل أصبحت ثقافتنا أكواما متراصة من المعلومات، سرعان ما تتساقط جميعا في أول مواجهة لموقف ثقافي أو موضوع علمي. (3)
وقد تعثرت الفلسفة لدينا لأن البعد الثالث في موقفنا الحضاري، وهو الموقف من الواقع، أزيح جانبا وأسقط من الحساب. فتحولت الفلسفة لدينا إلى نقل؛ نقل عن القدماء، أو نقل عن المحدثين، وغاب التنظير المباشر للواقع. أصبحت الثقافة في جانب، والواقع في جانب آخر، ثقافة غريبة، وواقع غير مفهوم، مجرد وعي صوري بلا مادة. وقد يكون السبب في هذا الموقف هو وجود الغطاء النظري التقليدي للواقع، وهو الغطاء الذي يفسر كل شيء، وبالتالي لم تنشأ الحاجة إلى التساؤل عنه أو البحث عن نظرية له. هناك نوع من الوئام بين الأنا والنحن، وبين النحن والعالم بلا قطيعة أو شرخ، باستثناء الفقر كأزمة وضنك. وهما مفهومان في إطار التصور النظري القديم، ومقبولان في إطار الإيمان الشائع والعقائد الموروثة، أو في إطار عدم الالتزام بقضايا الواقع نظرا للتعايش أو القهر السياسي أو لعدم الوعي به والارتباط بقضايا العصر؛ فالفكر ليس بضاعة، والمفكر ليس موظفا. الفكر رسالة، والمفكر صاحب قضية.
3
وكادت صورة الأستاذ الذي يعيش من الفكر أن تصير صورة نمطية من خلال الإعارات أو الوظائف أو الكتب المقررة، وكادت تختفي صورة الأستاذ المفكر الذي يعيش بالفكر، صاحب القضية، والقادر على اتخاذ الموقف. إن عدم التعود على المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار أو نشأتها وتكوينها من الوضع الاجتماعي قد يجعل الباحثين يستسهلون عرض الأفكار، أو التحدث عن الظروف والبيئات في الفصول الأولى، وعن الأفكار والنظريات في الفصول التالية، دون أن يكون هناك رابط بين هذه وتلك. وربما يكون السبب نقصا في التكوين الذهني بالرغم من وجود كم من المعلومات ونقص في الممارسة؛ فالذهن لم يمارس العلم، ولم يتعود على المنهج، ولم يعرف كيف نشأ، فاقتطف الثمرة دون الجذور، وحصل على النتيجة دون المقدمة. وقد يكون غياب معاهد البحث العلمي والعمل الجماعي في إطار مشروع قومي لدراسة الثقافة والفكر والعلم والفلسفة؛ أحد العوامل في إسقاط الواقع من الحساب بعد أن اقتصرت مهام الأساتذة على تخريج مدرسين أو موظفين أو رجال إعلام. كما تحولت الرسائل العلمية الجامعية إلى دراسات للماضي - لشخصية أو مذهب أو عصر - يقل فيها عنصر الإبداع، أي بناء المشكلة الفلسفية ابتداء من الواقع، فلم يعد الطالب يبدع نصا فلسفيا، بل صار مجرد شارح للنصوص. هذا بالإضافة إلى الجو العام لإجهاض العقول، والخطط العامة المعدة لذلك سواء من الداخل أو من الخارج. فليس في صالح الأنظمة القائمة أو المصالح الكبرى أن يبدع العقل الذي هو بطبيعته تمسك بالحريات ودفاع عن المصالح العامة. وقد يتحول الإجهاض إلى إعدام إذا ما حاول أحد الأساتذة أو الطلاب الخروج على المألوف والتمسك بحقه الطبيعي في البحث الحر. فإذا لم يقبل شيئا على أنه حق إن لم يكن مؤيدا بالدليل اتهم بالإلحاد أو الشيوعية، ويصبح شريدا متهما مطاردا لا وطن له ، فلا يبقى له إلا الهجرة إلى الخارج ليتحول إلى مهني صرف، يضع همه في العلم والإبداع العلمي، أو ليواصل المعارضة في الخارج والدفاع عن حقوق الأوطان والشعوب، أو الهجرة إلى الداخل هما وكمدا حتى يصاب بالجنون، أو يعمل عن وعي تاريخي طويل، من خلال الحركات السرية التي سرعان ما يتم انكشافها فيصبح نزيل سجون. إن عدم الالتزام بالواقع له أسباب كثيرة، منها ما يكمن في التراث - أولوية النص - ومنها ما يكمن في النقل عن الغرب - اجتثاث المعرفة عن بيئتها - ومنها ما يكمن في ظرف العصر، وضرورة العيش في ظروف القهر.
إن حل أزمة الموقف الحضاري إنما يكون بإعادة النظر في هذه الأبعاد الثلاثة وأحكامها، وإعادة الاتزان إلى الوعي الحضاري القومي، وفرض الواقع نفسه، أي البعد الثالث، على البعدين الحضاريين الأولين. فالواقع يفرض - وبعد مائتي عام من نهضة حديثة سرعان ما كبت - أن يكون موقفنا من التراث القديم لا موقف المهاجم أو المدافع، بل موقف الناقد والمطور؛ النقد عن طريق وصف نشأة التراث في الظروف القديمة، والتطور طبقا لحاجات العصر والظروف الجديدة. والموقف من التراث الغربي ليس أيضا موقف المدافع أو المهاجم، بل موقف الناقد والراد لهذا التراث إلى حدوده الطبيعية: النقد؛ بوصف نشأته المحلية والقضاء على أسطورة عالميته، والرد؛ لتحجيم هذا التراث لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب. والموقف من الواقع ليس بالعزلة عنه أو بالتمرد عليه؛ فالعزلة إلى الداخل تتبدى في النفس إحباطا وفي الخلية السرية نشاطا، والعزلة إلى الخارج هجرة مهنية أو معارضة سياسية في العواصم الأوروبية أو تمردا عن طريق الانقلابات العسكرية، أو غضب الجماعات الدينية، أو تشكيل أحزاب تقدمية علمانية لأخذ السلطة. الموقف من الواقع هو فهمه أولا، ومعرفة متطلباته، وسبر مكوناته (الثقافة الوطنية، الجماهير الشعبية) حتى يمكن الالتحام به وتفجير طاقاته القادرة على الوقوف أمام الأبنية الاجتماعية والنظم السياسية التي تقوم على التصورات السلطوية الموروثة. حل أزمة الموقف الحضاري إذن في نقل الموقف من مستواه الخطابي إلى مستواه العلمي، وتحويل المواقف الإيمانية بالقديم أو الانبهارية بالغرب أو الخيالية بالنسبة إلى الواقع، إلى مواقف علمية حضارية تاريخية محكمة؛ حتى ينشأ الفكر في مواقف اجتماعية وحضارية وتاريخية محددة، تكون بالتالي أرضا للفلسفة وتربة للفيلسوف.
رابعا: الموقف من التراث القديم
التراث القديم كله استجابات ذهنية لأجيال سابقة إزاء أحداث عصر مضى، ويكشف عن صراع القوى. ولما كان الصراع يحسم لفريق دون فريق، فقد ساد تراث القوة الغالبة على تراث القوة المغلوبة. وتم تدوين كل شيء في التاريخ والأصول والعقائد، أي في «أيديولوجيات» الشعوب من وجهة نظر الغالب، وحيكت مؤامرات الصمت والتشويه حول تراث المعارضة، فتحول هذا التراث إلى تراث سري كما هو الحال عند الشيعة، أو تراث علني لفته مؤامرات الصمت حتى تهدد بالاندثار مثل تراث الخوارج (المعارضة العلنية من الخارج) وتراث المعتزلة (المعارضة العلنية من الداخل).
لذلك كانت الحلول التي اختارها تراث القدماء، وبقيت محفوظة ومدونة في الكتب القديمة هي حلول ومواقف السلطة من حلول المعارضة. وما نقرؤه في التراث، في حقيقة الأمر، هو نتيجة معركة تم حسمها لصالح الغالب ضد المغلوب.
فلو أخذنا مثلا علم العقائد، لوجدنا أن عقائد الفرقة الناجية قد انتصرت، وهي عقائد السلطة، على عقائد الفرق الهالكة وهي فرق المعارضة كما يعبر عن ذلك حديث الفرقة الناجية.
1
صفحة غير معروفة