ومع ذلك يتخلل الكتاب بأقسامه الست، موضوعان رئيسيان بين السطور؛ وهما: أولا مصر والعروبة والإسلام، وثانيا الثقافة الغربية والاستشراق. وهما أيضا الموضوعان الرئيسيان اللذان سيصحبان موضوعي الحوار الرئيسيين بين المراجع والمؤلف؛ توثيقا لأواصر الصداقة، وعقدا للحوار بين المفكرين العرب في المشرق والمغرب.
رابعا: مصر وتونس
ومنذ المقدمة الأولى، يكشف الكتاب عن هوية صاحبه كمفكر تونسي مغربي عربي إسلامي في دوائر أربع متداخلة، وهي دوائر ثقافية حقيقية، دون تنكر لإحداها؛ مرة باسم تونس المنفصلة عن مصر، ومرة ثانية باسم المغرب العربي المنفصل عن المشرق العربي، ومرة ثالثة باسم العروبة المجتثة الجذور عن الإسلام، ومرة رابعة باسم الوحدة الإسلامية التي لا ترتكن على أسس جغرافية أو لغوية. فالنموذج التونسي مائل في الأذهان، ونظرا لمشاركته نماذج مشابهة في أقطار عربية أخرى في المشرق والمغرب على السواء؛ فإنه يتحول إلى نموذج عربي إسلامي، تعميما للجزء على الكل، وانتقالا من الخاص إلى العام دون مجافاة في الحكم أو تعسف في الإطلاق.
كما يعتمد الكتاب على تحليل تجارب حية عاشها المؤلف باعتباره مفكرا وأستاذا، عالما ومواطنا، عربيا وإسلاميا، وطنيا وقوميا. وبالتالي فهو وصف لتجارب حية يشاركه فيها معظم المفكرين العرب الذين ينتسبون إلى هذا الجيل، وإن كان المؤلف يمتاز عنهم بثقافة واسعة وتحليل يقوم على الغوص في الأعماق. وتصل التجربة الحية إلى حد القلق الوجودي الذي يكشف عن أزمة صاحبه، أزمة الفرد والمجتمع، أزمة الحضارة والتاريخ. ولكن أحيانا تطغى الأزمة النفسية على صواب النظرة ويصبح المؤلف شاهدا على عصره أكثر منه عالما يدرس موضوعه. وبالتالي يتحول الدارس إلى مدروس، وتنقلب الذات إلى موضوع.
وهذا هو السبب في انقلاب الموازين وتخلخل النسب بين الدوائر الأربع التي يضع المؤلف نفسه في مركزها: تونس، والمغرب، والعروبة، والإسلام. ويضع لكل منها نقيضا شعوريا ولاشعوريا: تونس في مقابل مصر، والمغرب العربي متمايزا عن المشرق العربي، والعروبة في مواجهة الإسلام، والإسلام يتميع في النهاية لأنه ليس مع أحد أو في مواجهة أحد، فيمحي في إطار الثقافة الغربية والاستشراق.
ويعترف المؤلف صراحة بأن التجربة التونسية هي منطلقه الأول، ولكن أحيانا تتغلب المحلية التونسية على الشمول المغربي، كما تتغلب الخصوصية المغربية فيما بعد على الشمول العربي، وكما يتغلب الواقع العربي فيما بعد على الشمول الإسلامي.
1
ويريد المؤلف اللحاق بالمفكرين المغاربة والوقوف معهم على نفس المستوى من الشهرة والجرأة الفكرية خاصة مفكرهم الأول عبد الله العروي والذي يشير إليه المؤلف باستمرار، مستشهدا به ومؤيدا له دون نقد أو مراجعة حتى يكون «عروي تونس» مسقطا من حسابه اجتهادات باقي الإخوة المغاربة في الرباط وفاس ومراكش والدار البيضاء.
2
ولكن الأخطر من ذلك هو وضع تونس في مقابل مصر، وأن إبراز الأولى ومساهماتها في التجارب الوطنية والإبداعات الفكرية إنما يكون على حساب الثانية؛ إغماطا لحقها وتنكرا لتاريخها العربي والإسلامي. فالكم الهائل من الأحكام الجائرة على مصر إبرازا لخصوصيتها وتمايزها عن العالم العربي ومحليتها وعجزها تثير في الأذهان «البورقيبية» في الحقبة الناصرية.
صفحة غير معروفة