تطبيق أخير:
بعد هذه التناقضات يجب تجاوز ماهية المسيحية وماهية الدين بوجه عام. لقد برهن فيورباخ على أن مضمون الدين وموضوعه إنساني كلية، وأن سر الثيولوجيا هو الأنثروبولوجيا، وأن سر اللوجوس الإلهي الماهية الإنسانية، ولكن الدين ليس على وعي بالطبيعة الإنسانية بل يعارض كل ما هو إنساني، ولا يعترف بمضمونه الإنساني. إن تحويل مجرى التاريخ إنما هو في هذا الاعتراف العلني بأن الوعي الإلهي هو الوعي بالجنس (المنطقي)، وأن الإنسان يستطيع بل يجب أن ترتفع حدوده وفرديته وشخصيته ولكن ليس فوق القوانين والتحديدات الجوهرية لجنسه. لا يستطيع الإنسان أن يوجد أو يشعر أو يتخيل أو يريد أو يحب إلا ماهيته الخاصة باعتبارها مطلقة وإلهية. ويحدد فيورباخ موقفه من الدين بأنه ليس سلبيا بل نقديا، وأنه ليس هادما بل بناء. الدين هو الشعور الأول للإنسان بذاته لأنه شعور الإنسان بذاته، حب الإنسان لذاته، لذلك كانت علاقات الدين هي علاقات الأخلاق، وكانت علاقات الزواج علاقة مقدسة في ذاتها بطبيعة العلاقة وليس لأنه ديني. ويفكر الإنسان المتدين في الله لأن الله يفكر فيه، ويحب الله لأن الله يحبه. وكما أن الله غيور من الإنسان فإن الدين غيور من الأخلاق. إننا عندما نؤسس الأخلاق على اللاهوت والقانون على الشريعة الإلهية يمكننا في الوقت نفسه تبرير أكثر الأشياء ظلما وعارا وتأسيس اللاأخلاقية. إننا لا يمكن أن نؤسس الأخلاق على اللاهوت إلا إذا تم تأسيس الوجود الإلهي أولا على الأخلاق، وإلا استحال الحصول على مقياس للأخلاق واللاأخلاق، وتركنا الأمر للعبث والتعسف، وكأن فيورباخ هنا يعيد مشروع كانط للسلام الدائم بتأسيس السياسة على الأخلاق. إننا لسنا في حاجة إلى شريعة الدولة المسيحية بل في حاجة إلى شريعة الدولة العقلية العادلة الإنسانية. فالعادل والخير الحقيقي يحتوي على أساسه في ذاته وهو القادر على هدم الزيف والخداع الذي يفسد الإنسانية والذي يقتل في الإنسان قواه الحيوية. يجب علينا قلب العلاقات الدينية، وتفسير الوسائل على أنها غايات؛ فالماء ليس هو الماء المقدس في العماد بل الماء في الطبيعة. والخبز ليس هو الخبز المقدس بل هو خبز الجوعى. والجسد ليس الجسد المقدس بل جسد الإنسان العادي. والدم ليس هو الدم المقدس بل دم الشهداء والضحايا. إن الطبيعة في حاجة إلى الإنسان كما أن الإنسان في حاجة إلى الطبيعة. الطعام والشراب، هذا هو سر المشاركة!
وهكذا ينتهي فيورباخ من محاولته لإعادة الدين إلى الموقف الإنساني، وإعادة ملكوت السموات إلى ملكوت الأرض وهو ما حاوله الإسلام قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا، وكأن الفلسفة الغربية كلها منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة وفلسفة التنوير حتى فيورباخ والهيجليين الشبان ما هي إلا محاولة للاقتراب من إنسانية الإسلام وواقعيته ورفضه للكهنوت والأسرار وتأكيده للعقل والتوحيد. فسهام فيورباخ موجهة إلى الدين قبل أن يكتمل وليس بعد اكتماله وتحققه؛
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة: 3).
ثورة الجماهير عند أورتيجا إي جاسيه1
أولا: الكتاب، والأسلوب، والمنهج،
والنسق
يعتبر أونامونو وتلميذه أورتيجا أشهر ممثلين للوجودية الإسبانية وللفلسفة الإسبانية على الإطلاق منذ سواريز
Suarez
في القرن السادس عشر. جعل الأستاذ فلسفته كلها تدور حول الفرد كما يتصوره كيركجارد ونيتشه وبسكال مأساة تنتهي في حشرجة الموت.
صفحة غير معروفة