ثانيا: الجوهر الحقيقي أي
أنثروبولوجيا الدين
يضم «جوهر المسيحية» قسمين أساسيين؛ الأول: الجوهر الحقيقي أي أنثروبولوجيا الدين؛ والثاني: الجوهر المزيف أي ثيولوجيا الدين. يبدأ فيورباخ بالإيجاب قبل السلب، وبالإثبات قبل النفي، فالاغتراب الديني يتمثل في ثيولوجيا الدين، وهو موقف ديني مزيف نتج عن تصوير الثيولوجيا على أنها علم الله يتحدث عن ذات الله وصفاته وأفعاله، ويجعل الله موضوعا مستقلا عن الإنسان، متجسما في وثن نفسي مشخص في الخارج، في حين أن الدين في وصفه الصحيح وهو أنثروبولوجيا الدين، موقف إنساني صحيح يرجع للذات ما سلب عنها من قبل، ويعيد إلى الإنسان أخص خصائصه وهي الصفات مثل الوجود والكمال. يصف فيورباخ الوضع الصحيح أولا ثم الوضع المزيف ثانيا كي يبين الاغتراب الديني أي انحراف الإنسان خارجا عن ذاته ومتعاليا عليها. فالاغتراب طارئ على الصحيح وليس ناشئا منذ البداية كما يقول الوجوديون: إن الإنسان يوجد في العالم مغتربا. ويكون القضاء على الاغتراب والعود إلى الحقيقي هو عود إلى طبائع الأشياء. الصحيح هو الأساس، والاغتراب هو العرض. وإذا كنا جميعا ما زلنا مغتربين فإن تطورنا يشير إلى العودة إلى الأساس. فالأنثروبولوجيا هو علم المستقبل، ومبادئ فلسفة المستقبل.
ويعرض فيورباخ لموضوعات الدين الحقيقي؛ الله كمبدأ وكقانون وكعاطفة وكمال وكوحدة وكصفات مثل الكلام والخلق والعناية والقدرة. كما يتحدث عن الإنسان؛ إيمانه وبعثه وحياته وخلوده، مبينا أن الدين في جوهره هو أنثروبولوجيا أي وصف للإنسان قبل أن يقع فريسة للاغتراب. (1)
الله كموجود ذهني:
لما كان الدين هو قسمة الإنسان على نفسه، فالله غير الإنسان والإنسان غير الله، فالله كامل والإنسان ناقص. لقد قسم الإنسان نفسه إلى وجود وماهية. وأعطى لنفسه الوجود الناقص ولله الماهية الكاملة. وتم ذلك بفعل الذهن. وأصبح موجودا ذهنيا من طبيعة العقل. حدث ذلك عند اليونان والمسلمين والمسيحيين المتأخرين كما حدث في الفلسفة العقلية الأوروبية. يجهل العقل الآلام والقلب والرغبات والوقائع الخاصة ولا يقدم إلا العموميات. أصبح الله لا شخصيا غير مجسم، منزها عن أوصاف التشبيه، لا ينفعل ولا يخضع للأهواء، ماهية مجردة، لا نهائيا، لا ماديا، لا حسيا، لا يمكن تصوره، ولا يعرف إلا بالتجريد، وعن طريق السلب.
الله فكر عام، ضرورة خاصة. الذهن مقياس للواقع، وكل ما يخرج عن الذهن فهو عدم الذهن. هو الأنطولوجيا القديمة التي منها خرج اللاهوت الأنطولوجي الذي يستنبط وجود الله من ماهيته في الذهن كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي عند أنسليم وديكارت. لقد كان ذلك نصرا كبيرا على الوثنية الحسية الخارجية، ولكن الصنم الحسي تحول إلى وثن عقلي يعزى إليه الوجود. إن وحدة الله من وحدة الذهن، ولا نهائية الله من لا نهائية الذهن في مقابل التناهي والتعدد. وقد هدم كانط الدليل الأنطولوجي مثبتا استحالة استنباط الوجود من الفكر، والموضوع من المحمول. يقول كانط: عندما أفكر أكون على وعي بأن هناك ذاتا تفكر وليس شيئا آخر؛ وبالتالي فأنا جوهر، أوقد لذاتي دون أن أكون محمولا لموضوع آخر. ويخلص فيورباخ من هذا التحليل بأن الله ماهية الإنسان بعد أن تم تجريدها في الذهن؛ وبالتالي يعني قدرة الذهن على إدراك الماهيات، وهي حقيقة إنسانية متضمنة في نظرية المعرفة. (2)
سر التجسد أو الله كموجود خلقي أو قانون:
الله من حيث هو كامل أخلاقيا ليس إلا الفكرة أو الماهية المتحققة في القانون الأخلاقي، فالله ليس فقط ماهية عقلية مجردة أو مبدأ عقليا خالصا، ولكنه أيضا قانون خلقي أو مبدأ عقلي يظهر في سلوك الإنسان الأخلاقي. فالوجود الأخلاقي للإنسان موضوع كموجود مطلق لأن الله الأخلاقي يتطلب أن يكون الإنسان مثله، والإنسان الأخلاقي يتطلب أيضا أن يكون الله مثله. «الله مقدس ويجب أن نكون مقدسين مثلما هو مقدس.» يقول كانط: يمكن أن يقال إن الله هو القانون الخلقي ذاته ولكن تم تشخيصه بالفكر. ولكن هذا الموجود الكامل يتركنا باردين، فارغين، فنصبح وعيا بلا قلب. الذهن يحكم طبقا للقانون، والإنسان يعيش بالقلب. القانون يخضع الإنسان والقلب يحرره. إن الحب وحده هو الذي يجعل العندليب مغنيا. القانون يقهر الإنسان فيقابله الإنسان بالتوبة والاستغفار. نفي الإنسان إذن هو نفي للدين. ولما كان الإنسان هو حياته الباطنية فإن الله يظهر من خلالها. ولد الإنسان في الألوهية والألوهية وطنه. يوجد حيث نشأ. الله إذن فكرة وقانون أو كما نقول عقيدة وشريعة للإنسان. (3)
الله كموجود قلبي:
صفحة غير معروفة