ويعطي فيكو أمثلة لهذه الدورات؛ ففي الحضارة اليونانية تظهر المرحلة الدينية عند هوميروس، والبطولية في إسبرطة والإنسانية في أثينا حيث ازدهرت النزعة الإنسانية والحياة الديموقراطية. وفي الحضارة الرومانية تظهر المرحلة الدينية عند رؤساء العشائر وفي تقديس الآباء، والبطولية عند نشأة الصراع بين العامة والأمراء، والإنسانية عند قيام الجمهورية وإعلان الحقوق الإنسانية العامة. وفي الحضارة الغربية تظهر المرحلة الدينية منذ القرن الخامس الميلادي بعد غزو البرابرة الإمبراطورية الرومانية حيث سقطت روما وعادت إلى مرحلة الدين والتأليه، والبطولية في عصر الإقطاع والفروسية والحرب في العصر الوسيط، والإنسانية في عصر النهضة وظهور النزعة الإنسانية. ولا ينسى فيكو ذكر الشعوب غير الأوروبية أيضا ومراحل تطورها، فتظهر المرحلة الدينية في روسيا نظرا لإيمانها الشديد وتسلط القياصرة بالإضافة إلى بلادة شعوبها وكسلها وتواكلها، ويشاركها بلاد التتار والصين والحبشة ومراكش! وتظهر المرحلة البطولية في اليابان لما عرف عنها من شيم البطولية والتضحية، والإنسانية لدى الشعب البولوني والشعب البريطاني. ويلاحظ أن الشرق عند فيكو هو كل ما ليس بأوروبا بما في ذلك آسيا وأفريقيا والجزيرة البريطانية وبولونيا، وأنه استبعد روسيا وبريطانيا من أوروبا، وأنه وضع الصين والتتار والحبشة ومراكش كل ذلك في الشرق دون تفرقة بين الشرق الآسيوي في الصين والتتار، والشرق الأفريقي في الحبشة ومراكش.
سادسا: خاتمة: حدود فلسفة التاريخ
عند فيكو
بالرغم من أهمية «العلم الجديد» وتأسيس فلسفة التاريخ على يد فيكو قبل لسنج وكانط وهردر في ألمانيا وتورجو وفولتير وكوندرسيه وكورنو في فرنسا، واكتشافه التقدم البشري وتطوره في قانون المراحل الثلاث الذي أصبح نموذجا يحتذى به عند جميع الفلاسفة منذ لسنج حتى كونت، وتأكيده على الإنسان العاقل المستقل كقيمة في ذاته، هدف التطور وذروته، والمساواة الطبيعية بين الأفراد والشعوب، وارتباط المراحل السابقة بالجهل والخوف، وهو الدرس المستفاد من جميع فلاسفة التنوير - بالرغم من هذا كله إلا أن فلسفة التاريخ لديه لها حدود تكشف عن وضع هذا «العلم الجديد» في الحضارة الغربية وإمكانية تطويره وإكماله خاصة وأنه ما زال في البداية عند فيكو لم ينته بعد. وتتمثل هذه الحدود في عدة نقاط أهمها: (1)
غلب على الموضوع التفصيلات الكثيرة التي طغت على التصور العام للتاريخ مما أفقد العلم أساسه النظري التصوري. صحيح أن هذه التفصيلات مهمة ودقيقة ولكنها تكون غير ذات دلالة لغير المتخصص في الآداب القديمة والتاريخ القديم. وصحيح أيضا أن فيكو، مثل بيكون من قبل، أراد اتباع منهج الاستقراء لتأسيس العلم الجديد والانتهاء من الجزئيات إلى الكليات، إلا أن الكليات أيضا قوانين مطردة لا تنخرم وهو ما تحاشاه هيجل بعد ذلك بالتركيز على التصور دون الجزئيات. (2)
كثرة التحديدات الزمانية والمكانية جعل «العلم الجديد» أقرب إلى تاريخ الأدب القديم منه إلى فلسفة التاريخ. وكان هردر أكثر احتراسا وحذرا عندما خصص كتابه الأول «فلسفة أخرى للتاريخ» للعرض النظري، وكتابه الثاني «آراء في فلسفة تاريخ الجنس البشري» للتحديدات الزمانية والمكانية والوقائع والتواريخ بالاعتماد على المراجع والوثائق. ويصعب تأسيس «العلم الشامل» على العلم بالوقائع والجزئيات خاصة وأنه في مجالات الدراسات التاريخية قد تصحح الوقائع والتواريخ وبالتالي يصعب إقامة اليقين الشامل على الاحتمال الجزئي. (3)
تغلب على «العلم الجديد» التحليلات اللغوية والعبارات البلاغية اللاتينية. وقد كان فيكو أستاذا للغة اللاتينية وآدابها، ولم يستطع التخلص من مادة الدراسة إلى موضوع الدراسة كما فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة» عندما أسقط أمثلة اليونان مع الإبقاء على الموضوع ذاته. وقد يصعب على غير العليم بالأساطير اليونانية واللاتينية وبأنساب الآلهة وأسمائها أن يتابع فيكو في براهينه واستدلالاته. (4)
صعوبة قبول التفسيرات الأسطورية لبدايات البشرية ولنشأة النظم الاجتماعية كما يفعل فيكو في تفسيره لنشأة نظام الأمومة ابتداء من الرعد والبرق في السماء واضطرار العمالقة الوحوش إلى الاختفاء في الكهوف والجحور لإتيان الفعل الجنسي في الخفاء بدلا من العراء. كما يصعب تفسير بدايات الجنس البشري بالطوفان وقد عاش نوح أربعين قرنا قبل المسيح، والإنسانية سابقة على هذا بكثير. إن الأسطورة قاموس للذهن البشري كما يقول فيكو ، وتدل على بدايات التفكير البشري وكيف استطاع الإنسان أن يصور ذاته، ولكنها لا تدل على بداية الجنس البشري. هناك فرق إذن بين الفلسفة والعلم أو بين الروح والتاريخ، ولكن يبدو أن فيكو يوحد بينهما كما فعل هيجل بعده. (5)
ظهور التطور من خلال النظم الاجتماعية عند فيكو يعطي لها الأولوية على كل مظاهر الروح الإنساني؛ فالنظام الاجتماعي، مثل الدين عند هيجل، هو كل شيء، يكشف عن الدين والسياسة والأخلاق والقانون والاقتصاد والفن. فالتاريخ عند فيكو أقرب إلى التاريخ الاجتماعي منه إلى التاريخ العام. وفلسفته في التاريخ أقرب إلى فلسفة التاريخ الاجتماعي منها إلى فلسفة التاريخ البشري. وقد تكون النظم الاجتماعية تعبيرا عن نظام أكثر عمقا هو نظام «الروح» بتعبير هيجل أو الروح البشرية عندما تصنع ذاتها. (6)
يبدو أن فيكو لا يعتبر نظم الحكم الشعبية الديموقراطية نهاية المطاف في تطور نظم الحكم من عصر الآلهة إلى عصر الأبطال إلى عصر البشرية. ويصف النظم الملكية والأرستقراطية أحيانا بأنها أيضا تنسب إلى عصر البشر. وأن الملوك والنبلاء قد أفادوا وساهموا في تطور نظم البشرية، فهل كان فيكو يعبر عن روح القرن السابع عشر عصر الملكيات والإمارات أكثر مما يعبر عن روح القرن الثامن عشر عصر الثورات والجمهوريات؟ يكون اسبينوزا بالرغم من أنه عاش في القرن السابع عشر إلا أنه بتصوره للمواطن الحر في الدولة الحرة التي تقوم فيها السلطة على العقد الاجتماعي والتعاقد الحر بين الأفراد أكثر تقدما من فيكو وأكثر تعبيرا عن روح القرن الثامن عشر. بل يكون فيكو أقرب إلى هوبز ومكيافيللي في تبرير سلطة الأمير والحاكم منه إلى الدفاع عن حقوق الشعب والنظم الشعبية. (7)
صفحة غير معروفة