وهنا تنشأ الأساطير التي يجتمع فيها الدين بالشعر مثل أسطورة الخلق لدى كل أمة، وأسطورة الفيضان. فكل أمة لديها يهوا أو إله. وكل شعب لديه هرقل ابن يوفا. وقد كان أول حكماء اليونان هم الشعراء الدينيون (اللاهوتيون) الذين ازدهروا قبل الشعراء البطوليين. تفسر الأساطير بدايات الأشياء ونشأة الكون عند كل الشعوب، ويعزو المصريون إلى هرمس المثلث العظمة كل الاكتشافات المفيدة والضرورية للحياة الإنسانية. وكان أول لاهوت للمصريين تاريخا مطعما بالأساطير خجلت منها الأجيال بعدها فأولتها تأويلا صوفيا باطنيا، وهو أيضا ما يحدث لدى جميع الشعوب الأولى. كان المصريون أول المؤلفين من الشرقيين، تلاهم اليونان والرومان. وفي الدورة الثانية كان الشعراء هم أول الكتاب في اللغات الأوروبية الحديثة، والشعر البطولي أقدم أنواع الشعر، والشعر ذو المقطعين أبطؤها، والشعر اليامبي
lambique (الرجز) أقرب أنواع الشعر إلى النثر.
ويستعمل فيكو للحديث عن الدين والشعر تشبيه الأطفال. فمن طبيعة الأطفال أنهم من خلال الأفكار والأسماء المرتبطة بالرجال والنساء والأشياء التي عرفوها يطلقون بعد ذلك نفس الأسماء على الرجال والنساء والأشياء المتشابهة. فالمنطق البشري يبدأ بالحس. والمعرفة البشرية تبدأ بالحس ثم بعد ذلك يستمتع العقل بالاطراد والتكرار والتشابه. فالذهن الإنساني بطبيعته ولارتباطه بالحواس يرى نفسه في الجسم. ويصعب عليه أن يفهم نفسه بالفكر. فالتشبيه سابق على التنزيه كما أن التجسيم سابق على التشبيه على ما يقول علماء أصول الدين القدماء.
والأطفال شعراء كما أن الشعراء أطفال يتمتعون بخيال خصب وذاكرة قوية؛ فالخيال ذاكرة مركبة أو ممتدة في الزمان. ويبدع الأطفال في التقليد ويدخلون على أنفسنا السرور من تقليدهم لكل ما يفهمونه . وإذا كان كل إنسان ذي استعداد طبيعي قادرا على تعلم صناعة ما فإن الشاعر إن لم يكن شاعرا بالفطرة فإنه لا يستطيع أن يتعلم الشعر صنعة. وإذا كان الأطفال يقلدون فإن شعراء الطبيعة لا يقلدون، وتسير الروح الإنسانية عند الأطفال والشعراء بطريقة واحدة. إذ يشعر البشر أولا قبل أن يدركوا، ثم يدركون بذهن مضطرب ثم يفكرون بعد ذلك بذهن واضح. وما يظهر للبشر أولا على أنه موضع شك أو غموض فإنهم يفسرونه بطبيعة الحال طبقا لطبائعهم الخاصة وأهوائهم وعاداتهم.
وليست اللغة وحدها هي وسيلة التعبير؛ إذ يعبر البكم عن أنفسهم بالإيحاءات أو بأشياء ذات علاقات طبيعية مع الأفكار التي يريدون التعبير عنها. يصدر البكم أصواتا لا مقاطع لها بالغناء، ثم يعلم التلعثم في الغناء ألسنة الناس النطق، فالغناء قادر على التعبير عن الانفعالات الإنسانية. وقد بدأت اللغات بالكلمات ذات المقطع الواحد لسهولة النطق بها كما هو الحال عند الأطفال.
ويذكر فيكو عدة بديهيات أخرى تتعلق بتطور المجتمعات البشرية وتطور البشر أنفسهم؛ فقد بدأت الحياة الإنسانية أولا في الغابات ثم الأكواخ ثم القرى ثم المدن وأخيرا الأكاديميات، وكان مجتمع العلماء هو آخر مرحلة من تطور البشرية، وهنا يبدو القانون متجها نحو الذروة والكمال، ولكن أحيانا أخرى يذكر فيكو التطور البشري آخذا في الاعتبار السقوط والانهيار بعد الكمال والذروة؛ إذ يشعر الإنسان أولا بالضرورة ثم ينظر إلى المنفعة ثم يبحث عن الراحة ثم يسلم نفسه للملذات ثم يتحلل في الترف، ويقع في الجنون، ويفقد هويته. كما أن طبيعة الشعوب تكون أولا الغلظة ثم القسوة ثم اللين ثم الرقة وأخيرا الانحلال. وفي الجنس البشري يظهر أولا الضخم والغليظ ثم المعتز بالنفس والعظيم ثم الباسل والعادل ثم العظمة والبهاء، وبعد ذلك يأتي الهوائي المتقلب ثم يسود الانحلال والجنون.
يذكر فيكو هذه القوانين على أنها عادات بشرية. فالعادة ملك، والقانون طاغية. العادة معقولة ولكن قد لا يعبر القانون عن العقل الطبيعي بل عن إرادة البشر، ولكن المعتاد أن القانون الطبيعي للشعوب الأولى يكون معاصرا في نشأته لعادات الأمم ومتطابقا معها من حيث الحس المشترك دون أي تدبر أو روية ومع استقلال كل أمة عن الأمة الأخرى. والعادات البدائية وخاصة فيما يتعلق بالحرية الطبيعية لا تتغير مرة واحدة ولكن على درجات، وتستغرق مدة طويلة، ولكن نظام الأفكار يتبع نظام المؤسسات، وتبدأ النظريات بنشأة موضوعاتها، ثم يضطر البشر إلى الاحتفاظ بذكريات القوانين والنظم التي تربطهم بمجتمعاتهم فتكون سجلا لتطورهم.
ثم ينتقل فيكو بعد ذلك إلى سلسلة أخرى من البديهيات تتعلق بنظم الحكم الملكية والإقطاعية والأرستقراطية وما يتعلق بها من أنظمة اقتصادية واجتماعية، نشأة وتطورا واكتمالا. ويبدأ فيكو بإقرار مبدأ بديهي عام وهو تطابق الحكومات مع طبيعة المحكومين، أي أن النظم السياسية تعبر عن طبيعة الشعوب على عكس ما يقول ابن خلدون من أن الناس على دين ملوكهم. الأولى نظرة طبيعية والثانية نظرة إلهية. الأولى تصور تحتي والثانية تصور فوقي.
ويبدأ فيكو ببيان نشأة النظم الملكية. لما بدأت كل الشعوب حياتها الطبيعية بعبادة إله ما في الدول العشائرية كان الآباء هم الحكماء تحت وصاية الآلهة. وقد حاول الكهنة تفسير هذه الوصاية لصالحهم ولكن نجح الملوك أخيرا في تحويلها إلى قوانين لعشائرهم. فالملوك هم أول من حكموا العالم، فقد كانوا أجدر الناس من حيث الطبيعة. وكانوا هم الحكماء، يجمعون بين الحكمة والملك والكهانة. الملكية إذن أول نظام للحكم عرفته البشرية. وفي الدول العشائرية مارس الآباء سلطة الملوك خاضعين لله، لهم السلطة على أولادهم وممتلكاتهم وما ملكت أيمانهم؛ فهم البطاركة والآباء والأمراء والرؤساء. وقد حصلت العشائر على أسمائها من الآباء في الحالة الطبيعية. كان الملوك رؤساء الدين والدولة. وكانوا يقومون بتطبيق القوانين داخل البلاد ويشنون الحروب خارجها.
أما النظام الإقطاعي فقد نشأ ابتداء من أن البعض قد اعتزل العالم الهمجي غير القانوني وكون أسرا. عاش البعض منها في حقول ثم عاش فيها الأبناء من بعدهم. لا يمكن إذن فهم نشأة التجمعات البشرية الأولى قبل هؤلاء القارين الذين أرادوا إنقاذ حياتهم بحماية الآباء لهم، وزراعة أراضيهم. تبدأ هذه التجمعات بالنظام الإقطاعي نظرا لما يعود على الناس من الفائدة منه. فظهر القانون الخاص بالحقول وهو أول قانون زراعي في العالم. وفي كل الأمم القديمة التي يوجد فيها عملاء وزبائن يظهر فيها أيضا النظام الإقطاعي. ويظل الإقطاعي صاحب القوة والسيطرة لأن من علامات القوي ألا يفقد بالجبن ما حصل عليه بالشجاعة. ولم تكن هناك قوانين لمعاقبة الإهانات الخاصة أو لتصحيح الأخطاء الشخصية.
صفحة غير معروفة