ولم ينشأ لدينا في تراثنا القديم ولا نهضتنا المعاصرة هذا الاتجاه للبحث النظري المجرد باسم الفلسفة أو البحث عن الحقيقة ؛ فقد ارتبطت الفلسفة لدينا بالدين وبالشريعة أي بسعادة الإنسان في الدارين. كما ارتبطت المعرفة بالسعادة والفلسفة بالأخلاق، بل إن وضع الحكمة في أعلى الفضائل إنما لإعطائها الإنسان السعادة والخير. هكذا كان الحال في علوم الحكمة وعلوم التصوف لدينا. أما علم أصول الدين فالحقيقة فيه منزلة من عند الله، من النبوة والوحي لغاية عملية، وفي علم أصول الفقه الحقيقة فيه عملية وليست نظرية أي الحرص على المصالح العامة والمنافع الدنيوية. (2)
هل الفلسفة هي فن الحياة والتكيف مع مطالبها ومقتضياتها من أجل البقاء والحرص على المنافع الخاصة والعامة دون طرح أي سؤال نظري؟ هل هي مجرد تسهيل للأمور، وتذليل للصعاب، وحل للمشاكل من أجل سير الحياة؟ ولكن البراجماتية ذاتها كانت رد فعل على الفلسفة باعتبارها بحثا عن الحقائق النظرية المجردة التي لا أثر لها في الحياة العملية؛ لذلك أسقطت من حسابها موضوع البحث النظري الخالص. وهو أيضا موقف برجسون من العقل والبحث النظري بل والدين الثابت
Statique ، فالهدف من ذلك كله هو التكيف مع الحياة. فالتصورات النظرية عند برجسون مجرد ظلال وأشباح للواقع، وليست الواقع نفسه الذي يتكيف الإنسان معه ويدركه بالحدس الوجداني، مجرد شيكات أو حوالات أو أذونات للصرف وليست رصيدا حقيقيا وثروة فعلية.
5
والحقيقة أنه يصعب تناول مشكلة العمل دون النظر، فالنظر هو أساس العمل؛ لذلك كتب كانط «نقد العقل العملي» لبحث المسائل النظرية لموضوعات العمل والسلوك، كما أن الاتجاهات العملية في الفلسفات كلها لم تسقط من حسابها البحث النظري، فسقراط كان يبحث عن المبادئ النظرية العامة للسلوك العملي. وكذلك كان أفلاطون وأرسطو. وظل الحال كذلك في العصر الوسيط بصرف النظر عن صواب هذه المبادئ النظرية أو خطئها (الخطيئة، الخلاص، الفداء ... إلخ). كما بحث ديكارت موضوع الصواب والخطأ في التأملات في الفلسفة الأولى وكذلك فعل اسبينوزا في «الأخلاق». بل إن «البراجماتية» عند «مل» تقوم على أساس تجريبي وهو بحث نظري وإن اختلف المنهج، ويقوم على استقصاء للعلل كما هو الحال عند علماء أصول الفقه في تراثنا، وهناك الاتجاهات العملية عند شيلر
F. C. S. Shiller
وبيرس
Ch. Pierce ، وبلوندل، وكلها تؤسس العمل على البحث النظري سواء في العلوم الإنسانية أو في العلوم الرياضية والطبيعية أو في العقيدة الدينية، بل إن الوجودية ذاتها، باعتبارها رد فعل على الفلسفات النظرية المجردة، لم تغفل الأسس النظرية للسلوك الفردي الاجتماعي كما هو واضح في «نقد العقل الجدلي» عند سارتر.
6
لقد انتهت الفلسفة عند اليونان بعد أن سادت الفلسفة بعد أرسطو المدارس الأخلاقية العملية كالرواقية والأبيقورية، وتحولت الفلسفة إلى بحث في السعادة واللذة وممارسات عملية في جماعات وحلقات دون طرح الأسس النظرية لهذا البحث. كما ماتت الفلسفة في أمريكا بعد النزعة البراجماتية الخالصة كما هو الحال عند وليم جيمس وجون ديوي، ما دامت الحقيقة هي مقدار ما تحدث من أثر في الحياة العملية. وأصبح يضرب بالمجتمع الأمريكي كله المثل في النزعة العملية وفي سطحية الفكر لولا هجرة بعض المفكرين الأوروبيين والقيام بحركة ثقافية علمية لطرح السؤال النظري.
صفحة غير معروفة