13 (7)
وفي العلوم الإنسانية، خاصة في علم التاريخ، كان الاهتمام واضحا ببدايات التاريخ وقصص الأنبياء. كما وضح الاهتمام بالحوليات وتوالي السنين وتتابع الأجيال والطبقات وإن لم يظهر قانون لحركة التاريخ أو تصور لتقدم الأجيال وعلاقات بعضها بالبعض الآخر؛ وبالتالي خلا التاريخ من فلسفة التاريخ، وخلت الوقائع من قانون عام يضمها.
14
حتى أتى ابن خلدون وحاول صياغة قانون عام لتطور الدول نشأة ونموا واكتمالا ثم اضمحلالا وانهيارا. فقد ظهر ابن خلدون في نهاية الطور الأول للحضارة الإسلامية من القرن الأول حتى القرن السابع ولم يعاصر فترتها الثانية من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر؛ ولذلك غلب على «المقدمة» النهاية أكثر من البداية. وتكون مهمتنا نحن هو إكمال فلسفة التاريخ التي تركها لنا ابن خلدون مكملين قانون التطور بإضافة قانون النهضة وربما التنبؤ بمسار الأمة في المستقبل بناء على رصد دورتيها في الماضي. كما لم ينس ابن خلدون التطرق إلى «حقيقة النبوة والكهانة والرؤية وشأن العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب» معتمدا على نظريات الفلاسفة في الاتصال والنظريات الفيزيولوجية في عمل الدماغ. كما تحدث عن أهمية النبوة في الأمة ومبينا «أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.» فالنبوة هي التي تعطي خبرة الماضي وتؤسس الحاضر وتستبصر المستقبل. كما تحدث عن «علم تعبير الرؤيا» بناء على قصة يوسف وتفسير الأحلام والإعداد والتخطيط لخير مصر وتجنب المجاعة. كما تعرض لعلوم السحر والطلسمات كعلوم قديمة مهمتها التأثير في قوى الطبيعة والتنبؤ بالغيب.
15 (8)
ولكن يرجع الفضل إلى المصلحين الدينيين والمفكرين المحدثين وزعماء الإصلاح ورواد النهضة ودعاة التمدن إلى التفكير في أسباب انهيار المجتمعات الإسلامية وشروط النهضة الجديدة؛ فقد حاولوا تأسيس العلوم الاجتماعية، وصياغة قوانين لتطور الأمم ترجمة أو اقتباسا أو تحليلا أو علما. فظهرت فلسفات التاريخ تتحدث عن النهضة والتقدم والترقي، وتبحث عن سنن الله في الكون أو القوانين العامة للتاريخ، وتحاول التنبؤ بمستقبل الأمة على مستوى التمني، وتبين إمكانية تحقيق هذا الهدف على الأقل على مستوى الخطابة والوعظ وشحذ الهمم على طريقة الدعوات الإصلاحية ولم تختلف في ذلك التيارات الرئيسية الثلاث في فكرنا الحديث؛ التيار الديني الإصلاحي، والتيار العلمي العلماني، والتيار الوطني الليبرالي. فطريق التقدم هو الانتقال من الجهل إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل، ومن التفرق إلى الوحدة، ومن الفتور إلى شحذ الهمم وتجنيد الجماهير. وهو أيضا الطريق من علوم القدماء إلى علوم المحدثين، من العلوم الكلامية إلى العلوم العصرية، من العلوم الدينية إلى العلوم الاجتماعية. إن الدين حركة تقدمية في التاريخ لإذكاء الوعي وإكمال العقل واستقلال الإرادة. وهو قادر على الدخول في عصر العلم والمدنية لأنه يوفي بمقتضياتهما. إن الأمم تسير وفقا لقوانين حتمية ذكرها الأنبياء ووصفها الوحي، وهي سنن الله في الكون. وقد اختارت كثير من الجمعيات الإصلاحية اسم «الترقي» للدلالة على هدفها في التقدم والعصرية. كما ركز التيار العلمي العلماني خاصة على الترقي من خلال العلوم الطبيعية وإرساء قواعد لنظم اجتماعية جديدة تقوم على الحرية والعدالة والمساواة. وأخيرا ركز التيار الوطني الليبرالي على أن «حب الوطن من الإيمان»، وأنه لا فرق هناك بين الدين والوطنية والعصرية. وما زلنا حتى الآن ندرس موضوع التقدم، ونتحدث عن شروط النهضة، ونتلمس أسباب الرقي.
16
ثالثا: التحول من الماضي والاتجاه
نحو المستقبل وصياغة التقدم في التراث الغربي
لم تظهر الدراسات المستقبلية في التراث الغربي في فراغ بل سبقتها جهود عديدة لاكتشاف المستقبل في صورة تقدم وحركة وتغير وثورة وقانون. ولم يحدث هذا الاكتشاف فجأة وفي عصر واحد بل مهدت له شروط وساعدت عليه عوامل وتراكمت فيه خبرات. وحدث ذلك على مراحل مختلفة حتى كمل مفهوم التقدم الإنساني العام الذي يشمل القدرات الذهنية والمعارف الإنسانية والإنجازات البشرية. (1)
صفحة غير معروفة