كما نجد في مباحث الأصول الأخرى حضور المستقبل وإن كان مغلفا في أطر اللغة والتشريعات. فمثلا المبادئ اللغوية التي وضعها الأصوليون لتفسير النصوص مثل: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد ... إلخ، كلها تهدف إلى احتواء الحوادث المستقبلة مثل الاجتهاد تماما عن طريق تأويل الألفاظ؛ وبالتالي يظل النص صالحا باستمرار متحركا في الزمان والمكان، ممتدا من الماضي إلى الحاضر، ومتجها من الحاضر نحو المستقبل. وفي مباحث الأحكام وتحليل المقاصد نجد أن الوحي مقصد، والقصد اتجاه وغاية. فقد قامت الشريعة من أجل تحقيق مقاصد وأهداف ابتداء وهي المصالح العامة، وأفهاما حتى يعقلها الناس، وامتثالا حتى يطيعونها، وتكليفا حتى يطبقونها. وفي سلوك الفرد ارتبط الفعل بالنية، والعمل بالهدف. والغاية والقصد من بدايات الاتجاه نحو المستقبل.
4 (3)
وفي علوم الحكمة التي يضرب بها المثل في التجريد والصورية ظهر الاتجاه نحو المستقبل في التركيز على العلة الغائية من العلل الأربعة في الإلهيات والطبيعيات، وأن العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقة وكأن العالم كله يتحرك نحو غاية بالعشق. والله هو العلة الغائية للعالم، المحرك الذي لا يتحرك الذي ينزع العالم نحوه بالعشق. وفي الطبيعيات ظهرت القوة كامنة في الطبيعة، انتقال من القوة إلى الفعل، والنفس كمال أول. وفي الإلهيات يظهر الاتجاه نحو المستقبل في نظرية الاتصال حيث تتصل النفس المفارقة بالعقل الفعال. فالنفس قادرة على كشف غياهب المجهول واختراق الحجب، لا فرق في ذلك بين الفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا وبين الفلسفة العقلية الخالصة عند ابن رشد. بل إن الفلسفة الإشراقية خاصة عند ابن سينا قاربت علوم التصوف ، وتناولت مقامات العارفين، ووصفت طريق الحكمة على أنه طريق إلى الله يرتقي فيه الحكيم من مقام إلى مقام، ترتفع روحه صعودا، والأعلى في الفكر الديني هو الأمام في الفكر العلماني. فالمفارقة أو العلو قد يكون إلى أعلى وقد يكون إلى الأمام. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في علوم التنجيم وما يتعلق بها من علم وقراءة المستقبل مثل الطير والفأل التي وصل إليها الحكماء عن طريق حساب دورات الأفلاك وآثار ذلك على ما يقع على الأرض من حوادث وإمكانية التنبؤ بها إذا ما تم حساب الدورات، فلا شيء يقع على الأرض لا يحدث بفعل دورات الأفلاك. وبالرغم من تحذير القرآن من هذه العلوم وتحريمه للأزلام والأنصاب إلا أن الحكماء تابعوا في ذلك علوم التنجيم القديمة دون ما مراعاة لتكذيب الحديث للمنجمين «كذب المنجمون ولو صدقوا.» بل إنهم وضعوا علوما لقراءة الطالع - واستمر ذلك حتى الآن - من اليد والفنجان وضرب الودع وخط الرمل ورمي الحصى للتطير. كل ذلك يدل على كشف حساب المستقبل ولكن بطريق السحر والتنجيم.
5 (4)
وفي علوم التصوف ظهر الاتجاه نحو المستقبل في تحليل المقامات والصعود فيها من مقام إلى مقام حتى الوصول إلى آخر الطريق، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ومن فترة إلى فترة حتى الوصول إلى الغاية. ويبدأ الصوفي من البداية في الوقت حتى يصل إلى النهاية في الأبدية. وعادة ما يتحول الأعلى إلى الأمام في عمليات النهضة الحضارية، ويتم اكتشاف التقدم. وقد غلب على الصوفية تحليل اللحظة الحاضرة وهو الوقت، ما بين الحاضر والمستقبل ولكن لسوء الحظ كل ما يحدث فيه متوهم وليس حقيقيا مما يجعله ظاهرا لا حقيقة؛ ومن ثم يصبح الزمان كله هباء وتوهما، ولا يبقى إلا الفناء في الأبدية حيث لا زمان ولا تقدم. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في وصف الصوفية لمراحل النبوة التي توازي مراحل التجلي الإلهي كما فعل ابن عربي في «فصوص الحكم» والتي توازي أيضا مراحل الكشف بل ومراحل الخلق ابتداء من آدم حتى آخر الأنبياء. فالتقدم هنا من الماضي إلى الحاضر، من أعلى إلى أسفل، من الخلف إلى الأمام. بل إن ابن عربي قد وضع مرحلة أخيرة للكشف الصوفي وهي المرحلة ما بين محمد بن عبد الله ومحمد بن سنان، وهي مرحلة مستمرة لا تنتهي، وهي مرحلة الولاية، فالأولياء ورثة الأنبياء، والإلهام استمرارية للنبوة. فإذا كانت النبوة تنقطع فإن الولاية لا تنقطع. كان لدى الصوفية إمكانية ظهور المستقبل ولكنه كان كشفيا نظريا فرديا وجدانيا وهميا خياليا صاعدا إلى أعلى.
6 (5)
وفي العلوم النقلية ظهر الاتجاه نحو المستقبل في علوم القرآن في موضوع النسخ، ورفع الحكم السابق بحكم لاحق طبقا للتطور في الزمان، وتغير الظروف والأحوال، وحسب الأهلية والقدرة. كما ظهر أيضا في نزول الوحي على فترات ونزول القرآن ذاته منجما على مدى ثلاث وعشرين عاما وقسمته إلى مكي ومدني، تصور ونظام، عقيدة وشريعة، أيديولوجية ودولة. وهما مرحلتان ضروريتان لبناء أي نظام جديد. ومن دلائل الإعجاز عند البعض إخبار القرآن بالغيب والتنبؤ بالمستقبل وإن كان القرآن ذاته قد حرم جميع أنواع السحر والفأل والطيرة والتنجيم. إنما التنبؤ بالمستقبل يكون ممكنا فقط باستقراء أحوال الأمم الماضية، واستعراض حوادث التاريخ، واستنباط قوانينه العامة التي تكمن وراء قصص الأنبياء.
7
وفي علوم الحديث تكشف الرواية عن انتقال الخبر في الزمان، جيلا بعد جيل، والانتقال من التراث الشفاهي إلى التراث المدون حرصا على صحة الخبر وحماية له من الزيادة أو النقصان أو من التحريف والتغيير والتبديل. ونشأ معه علم «ميزان الرجال» أو علم «الجرح والتعديل» لمعرفة سير الرواة جيلا بعد جيل. وأصبح من شروط التواتر التجانس في الزمان أي تجانس انتشار الخبر عبر الأجيال منعا للتكتم على الخبر الصحيح أو ذيوع الخبر الكاذب. كما تنتشر في الإصحاحات أبواب بدء الخلق وعلامات النبوة مما يوحي ببداية الزمان ونهايته وأبواب الهجرة والخلاص، وتقبل الحوادث المستقبلة كضرورة لا مفر منها، والدعوات، والوعود، والنذور وكلها تكشف عن أن المستقبل مطوي في الحديث تتناوله السنة دون أن ينكشف في وعينا التاريخي.
8
صفحة غير معروفة