فالعقل البديهي قادر على رؤية معنى النص بوضوح وتميز؛ خاصة إذا كان الشعور في حالة البراءة الأصلية دون أية دوافع إلا باعث الحق لاكتشاف تطابق المعنى مع الحاجة. يطرد هذا الحدس العقلي المبدئي للنص عند عديد من الأفراد، ويظهر لدى كل الشعوب، ويوجد في كل الحضارات. وكما قيل: «إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس.» وقد قيل أيضا في تراثنا القديم: «أول ما خلق الله خلق العقل.» لا يعني العقل هنا العقل الصوري المجرد بل العقل المرتبط بالحس والوجدان؛ أي بداهة الشعور والإحساس الطبيعي. وهي بداهة فطرية ما قبل التعلم وما بعده، عند الأمي والمتعلم على حد سواء. وأحيانا تفوق العلم المكتسب وقد تكون بديلا عنه. (2)
اطراد التجربة البشرية:
لما كانت المواقف الإنسانية واحدة تتكرر باستمرار من عصر إلى عصر فإن هذا الاطراد يصبح كالثوابت بالنسبة إلى المتغيرات، وكالعموم بالنسبة إلى الخصوص. هناك قراءات متشابهة للنصوص في كل عصر وعلى مدى العصور ولكل النصوص بصرف النظر عن نوعياتها. في كل عصر ثورة على العبودية، ورفض للظلم، ودفاع عن الحرية، ودعوة إلى المساواة. وهذا ما سمته الكتب المقدسة «التوحيد» وما أطلق عليه الفلاسفة «القيم» أو «المثل». (3)
منطق اللغة:
لما كان النص منطوقا مدونا بلغة معينة، وكان لكل لغة فقهها ومنطقها فإن معرفة فقه اللغة التي كتب بها النص تكون أحد المداخل لقراءته وفهم معناه. وتكون قراءة النص عامة بقدر عموم فقه اللغة التي كتب بها بصرف النظر عن المدارس اللغوية حول تعليلات فقه اللغة كالإعراب مثلا. وفي قراءة النصوص القديمة يشترط الاعتماد على معاجم تاريخ اللغة وتطور معانيها لمعرفة معاني الألفاظ الأولى في عصورها القديمة.
وإذا كان لكل لفظ ثلاث معان؛ الاشتقاقي والاصطلاحي والعرفي فإن البداية في فهم النص هو للمعنى الاشتقاقي الذي يربط بين اللغة والواقع والفكر. فاللغة تحيل إلى الوجود، والوجود تجربة معاشة توحي بالمعنى؛ لذلك كان التفسير اللغوي بداية التفسير الاصطلاحي. وكلاهما محكوم بالتفسير العرفي أي باستعمال اللفظ. المعنى الاشتقاقي هو الثابت لأنه أصل اللغة والمعنى العرفي هو المتغير نظرا لتغير الأعراف والاستعمالات المختلفة للفظ عبر العصور. والمعنى الاصطلاحي هو محاولة الجمع بين المعنيين، بين الثابت والمتغير، الأصل والفرع. وهنا تبدو أهمية نقد النصوص والعثور على الوحدات الأولى للنص بلغتها الأصلية. فالترجمات قراءات جديدة تفقد المعاني الاشتقاقية للألفاظ الأصلية. والعرف بدون لغة مجرد استسلام للاستعمالات الجارية. ونقد النصوص باللجوء إلى العرف هو ترك طرف وتمسك بطرف آخر، تضحية بالأصل من أجل الفرع نظرا لضياع الأصل وعدم تدوين الأقوال الأولى بلغتها الأصلية.
2
وبالإضافة إلى منطق الألفاظ هناك منطق السياق أو كما قال القدماء فحوى الخطاب ولحن الخطاب ومفاهيم الموافقة والمخالفة. فالمعنى لا يظهر فقط في اللفظ ولكن في علاقات الألفاظ وتركيب الجملة وأساليب التعبير في التقديم والتأخير والاختيار بين المترادفات. فللألفاظ أصوات وأشكال ومعان وتراكيب، ولكل منها فرع في علوم اللغة.
3 (4)
الموقف الأولي:
صفحة غير معروفة