يوضح ابن خلدون كل نوع من هذه الأنواع على حدة: (أ) «قد كان الفرس من أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب، ويحملون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات، ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون، فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم.» (ب) «وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم، فكانوا يتخذون لذلك الأسرة، ينصبون للملك سريره في حومة الحرب، يحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه. وترفع الرايات في أركان السرير، ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة، فيعظم هيكل السرير، ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكر والفر.» (ج) «وأما أهل الكر والفر من العرب، وأكثر الأمم البدوية الرحالة، فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، فيكون فئة لهم، ويسمونها مجبودة» (ص273). «وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها، وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة.»
يذكر ابن خلدون بهذه المناسبة ما كان قد حدث في حرب القادسية، ويعلمنا أن الفرس كانوا لجئوا إلى اتخاذ الفيلة ونصب السرير في وقت واحد. «وانظر ما وقع من ذلك في حرب القادسية، وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بهم (أي بالفيلة) على المسلمين، حتى اشتدت رجالات من العرب، فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها، فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن، فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع» (ص273).
وخلال هذه الحرب «كان رستم جالسا على سرير نصبه لجلوسه، حتى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره، فتحول عنه إلى الفرات وقتل» (ص273).
ومع ذلك يخبرنا ابن خلدون بأن في عهده هذا الأمر أيضا كان قد أهمل إهمالا كليا: «وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة، واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال والفساطيط، يجعلونها ساقة من خلفهم، ولكن تلك الأشياء «لا تغني غناء الفيلة والإبل»؛ ولذلك صارت العساكر عرضة للهزائم، ومستشعرة للفرار في المواقف» (ص273). (7)
يتوسع ابن خلدون بوجه خاص في وصف الحروب التي حدثت أول الإسلام: «كان الحرب أول الإسلام كله زحفا، وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر، ولكن حملهم على ذلك (أي على اختيار طريقة الحرب زحفا) أمران؛ أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا، فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم؛ لما رغبوا فيه من الصبر، ولما رسخ فيهم من الإيمان، والزحف إلى الاستماتة أقرب» (ص273).
ومع هذا إنه يعلمنا أن أصول المصاف في الحروب أهملت فيما بعد، ويذكر تاريخ ذلك: «وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس؛ مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والجبيري بعده. قال الطبري لما ذكر قتال الضحاك: فولى الخوارج عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري - ويلقب بأبي الدلفاء - قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف من يومئذ؛ فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف، ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف. وذلك أنها حينما كانت بدوية وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل، وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء، فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر، وتركوا شأن البادية والقفر؛ نسوا لذلك عهد الإبل والظعائن، وصعب عليهم اتخاذها، فخلفوا النساء في الأسفار، وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية، فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية» (ص274). «وكان ذلك صفتهم في الحرب، ولا يغني كل الغناء؛ لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال، فيخف الصبر من أجل ذلك، وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم» (ص274).
ثم يذكر ابن خلدون الخطة التي كان قد اتخذها ملوك الغرب من ضرب المصاف باستخدام جنود من طائفة الإفرنج: «ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر، وتأكده في قتال الكر والفر؛ صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم، واختصوا بذلك؛ لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر، والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءا للمقاتلة أمامه، فلا بد من أن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف، وإلا أجفلوا على طريقة أهل الكر والفر؛ فانهزم السلطان والعساكر بإجفالهم. فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جندا من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف وهم الإفرنج، ويرتبون مصافهم المحدق بهم منها، هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. إنهم استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان، والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك؛ لأن عادتهم في القتال الزحف، فكانوا أقوم بذلك من غيرهم. مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر، وقتالهم على الطاعة. وأما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرا من ممالأتهم على المسلمين، هذا هو الواقع لهذا العهد» (ص274). (8)
بعد هذه التفاصيل حول طرائق الحرب في المغرب، يذكر ابن خلدون ما بلغه عن طرق القتال عند أمم الترك: «وبلغنا أن أمم الترك لهذا العهد، قتالهم مناضلة بالسهام، وأن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف، وأنهم يقسمون بثلاثة يضربون صفا وراء صف، ويترجلون عن خيولهم، ويفرغون سهامهم بين أيديهم، ثم يتناضلون جلوسا، وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو، إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى، وهي تعبئة محكمة غريبة» (ص274-275). (9)
ثم يعود إلى طرائق الحرب العامة، ويصف طريقة «حفر الخنادق على المعسكرات»، ويبين فوائد تلك الخنادق وغاياتها: «كان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف؛ وذلك حذرا من معرة البيات والهجوم على العسكر في الليل؛ لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف، فيلوذ الجيش بالفرار، وتجد النفوس في الظلمة سترا من عاره، فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة.» «فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم، ويديرون الحفائر نطاقا من جميع جهاتهم؛ حرصا أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا» (ص275).
يلاحظ أن التعليلات التي يسردها ابن خلدون في هذا الصدد تنطوي على ملاحظات نفسية قيمة؛ فإنها تشير أولا إلى أثر الإجفال والإرجاف في الحروب، وهو ما يعرف بال
صفحة غير معروفة