هذا الشعور بالتبعية هو الأساس التجريبي للعقيدة الإلهية، ومهما تكن فكرة الألوهية في عقولنا ناقصة غير محددة، فإن موضوعها لا يفلت قط من شعورنا؛ فهو حاضر لدينا، بل يفرض نفسه علينا في هذا الشعور حتى إنه يسوغ لنا أن نضع هذه المعادلة الحسابية مطمئنين: إن شعورنا بالتبعية المطلقة هو شعورنا بحضور السر الإلهي فينا، هذا هو الينبوع العميق الذي تفيض منه الفكرة الإلهية بقوة لا تقاوم.
غير أنه يجب أن نعرف كيف يقبل العقل الإنساني هذه التبعية لمبدأ الحياة العالمية؟ هذا العقل الثائر الذي يرى نفسه من طبيعة غير طبيعة الأشياء الخارجية، ويرى أن أخص خصائصه هو أنه يفهم هذه الأشياء ويسيطر عليها ويسخرها؟ فالإنسان - كما يقول باسكال: «ليس إلا قصبة ضئيلة، ولكنها قصبة مفكرة، حتى إنه لو سحقه لكان هو أنبل من الذي يسحقه؛ لأنه يعرف أنه مسحوق، بينما الكون لا يعي من أمر نفسه شيئا.»
ومن هنا يتبين أن المبدأ العالمي الذي يخضع له الإنسان ليس هو ذلك الكون المادي، بل الروح العالمية التي تدبره؛ ذلك أن القوة العاقلة لا تخضع إلا لسلطان قوة عاقلة تسيطر عليها وعلى العالم على السواء، وهكذا نجد الحياة العقلية، التي كانت قد افتتحت بالنزاع بين الشعور الذاتي والتجربة الخارجية، تكمل وتختم بحد ثالث جامع ينتظم الحدين معا، وهو الشعور بخضوعهما جميعا لهذا السلطان الأعلى.
هذه الصفحة الرائعة التي كتبها أوجست ساباتييه لا تزال تحتفظ بجمالها ودقة تصويرها للفكرة الإلهية في الديانات العليا، ولكن هل تنطبق على سائر الديانات؟ أليست من دقة الفلسفة والمبالغة في التجريد بحيث يبعد أن تكون فكرة عالمية؟
لقد أحس الفيلسوف بهذا السؤال، فكتب يقول:
إن الذين يعترضون بذلك إنما يبرهنون على أنهم لم يروا جيدا هذه المناقضات الأصيلة في حياتنا اليومية، من مبدئها إلى نهايتها؛ فإنه لأجل أن يتحقق الإنسان من هذه المناقضات ويقاسيها ليس بحاجة إلى أن ينتظر حتى يصبح فيلسوفا.
إنها لتتجلى في كل العقول على اختلاف درجاتها من الثقافة والاستنارة؛ وإنها في نفوس الهمج الذين ترعبهم تقلبات الجو في وسط الغابات؛ ليست بأقل منها في نفوسنا حين تضطرب أفكارنا أمام اللغز العالمي وأمام ظاهرة الموت. لقد تختلف العبارة ونوع الشعور؛ ولكن الهزة الدينية التي تزلزل الإنسان هي في جوهرها شيء واحد، فكل أحد، حين يكف عن التفكير في عجزه وجهله وفنائه، وحين يجمع أمره - صابرا مستسلما - على أن يقضي الحياة كما هي، يشعر رغما عنه بزفرة يفيض بها صدره، وتكاد تنطق بها شفتاه؛ وما هي في الحقيقة إلا فاتحة دعاء ومناجاة .
9 (3-2) نظرية برجسون ونقدها
هذه النظرية تلتقي مع سابقتها في القول بأن العقيدة الإلهية تقوم على عوامل نفسية تثيرها حياة الإنسان اليومية، ولكن بينما النظرية السابقة تواجه من هذه الحياة جانبها المتصل بقوانين الطبيعة الثابتة، التي تصطدم بها الإرادة فلا يسعها إلا الخضوع والاستسلام للقوة التي فرضت هذه القوانين، وأحكمت وثاقها؛ يعتمد «هنري برجسون»
H. Bergson
صفحة غير معروفة