أن يؤسس العقيدة الإلهية على بعض الملاحظات النفسية، فقال: «إن هذه العقيدة تتولد في الإنسان منذ نشأته على أثر شعوره بمناقضة جوهرية بين حساسيته وإرادته، وهما القوتان اللتان تتألف منهما حياة النفس في أيسر مظاهرها.»
وفي الحق أن حياتنا النفسية قائمة في جوهرها على حركتين متعاكستين: إحداهما تتجه من الخارج إلى الداخل (من المحيط إلى المركز)، والأخرى من الداخل إلى الخارج (من المركز إلى المحيط)، فالحركة الأولى تمثل تأثير الأشياء على النفس بواسطة الإحساس (وتلك هي حال انفعال النفس وقابليتها)، والحركة الثانية تمثل مجاوبة النفس على الأشياء بتوسط الإرادة (وهذه هي حالة تأثير النفس وفاعليتها).
بيد أن هاتين الحركتين لا تنطبقان تمام الانطباق، وليس بينهما كمال تناسق وتجاوب؛ ذلك أن الحساسية تسحق الإرادة وتكبتها، فكلما اندفعت موجة الحركة الإرادية من داخل النفس، وارتطمت على صخرة الأشياء الخارجية فانكسرت عليها، رجعت كئيبة مبتئسة، وهذه الصدمات المتوالية، وتلك المنازعات المستمرة، بين النفس وبين العالم الخارجي، هما السبب الأول لكل أنواع الآلام، ولكنها في الوقت نفسه هي منبع النور ومصدر الشعور؛ ذلك أن ارتداد الموجة إلى مركزها يولد في هذا المركز حرارة تشبه الحرارة الناشئة من حركة العجلة على محورها، ثم لا تلبث هذه الحرارة أن تبعث شرارة ضوئية تضيء جوانب الوجدان، وذلك هو الوعي وتنبه البصيرة، والذي تصبح به النفس مدركة مدركة، وحاكمة محكومة معا، كأنها كائن مزدوج، أحد شقيه هذه النفس المثالية والآخر تلك النفس المكبوتة الواقعية.
هكذا ولدت الحياة النفسية بين وخزات الألم والإخفاق، أليست كل ولادة تصحبها الآلام والدموع؟
قال: ولو أننا تابعنا هذه الملاحظة في سائر الحالات النفسية، لرأيناها كلها كما تولد من مناقضة تفنى في مناقضة أخرى؛ فرغبة العلم تنتهي بالاعتراف بالجهل؛ ورغبة الاستمتاع تنتهي بالتقزز، كأنها تحمل في نفسها جرثومة فنائها؛ والإسراف في الحرص على السعادة يذهب براحة الطمأنينة والرضى، ويزيد الألم شدة.
فأين المفر؟
إن من الخطأ أن يعتمد الناس على تقدم العلوم الطبيعية في إنقاذهم من هذا البؤس والحرمان، فإن العلم بدلا من أن يلطف من هذه المناقضة العتيدة، يزيد في حدتها، ويشحذ سلاحها الفتاك؛ ذلك أن كل اكتشاف علمي يضم حلقة جديدة إلى سلسلة الأسباب الضرورية، التي لا بد منها في نظام الأشياء واتساقها وثباتها، فيزيد بذلك قيدا في حريتنا، وغلا في أعناقنا، ولا نزال نتقدم في هذه السبيل، حتى نصل إلى المناقضة العامة بين العلم والعمل، بين التفكير والحركة، بين قوانين الطبيعة وقوانين الأخلاق، وهكذا نقيم حربا داخلية بين ملكات النفس، وننتهي إلى شعور اليأس من قيمة الحياة.
ومن هذه الأزمة الداخلية ينشأ التدين، كأن هذه الأزمة تفتح في صخرة الطبيعة شقا يتفجر منه ماء الحياة، لا على معنى أن الدين يقدم لنا حلا نظريا لهذه المشكلة؛ لأن الحل الذي يقدمه لنا التدين هو في الحقيقة عملي محض، فهو لا يفتح لنا بابا جديدا من المعرفة، بل يعود بنا عمليا إلى المبدأ الذي اقتبسنا منه وجودنا، ويمنحنا شعور الثقة والإيمان بمبدأ الحياة وبنهايتها.
إن منزلة هذه الثقة من عالم النفس كمنزلة غريزة البقاء من عالم الطبيعة المادية، ولكنها صورة أسمى من تلك؛ فإنها في عالم المادة تسير بقوة قاهرة عمياء، أما في عالم النفس فإنها تستضيء بنور الشعور والإرادة المفكرة، ومن جهة أخرى فإنها تستند إلى حقائق واقعية، وتقوم على شعور ملازم لكل فطرة إنسانية، وهو شعور التبعية المطلقة لقانون الوجود العام.
أجل! من ذا الذي يستطيع أن يبعد عن نفسه هذا الشعور؟ أليس حظنا من القدر قد رسم دون استشارتنا، فقضى علينا أن يكون وجودنا في زمان ومكان معينين، وترك لنا ميراثا من الملكات والطبائع لم يكن لنا فيه شيء من الاختيار؟ بل إننا لا نجد في أنفسنا ولا في أية مجموعة أخرى من الكائنات الفردية السبب الكافي لوجودنا، ولا غايته النهائية المعقولة؛ ولذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نبحث عن هذا السبب وهذه الغاية خارجا عنا في الوجود العام، وما التدين إلا الاعتراف بهذه التبعية في تسليم وخضوع.
صفحة غير معروفة