17
واللغات السامية الأخرى، بغية التفهم لنصوص التوراة والإنجيل التي كان رجال الإصلاح يتمسكون بحرفيتها، ولكنها من جانب آخر أغرقت أوروبا في حمأة المنازعات والحروب الدينية، التي عوقت حركة اكتشاف الأقاليم ونشر المسيحية فيها؛ ولذلك بقي البروتستانت قرنين من الزمان لا يساهمون في هذه البعوث، وكان الكاثوليك - من إسبان وبرتغال وفرنسيين - هم القائمين إذ ذاك وحدهم بأعبائها.
ثم تتابع الرحالون من الفريقين وازدادت عنايتهم بالأقطار الجديدة في آسيا، والأوقيانوسية، وأمريكا، ومجاهل إفريقيا ... حتى كان آخر القرن الثامن عشر، وهو الوقت الذي نشطت فيه حركة التأليف في وصف عقائد هؤلاء الأقوام وعوائدهم، فهناك اشرأبت العقول إلى السؤال عما كانت عليه ديانة الإنسان الأول، وبذلت محاولات لتحديدها في ضوء المقايسة على ديانات هؤلاء البدائيين، كما بذلت محاولات لاستنباط الطريق الذي سارت فيه الديانات منذ نشأة الإنسان إلى اليوم، ومعرفة أسلوب تطورها، أو تولد بعضها عن بعض.
ومنذ ذلك اليوم أصبح علم الأديان ذا شعبتين اثنتين: شعبة جديدة مبتكرة، وشعبة قديمة نالها شيء من التجديد.
أما الشعبة القديمة المجددة، فهي تلك الدراسات الوصفية، التحليلية الخاصة بملة ملة، وهي التي يمكن أن تعرفنا نشأة ديانة ما، وحياة مؤسسها، ومقومات عقائدها وعباداتها، وأسباب انتشارها، وألوان تطورها، إلى غير ذلك من المعاني التي ما فتئت مجالا لحديث الناس منذ اختلفت مذاهبهم، وهذه الشعبة هي المشهورة باسم «تاريخ الأديان» ولو أنصفت التسمية لكانت «تواريخ الأديان».
والتجديد الذي لحقها في العصور الحديثة يتناول مادتها ووسائلها جميعا، فبعد أن كانت مادة البحث لا تتجاوز في الغالب حوض البحرين الأبيض والأحمر، أعني: ملتقى القارات الثلاث، اتسعت الآن رقعتها حتى انتظمت القارات الخمس؛ وبعد أن كانت محصورة أو تكاد في نطاق الأمم المتمدينة، ذات التاريخ المدون، أو الآثار الخالدة؛ تناولت الشعوب الهمجية والأمم البائدة، بل تطاولت إلى التنقيب عما وراء التاريخ المعروف.
نعم، إن إفساح الميدان هكذا أمام المؤلفين المحدثين قد بعد بهم عن المنهج السليم الذي انتهجه مؤلفو العرب؛ ولكنه على كل حال قد فتح أمام الباحثين آفاقا جديدة لم يتشرف إليها السابقون؛ ولا سيما في وسائل البحث وأدواته، التي تنوعت حتى شملت علم اللغات المقارن، وعلم طبقات الأرض، وعلم التصوير والتمثيل الرمزيين، بل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، وسائر ما يمت بسبب إلى ظاهرة الدين.
وليس من شك في أن الأداة الرئيسية في دراسة هذه الشعبة يجب أن تكون هي استقراء العقائد والعبادات وسائر التعاليم في كل نحلة، من واقع الأقوال والأفعال الدالة عليها؛ وأن تكون مهمة العلوم الإضافية قاصرة على تقديم نوع من الضمان تحاط به عملية الاستقراء للتحقق من صحة سيرها، وعدم مصادمتها لمقررات تلك العلوم، وهذا هو هدف النقد العلمي
18
الذي يقوم على مراجعة التاريخ مثلا للتثبت من صحة الوثائق والأسانيد، ومراجعة فقه اللغة واصطلاحات الفنون لتحديد مدلولات النصوص، وهكذا ...
صفحة غير معروفة