وكيف يظل الفقه في إطاره الاجتماعي القديم؛ يتناول قضايا الرق والسبايا والأنفال وهي غنائم الحرب، والحدود مثل: الصلب والرجم والجلد وقطع اليد وتعدد الزوجات؟
فنظر الجالسون بعضهم إلى بعض يتعجبون من هذه الحقائق، والتساؤلات التي قدمتها ووضعتها أمامهم، وهم لا يستطيعون رفضها أو الإجابة عليها بالإثبات أو النفي. وبعد أن شكروني غادرت، وفي اليوم التالي رأيت حكما قد صدر علي بالتكفير والخروج عن إجماع علماء الأمة المسلمين، والحكم علي بالردة، والمطالبة بالقصاص بإمضاء علماء اليمن. وجاءت عربة مصفحة تأخذني من الفندق إلى الجامعة وتعيدني إلى الفندق؛ خوفا على حياتي ولحمايتي، وكان يمكن أن يناقشني علماء اليمن، ويدخلوا معي في الحوار، لولا أنهم آثروا، وعقدوا النية مسبقا على تكفيري . وكانوا يريدون أن يسمعوا فقط حيثيات الحكم. وغادرت اليمن وأنا حزين على مستوى العلماء وعدم صدقهم وعدم صراحتهم معي، سواء في بداية الجلسة أو نهايتها، وأنهم كانوا يبحثون عن عبارات التكفير والاتهام وليس النقاش والحوار لمعرفة الحقيقة وقبولها حتى مع اختلاف الآراء.
وكانت المحاكمة الخامسة في المغرب، عندما دعاني حزب الاتحاد الاشتراكي لإلقاء محاضرة عن «نظام الحكم في الإسلام». وعقدت المحاضرة في نزل فاس، وكانت القاعة كبيرة ممتلئة عن آخرها بالحضور، وكانت شهرتي عند الأشقاء المغاربة تملأ الآفاق. أديت المحاضرة بما يعرفه عني كل الناس؛ قلت: «أما نظام الحكم في الإسلام فهو ليس ملكيا ولا سلطانيا ولا إمارة ولا وراثة بل هو حكم شعبي جمهوري، من اختيار الناس، وهو حكم دستوري يقيد سلطة الملك، ويؤكد على سلطة الشعب.» واستعملت الآية المعروفة
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة
فقام أحد الأساتذة وخرج مسرعا ليبلغ السلطات الأمنية بما قلت، وبعد المحاضرة ألقت الشرطة القبض علي، وأخذوني إلى القسم، وتم استجوابي: «هل تقصد ملكا بعينه؟» قلت: «لا.» فقالوا: «فلماذا قلت لا يجوز تقبيل رأسه أو وجنتيه أو قدميه أو حافر حصانه؟» وكنت قد رأيت ذلك في تعامل القبائل مع الملك. قلت لهم: «بأن عمر بن الخطاب في رحلته للقدس تبختر الحصان تحته فترجل مسرعا وابتعد عن الحصان قائلا: غلبتني الزهوة فأردت أن أذل نفسي.» فسألوا: «ألا تقبل يدي والديك أو قدميهما؟» فأجبت: «لا؛ فذلك استعباد وخضوع لا يجب أن يكون.»
وانتظرت بعدها مدة طويلة محجوزا بالقسم، وأسرتي تبحث عني في كل مكان، والأساتذة المصريون الزملاء يبحثون عني طوال الليل، حتى جاء الأمر الملكي ليس فقط بإخراجي من القسم ولكن بإخراجي من البلاد كلها في ظرف أربع وعشرين ساعة؛ فهرع أحد أصدقائي الفلاسفة إلى ممثل الجامعة في القصر وأبلغه أن ذلك سيكون فضيحة كبرى، من نتائجها سوء العلاقات بين مصر والمغرب، وأنني مفكر كبير لا يجوز التعامل معه بهذه الطريقة؛ فأصدر الملك قرارا جديدا بتأجيل الطرد حتى آخر يونيو عند انتهاء الدراسة لأولادي بالمدارس، وقد اتهم الملك الأساتذة المشرقيين بأنهم السبب في اندلاع المظاهرات شمال المغرب في «الحسيمة والناضور» بأفكارهم الاشتراكية. فعاد أصدقائي المغاربة إلى ممثل الجامعة في القصر، وقالوا له بأن طردي سيكون خسارة للفكر الفلسفي. ورجوه بإلغاء قرار الطرد، ورجوعي للتدريس بالجامعة، فطلب مني الملك الاعتذار؛ فأبلغته عن طريق الوسائط «أعتذر عن ماذا؟ هذا هو نظام الحكم في الإسلام، نظام شوري لا يجوز فيه تأليه السلطان.» ولم أعتذر. وظل قرار الطرد خارج البلاد قائما، ثم طلبوا من زوجتي الاستقالة من وظيفتها الجامعية حيث كانت تدرس اللغة الإنجليزية، وقبل المغادرة كتبت مقالا في جريدة «أنوال» المغربية بعنوان «أتيت المغرب طائعا، وأتركه مكرها». وأرسلت أولادي الثلاثة بالطائرة إلى القاهرة. وأخذت كتبي معي في السيارة وتوجهت إلى شمال المغرب إلى طنجة كي أعبر جبل طارق ثم أكمل لجنوب إسبانيا وفرنسا وشمال إيطاليا، زرت بلجراد عاصمة يوغسلافيا.
وفي بلجراد طلبوا مني أن أدفع ليلة الفندق بالدولار، وقلت لهم: «لماذا لا أدفع بالعملة المحلية؟» قالوا: «تلك هي القاعدة للأجانب.» قلت: «أنا مصري وهل أعتبر أجنبيا في يوغسلافيا؟ وماذا عن العالم الثالث وعالم عدم الانحياز وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟» فأصروا على الدفع بالدولار، وأصررت على الدفع بالعملة المحلية أو أن يأخذوني إلى قسم الشرطة، أو إلى محافظ المدينة، ولما رأوا جديتي وعدم تنازلي تركوني أدفع بالعملة المحلية؛ لأن المصري في يوغسلافيا ليس أجنبيا.
ثم وصلت أثينا، وفي أثينا وجدنا احمرارا في الأفق؛ فسألت: «ما هذا؟» فقالوا: «حرائق الغابات.» وبعد مدة قصيرة اندلعت النار، وانتشرت في الغابات ومخيمات السياح؛ فأعطونا جوازات السفر وقالوا: «اذهبوا إلى فندق آخر بعيدا عن النيران.» وذهبنا إلى فندق آخر. تكررت المأساة؛ يريدون أن أدفع بالدولار وأنا أرفض وأريد أن أدفع بالعملة المحلية لأنني مصري من أبناء العالم الثالث؛ فاستغرب موظف الاستقبال فأخبروه أنني لن أدفع إلا بالعملة المحلية؛ فأخذوها مني على مضض. وفي اليوم الثالث سرنا لاستكمال الرحلة إلى ميناء بيريه ومنها إلى الإسكندرية.
وهناك أخذت الباخرة تحمل سيارتي إلى الإسكندرية؛ فوجدت والدي وأخي بانتظاري، وأقمنا ليلة بالإسكندرية عند أقرباء لنا في حي المغاربة، وفي اليوم الثاني قمنا بفتح صناديق الكتب في الجمرك، فحزن موظف الجمارك لأن محتويات الصناديق مجرد كتب لا تساوي شيئا في نظره، قمنا بعد ذلك بالإفراج عن سيارتي من رصيف الميناء، وفوجئنا بسرقة المرآة الجانبية ومساحات الزجاج الأمامي؛ فاحتججنا أمام موظف الجمارك الذي قال: «احمدوا الله أن السيارة لم تسرق أصلا.» فدفعنا الجمرك، وحملنا صناديق الكتب في عربة النقل، ووصلنا القاهرة، استقبلنا أولادي بحب وشوق.
وكانت المحاكمة السادسة في مصر عندما فصل رئيس الدولة أكثر من سبعين أستاذا جامعيا، ومثلهم من الصحفيين ومن كبار الشخصيات؛ وذلك لمعارضتهم معاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام مع إسرائيل. بعدها قدمنا اتهاما للرئيس بأنه خرق حقوقنا الجامعية والإنسانية بقرار الفصل لأسباب سياسية، وأن نصيبي العمل في وزارة الشئون الاجتماعية. وكانت القضية جماعية رفعها جميع المفصولين في مجلس الدولة. وترافع عنا أحد أساتذة كلية الحقوق المفصولين، وسمعت القاضي يقول: «ما مطالبكم؟» ويجيب المحامي: «العودة إلى وظائفنا.» فأصدر القاضي حكما بالعودة إلى وظائفنا.
صفحة غير معروفة