الإهداء
الموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة1
1 - الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م)
2 - التعليم الجامعي (1952-1956م)
3 - السفر إلى فرنسا (1956-1966م)
4 - الأستاذ الجامعي (1966-1971م)
5 - السفر إلى أمريكا (1971-1975م)
6 - إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1976-1982م)
7 - التدريس في المغرب والبحث الدولي في اليابان (1982-1987م)
8 - رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م)
9 - «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م)
10 - الثورة المصرية، والربيع العربي (2011-2018م)
11 - كل نفس ذائقة الموت (2018م-...)
الإهداء
الموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة1
1 - الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م)
2 - التعليم الجامعي (1952-1956م)
3 - السفر إلى فرنسا (1956-1966م)
4 - الأستاذ الجامعي (1966-1971م)
5 - السفر إلى أمريكا (1971-1975م)
6 - إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1976-1982م)
7 - التدريس في المغرب والبحث الدولي في اليابان (1982-1987م)
8 - رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م)
9 - «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م)
10 - الثورة المصرية، والربيع العربي (2011-2018م)
11 - كل نفس ذائقة الموت (2018م-...)
ذكريات
ذكريات
1935-2018م
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى مصر
ذكريات عبرت أفق خيالي
بارقا يلمع في جنح الليالي
نبهت قلبي من غفوته
وجلت لي ذكرى أيامي الخوالي
كيف أنساها وقلبي
لم يزل يسكن جنبي
إنها قصة حبي
شعر: أحمد رامي
تلحين: رياض السنباطي
غناء: أم كلثوم
حسن حنفي
مدينة نصر، 30 أبريل 2018م
الموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة1
«الذكريات» ما تبقى من السيرة الذاتية. هي ما رسخ في الذاكرة، ولم يطوه النسيان. أما السيرة الذاتية فهو سجل لتاريخ حياة، يمكن أن يتم عن طريق شريط تسجيل، لا حياة فيها، يعتمد على التوثيق والتنسيق والاختيار، ما يدخل في السيرة وما لا يدخل، الحيرة بين الذاتي والموضوعي، رؤية سجل الذاتية الشعورية أو اللاشعورية، الرسالة التي يريد أن يوصلها للناس. أما «يوميات» فهو اللفظ الذي استعمله جابريل مارسيل في «يوميات ميتافيزيقية»، وعثمان أمين في جزء من «الجوانية». والعنوان «ذكريات» ليس ذكرياتي حتى أضفي طابع الموضوعية عليها؛ فالعصر يتكلم من خلالي، هموم الفكر والوطن.
وتتداعى الذكريات بطريقتين: الأولى زمنيا، من الطفولة الأولى حتى الشيخوخة الأخيرة في مراحل زمنية تميزها مراحل التعليم أو الأسفار أو النضال السياسي على النحو الآتي: (1)
الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م). (2)
التعليم الجامعي (1952-1956م). (3)
السفر إلى فرنسا (1956-1966م). (4)
الأستاذ الجامعي (1966-1971م). (5)
السفر إلى أمريكا (1971-1975م). (6)
إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1976-1982م). (7)
التدريس في المغرب والبحث الدولي في اليابان (1982-1987م). (8)
رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م). (9) «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م). (10)
الثورة المصرية، والربيع العربي (2011-2018م). (11)
كل نفس ذائقة الموت (2018م-...).
والطريقة الثانية، التقسيم الموضوعي للذكريات، مثل: الجامعة، السياسة، الاستبداد، الدين، الفن، الوطن، الهزيمة والنصر، القومية العربية، الحب. وعيب هذه الطريقة تجاوز التطور الزماني، وتقطيع التجربة الذاتية عبر مسار العمر لمعرفة مدى نضجها وكأن صاحبها قد مات. هذه الطريقة أشبه بالجسد الحي الذي يقطع بعد الذبح حرصا على الأجزاء، وليس خوفا على الحياة. قد تفيد تعليميا، ولكنها تقضي على الحياة العضوية للجسد.
2
كما تبدو هذه الطريقة وكأنها تأليف في عدة موضوعات متناثرة، وفي هذه الحالة تقضي على موضوعيتها وعلميتها.
وفي كلتا الطريقتين تأتي الذكريات وتذهب لاإراديا في سريانها، وإن كان يمكن أن تبقى في خطوطها العريضة، مراحلها أو موضوعاتها؛ فالذكريات تعوم في محيط من الحرية، وتسبح مع التيار، لا يمكن إيقافها بالقوة إن أتت، ولا يمكن استدعاؤها إن هربت؛ فالشعور تيار جارف كما يقول هوسرل وبرجسون: ميزتها الصدق في الحضور والغياب.
ومن ثم يكون السؤال: هل الذكريات علم أو فن؟ فلسفة أم أدب؟ هي كلاهما لأنها تحليل نفسي لصاحبها؛ فهي أقرب إلى علم النفس وتداعي المعاني والصور. وهي فن لأنها لا تخضع إلا لفن الكتابة وفن الرواية. ونموذج ذلك «قصة نفس» و«قصة عقل» و«حصاد السنين» لزكي نجيب محمود مقارنة ب «حياتي» لعبد الرحمن بدوي التي هي أقرب إلى السجلات والمدونات؛ لذلك كانت «اليوميات» إحدى وسائل كتابة الذكريات. يكتب الذكريات الأدباء مثل لويس عوض، والفلاسفة مثل رسل وياسبرز وسارتر، والعلماء مثل أينشتاين. والفنون التشكيلية سير ذاتية لأصحابها؛ مثل تماثيل نهضة مصر لمختار مؤرخا لثورة 1919م بالفن ومعبرا عنها بالحجر والإزميل، وموسى لمايكل أنجلو؛ فعندما تكتمل «ذكريات» من أي نوع ستكون؟
العنوان «ذكريات» وليس الذكريات؛ فربما لم أتذكر كل شيء؛ فالاسم النكرة أكثر دلالة من المعرفة. وربما يستحيل على الإنسان أن يتذكر كل شيء، وتلك فضيلة النسيان عند برجسون، ذكرى تأتي وأخرى تذهب وإلا لانفجرت الذاكرة لكثرة ما اختزن فيها من ذكريات. وإذا تذكرها فلن يستطيع أن يكتب كل شيء فيها حياء وخجلا في مجتمع ما زال الحب بكافة أنواعه: الحسي والمعنوي، الجسدي والروحي، ما زال غير مقبول صراحة كما يغني عبد الوهاب في أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات».
والذكريات تجارب ذاتية، قد يعيشها شخصان قريبان مثل الأخوين، ولكنهما يعبران عنها بطريقتين مختلفتين مثل يوسف وإخوته؛ فالذكريات لا تتعلق فقط بالذاكرة، هي إحدى وظائف، العقل، ولكنها ترتبط بالعواطف والانفعالات بل والمصالح والأهواء؛ فالحاضر هو الذي يتحكم في الماضي كما يتحكم الماضي في الحاضر؛ فالذكريات ليست فقط رواية للقديم بل هو تحريك من الجديد.
وهي ليست «ذكرياتي» لأن الموضوع ليس ذاتيا خالصا، إنما هي «ذكريات» أكثر من ثمانين عاما؛ فهي ذكريات عن عصر بأكمله: سبعة عشر عاما قبل الثورة، ثورة 1952م وتقلباتها من الناصرية (1956-1970م)، والانقلاب عليها منذ 1970م حتى بعد اغتيال رئيس الجمهورية عام 1981م، ثم استمر الانقلاب على الناصرية لأن الرأسمالية ليست جريمة حتى الثورة الشعبية في يناير 2011م والتموجات فيها بين الإسلاميين والعسكريين والفلول، جمعا بين الاستبداد والفساد، ووضعا للإسلاميين واليساريين في السجون والمعتقلات، انتظارا لثورة الجياع أو الجرابيع والعشوائيات، والعودة إلى الناصرية روح الثورة الأول، وتحقيقا لشعار الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وليس العنوان «حياتي» أو «سيرتي الذاتية»؛ فكلها تحول الذكريات إلى جانب ذاتي خالص، وتنسى أنها تعبير عن عصر بأكمله يمكن الرجوع إليه. وليست «يوميات» تدون أحداث يوم بيوم؛ لأن هذه الأحداث لها مسار موضوعي. وليست مجرد حوادث متفرقة، وإن كان أحمد رامي في الإهداء يقصد حبيبته؛ فربما أقصد أنا مصر، حبيبتي الكبرى، بالرغم من كل ما طرأ عليها من تطورات جعلت الناس تندم على أيام زمان أو الزمن الجميل؛ فهذا واجب المثقف الوطني الذي يحمل «هموم الفكر والوطن». ظننت أنها ستأخذ وقتا طويلا؛ عاما تقريبا، فلما قفزت على الجزء الأخير من «التراث والتجديد» «التفسير الموضوعي»، كما قفز «هيجل والهيجليون الشبان» من قبل، بدأت في الكتابة لاستراحة محارب من توثيق الآيات والموضوعات التي ربما أكون قد نسيتها حتى أصبت بضعف النظر أو إحساسا بدنو الأجل.
وإذا كانت الذكريات هي استدعاء الماضي، والماضي منصب في الحاضر، فيتداخل الماضي في الحاضر، الموتى مع الأحياء. تذكر الموتى ليس به حرج، ولكن الحرج مع الأحياء في المراجعة والتأويل المضاد على أحسن تقدير، وفي الخصام أو التقاضي على أسوأ تقدير. وفي تذكر الأحياء في الحاضر تشتد أزمة الاختيار بين الذكريات: أيها يذكر، وأيها لا يذكر؛ فتتدخل الإرادة في انتقاء الذكريات منعا للإحراج. وربما يختلط المستقبل أيضا مع الماضي والحاضر في ذكر ما كان الإنسان يود فعله ولم يفعله وهو قد فعله بالفعل. وهنا تتداخل الأبعاد الثلاثة للزمان؛ الماضي والحاضر والمستقبل. وقد تنسى بعض تجارب الحاضر، فلا تدخل في الذكريات التي تحتوي على التجارب الحية التي تبقى في الذاكرة، سواء في الماضي أو في الحاضر.
والتقسيم إلى إحدى عشرة مرحلة هو تقسيم زمني وموضوعي في آن واحد؛ فبدأت بالموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة، ثم أولا: الطفولة: الكتاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م) حيث بدأ الوعي بالعالم عن طريق اللعب والفن والفكر. ثانيا: التعليم الجامعي (1952-1956م) حيث بدأ الوعي العلمي متزاوجا مع الوعي الوطني، والتطلع إلى أفق أوسع. ثالثا: السفر إلى فرنسا (1956-1966م) حيث توازنت الشخصية بين الدين والدنيا، تجارب الأنا والآخر، وصياغة مشروع «التراث والتجديد» (بالفرنسية). رابعا: الأستاذ الجامعي وفلسفة المقاومة (1966-1971م) ودرء الهزيمة أو النكسة في 1967م بعد النكبة في 1948م وقبل صفقة القرن في 2017م أشبه بنداء إلى الأمة الألمانية لفشته لمقاومة نابليون الذي احتل ألمانيا. خامسا: السفر إلى أمريكا (1971-1975م)، لمعرفة العالم الجديد؛ أمريكا، تدريسا ودراسة، قراءات وزيارات وتوسيع المعرفة بالدين من المسيحية إلى اليهودية، والفلسفة، من الفلسفة الأوروبية إلى الفلسفة الأمريكية. سادسا: إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (1975-1982م) خاصة بعد مظاهرات يناير، 1977م «انتفاضة الحرامية»، وإعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية عام 1976م بعد أن أسسها منصور فهمي باشا في 1944م وتوقفت بعد الحرب العالمية الأولى، وزيارة القدس نوفمبر 1977م لإيجاد أحلاف خارجية، وكامب ديفيد 1978م، واتفاقية السلام 1979م، وطرد أساتذة الجامعات والصحفيين ، وتحويلي موظفا في وزارة الشئون الاجتماعية، وسجن هيكل، وإبعاد الأنبا شنودة إلى الصحراء في سبتمبر 1981م مما كلفه حياته في أكتوبر من نفس العام. وقد كتبت «مقدمة في علم الاستغراب» عام 1982م وأنا خارج الجامعة وفي ذهني
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . سابعا: فلسفة المشرق والمغرب، بالتدريس في المغرب وتولي الإشراف على البحوث الدولية في جامعة الأمم المتحدة في اليابان (1982-1987م). ثامنا: رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (1987-1995م). تاسعا: «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (1996-2011م). عاشرا: الثورة الشعبية والربيع والعربي (2011-2018م). الحادي عشر: كل نفس ذائقة الموت (2018م-...).
ويختلف طول المراحل من حيث المكان: أطولها مرحلة 167 شارع الحجاز (1970-1995م) خمسة وعشرين عاما، ثم مرحلة باب الشعرية (1935-1956م) واحدا وعشرين عاما في شارع البنهاوي، درب الشرفا، عطفة البنهاوي رقم 4، ثم مرحلة مدينة نصر (1995-2018م) ثلاثة وعشرين عاما في 18 شارع لوزاكا متفرع من أحمد فخري، ثم مرحلة فرنسا (1956-1966م) عشرة أعوام، ثم مرحلة العباسية الشرقية (1966-1970م) مع الوالدين 13 شارع الجنزوري منذ العودة من فرنسا 1966م حتى الزواج 1970م. إلا أن أكثرها عمقا في استدعاء الذكريات الماضية والأحلام الحاضرة هي المرحلة الأولى (1935-1956م) مرحلة الميلاد والكتاب والمدارس الأولية والابتدائية والثانوية والجامعية؛ فما زالت الشقة التي ولدت فيها، والغرفة التي ذاكرت فيها، وكنت فيها مع أخي سيد وأعز الأصدقاء محمد وهبي عبد العزيز هي أعمق الذكريات، وتعود دائما أكثر من أطولها في شارع الحجاز (1970-1995م)؛ فذكريات الطفولة أكثر عمقا في النفس من ذكريات الشباب في فرنسا أو الرجولة بعد الزواج أو الكهولة في مدينة نصر.
وكانت الذكريات في الصياغة الأولى تسترسل دون جهد كبير؛ فالخطوط العريضة تظهر، والمراحل الزمنية لا شك فيها. وفي الصياغة الثانية بدأت تظهر ما أسقطه النسيان في الصياغة الأولى؛ فبدأت بتجسيد أكثر، يملأ فراغاتها. وفي القراءة الثالثة بدأت تظهر موضوعات جديدة من دائرة النسيان إلى دائرة التذكر. ولو كانت هناك قراءة رابعة لخرجت بعض الذكريات من جوف النسيان؛ فالذكريات بئر له أعماق متعددة، وكلما نزل الدلو أعمق أخرج الماء؛ لذلك يستطيع من عاصروا الأحداث من الأقارب والأصدقاء، التلاميذ والزملاء، بالقراءة الجماعية، أن يصححوا أو أن يزيدوا ما نسيت؛ فالذكرى بارق يلمع ثم يختفي كما صور أحمد رامي في الإهداء. وما كنت أحاول أن أتذكره بالإرادة في قراءة أولى يأتي طواعية في القراءة الثانية؛ فتسلسل الذكريات ليس فعلا إراديا بل هو تيار جارف يأتي ويذهب. وهناك فرق بين الذكريات السطحية؛ أي مجرد تسجيل الأحداث، والذكريات العميقة التي أثرت في الوجدان، وتركت آثارا في الشخصية. الأولى سرعان ما يأتيها النسيان، وتكون على هامش الذاكرة. والثانية تكون في أعماق الذاكرة ولا تنسى، وتكون جزءا من الشخصية.
وهناك إشكال يظهر خاصة في الجزأين الأخيرين وهو: هل تستدعي الذكريات الأحياء مع الأموات، الحاضرين مع الراحلين؟ لا حرج في استدعاء ذكريات الراحلين، ولكن ماذا عن ذكريات الحاضرين؟ وكيف تستدعي ذكريات الحاضرين وقد تكون بعض المثالب مما يستدعي الحرج أو ما يظن أنه تجريح وتعرض بالمذكور؟ وكلهم أصدقاء وزملاء في الظاهر أو في الظاهر والباطن. ويصعب ألا يتعرف عليهم، بالرغم من عدم ذكر أسمائهم. والحل الوسط ذكر النماذج الجامعية دون إشارة إلى أحد بالاسم، ومع ذلك يمكن تعيين الأسماء بهذه الطريقة عن طريق هذه العلاقات مثل التخصص أو النشاط العلمي أو العلاقات الاجتماعية. ومع ذلك ظل استدعاء أسماء الأعلام مسألة مثارة لا أدري ماذا أفعل فيها رغبة في أكبر قدر من العمومية، ورفعا للإحراج، والزمالة الطويلة التي تجاوزت نصف القرن؛ فإذا ذكرت أحرجت، وإن لم أذكر تاهت الذكريات ووقعت في ضبابية، وهي مصدر المعرفة. وسألني أحد الأقارب أو الأصدقاء: لماذا لم تذكرني؟ ذكرت ثم شطبت ثم عدت إلى الذكر من جديد؛ فالأفضل أن يكون الإحراج لي وليس إلغاء الحوادث والأشخاص التي نشأت فيها الذكريات. ثم أحسست في قراءة ثالثة أنه لا بد من ذكر الأعلام حتى تتضح الذكريات في الراحلين فقط دون الحاضرين، ولكن في الهامش؛ نفورا مني من وضع أسماء الأعلام في النص. وأخيرا في قراءة رابعة وأخيرة عدت إلى الخيار الأول بإعادة أسماء الأعلام إلى المتن بمحاسنها وعيوبها؛ ففي العلوم الإنسانية لا يوجد صواب مطلق أو خطأ مطلق . وقد استدعى ذلك إسقاط الألقاب ورموزها مثل «أ.» للأستاذ، «د.» للدكتور، «أ.د.» للأستاذ الدكتور؛ فالذكريات لنماذج بشرية وليس لشخصيات اجتماعية تحرص على ألقابها. ويظل التردد حتى الآن قبل أن أدفع الكتاب إلى المطبعة، وربما يوجد حل نهائي. ووصلت إلى حل وقتي، وهو ذكر أسماء الراحلين دون أسماء الحاضرين، ثم تبرز قضية تلميذي نصر حامد أبو زيد، هل هو من الراحلين أو من الحاضرين؟ هل يدخل في النماذج أم إنه لا تصنيف له؟
وتتفاوت الذكريات في الأعماق. الذكريات الأولى هي الخطوط العامة للسيرة الذاتية والتي تأتي في القراءة الأولى، وعادة تكون ذكريات الطفولة. والثانية ذكريات فرنسا التي كونت الشخصية بعد ثقلها من اختيار النص إلى اختيار الواقع، ومن التقليد إلى الاجتهاد. والثالثة ذكريات العودة إلى مصر خاصة ذكريات الفترة الأخيرة بعد السفر إلى أمريكا والمغرب واليابان، وبعد مزيد من التعرف على الوطن العربي. وأعمق الأعماق هي الطفولة الأولى ومحل الولادة والسكن قبل المغادرة إلى فرنسا، وهي مرحلة الأمل في الاستقلال أو الموت الزؤام ومقاومة الاستعمار والفقر والإقطاع قبل أن تنقلب على نفسها في المرحلة الأخيرة في قرب النهاية؛ مرحلة اليأس بعد عديد من تجارب الإحباط في محاولات النهضة والإصلاح والتجديد والثورة إلى مرحلة الاستبداد والاعتراف بإسرائيل وإقامة كافة العلاقات معها والارتماء في أحضان أمريكا والخليج ووضع نفسها في صفقة القرن.
والخطورة في الذكريات أن يتناولها أحد بالزيادة والنقصان؛ زيادة ما يحب، وإخفاء ما لا يحب؛ الكشف عما يريد أو التستر على ما لا يريد ظانا منه أنه يحافظ على مركز صاحب الذكريات. ويتم ذلك إراديا وليس بالفعل الطبيعي للذاكرة والنسيان، بل إن إكمال الصورة وإبرازها على نحو غير ما هي عليه يقرب من المغالاة؛ فقد توصف بالكذب إذا زادت عن حدها، وأصبحت أكبر من جزء للصورة الأولى، تعظيما للنفس أو إقلالا من شأن الآخرين.
ومن القضايا المنهجية الصلة بين الخاص والعام؛ فهل كل ما يحدث وتستدعيه الذاكرة هي ذكريات؟ وماذا يفيد الناس أنني جعت أم شبعت، نمت أم استيقظت، عريت أم لبست؟ لا يهم إلا ما له من دلالة على الفقر، ونشأة الوعي مبكرا؛ فالذكريات هو مجموع الدلالات للأحداث وليس الأحداث ذاتها كما يفعل الخبر الصحفي للناشئين. لا يهم إلا ما له علاقة بالفكر أو الوطن كما عرضت في «هموم الفكر والوطن»، وهو ما يشغل كل الناس في اللاشعور بعد أن انشغل الشعور بمشاكله في الحياة اليومية كالغذاء واللباس والإسكان والمرض، وكيفية تكييف حاجاته مع دخله المحدود. ومع ذلك لا تنفصل الذكريات عن البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نشأت فيها؛ فهي أقرب إذن إلى علم النفس الاجتماعي عن الوصف التقريري.
والخطورة أيضا في عدم ضبط الميزان بين الذاكرة والخيال؛ فقد يتذكر الإنسان شيئا إلى المنتصف دون النصف الآخر، فيأتي الخيال لتكملة الصورة؛ فالموضوع نصفه ذاكرة ونصفه خيال. والسؤال هو: هل الخيال يكمل الذاكرة أم إنه يفارق الذاكرة بدافع الإبداع الفني؟ نصفه فلسفة ونصفه فن، بدايته صدق ونهايته أقل صدقا ولا أقول كذبا؛ فالذاكرة تحتاج أحيانا إلى ضبط وتوضيح وإكمال. لا يطبق على التذكر مقياس الصدق في العلوم الطبيعية المتطابق مع التجربة ولكن الصدق مع النفس. لا يعني ذلك وجود منطق للتذكر فإنه يظل فعلا حرا يقوم على الاستبطان والتداعي، بصرف النظر عن الترتيب الزماني، وهذا سبب التكرار أحيانا كما هو الحال في الموسيقى؛ إذ يتكرر اللحن من المقدمة إلى الوسط إلى النهاية. وكما هو الحال في القرآن الكريم مثل
فبأي آلاء ربكما تكذبان
في سورة الرحمن؛ لذلك يصعب ذكر فهرس تفصيلي بحوادث معينة؛ لأن ذلك يفصل المتصل كما يقول برجسون. يكفي المراحل الكبرى التي تختلف الذاكرة عليها.
وبالرغم من حرصي الدائم على التوازن الكمي بين الأبواب والفصول إلا أن الذكريات حكمت نفسها بنفسها؛ فهناك تجارب شكلت شخصيتي مثل إقامتي في باريس عشر سنوات ورئاستي للقسم ومحاولة تأسيس مدارس فكرية ولا أقول فلسفية، وتعمقت في شعوري وأصبحت لا تنسي، في حين كانت أجزاء أخرى أصغر مثل أحزان خريف العمر وتمنياتي المتفائلة، والمستقبل المفتوح.
ومعروف في دراستي «التراث والتجديد» أنني لا استعمل ضمير المتكلم المفرد «أنا» أو «الجمع»؛ فالعلم موضوع وليس ذاتيا. أما الذكريات فإنها تجمع بين الذات والموضوع من خلال الذات؛ ومن ثم لا ضير في استعمال ضمير «الأنا المتكلم»؛ فالتجربة ذاتية، وهو مصدر الذكريات الذي يجمع بين الذات والموضوع في علاقة متبادلة بينهما. إذا رأى الكاتب سكنه القديم هاجت فيه الذكريات، وإذا تذكر شيئا أكمله بالخيال الذي هو الوجه الآخر للذكريات.
وقد تتكرر بعض الإحالات، ولكن لكل سياقها ومدى عمومها أو تفصيلها؛ فالذاكرة لا تعرف التنظيم والتنسيق والرسم الهندسي؛ فالكتابة هي استدعاء تلقائي طبقا لمدى عمقها واتساع حضورها في اللاشعور. والحكم بالتكرار هو عدم تميز كاف بين التقرير الصحفي والسيرة الذاتية، بين الوصف والتقرير والإبداع الذاتي.
إن هذه الملاحظات المنهجية لم تأت استنباطا من منهج معد سلفا، بل هي نتاج استقراء كل إشكال صادفني في كتابة الذكريات، وحاولت التعبير عنها تجريبيا، ثم رصدتها نظريا كتمهيد منهجي، أسوة بباقي أجزاء «التراث والتجديد»، وأنا أول من ينقدها، كما تم أيضا من قبل في «محاولة للنقد الذاتي». ومع ذلك أتمنى أن تصل هذه الملاحظات إلى حد «خطوات في المنهج» بعد وضعه موضع النقاش مع من ما يزال يجد فائدة في النقاش الفلسفي.
الفصل الأول
الطفولة: الكتاب، المدارس
الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م)
أنا من مواليد 1935م حي باب الشعرية الذي به جامع الشعراني الذي كان يؤذن فيه محمد عبد الوهاب. ومن شارع الجيش الشارع الرئيسي في باب الشعرية الذي يربط بين العتبة والعباسية، يتفرع منه شارع البنهاوي الذي به جامع البنهاوي الذي يصل إلى باب الفتوح ثم باب النصر. وتتفرع من وسطه تقريبا حارة درب الشرفا ثم عطفة العبساوي والمنزل رقم 4 الدور الأول فوق مخازن السحار للبقالة. عنوان طويل مقارنة بالعناوين الطبقية الأخرى، رقم المنزل واسم الشارع ثم اسم الحي كما حدث بعد ذلك في 167 شارع الحجاز، مصر الجديدة. وكنت أستحي من هذه العناوين الطويلة التي بها الدروب والعطفات. وكنت أذهب إليه بين الحين والآخر؛ أذهب لرؤية البيت الذي ولدت فيه، والشقة التي قضيت فيها طفولتي وصباي قبل سفري إلى فرنسا. وما زلت أحلم بها وبسطوحها الخاص وجملوناته الخشبية التي كانت سقف مخازن السحار للبقالة. وكنت أنزع قعدتها الخشبية السوداء لعمل «عوامة» التي يسير بها الأطفال. رجل فوقها، ورجل أخرى على الأرض ترفعها بعد تركيب عجلتين صغيرتين، أمامية وخلفية، ومتصلة بين العمود الرأسي والقاعدة الأفقية، تربطهما مفصلة - على أحسن تقدير - للانحراف بها يمينا ويسارا مثل دريكسيون العربة.
وكان أول وعي بالناس بعد الأقارب هم الجيران؛ ففي مدخل المنزل هناك غرفة واحدة في الحوش، وهي التي تحولت في المنازل الحديثة إلى حجرة البواب، كانت تسكنها نساء فقط؛ فهيمة الأم والتي كانت تلبس السواد طول الوقت لتكشف عن ذراعيها وساقيها البيضاء، وصالحة الابنة الطويلة الفارهة، والتي كنت أشعر نحوها بشيء ما لا أعرفه. ولما ضاقت الحجرة، سكنوا تحت بير السلم المظلم الذي تسكنه العفاريت؛ فقد كان به الحوض ودورة المياه. وكانت صالحة تعمل وتعول الأسرة. وينظر إلينا على أننا من الأغنياء لأننا نسكن بالدور الأول ونذهب إلى المدارس والجامعات. كانت أرض الحوش من الطين؛ فلم يكن السيراميك قد عرف بعد، وإن وجد فمن يقدر على شرائه؟ وكان في مدخل شقتنا على يمين الحمام البلدي والمطبخ. وفي الواجهة غرفة داخلية مظلمة لا تطل على شيء إلا سطح المخزن على مستوى أدنى والذي كان يستخدم ملعبا «للعوامة». وعلى اليمين غرفة لأخي سيد وأنا الصبيان في المنزل. وعلى اليسار غرفة لأخواتي البنات الخمس: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية، وكلهن من خريجات مدارس المعلمات التي كانت في ذلك الوقت أنسب تعليم للإناث وأسهل وظيفة لهن مدرسات. وعلية الوحيدة التي تفوقت في دراستها، وأخذت الثانوية العامة من المنازل، ثم ليسانس الآداب من قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ثم الماجستير والدكتوراه حتى أصبحت رئيسة القسم، وسافرت إلى اليونان، وتزوجت وهي طالبة صديقا لي طبيبا، د. عبد المحسن حسين عبد الله. أما نادية الصغيرة فقد تخرجت من مدرسة التجارة، وأصبحت موظفة في بنك حيث تعرف عليها زميلها محمد وتزوجها، وأصبحت ربة منزل. وهي التي قمت بتكاليف الإعداد لزواجها بعد أن قام أخي سيد بتكاليف إعداد أخواتي الثلاث الأخريات نظرا لغيابي في فرنسا، وحجج الوالدين مرتين. وكانت أكبر الغرف تطل على العطفة، وتحتها مخازن السحار. أما الوالدان، فكان الوالد في غرفة الأولاد والوالدة في غرفة البنات. أما الصالة الوسطى فكانت غرفة المعيشة والاستقبال، وبجوارها شقة الجزار والكبابجي، وفوقها غرفة الفران عم توحيد وابنه صلاح، وبجواره اللبان الذي كان أبناؤه في الدراسة، وكنت أعطيهم دروسا في الثانوية العامة اتقاء لشرهم. وأما جارتنا نعيمة فكانت جميلة بيضاء وطويلة، وزوجها يعمل في «الأورنس»؛ أي الجيش الإنجليزي، كما يصور نجيب محفوظ في «زقاق المدق».
كان الوالد موسيقيا بالجيش بفرقة البيادة المصرية، يلعب الترمبون، يرفض اللعب في الأفراح لأنه كان يعتبر ذلك إهانة له وللفن وللجيش، يشارك كضيف نعم، أما كلاعب فلا، باستثناء حفل التخرج السنوي لمدرسة الجزويت بالفجالة التي كان يقدرها؛ ربما لحضورها الأجنبي أو للغتها الفرنسية أو للعشاء الفاخر الذي كان يقدم للموسيقيين، وكان يأخذني لأتفرج على عالم جديد غير عالم المدارس الحكومية الفقيرة والتي يحرم كل شيء فيها. وقد كان هو أستاذ الموسيقار الشهير لفرقة رضا، علي إسماعيل، ولما رأى فيه النبوغ نصحه باللجوء إلى المعهد العالي للموسيقى الذي كان يشترط الحصول على التوجيهية؛ أي شهادة الثانوية العامة، فقمت بالتدريس له، نظام الثلاث سنوات في سنة واحدة. كنت أذهب إليه في حي الدقي. ولما نجح أصبح أشهر لاعب كلارينيت في مصر. ظهر في أغنية «عاشق الروح» الأخيرة في فيلم «غزل البنات». ولما أنشئت فرقة رضا للفنون الشعبية أصبح ملحن أغانيها الراقصة الشعبية، وقائد فرقتها. وكنت أذهب إليه أحيانا في مسرح البالون أنا وصديقي محمد وهبي عبد العزيز، فيدخلنا مجانا، وكان أخوه رجب مجرد عازف للأبوا في الفرقة، وكان كلاهما يحبان الجنس الآخر؛ رجب لابنة عمه، وعلي للفنانات شأن معظم الفنانين في ذلك الوقت.
وكانت ستي يامنة وخالتي أم عبد الله تحضران من بني سويف إلى القاهرة لحضور حادث الولادة. وكانت ستي من قبيلة بني مر في أسيوط، جنوب بني سويف، ثم نزحت إلى الشمال، وهي القبيلة التي منها الزعيم عبد الناصر. وكان جدي قد نزح من الأندلس إلى المغرب ثم انتقل شرقا واستقر في بني سويف عائدا من الحج، وأصبح تاجر دقيق بجوار محطة القطار، وما زلت أذكر شعره الأشقر ووجهه الأحمر. وأراد أن يزوج أبي قبل الذهاب إلى التجنيد، فأخذ بيده إلى منزل ستي بجوار مدرسة زعزوع خلف المركز، وطلب من ستي يد ابنتها، وكانت نائمة، فرفعت الغطاء من على وجهها ثم سأل جدي أبي إذا كانت تعجبه فأجاب بالإيجاب. واستيقظت والدتي فوجدت نفسها قد تزوجت وهي نائمة؛ فالاختيار ليس لها. ثم نزحا معا إلى القاهرة، حي السيدة زينب، بجوار مدرسة السنية، ثم بعد ذلك انتقلا إلى باب الشعرية حيث ولدنا أنا وأخي وجميع أخواتي. وما زلنا جميعا نحن إلى هذا الحي الذي أصبح رمزا للأصالة كلما أحسست أنني انتقلت من طبقة لأخرى، وكلما أحسست أنني اغتربت عن أصالتي وعن سلوكي الشعبي.
وكانت خالتي لا تنجب، ولا تحتاج إلى أموال ستي أو أن ترثها، فكانت ستي تعطي والدتي ما تيسر من مال ليساعدها على المعيشة. كان لستي عدة بيوت ريفية قسمتها مناصفة بين أمي وخالتي، ونحن في الجامعة وفي حاجة إلى مصاريفها. كانت والدتي تذهب إلى بني سويف وتهمس في أذن ستي فتوافق على بيع أحد البيوت. بيعت أربعة بيوت ونحن في أربع سنوات الجامعة، ثم اندارت ستي وأقنعت خالتي ببيع بيوتها وهي عاقر بالرغم من زواجها وطمع زوجها في صيغتها في يديها. ولما اقتنعت وتوفت ستي أقنعت والدتي خالتي ببيع آخر بيوتها، وتأتي لتعيش معنا في القاهرة حتى تجد من يساعدها، وكانت عرجاء؛ رجل طويلة وأخرى قصيرة بعد أن وقعت من على السطح وهي تطعم الدجاج، فانزلق بها السلم، ولم يكن في ذلك الوقت أطباء، فاكتفت بالوصفات البلدية والجبيرة ولكن ظل العظمان متفرقين. وبالفعل عاشت خالتي آخر سنواتها معنا في 13 شارع الجنزوري بالعباسية بعد أن أصبح المنزل الذي ولدنا فيه معرضا للانهيار. وبالفعل هدمت الأدوار العليا الأربعة وبقي الدور الأول الذي ولدت فيه.
وكان أبي قد توفي فيها، ورأيته أنا وزوج أختي الكبرى في لحظته الأخيرة، ورأيت الروح وهي تصعد وأبي يتألم إلى أن فتح فمه ثم توقف عن الحراك. وما زلت أتساءل: هل الروح في لحظتها الأخيرة تخرج من الفم؟ وكنت أسمع وأنا صغير دون أن أشاهد أن الروح تبدأ بأخمص القدمين وتنتهي تدريجيا إلى أعلى. وما إن خلت غرفة في الشقة حتى استدعيت خالتي للعيش فيها، وكانت سعيدة، بينها وبين أفراد الأسرة منافسة على الطعام. كانت تعتبر أولاد أختها أولادها، يأخذون منها العيدية في كل عيد. الوالدة ليس لها شهادة ميلاد؛ فلم يكن مطلوبا منها ذلك، ولكنها كانت تقول إنها أصغر من الوالد بحوالي عشر سنوات.
والوالد وهو من مواليد 1900م بسبب الخدمة العسكرية كان شاويشا بالجيش في فرقة البيادة (المشاة) للموسيقى العسكرية، لاعب ترومبون الأول، ثم رقي صول (شرف). وكان علي إسماعيل وهو قريب لنا من تلاميذه. وكان يرفض دعوات اللعب خارج الجيش احتراما لهيبته، وما كان يسود الأفراح من هزار وتدخين الممنوعات لا يليق. ورفض أن ينتقل إلى أي مكان آخر مثل السودان ليس فقط كي يترقى بل أساسا حفاظا على البقاء في القاهرة مع أسرته. كان يحب الجلوس على المقهى مع زملائه في الجيش ويشرب الشيشة حتى كبر أولاده، وظن أن ذلك عيب وهم على أبواب الجامعة. ولما قامت ثورة يوليو 1952م، أرادت إفساح المجال للشباب في الجيش، فأخرجته وحولته إلى وزارة الشئون الاجتماعية، كما انتقلت أنا إليها عندما أخرجنا الرئيس المغدور بقرار منه في سبتمبر 1981م خارج الجامعة مع الإعلاميين وعلى رأسهم هيكل وإبعاد البابا إلى دير في الصحراء؛ لأنهم كانوا يعارضون سياساته التي انقلب فيها على عبد الناصر، والتي بلغت قمتها في مقاومة مظاهرات يناير 1977م (انتفاضة الحرامية) بالقوة وزيارته إلى إسرائيل في نوفمبر من نفس العام، ثم اتفاقية كامب ديفيد في 1978م، ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979م والذي أدى إلى اغتياله في أكتوبر 1981م. ثم أحيل إلى المعاش كموظف في الدولة 1960م ثم توفي 1980م، ومعاشه ستة جنيهات.
وبعد أن توفت خالتي، وكان أبي قد اشترى قبل أن يتوفى مقبرة بالبساتين كان هو أول من دفن فيها. كان أبي باستمرار يمازح خالتي ويخطف منها طبق الطعام وهي تمنعه من ذلك عن طريق البصق فيه، وتضحك عليه بأنها هي التي كسبت المعركة. وكانت والدتي ترجوه أن يتركها في هدوء «سيبها يا أبو السيد.» كانت تحبني وتعتبرني ابنها الوحيد؛ فقد حضرت ولادتي عندما أتت من بني سويف إلى القاهرة، وكنت أنا أقرب إخوتي لها، كانت تؤثرني بالمصروف المدرسي اليومي قرشا أو قرشين عليهم. وكنت أدافع عنها باستمرار إذا مسها أحد بسوء، وتحزن وتقول لوالدتي: «ياللي بيعتيني بيتي.» وأنها خسرت كل شيء بسببها وأولادها، ولم أكن أدري هل هذا مزاح أم جد. لقد كانت تحن إلى بيتها الأخير في بني سويف، وحجة والدتي أنه دخل في التنظيم؛ أي سيهد عن قريب؛ لأنه بارز في الشارع عن صف البيوت الأخرى. وبيت عصمت المقابل الذي يحدث اختناقا مع بيت خالتي، لا يهد لأنه أكثر جدة، وعصمت ذو شأن في المدينة، ولأول مرة أرى الحاج وهو يضع كفيه في دماء الضحية ويطبعها على الحائط كي يعرف الجميع أنه حاج وينادونه بلقب «حاج» في «الحاج عصمت»؛ لأن عصمت بمفردها أو عصمت أفندي لا تعطيه حقه.
وأصبحت مقبرة البساتين مدفن العائلة؛ بها أبي وأخي وزوج أختي فاطمة وأمي وخالتي وحماتي وأحد الأقرباء لأمي وأخيرا زوجة أخي، والموت ليس به ازدحام كالحياة، وربما أكون أنا أو أختي الأصغر مني أول زائريها. ومع ذلك فكرت أخت زوجتي في شراء مقبرة لهما بطريق السويس، لم يدفن بها أحد حتى الآن، وربما أكون أول زائريها، والأمر متروك لزوجتي الحبيبة؛ إما أن أدفن في مقبرة العائلة حيث بها أمها أو في المقبرة الجديدة لآل مرعي. الأولى طرقها غير أسفلتية وكلها مطبات، وتتسرب إليها مياه عين الصيرة بين الحين والآخر. والثانية طرقها أسفلتية، نظيفة، أعدها الجيش. الأولى داخل القاهرة، والثانية خارج القاهرة.
وكانت شقة العائلة بالعباسية التي توفي بها أبي وأمي وخالتي مطمع أختي لتزوج بها ابنها الأكبر الذي يسير بعصوين، فلم يعترض أحد نظرا لحالته الصحية، فتزوج بها وأنجب، ورعت زوجته والدتي في سنواتها الأخيرة، فكانت الشقة استحقاقا لها بالرغم من تساؤل جميع البنات.
كانت الأخت الكبيرة «طيبة»، «بنت حلال» أنجبت أربع بنات وولدين، يعشون من معاش من أمي. وكانت من بعدها أيضا طيبة وفي حالها، تزوجت وأنجبت ولدين وثلاث بنات. والثالثة كانت تعشق الدنيا، ثم بعد ذلك تدينت وقرأت القرآن، ومسكت بالمصحف، ولبست البياض، وغطت رأسها، تعظ الناس، تزوجت وأنجبت، ولها ثلاثة ذكور وأنثى واحدة شبيهة بأمها مثل أحد الذكور. والصغرى جمعت بين الطيبة وسلامة النية، وزادت الهبالة فتزوج عليها زوجها المتدين امرأة متدينة نصابة طمعت فيه، وأخيرا عاد إلى الحب الأول. وأولاده أربع إناث تزوجن وأحببن إلا واحدة، أصابتها عقدة نفسية لشدة الرقابة عليها من أبيها المتدين. كلهن الآن جدات لهن أحفاد، أطال الله في عمرهن. تفوق الذكور والإناث جميعا بين أستاذة جامعية ومحاسب ومهندس. وكانت أمي تسميها «من تشاركني في حياتي» باعتبارها ابنتها البكر.
وكانت الوالدة أمية، لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها في الحياة عالمة كبيرة، سواء في شئون المنزل أو مع الأقارب والجيران والأصدقاء. كانت تستيقظ في الفجر مثل الوالد وتبدأ في إعداد شئون المنزل من عجين وطبيخ وغسيل وتنظيف. كان من عادة الأسرة المصرية أن تعجن في المنزل؛ تشتري الدقيق وتعجنه وتخمره وترصه وتقدمه على طاولات من الفران الذي يأخذه وينقله إلى الفرن ويستخرجه طازجا بالعدد. وكانت تعرف كم كيلو دقيق يستخرج منه رغيف، الطري والملدن، وكان هذا يتم مرة في الأسبوع؛ فما دام هناك عيش في «المشنة» تكون الدنيا مستورة. وكنا نشتري الدقيق من السحار على باب درب الشرفا وشارع البنهاوي، وهو يسجل التاريخ، ومرة واحدة أخطأ في عدد المرات في الشهر، ولكن الوالدة هي التي صححته بذاكرتها؛ فليس مقياس الصواب والخطأ المكتوب في دفتر البقال بل المسجل في ذاكرتها. كانت تعد ثلاث وجبات يوميا لتسعة أفراد؛ الوالد والوالدة، وأخي سيد وأنا ، وخمس بنات: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية. وكلنا نأكل الصنف من طبق واحد. ولم تكن هناك عادة أطباق الغرف المشتركة ولكل فرد طبق يأكل منه بعد أن يغرف ما يريد. وكانت المشكلة ما بعد الطعام، تتكاسل أخواتي البنات عن تنظيف الأطباق، والرجال؛ الوالد وأخي وأنا، ليس المطلوب منهم شيئا، فيقع العمل كله على الوالدة، فتعبت. ومرة سمعتها تصرخ عاتبة على أولادها البنات: «أصل انا العبدة اللي اشتراها لكم أبوكم»، فأحسست بالظلم الاجتماعي الذي يقع على المرأة. أما الرجل فلم يكن مطلوبا أن يفعل شيئا، عكس ما رأيت في أمريكا فيما بعد، عندما دعانا أستاذ الفلسفة إلى العشاء، زوجتي وأنا. ولما انتهينا قام هو ولبس مريلة المطبخ وظل يغسل الأطباق وزوجته تسامرنا!
وكان الوالد يغار عليها من أي رجل يأتي لزيارتنا؛ فقد كان يراها أجمل امرأة في العالم. كان يغار خاصة من عم إسماعيل (والد علي) الذي كان يأتي لزيارتنا لرؤية بنت خالته متأنقا، على شعره الناعم كريم يجعله يلمع ليجذب النساء إليه، في حين كان والدي بسيطا في لبسه بالجلباب ولا يضع فوق شعره أية مساحيق. وكان عم إسماعيل متكلما مبتسما في حين كان الوالد أقصر في الكلام، ولا يبتسم أو يضحك إلا عند الضرورة. والوالدة تريد أن تظهر قدرتها على الكلام، فتتبارى مع عم إسماعيل، ووالدي لا يستطيع أن يجاريها، فأحس بالغيرة، فقام وانتفض وصرخ في وجه أمي لأن الضيف ضيف وعم إسماعيل يهدئ فيه حتى تهبط نار الغيرة منه. وكانت عائلة عم إسماعيل كلها تحب النساء؛ علي، ورجب، وجمال. وهذا طبيعي. أما بالنسبة للوالد فهذا غير طبيعي؛ فالنساء كلهن في الوالدة. مع أن زوجة عم إسماعيل كانت بيضاء، وضاحكة بالرغم من قصرها وبدانتها. وكانت ابنتها خديجة، هيفاء، بيضاء، في غاية الجمال، أحببتها عن بعد، وحضرت يوم زفافها على ابن عمها الذي أخذها في الحجرة المجاورة وهي تصرخ، وقام بالواجب، وفي الخارج يطبلون ويزمرون. وعندما خرجت رأيت الألم على وجهها، وحزنت لها وعليها، على هذا الحبيب الذي انتهكت كرامته ، وعلى وجه الرجل علامات بؤس وشقاء لأنه لم يجد أي لذة أو سرور في ذلك.
أما الأخ فهو سيد الذي كان أستاذا للأدب العربي في جامعة القاهرة، وتلميذا لشوقي ضيف، تلميذ طه حسين، ثم وكيلا للكلية، ثم عميدا لآداب بني سويف، ورئيسا لقسم اللغة العربية، وبها كان إداريا ماهرا، يغلب مصلحة الطلاب على قوانين الإدارة. أما الأخت الكبرى فكانت مدرسة، بدأت التعيين في دشنا بمحافظة قنا، وكانت هذه أول مرة تبتعد فيها عن أفراد الأسرة، وكان والدي يذهب لزيارتها بين الحين والآخر بزيه العسكري، وله صور في آثار الأقصر. وبالرغم من قصر أختي الكبرى وسمنتها فقد جاءها خطيب من هناك، أحول العينين، طويل وأسمر، أكبر منها سنا، يسمونه «علي أفندي»، يعوج الطربوش بزره الأسود المتدلي، معجبا بنفسه كما هو الحال في الأفلام المصرية، وكانت الوالدة تقابله بالترحاب، وهو لا يتوانى في خدمة الأسرة ليبين مهارته الاجتماعية، يعرف فلانا وعلانا من علية القوم؛ فكان على صلة بالدولة وإدارتها حتى إنه جهز إجراءات دفن أخي الأصغر علي الذي مات وهو رضيع بنزلة معوية، وحملته جارتنا في البدروم على يديها وهي تتصنع البكاء، وذهبت معهما مصاحبة إلى المدافن لا أدري أيها، ولو عاش لكان لي أخان. وتقدم لخطبة أختي الكبرى، لا أدري رسميا أو غير رسمي، ورفضت أمي. كيف تفارق ابنتها الكبرى إلى الأبد وتعيش في الصعيد؟ وكانت الجارة التي لم تكن على وفاق دائم مع أمي ، وكانت جميلة بيضاء، كلما تعاركت مع أمي بالكلام، كما هو الحال في العادات الشعبية، تقول لها: «يا بتوع علي أفندي.» وتقول لها أمي بعد أن أحست بالإهانة: «اخرسي، قطع لسانك من لغلوغه.» وكان زوجها طيلة النهار خارج المنزل، ولا يخرج إلا في الصباح الباكر. وفي يوم خرج والدي لشراء خبز فتقابل معه ويبدو أنهما تشاجرا بالكلام، وأحست والدتي بتأخر والدي، فخافت أن يكون قد اصطدم بخروج جارتها، وعاد والدي مكفهر الوجه، وسألته الوالدة: هل تقابلت معه؟ فقال لها: نعم، وتشاجرنا. فخرج الموضوع من أيدي النساء، ووقع في أيدي الرجال، ولكن بسلام. وفي يوم من الأيام وجدت الشرطة على باب المنزل ثم على باب الشقة المجاورة لي ويأخذ جارتنا مكبلة بالحديد. وكانت التهمة أنها خلعت بلاط الحمام، وعملت هوة تسمح بنزولها إلى مخزن البقالة وسرقة صفائح الجبن والزيت وأشولة الأرز، ففرحت. وكنا نعايرها بعد أن رجعت إلى المنزل، بأنها «حرامية»، وهي تعايرنا بأننا «بتوع علي أفندي».
وأخيرا تزوجت أختي الكبرى، وكانت تدعى نبيهة واسم الدلع «بخاطرها»، وكانت أمي تسمى «أم بخاطرها» نسبة لها أو أم سيد نسبة لأخي الأكبر سيد؛ تزوجت من قريب لوالدتي، سيد حامد، مثالا في الأخلاق والمساعدة الأسرية. وهو الذي كنت أعتمد عليه دائما في مصالحتي مع الأسرة عندما كانت لا تستجيب لطلباتي مثل شراء الكمان أو في الاشتراك في حمام السباحة حتى لا أغرق، وكانت طريقتي في الخصام هي الصوم؛ لذلك كانوا يسمونني «غاندي». هو الذي يصمم لي المكتبة والرفوف لوضع الكتب. وهو الذي تابع طبع رسالتي الأولى الفرنسية بالمطابع الأميرية بعد موافقة الأمين العام للمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في ذلك الوقت، ثم شحن مائة نسخة إلى باريس كما تتطلب السربون في ذلك الوقت. وهو الذي جاء معي لمحل الموبيليات للتفاوض على ثمن غرفة النوم مع زوجتي وتخفيضها من مائتين وعشرين جنيها إلى مائتين وعشرة جنيهات، وأصر عامل المحل على أن يأخذ خمسة جنيهات إكرامية له لوقوفه إلى جانبنا ضد صاحب المحل صدقا كان أم نقاقا. كانت حالتنا المالية لا تسر؛ فكان معاش الوالد ستة جنيهات، نأخذ الدقيق، وهو الأهم، من بقال على ناصية الحارة، وهو السحار، مع تأجيل الدفع حتى أول الشهر، حوالي أربع مرات؛ فالخبز أهم شيء في الأسرة، وكان الفرن قريبا من المنزل على مدخل عطفة العبساوي، ويسكن صاحبه فوقنا.
انتظرت والدتي مرة أختي الكبرى على باب المدرسة بعد أن سعت لنقلها إلى القاهرة بعد زواجها، ونجحت في ذلك، وعاتبتها على أنها تركت أسرتها دون أي معونة مالية، فقصت أختي القصة إلى حماتها التي عايرتنا بهذه الطريقة في الشحاذة مع أنها موافقة على أن تعطي أختي والدتها جنيها أو اثنين شهريا.
ولما توفت زوجته وهي شقيقتي الكبرى لم يستطع العيش بدونها، وتوفي هو بعد شهر، وكانت مقبرته بجوار مقبرتنا، وفي آخر الطريق مقبرة علي إسماعيل، وترك من بعده ذرية صالحة، ولدين وأربع بنات، تزوجن جميعا وأصبح لهن أحفاد يحفظون الود لخالهم.
وكنت مرتبطا بأولاد شقيقتي الكبرى: سوسن، وسهير، وسهام، وسلوى، وأحمد، ومحمد. وكنت آخذ سوسن وسهير سيرا على الأقدام من باب الشعرية إلى شبرا لإرجاعهما إلى والديهما بعد أن تكونا قد قضتا الليل عند جدهما وجدتهما وخاليهما. وكنا نطوي المسافة طيا دون أي ألم في الأقدام خشية من ركوب المواصلات العامة، مثل الترام، الذي كان في ذلك الوقت خيرا مما هو عليه الآن. كما كنت آخذ شقيقاتي؛ سعاد، وفاطمة، وعلية، إلى سينما مصر، وكنا نرقص على سلم المنزل ونقول: «رايحين السيما.» ولما كبرت شقيقاتي، ووالدي محافظ، كن يقصرن الرداء بالحزام فوق الركبة تقليدا للكبار.
أما الأقارب فأتذكر تاجر الجلود بالصنادقية الذي كان قريبا للوالدة، وكنا بين الحين والآخر نذهب إليه لاقتراض بعض المال، خاصة في أوائل العام الدراسي، سيرا على الأقدام خلال شارع المعز لدين الله الفاطمي وخلال القاهرة القديمة. وكانت أخت الحاج حسنين جدي أفقر منا، تعيش أسرتها من عمل اللعب، الوز الملون المتحرك؛ الأب يقطع الأخشاب، والابن يبيع في الأسواق، والثالث غادر هذه الحياة البائسة ليبحث عن رزق أوسع نجارا ، ويأتي لزيارة الأسرة بين الحين والآخر. لم يتزوج بائع اللعب، ومرة أتانا إلى المنزل مصاحبا بامرأة مدهونة بالأصباغ وعلى رأسها قبعة ظانا أن ذلك أعلى قيمة في الحداثة، وقدمها على أنها زوجته التي يتباهى بها. وكان له أخ آخر سائق بين القاهرة والإسكندرية، أتانا مرة وانفجر بالبكاء لأننا أسرة مفككة، فقدمنا له العشاء والمنامة حتى ضحك وجفف دموعه، ولم نره بعدها! وكان أبي له أخ علمه الموسيقى فكون فرقة موسيقية متواضعة يشارك فيها في الأفراح. وكان يزورنا في هذه الفترة «عم إسماعيل» أنيقا لامع الشعر لزيارة الوالدة قريبته، فكانت تلقاه بالحفاوة المطلوبة ولكن الوالد كان يغار منه على والدتي ويفتعل خناقة مع الوالدة، ثم تتم المصالحة، وكان الوالد لا يحب كثيرا أن يأتي. وكان عم حسين حما شقيقتي النابغة يحب الحديث مع الوالدة، هو كثير الكلام وهي تسمع، وكان حلو الحديث. لم يكن أبي يغار منه لأنه لم يكن متأنقا مثل عم إسماعيل، كان بجلباب فضفاضة، أهتم الأسنان. كلاهما تجاوزا السبعين؛ الوالدة، أما عم حسين فقد جاوز الثمانين. اثنان من كبار السن لا خطر من أن يتحادثا لشغل أوقات الفراغ.
وكان الجيران على أنواع: الصديق، في الظاهر والباطن، والمنافق؛ أي الصديق في الظاهر والعدو في الباطن، والعدو في الظاهر والباطن؛ فالصديق في الظاهر والباطن في الشباك الذي أمامنا، وكانت صالحة على مستوى معين من الجمال، بيضاء هيفاء، قليلة الكلام، وعينان براقتان، وفم ضاحك، وقلب نابض. والصديق في الظاهر والعدو في الباطن من فوقنا، زوجة الفران، التي لديها ابن (صلاح) الذي كان متقدما في شئون المرأة عنا، وهو الذي علمني كيف أعاكس المطلقة التي في السطح، بإطفاء نور السلم وتقبيلها. ولما كان ذلك كثيرا علي، انتظرتها وهي خارجة من المنزل وأنا في الشباك وقذفتها بالماء، وهي حركة عدو لا صديق، فمسحت قدمها بمنديلها وواصلت السير. نظرت إلى أعلى ولسان حالها يقول: هل هكذا يفعل العاشقون؟ وندمت وعرفت أنه ليس كذلك تكون المعاكسة؛ أي الغزل. وبعد كل فشل ترن في أذني أغنية محمد عبد الوهاب «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات»: «وعشق الروح ما لوش آخر، لكن عشق الجسد فان.» فهل هناك عشق صادق أم تعويض عن الفشل؟ وقد كان صلاح غير موفق في دراسته وليس له في العلم رغبة لأنه هو الذي سيرث أباه في الفرن. اختلف مع والده مرة عندما عاتبه أنه ليس ناجحا مثل من تحته، وهم نحن، فسكب على نفسه الجاز فأشعلها، ثم أطفأته الجيران، وبقي تأثير الحريق في وجهه، وذهب إلى قريبة له في مدخل درب الشرفا حتى يتصالح مع والده. وكان الوالد فتوة، يدخل المعارك بالعصا بين الأسر أو الأحياء عندما يبدأ الصراع بين درب الشرفا حيث أسكن والعطوف. وعادة ما تكون الغارة علينا لأنهم هم الأقوى، قوة وعددا، وكما صور نجيب محفوظ في «التوت والنبوت» في الحرافيش. وكانت أخته ليلى جميلة ذات صدر بارز يكاد يقع من بروزه. وتثني ظهرها بدعوى التنظيف والكنس.
وكان في وسط الحارة امرأة فتوة، نفيسة، يخشاها الجميع، ولم أكن أعرف لماذا؟ وهي طويلة بيضاء مثل تحية كاريوكا في فيلم «سمارة» و«عفريت سمارة». في يديها صيغة من اليد إلى الكوع، تجلس على باب المنزل أكثر مما تعيش في شقتها. وكان في آخر العطفة ميدان مغلق، سكانه أكثر رقيا، كان لي فيه أصدقاء لم يعيشوا طويلا في صداقاتهم. وكان جمال إسماعيل في الخديوية الثانوية يأتينا لزيارة فريق التمثيل في خليل أغا الثانوية، وكان أخي أحد أعضائها، يتحدثون عن التمثيل، وكان العزبي يغني، واستمر جمال إسماعيل في التمثيل، وتحولت الهواية إلى مهنة، أما أخي فاستمر في السلك الجامعي، وكان أبو زهرة مع هذا الفريق، وأنا مثله تركت الموسيقى إلى الدراسة.
وكنا ونحن صغار في سن ما قبل المدرسة نلعب في الحواري والشوارع. وكانت اللعبة المفضلة لدينا في ذلك الوقت «العوامة» وتتكون من عمودين من الخشب؛ واحد أفقي نضع عليه رجلا والأخرى تدفع بها على الأرض، والثاني رأسي في آخر خشبة أخرى أصغر مثل (الدركسيون) وعجلتين رولمان بلي؛ الأولى أمامية والثانية خلفية . وإذا كان الطفل ميسور الحال وضع عجلة أخرى، الأولى يمينا، والثانية يسارا. وإذا كان ميسورا أكثر ربط العمودين بمفصلة حديدية تسمح بالتحول يمينا أو يسارا. وكان في سطح المنزل الخاص الذي تحته مخازن السحار جملونات للضوء محملة على عواميد خشبية، فكنت أخلع عمودين وبالتالي يكتمل جسم العوامة. وكنا نلعب بها منذ ساعات الفجر الأولى، والشوارع خالية. وفي صباح باكر قام شيخ جليل ذو ذقن بيضاء وفي يده شيشة من على الكرسي على رصيف المقهى وجرى نحوي وأخذ العوامة ورفعها ثم ضربها على الأرض فتفتتت؛ فقد صلى الفجر وأراد أن يجلس على المقهى في هدوء ويدخن الشيشة، وهؤلاء الأطفال يسببون الصخب له. فمنذ ذلك الوقت كرهت المشايخ ونفاقهم، والدين الذي لا يرحم. وكيف لي أن أصلح العوامة من جديد؟ واللعبة الثانية أن شقتنا كان بها غرفة تطل على سطح مخازن السحار، فإذا كنا ميسورين نلبس قباقيب عجل ونسير في السطح، وفي وسط العام الدراسي نأخذ كتبنا للمذاكرة هناك. وعندما قام الصراع بين الإخوان والثورة في 1954م أخفيت منشورات الإخوان في إحدى مواسير الحائط حتى اكتشفها والدي وأخذها وحرقها خوفا علي، وانتابني حزن كبير.
وكنا نلعب في الحارة السباق جريا بالعرض من شرطي «امسك حرامي»، وهي مسافة لا تتجاوز خمسة أمتار، وكانت بالنسبة لنا كافية للسباق. وفي لعبة أخرى نقذف بصفيحة إلى أعلى ونتلقفها باليدين، ومن ينجح في ذلك يكون أبوه ملكا. فعلت ولم يصبح أبويا ملكا، بل دخلت أنا المستشفى لإجراء جراحة عاجلة في الرقبة ما زال أثرها حتى الآن، في شارع عبد العزيز تحت إدارة وزارة المعارف العمومية وهو الاسم القديم لوزارة التربية والتعليم. أما كرة القدم «الكرة الشراب» فكنت أكرهها ولا أحب لعبها لأنني لم أعلم أين الفن فيها، وأحيانا يكون الدفع فيها هو الأساس، وأين الحارة التي تغلق نفسها للاعبين؟ ومهما كبرت الكرة الشراب فلن تتجاوز قبضة اليد، وليس لدينا مال لشراء كرة النفخ، وكانت الخسائر فيها كثيرة؛ الوقوع على الأرض وجروح الركبتين، وولولة الأم، وقسمها أني لن أنزل لألعب في الحارة من جديد، ولكننا كنا نجعلها تحنث بالقسم. ولعبة أخرى هي نط الحبل، ولكنها كانت للبنات أكثر مما هي للصبية. ولعبة «السيكة» التي كانت ترسم على الأرض بالطباشير الأبيض عدة مسافات، ووضع قطعة من الطوب في كل مسافة، ثم القفز عليها من أجل زحزحة الطوب من خانة إلى أخرى، وتسمى أيضا «النطة». ولم تكن الرياضة أمنية الأطفال في ذلك الوقت.
ثم وقعت كنبة على ساقي فانكسر، وتم تجبيره عند برسوم، طبيب الشعب، في ميدان رمسيس. وكانت والدتي تحملني على كتفيها كالحصان من باب الشعرية إلى ميدان رمسيس لتشتري السمك الطازج من رجل مشهور هناك، في الخلفاوي أو الحلفاوي، كان يقعد «بالمشنة» على الرصيف، وتعود والدتي إلى المنزل، وكنت أستغرب كيف حملت هذا الحمل الثقيل ذهابا وإيابا، وتحمل السمك؟ ولما كبرت عرفت أن ذلك هو إخلاص المرأة المصرية لبيتها.
وكان والدي يرسلني إلى محل الطرشي بدرب البزازرة أمام جامع البنهاوي لشراء طرشي، وأوصي البائع بمزيد من ماء اللفت، فكنت أذهب بطبق مفتوح وأعود وقد انسكبت منه معظم مياه اللفت على الأرض. وفي المرة الثانية أردت أن أعرف طعم ماء اللفت هذا الذي يصر عليه والدي، فقمت بتذوقه بدلا من انسكابه على الأرض بفعل المشي، فوجدت طعمه لذيذا، وذهبت إلى الوالد وماء اللفت ناقص أيضا. ثم أرسلني الوالد إلى بائع الطرشي لأقول له إني أتيت من طرف عم حنفي، فزاده إلى الثمالة. ولم نكن نعرف في ذلك الوقت أن طبق الشراب في حاجة إلى غطاء لكي يحفظه داخل الإناء.
وأرسلني والدي إلى الكتاب في سن الرابعة لأن الحكومة لا تقبل في المدارس الأولية قبل الخامسة، وكان الكتاب يسمى باسم مدرسة «الشيخ سيد»، ويقع في آخر درب الشرفا، عطفة العبساوي. صالة في الدور الأرضي مفروشة بالحصير، تستخدم للصلاة أيضا. وكانت التكاليف رغيف خبز وطبق مخلل بشرابه أو طبق سلطة. وكان التدريس بطبيعة الحال تحفيظ القرآن، وتعليم بعض قواعد اللغة العربية، وعلامات الإعراب. وكان الجلوس على الأرض تربيعا وحافين. والأطفال بالجلابيب مثل الشيخ بالجبة والقفطان والعمة. وكان صوت الأطفال جماعيا مرتفعا حتى يسمع الحاضر الغائب. وبمجرد أن ينتهي الدرس يهرع الأطفال بالخروج إما للعب أو إلى أهله. وكانت عيون الشيخ تروغ يمينا ويسارا إذا ما أحضرت الأم طفلها بنفسها، وسلمته للشيخ كأمانة فتقترب من الشيخ أكثر فأكثر، ولا ينسى الشيخ أن يبلغ السلام لأم الطفل مع ابنها في نهاية الأسبوع أو بدونها. لم أستسغ هذه الطريقة، ولم أستطع أن أكمل الكتاب، ولا طريقة الشيخ في تحفيظ القرآن، ولا العصا (الخرزانة) التي في يده، ولا صمت الأطفال إلا من صوت ترديد آيات القرآن وراءه، ولا هذه العلاقة بين السيد والعبد؛ علاقة العصا. فقدت اللعب، ولم أجد شيئا أفضل منه؛ حارة مسدودة، وعقل شارد، ولكن القلب ما زال ينبض.
وتروي الوالدة أنني بعد الطهارة كنت كلما أتانا ضيف أرفع الجلباب وأقول له: «أنا اطاهرت.» كنت فرحا بالحدث، وكنت أريد أن تشارك الضيوف فرحتي، وكان رباط الشاش ما زال موجودا، وكنت أسمع من يقول: «عيب يا ولد.» ولا أدري من القائل، ولكن لزقت في ذهني أن هذه المنطقة عيب أعريها، وأنني يجب أن أغطيها، وهكذا بدأت التفرقة بين مناطق الجسد؛ بين «التابو» الذي يجب أن يختبئ، وباقي مناطق الجسد التي يمكن أن تعرى. ورأيت ذلك في غسل الميت فيما بعد، عندما كانوا يخبئون هذه المنطقة بالمنشفة.
ولما بلغت الخامسة في 1940م انتقلت إلى المدرسة الأولية، مدرسة سليمان جاويش، في شارع مواز لدرب الشرفا من ناحية وشارع الحسينيين من ناحية أخرى، ويفتح على باب الفتوح وشارع المعز لدين الله الفاطمي في وسط زقاق ضيق. والمدرسة ذات فناء واسع، وفصولها خشبية «داير داير» الفناء، والإدارة بعد الباب بعدة سلالم يمينا ويسارا. وكان التلاميذ في الفسحة يخرجون من الباب ليشتروا الصميط من صابر الذي وضع بضاعته على صاج أسود كبير على الأرض، والتلاميذ يتسابقون للشراء؛ منهم من يدفع، ومنهم من يتظاهر بالدفع. ولا يستطيع صاحب الصاج في الزحام والصراخ أن يضبط كل شيء، كل يد ممدوة إلى صاجه، وأحيانا أكون واحدا منهم ما دام الأمر سهلا. يكفي صاحب الصاج أن يجمع التعريفات في حجره، وهو كسبان في النهاية. وكانت الغاية من المدرسة ليس التعليم بل الحفاظ على التلاميذ من ألعاب الطريق. فإذا أكمل التلميذ سنوات المدرسة الأولية الخمس فإنه يكون في الطريق إلى المدرسة الأزهرية، وليس الجامعة. وكنت ألبس البدلة والطربوش كي أكون أفنديا، والطربوش كان مغريا كي يكون كرة قدم، فأرجع إلى المنزل والطربوش قد تمزق، فآخذ درسا في أن الطربوش رمز النضج والكبر، فكيف ألعب به كرة في لعبة كرة القدم؟ وفرق بين الطربوش المطبق الذي يظهر من خوصة فتحات القماش الأحمر والطربوش المكوي المستقيم جنباته، وأحيانا تضاف رابطة العنق إلى البدلة حتى تكتمل صورة الأفندي. واكتشفت الأسرة أن عندي قصر نظر لأني لا أرى إلا القريب دون البعيد، وقمت بعمل نظارة طبية. وكانت العدسات في ذلك الوقت من الزجاج، ينكسر بسهولة إذا وقعت النظارة على الأرض. ولما كنت سريعا ما أصطدم بصبي آخر لضعف بصري وأنا أجري فتقع النظارة على الأرض، وينكسر الزجاج، ويصرخ الأهل ليس خوفا من التكاليف ولكن قد يدخل الزجاج في عيني، ولم أكن أدري ما العمل للجمع بين النظارة واللعب جريا واصطداما؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت، والذي دخل فقط عام 1960م كي أتشبه بأفنديته. وكنا نذهب إلى بني سويف في الصيف خوفا من غارات الألمان على القاهرة وأصوات المدافع. ولما توفت ستي نقلناها إلى مقابرنا في الضفة الأخرى للنيل. أما خالتي فدفنت في القاهرة في المقابر التي اشتراها أبي، وساعدناه ماليا، أخي سيد وأنا، ودفن فيها، وعليها اسمه حتى الآن حنفي حسانين أحمد. وبها، بالإضافة إلى خالتي، أمي، وحماتي، وشقيقتي فاطمة وزوجها فريد، وأخي سيد، وعلي النجار من أقرباء أمي، ثم أخيرا زوجة أخي.
ولما كانت المدرسة الأولية طريقا مسدودا إلا نحو مدرسة المعلمين العليا، ولا تؤهل للثانوية والجامعة، انتقلت إلى مدرسة السلحدار الابتدائية في أول شارع المعز لدين الله الفاطمي من ناحية باب الفتوح، وهو جزء من السور القديم، وكانت مملوءة بالآثار الإسلامية في النحت، نلعب بها، ولا ندري ما قيمتها، نختبئ وراء رءوس الرخام، وعواميد القصور. بها فضاء فسيح نلعب فيه، وفيها بدأ التعليم. ومدرسون يعطون مجموعات تقوية بدلا من الدروس الخصوصية بخمسين قرشا في الشهر. وكنت التلميذ الوحيد الذي رفض أولا لأنني لا أحتاج. ثانيا أن الثمن كان خمسين قرشا، وهو كثير على مصاريف الأسرة. أوقفني المدرس ووجهي للحائط عقابا لي، وكأنني المسئول عن ذلك. كنا نخرج كل يوم 11 فبراير كل عام في طوابير للذهاب إلى قصر عابدين، بقيادة مدرس اللغة العربية أو الدين، بالعمة والقفطان، جمعا بين الدين والسياسة بدلا من الجمع بين الدين والعلم والوطن؛ للهتاف بحياة الملك، وهو النشيد الآتي:
للمليك اهتفوا
يا أسود الحمى
للمليك اهتفوا
دائما دائما
للمليك يا بلادي اسعدي
للمليك كلنا نفتدي
نحن في ظله
قد ملكنا الزمن
نحن من حوله
فدية للوطن
وكان التلاميذ في ذلك الوقت وفي هذه السن المبكرة يشاركون في المظاهرات دون انتظار حتى ما بعد الجامعة لو أمكن الصبر بالرغم من أن للصبر حدودا. وسمعنا أن في الجامعة مظاهرات «لجنة الطلبة والعمال» فخرجنا من المدرسة في مظاهرة ونحن نهتف، وذهبنا إلى باب الشعرية حيث كان يسير الترماي، وأمرنا السائق: «دور يا أسطى.» إلى الجامعة، فذهبنا إلى جامعة القاهرة، وشاركنا في المظاهرات التي فتح عليها القصر الكوبري، كوبري عباس، فسقط الطلبة في النيل واستشهد البعض الآخر برصاص الجنود، كما هو واضح في بداية فيلم «في بيتنا رجل»، قصة إحسان عبد القدوس. وسمعنا باستشهاد عمر شاهين وعبد الحكيم الجراحي. وقد سمي مدرجان بآداب القاهرة على اسميهما قبل أن يتغيرا إلى مجرد أرقام 74، 78 حتى لا يتذكر الطلبة الحركة الوطنية، ومع ذلك النصب التذكاري أمام بوابة جامعة القاهرة الرئيسية، وفي آخر كوبري الجامعة تمثال نهضة مصر. وأخفيت ذلك عن الأسرة، وعدت من نفس الطريق إلى المنزل وكأنني عائد من المدرسة. وكانت هذه أول مرة يكون لي فيها نشاط سياسي في هذه السن المبكرة. وقضيت في مدرسة السلحدار الابتدائية ثلاث سنوات (1945-1948م).
وفي عام 1948م انتقلت إلى مدرسة خليل أغا الثانوية بشارع الجيش، وكان بها أيضا بعد الظهر «مدرسة تحسين الخطوط الملكية» في البدروم. ويلاحظ أن أسماء المدارس كانت كلها تركية أو مملوكية مثل: سليمان جاويش، السلحدار، خليل أغا. وفيها ازدادت نسبة التعليم والنضج. وكان بها قسط من الرياضة البدنية، واشتركت في «الجمباز» وأخي سيد في المصارعة، كما اشتركت في فرقة الرسم، وكنت أهوى رسم «البورتريه» صور الموسيقيين، مثل بيتهوفن وشوبان، أو الشعراء، مثل شوقي وحافظ. وكانت طريقتي هي تقسيم الصورة الصغيرة إلى مربعات أصغر، ثم أبدأ الرسم بتكبير هذه المربعات عشر مرات تقريبا، ثم أبدأ برسم كل مربع حتى تكتمل الصورة على فرخ ورق كبير. وقد علقت صور بيتهوفن وشوبان وشوقي وحافظ على حائط غرفتي أنا وأخي سيد، التي كانت تطل على السطح. وعندما غادرت إلى فرنسا في عام 1956م لم أعرف ماذا أفعل بهذه الصور؟ أتركها معلقة على الحائط أم أخلعها وأحتفظ بها في مكان ما؟ السطح وفوق أحد الجملونات. وفعلت، وأفسدتها مثل كل البلي. ويا ليتني احتفظت بها في مكان أمين كجزء من الذكريات المبكرة والجلوس على المنضدة هذا الوقت الطويل كما فعلت ذلك فيما بعد من أجل الفلسفة. كان همي أن آخذ أوراق الأفكار المتناثرة التي أدون فيها أحلامي بمجرد الاستيقاظ! وأخذتها معي إلى فرنسا عن الفكر والواقع، وتركتها في حقيبة في غرفة الحقائب في بيت الطلبة الألمان بالمدينة الجامعية بباريس. كما اشتركت في فرقة الموسيقى وأخي في التمثيل مع أبو زهرة. أما جمال إسماعيل فقد كان في المدرسة الخديوية، وكانت فرقتا التمثيل بالمدرستين تلتقيان لتكوين فرقة مشتركة. وتعلمت النوتة والصولفينج. وكنت أنا ورفيق العمر محمد وهبي عبد العزيز، الذي أصبح مستشارا في جامعة الدول العربية، نذهب إلى معهد شفيق للموسيقى في عابدين والملاصق لسور القصر، وكان عم وهبي - وهو عازف كمان في فرقة أم كلثوم - يدفع له المصاريف، وأنا لا أستطيع أن أدفع شيئا ولو خمسين قرشا في الشهر. وهناك تعرفنا على العلمي عازف الكمان، ثم قدم لنا عم وهبي في معهد الموسيقى العربية في شارع رمسيس ببنائه العربي، وكان هناك امتحان قبول في مادتي العزف والصولفينج، وأوصى عم وهبي المدرس الأرمني على وهبي فنجح، وأنا نجحت في العزف ولكني لم أستطع تقليد الأصوات؛ فقد كنت أسمع جيدا نغمة البيانو ولكني لا أستطيع تقليدها، وذهبت إلى علي إسماعيل ليوصي علي، ولم أدر إذا كان فعل أم لا. حزنت انفعالا، وقد تكون هذه التجربة إحدى علامات الاتجاه كلية نحو الفلسفة. وقد تكرر هذا الخيار بين الموسيقى والفلسفة وأنا في فرنسا بتجربة مرضية، إرهاق سنتين بدراسة كليهما واحتمال الإصابة بالسل في الرئتين. وتذكرت
ألا تعدلوا . وقد حاولت العدل ولكني لم أستطع. وتذكرت تجارب أخرى دفعتني إلى الفلسفة طبقا للمثل الشعبي: «أبو بالين كداب» وكان معنا أيضا المغني الأول العزبي الذي غنى في فرحي، وترددت هل أعطيه أجرا أم لا؟ وإذا أعطيت، خمسة أم ثلاثة جنيهات؟ وكان لدينا نظام الثقافة بعد أربع سنوات؛ حيث لا تخصص، والتوجيهية بعد خمس سنوات؛ حيث يختار الطالب بين ثلاث شعب: علمي، أو رياضة، أو فلسفة. لم أكن أفضل العلم؛ فهو دراسة للطبيعة. ويبدو أن اتجاهي كان دراسة الإنسان دون أن أعرف. ولما كان أدبي به شعبتان أدبي رياضة وأدبي فلسفة، وكان العقل أحد ملكات الإنسان، فاخترت أدبي رياضة. ودخل أستاذ الرياضيات، وكان أعرج عبوسا، وملأ السبورة السوداء بمعادلات بالطباشير الأبيض لم أفهم منها شيئا، فحولت في الحصة الثانية إلى أدبي فلسفة، ثم صرح المدرس بعد ذلك أنه قصد أن «يعقد» الطلبة؛ فمن كان هشا ترك، ومن كان صلبا بقي، ثم شرح هذه المعادلات التي هربتني منه بعد ذلك معادلة معادلة
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . وذهبت إلى أدبي واستمعت لأول مرة إلى الشعر العربي فتذوقته. بدأت أتذوق الآداب، القصة والرواية والشعر. وكان أستاذ الأدب يتكلم من قلبه، يريد أن يسمعه الطلبة ولا يكتبون وراءه شيئا. وكان أستاذ الفلسفة عقلانيا، يشرح تاريخ الفلسفة، ويعيرنا كتب أفلاطون وأرسطو، والبعض منا لم يشأ أن يرجع كتب الأستاذ بعد التخرج، فمنع تسليم شهادته حتى يرجع الكتب، وهو ما حدث بالفعل. وكان مدرس التاريخ «أبانوب» ضخم الجثة ولكنه حلو الحديث، يبدأ الدرس بآخر نكتة، يضحك هو أولا قبل التلاميذ حتى يضحكوا ويأخذون عليه. كنا نحبه إنسانيا واجتماعيا، ولكن التاريخ لديه رصد للحوادث، وهو ما لا تشتهيه النفس؛ لأنه خال من النزعة الإنسانية. والعقل والفن - أي الفلسفة والفن - عوضاني حنيني للموسيقى، في حين أن هيجل هو الذي اعتبر الأوبرا أعلى الفنون لجمعها بين الشعر والموسيقى. وفي هذه الأيام أعلن عن مسابقة التوجيهية في الشعب الثلاثة ، ومن الأدبي الفلسفة، فدخلت المسابقة وكان ترتيبي الأول على القطر مما شجعني على دخول قسم الفلسفة بآداب القاهرة بالجامعة. وأقامت مدرسة خليل أغا الثانوية حفلا لتكريمي، دعي فيه أستاذ الفلسفة عثمان أمين، وكنت أراه بوجهه الضاحك الأشقر، وكان هو الذي وضع سؤال المسابقة عن مقارنة الشك بين ديكارت والغزالي. وأحضر مدرس الفلسفة جاتوه وحلوى للمناسبة، وقمت بعزف قطعة من الموسيقى الشرقية أمام الجميع، وسارت شائعات بأنني أخذت ما تبقى من الحلوى في علبة الكمان! ولا أدري كيف تدخل الحلوى داخل جراب الكمان وهي موجودة! ووضع اسمي في لوحة الشرف مع أوائل الطلاب والناجحين في مسابقة العلوم والرياضيات على مدخل المدرسة بجوار حجرة الناظر. وأخذت مكافأة عشرين جنيها وزعتها، خمسا لوالدي، وخمسا لإخوتي، واشتريت كمانا بخمسة جنيهات، وساعة بخمسة أخرى. وكانت الجامعة ما زالت بمصاريف إلا للمتفوقين كما ثبت من مسابقة التوجيهية ثم من امتحان الثانوية العامة الذي حصلت فيه على 77,5٪. ثم قامت الثورة في يوليو 1952م، وقررت أن يكون التعليم الجامعي مجانا مثل التعليم العام الذي قرره طه حسين وزيرا وفديا للتعليم بعبارته الشهيرة: «التعليم كالماء والهواء.»
واكتشافي المرأة كان تدريجيا. البداية بصالحة أخرى في الشباك الذي أمامنا بجمالها وبياضها وكانت لها أولاد، وأكبر مني سنا، لكنه كان حب المراهقة. أما التجربة التي هزتني هي تجربة جارتي (الشابة) نعيمة بنت الكبابجي الذي على ناصية الشارع البنهاوي ودرب الشرفا . ولم يكن جزارا باللحم بل كان بائع كبدة يعدها في المنزل ويقليها في الدكان فتجلب الزبائن. كانت الشقة السكنية بجوارنا، وقلي الكبدة في الحوش فتملأ المنزل كله، وكانت رائحة الثوم تسيل اللعاب على نقيض الكبدة الإسكندراني المطبوخة والتي لا يمكن التمييز فيها بين المطبوخ والنيئ؛ فكلاهما بدمه. كانت تساعد أباها مع أمها في إعداد الكبدة، وكانت الأم تقوم بكل شيء، وتكون الشابة بمفردها في السكن، وكنت أنا لا أذهب إلى المدرسة لإعدادي مسابقة التوجيهية. وكان هناك شباك في الحائط الفاصل أصعد إليه لأناجيها. لا أدري إن كنت أحبها أم أحب صفاتها: البياض، الطول ، الحيوية، الابتسامة، وربما لا أدري ما هو الحب إلا إحساس باطني يدفع الإنسان إلى فعل لا إرادي بصرف النظر عن الخطأ والصواب وبصرف النظر عن الهدف والمستقبل، يرانا الطالع والنازل على السلم ونحن نتناجى، والشباك الآخر الرئيسي بجوار شباكها نتكلم من خلالهما، ونحن مكشوفان للجار في الحارة ولأبي صلاح صاحب الفرن الذي فوقنا، وفرنه أسفلنا على ناصية درب الشرفا وعطفة العبساوي؛ ففضحنا أنفسنا بأنفسنا إلى أن جاء يوم زواجها وانتقالها إلى بيت «العدل»، غنت لي أنها تتركني على عينها. وكان الجيران يحذرونها من «يد الهون» ولم أفهم الرمز وقتها كما يحرم السلفيون الآن، بعضهم وليس كلهم، استعمال المنقار لتكوير الكوسة والبطاطس والباذنجان. وكانت فترة حزن شديد، رجف القلب آخر يوم لها في المنزل. خرجت معها مرة واحدة، هي بالملاية اللف وأنا بالبدلة والكرافتة يسير كل منا بجوار الآخر، ووجهها في الأرض، وأنا أسمع تعليقات المارة: «مش كده يا أستاذ!» وذهبنا إلى المصوراتي وأخذنا صورة معا، وكان هذا أقصى ما يستطيع الحبيبان الغشم أن يفعلاه في الأحياء الشعبية. عرف ذلك الوالد ومنعني، وقال إنه يخشى على أخواتي مني، وشتان بين الموقفين، الأخت والحبيبة، عشق الروح وعش الجسد. كنت أحب الجمال والحيوية والظرف؛ أي القدرة على النكات مع المرأة، وأنا فنان، رسام وموسيقي. أرسمها وألحن لها، ولو كنت شاعرا لغنيتها في قصيدة حسن ونعيمة. كان مصيري هو مصير نجيب الريحاني ومصيرها مصير أنور وجدي في «غزل البنات».
وكنت قد تعلمت وأنا في الثانية الثانوية بعد البلوغ وبطريقة تلقائية عندما احتك القضيب بفخذي فقذف، وبلل البنطلون، وشعرت بلذة فائقة. وما جاء مصادفة تحول إلى فعل قصدي طوال مرحلة الثانوية، ثم قرأت بعد ذلك عن عيوبها، وتوقف بعد مغادرتي إلى فرنسا بأربع سنوات عام 1961م عندما أدركت أن العمل الطبيعي أفضل من العمل الصناعي؛ فالعمل الطبيعي به أنس وضحك وتعرف على الآخر، في حين أن العمل الاصطناعي خوف ووحدة وتأنيب ضمير.
وكان العمل السياسي ما زال مستمرا؛ فقد كانت الأربعينيات هي الثورة الوطنية ضد القصر والإنجليز. وكان الأستاذ علاء مدرس الرياضة البدنية في حيرة من أمره مع الطلاب في المظاهرة أم مع النظام المدرسي والدفاع عنه؟ كان في مصر في ذلك الوقت أربعة تيارات رئيسية: الأول، الوفد وهو التيار الرئيسي الأول، وكان يقود المظاهرات. وكان اليسار الوفدي قد بدأ في الظهور وبه مصطفى موسى الذي كان يسير في شوارع باب الشعرية يسلم على الناس في انتخابات عام 1951م، وهذا ما فعله معي وأنا سائر على الرصيف، وتساءلت: هل لي هذه الأهمية الكبيرة؟ وهو ما يحدث حتى الآن من المرشحين بالإعلان عن ذلك تأييدا لهم. الثاني، الإخوان المسلمون بشعار «الله أكبر ولله الحمد». والثالث، مصر الفتاة وكان متهما بإقصاء خصومه السياسيين عن الحكم. والرابع «حدتو» وهو اختصار للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني شبه الماركسي الذي كانت تحية كاريوكا عضوا فيه. وكان الطلبة لا يحبون الوفد لأنه حزب القصور والباشوات والتخلي عن ثورة 1919م وحادثة 4 فبراير، ولا يقدرون قيمة أحمد حسين ومصر الفتاة، ويخافون العنف والأعمال السرية، وكانوا تحت الفكرة الشائعة بأن الماركسية مادية وإلحاد، ولا تتفق مع المجتمع المصري، فلم يبق لديهم إلا الإخوان المسلمون، فانضموا تحت لوائهم، واستمعوا لنداءاتهم في المظاهرات. وفي باب الشعرية كان هناك سيد جلال مرشحا في انتخابات 1951م، بنى مستشفى باسمه، ولم يكن وفديا بل كان سعديا - على ما أذكر - مناهضا للوفد، فكنت في صراع أكون مع من ضد من؟ ولماذا عارض السعديون الوفد؟ هل صراع على السلطة؟ وما عيب يسار الوفد؟ ولم تكن فكرة الائتلاف قد بزغت بعد. وهنا ظهر الإخوان المسلمون وكأنهم المظلة الوحيدة للعمل السياسي دون علم بالخبايا والصراعات الداخلية والتنظيم السري ومقتل السيد فايز، وكنا نسمع عنه أنه كان يمثل يسار الإخوان أو على الأقل المعارضة العاقلة بوضع قنبلة على نافذته.
وفي عام 1951م ونحن على مشارف الإخوان بدأت حرب الفدائيين في قناة السويس، وتعرف الإخوان على كمال الدين رفعت الذي كان يقود حرب الفدائيين، وكان من الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة 1952م، وكان الشهداء ينقلون من الإسماعيلية للصلاة عليهم في جامع الكخية بميدان الأوبرا، وكان إخوان مدرسة خليل أغا يقودون المسيرة بلباسهم الكاكي والعصا وراء ظهورهم تشبيها بالسلاح. وكنت أسمع الناس يهتفون على الجانبين «حماكم الله»، «حرسكم الله»، فكان ذلك امتدادا للتعاون بين الإخوان والثورة منذ 1948م في فلسطين؛ فليست العلاقة بين الاثنين صفحة سوداء دائما. وكان عمري وقتئذ ستة عشر عاما، وكان المقاتلون أنفسهم لا يظهرون، ولم يكن الضباط الأحرار معروفين في ذلك الوقت. ونمت في روح الوطنية استمرارا للاشتراك - وأنا بمدرسة السلحدار الابتدائية - في مظاهرات جامعة القاهرة مع لجنة الطلبة والعمال عام 1946م. وفي يناير 1951م وقع حريق القاهرة، ولم أكن أفهم معنى الحدث، لماذا؟ وما الهدف؟ هل ثورة أم فوضى كما يقال الآن؟ هل نضال وطني أم «انتفاضة حرامية» كما وصفت - فيما بعد بربع قرن - انتفاضة يناير 1977م ضد غلاء الأسعار؟ هل لإقالة حكومة الوفد التي تناضل ضد القصر والإنجليز، من تدبير القصر والمعارضة؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت كي أراها، ولكني نزلت شارع الجيش حتى ميدان الأوبرا سيرا على الأقدام؛ فقد تعطلت المواصلات، ورأيت فندق الكونتننتال وهو يحترق، والناس تجري، معظمهم بجلابيب، وتساءلت: شعب أم لصوص؟ مع الشعب أم ضده؟ ولم أكن أفهم في التحليل السياسي كما يحدث الآن.
وفي صيف 1952م في 23 يوليو انقلبت الموازين، واندلعت الثورة المصرية، وكنا في بداية الصيف. وظهر لنا محمد نجيب زعيما وطنيا مصريا سودانيا، وحوله مجموعة من الضباط الأحرار، فانتهت الحيرة بين التيارات السياسية الأربعة، وانضم الجميع تقريبا إلى الثورة خاصة وأن بياناتها الأولى تتحدث عن القضاء على الاستعمار والإقطاع والملكية والتحقيق في اغتيال حسن البنا، وإعداد جيش قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، فانضم الجميع إليها. وكان خطابه الأخير يتحدث عن وحدة الأمة الإسلامية وليس فقط وحدة مصر والسودان. وكان الإخوان مع الثورة في البداية لأنها أبقت عليهم، ولم تحلهم كما حلت باقي الأحزاب خاصة الوفد حتى لا يكون خصما للثورة المباركة. وجاء نجيب إلى جامعة القاهرة، وألقى خطابا دعا فيه إلى الوحدة الإسلامية الجامعة، فضجت القاعة بالتهليل والتكبير. وكان بجواره أو وراءه قليلا ضابط واضع يديه على صدره، وهو يرى هذا المنظر ولا يشارك في الإعجاب أو التصفيق أو يحيي الطلاب، عرفنا بعده أنه عبد الناصر الذي استطاع تصفية معارضيه من الضباط الأحرار، بما فيهم الإخوان، مع أنه كان قد جعل رشاد مهنا، وهو من الإخوان، وصيا على العرش. وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة اثني عشر، نصفهم من الإخوان مثل كمال الدين حسين الذي عين وزيرا للتربية والتعليم وصاحب شعار «مدرستان في يوم واحد»، ثم استقال عندما وجد عبد الناصر ينفرد بالحكم. وجاءت مأساة 1954م، واتهام الإخوان بمحاولة اغتيال عبد الناصر بعد أن أطلق أحد أعضائهم في شعبة إمبابة النار عليه وهو يخطب في المنشية متطوعا بنفسه دون أخذ أمر مباشر من مرشد الجماعة حسن الهضيبي والذي كان ضد استعمال العنف، فحلت الجماعة، وفك التنظيم السري لعبد الرحمن السندي، وقبض على معظم قيادات الإخوان بمن فيهم المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد وسيد قطب، وحوكموا أمام محكمة الثورة، وهي محكمة عسكرية، إما بالإعدام مثل المفكر القانوني المستشار عبد القادر عودة صاحب «التشريع الجنائي الإسلامي»، وكانت كل جريمته أنه استقبل المتظاهرين في ميدان عابدين، ورفع قميصين ملطخين بالدماء تنديدا بهذا الفعل الوحشي. وكان حسن الشافعي أحد أعضائها وبرياسة جمال سالم، وما زال الشافعي يتهرب من هذه الذكريات الأليمة. وفي السنة الثانية شاركت في مظاهرات 1954م بعد أن كان عبد الناصر قد وقع مع بريطانيا اتفاقية الجلاء التي تخرج بريطانيا طبقا لها من قاعدة التل الكبير ومن منطقة القناة، وتجلي معسكرها الأحمر على ضفاف النيل مكان الجامعة العربية حاليا، ولكنها تسمح بالعودة إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى»، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف. وما زلت أذكر الشهيد عبد القادر عودة وهو يهز قميصا ملطخا بالدماء من شرفة عابدين قائلا إن هذه هي أخلاقهم. كنا نهتف في المظاهرات: «يا جمال للصبر حدود.» وأتذكر أغنية أم كلثوم «للصبر حدود»، وفيما بعد قرأت آية
فما أصبرهم على النار . وكان هذا هو أحد الدوافع التي جعلتني أتحدث عن ذلك في «من الفناء إلى البقاء». وقد اختفيت في فندق سيمراميس الذي كان يطل على ميدان التحرير الذي كان قبل الثورة يسمى ميدان الإسماعيلية نسبة إلى الخديوي إسماعيل في القاهرة الخديوية، وسط البلد. وفرحنا بالثورة وبقوانين الإصلاح الزراعي، والقضاء على الإقطاع، وتحرير الفلاح، وإعطاء كل فلاح خمسة فدادين ملكا له والقضاء على الملكيات الكبيرة وأولها أراضي القصر وأبعديات الباشوات التي كان يسير فيها القطار بالساعات، مجتمع النصف في المائة. وكان القصد ليس فقط تميلك الفلاح الأرض بل تحرير الفلاح من عبوديته للباشا والملك عن طريق ملكية الأرض. فإذا قيل لقد تفتت الملكية وأصبح من الصعب «ميكنة» الزراعة قيل إن هناك الجمعيات التعاونية التي نشأت من أجل ذلك. وقررنا أنا وبعض الأصدقاء: عبد المحسن حسين عبد الله الذي أصبح طبيب عظام وزوجا لأختي علية، محمد وهبي عبد العزيز صديق العمر من الجامعة العربية، العطار أستاذ الرياضة البدنية، فيما بعد، الذهاب من القاهرة إلى الإسكندرية سيرا على الأقدام، نرى الريف قاع المجتمع، والفلاح عماده. واتفقنا على أن المبيت في مقار هيئة التحرير، التنظيم السياسي الجديد للثورة والذي طلب عبد الناصر من سيد قطب أن يرأسه فرفض. وأخذ كل منا حقيبة صغيرة فوق ظهره، وكانت أول محطة بنها، وسألنا عن مقر هيئة التحرير، فأشاروا إلى بدروم عليه يافطة «هيئة التحرير » تحوط به المياه الطافحة، حتى جاء رجل، وحسب أننا من الحكومة فارتعد، وطمأناه أننا لسنا من الحكومة بل طالبو معرفة بأحوال الريف حبا في الثورة، ونمنا الليلة على الأرض، ولم نجد أحدا نحادثه أو نسأله عن شعور الفلاحين بعد الثورة. وفي الصباح استأنفنا السير حتى طنطا، وسألنا نفس الشيء: أين مقر هيئة التحرير؟ فأشاروا علينا بدور أول في مبنى فارغ ليس به أحد إلا اليافطة. واستأنفنا السير في اليوم الثالث من طنطا إلى كفر الزيات، وهنا أشاروا علينا بمصنع زيت وصاحبه بلا يافطة. ولما ظن أننا من الثوار انتابه الفزع والفرح في آن واحد، وأمر بالكباب، وكان يسمى ناشد، وطلب منا أن نستريح ليلة لديه بدلا من الاستئناف إلى كفر الدوار ثم إلى دمنهور، فوافقنا لإجهادنا، وقلنا له إننا سنخطر القيادة في مصر بحسن الاستقبال حتى تتأكد رياسته لهيئة التحرير، ثم صعوده بعد ذلك إلى أعلى سياسيا. واستأنفنا السير إلى دمنهور، وهناك أحسسنا بالتعب بالفعل، وبدأت أقدامنا تلتهب، ومع ذلك وصلنا إلى الإسكندرية، وذهبنا إلى هيئة التحرير في ميدان المنشية، فوجدنا أخا عبد الحكيم عامر، فرحب بنا، وتركنا ننام في شرفة ميدان المنشية الذي تمت فيه محاولة اغتيال عبد الناصر. وبعد الاستراحة عدة أيام، أخذنا القطار عائدين إلى القاهرة، وكانت ذكرى علاقة التنظيم السياسي الذي لا وجود له بالشعب الذي لا يعرف عن هيئة التحرير شيئا، والدولة التي لا تعبأ بشيء. وعلمنا في هذه السن المبكرة أنه لا يمكن بناء تنظيم سياسي من فوق على عكس الإخوان أو حتى قيام نخبة عسكرية بالثورة.
وكنت أذهب إلى شعبة الإخوان بباب الشعرية مساء بين الحين والآخر، ثم تعلمت كيف أذهب إلى المركز العام بالحلمية الذي أصبح الآن قسم الدرب الأحمر. وهناك تعرفت على سيد قطب وسألته أنني أريد أن أحول الإسلام إلى منهاج إسلامي عام، فنصحني بقراءة أبا الأعلى المودودي. وتعرفت أيضا على علال الفاسي الزعيم والمفكر المغربي، وسمعته بلهجته المغربية، ورأيته بلباسه المغربي. وكانت المحاضرة الأسبوعية كل يوم ثلاثاء، وكنت صغيرا ، وكانوا كبارا. وكنت وأنا ذاهب إلى الشعبة بباب الشعرية أحمل كماني معي فيقول لي أحد الإخوة: ألا تعلم يا أخ حسن أن الموسيقى حرام؟ كيف حرام وهناك موسيقى القرآن؟ وقد استقبل الأنصار المهاجرين بالدفوف والغناء كما حفظنا ونحن صغار، وكما ينشد في الأفلام المصرية:
طلع البدر علينا
من ثنايات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
مرحبا يا خير داع
ولما قامت ثورة مصدق عام 1953م ضد الشاه وأمريكا لتأميم البترول، وهرب الشاه، اعترض الإخوان في شعبة باب الشعرية وهاجموا مصدق، ووصفوه بأنه شيوعي، وأيدوا آية الله الكاشاني صديق الشاه، وعلقوا على جريدة الحائط الهجوم على مصدق ومدح الكاشاني، فغضبت وطلبت الكلمة بأن هذا اتجاه يميني، وأن الإسلام مع التأميم وضد حكم الملوك، وأن الأفضل جعل الشعار كتابا وقلمين وليس مصحفا وسيفين؛ فالمصحف والسيفان دعوة للقتال، والكتاب والقلمان دعوة للعلم.
الفصل الثاني
التعليم الجامعي (1952-1956م)
وأعلن عن مجانية التعليم في الجامعة، فحصلت على المجانية في الجامعة لثلاثة أسباب: الأول، مجموعي في التوجيهية كان 77,5٪ أي فوق السبعين مما يؤهل للجامعة. والثاني، أنني كنت الأول على القطر في مسابقة الفلسفة التي تؤهل للمجانية. والثالث، قرار الثورة بمجانية التعليم الجامعي أسوة بالتعليم العام. ولم يكن هناك تردد في الالتحاق بكلية الآداب، قسم الفلسفة، وكان قسما واحدا مع علم النفس والاجتماع في السنتين الأولى والثانية، ثم انفصل الاجتماع عن الفلسفة بعد السنة الأولى، ثم انفصل علم النفس عن الفلسفة ونحن في السنة الثالثة. وبقي كلا العلمين كمقررين دراسيين بحيث يدرس علم الاجتماع في السنة الثانية وعلم النفس في السنة الرابعة. ولم يخبرني أحد من أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس أو حتى الفلسفة حتى انفصال الفلسفة في السنة الثالثة عن القسمين الآخرين، ربما لأن القرار لم يكن قد اتخذ بعد. وهنا استرعي انتباهي عثمان أمين الذي كان يدرس الفلسفة الحديثة خاصة ديكارت، وكانت طريقته التعليق على ديكارت وتطبيقه على الواقع العربي المعاصر، وكان يقول «بين قوسين» كان ضاحكا مبتسما، يركز على «مقال في المنهج» و«التأملات في الفلسفة الأولى»، وفي الفصل الدراسي الثاني كانط. وكان يطيل في شرح معنى كلمة ترنسندنتال والفلسفة الترنسندنتالية، والتقابل بين البعدي والقبلي. وفي «نقد العقل العملي» كان يركز على الواجب والأخلاق عند كانط، وكناقد فني في «نقد ملكة الحكم». في السنة الثانية في علم الأخلاق، ويقوم بتدريسه توفيق الطويل الأستاذ الثاني الذي استرعى الانتباه من على المنصة، بينما عثمان أمين كان يقف في أسفلها في منتصف القاعة، يدرس واقفا وسائرا على الأقدام، ينقد الأخلاق الوضعية بجميع أنواعها، ويدافع عن الأخلاق المثالية بجميع أنواعها وفي مقدمتها كانط. وكان يسمح بالاختلاف في الرأي وتبادل وجهات النظر، وإذا قرر كتابات في الفلسفة الخلقية فإنه يطلب قراءته ومناقشته بابا بابا أو فصلا فصلا في المدرج.
وكانت الجامعة بالنسبة لي عالما جديدا، سواء من حيث العلاقات الاجتماعية المفتوحة أو من حيث التعليم الذي كان يتراوح بين الإملاء والكتب المقررة من ناحية والتفكير الحر دون إملاء أو تقرير كتاب من ناحية أخرى، وهم غالبا من الشبان، الجيل الجديد؛ مثل أستاذ الاجتماع الذي كان يرتجل ويناقش، وكان ماركسيا يسمى شريف، وتم تطهيره من الجامعة مثل محمود أمين العالم، ولويس عوض، وعبد العظيم أنيس، أو الإخوان مثل توفيق الشاوي من الحقوق في أزمة مارس 1954م. وكان يدرس واقفا أيضا زكريا إبراهيم الذي عاد من فرنسا عام 1955م، وفي صوته بحة أو انسداد سرعان ما ينفتح. وكان السؤال الباطني الذي يدور في نفسي: وما عيب الجمع بين العلم والأيديولوجيا، يسارية أو إسلامية؟ وهل ينفع تدريس العلوم الإنسانية كالاجتماع والقانون والفلسفة دون أيديولوجيا؟ وما العيب إذا ما أدت الأيديولوجيا إلى العمل السياسي؟ وما العيب في أن يسمع الطالب أيديولوجيات مختلفة ويفكر فيها بدلا من أن يحفظ كتابا مقررا؟
في السنة الأولى كنا في مدرج 74 أو 78، مدرج كبير متدرج مهيب جدير بالجامعة، ومنصة طويلة عريضة تضطر الأستاذ المفكر أن يقوم وراءها، ويتمشى وهو يلقي الدرس. أما الأستاذ الذي يملي فيكفيه الجلوس ؛ فضعف الجسد من ضعف العقل. وكانت التقاليد لا تسمح بالاختلاط الكلي؛ فالطالبات في ناحية، والطلبة في ناحية أخرى، ومن يخل بالتقاليد ينظر إليه على أنه يتحرش بالبنات أو إليها أنها تتحرش بالصبيان. وكان أستاذ الاجتماع أحمد الخشاب شابا أبيض قصيرا عازبا يملي ببطء، ويكتب الطلبة والطالبات وراءه، والكل سعيد. وكان ينظر بعين الإعجاب إلى فتاة بيضاء جميلة اسمها إيفون، باستثناء بعض المراسلات العلنية، حادثها مرة علنا؛ قال لها بحنان بالغ: «اسكتي يا إيفون.» فردت عليه بدلال: «مش أنا يا أستاذ.» بالنسبة لي كانت حبا بلا روح في حين أن مواصفاتها كانت تجمع بين الروح والجسد معا وهي الصفات التي أحبها. وتساءلت: ماذا كان جمال حواء؟ وهل أغرم بها آدم وهي الوحيدة الموجودة على الساحة ولم يقارن بينها وبين غيرها حتى يختارها، أم إنها كانت مفروضة عليه؟ وكانت هناك فتاة فلسطينية طويلة بيضاء، بنت عم الأولى، ذات وجه مشرق وصدر بارز، ولها ضحكة أنثوية لدرجة أنني تساءلت فيما بعد: هل أحببت الذات أم الصفات كما تساءل علماء الكلام والصوفية بالنسبة للذات الإلهية؟ ولما سألت عرفت أنها مسيحية من فلسطين، فأهديتها في عيد ميلاد السيد المسيح نسخة من كتاب «عبقرية المسيح» للعقاد مع إهداء فأرجعته لي مع صديق كنت أجلس معه مع قطع مربع الورقة الأولى التي عليها الإهداء، فحزنت؛ فإلى هذا الحد كان البعد ولا أقول الكراهية. حاولت فلم أفلح، كانت متكبرة، تعرف قيمة نفسها، شغلت قلبي، ولكن كيف الوصول إليها وكأنها كانت تهرب كلما اقتربت. وكان يأتيها قريب أو خطيب من كلية الحقوق ليصاحبها؛ فقلبها مشغول، فتدب الغيرة منه، كانت أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام. وبعد أن انفصل القسمان، الفلسفة والاجتماع، في السنة الثانية لم أعد أراها كثيرا، وكانت كلما رأتني فرت، لا أدري ما السبب: هل كراهية لي، أم لا تعرفني، أم لأنها مخطوبة لزميلها أو قريبها أو حبيبها الحقوقي، أم للتقاليد الاجتماعية؟ وفي السنة الرابعة علمت أنها النهاية؛ فستغادر إلى فلسطين وتتزوج هناك، وأغادر أنا إلى فرنسا ، وتنتهي قصة هذا الحب الصامت. وبعد خمسين عاما كنت بعمان وعرفت إحدى صديقاتي الأردنيات أنها هنا، فدعتها إلى المقهى، أتت لحظات في المقهى ومعها زوجها، مع أني كنت أعد قصة حياتي منذ أن افترقنا؛ فلا خوف مني. وهربت كالعادة وهي تنظر إلى الوراء بأن هذا موضوع انتهى، وأنا أنظر إلى الأمام بأن حب وعشق الروح لا ينتهي كما غنى عبد الوهاب في غزل البنات: «وحب الروح ما لوش آخر لكن عشق الجسد فان.» ثم انتهى كل شيء في زحمة الحياة التي هي أوسع كثيرا من دائرة الحب كما تصور الأفلام المصرية.
وكانت مجموعات الإخوان تقعد في حلقات على الحشيش الأخضر في حرم الجامعة قبل أن تحاط بسياج حديدي كما هو الحال الآن، يتدارسون، وكان يمر عليهم حسن دوح خطيب الجامعة المفوه، ويلقي التحية، وبالمثل كان عبد المنعم أبو الفتوح الذي أصبح مرشحا رئاسيا منذ سنين. وفي يوم داخل الحرم الجامعي انقلبت سيارة مشتعلة نارا، ولا أدري إذا كانت سيارة الأمن الذي كان لا يسمح له بدخول حرم الجامعة أو سيارة الإخوان بها نواب صفوي زعيم حركة فدائيان إسلام الإيرانية، وهو تنظيم ثوري سابق بإيران على الثورة الإيرانية في فبراير 1979م، فأدركت منذ البداية العلاقة بين الإخوان والعنف كما رأيت، وليس كما سمعت، فتراجعت قليلا لأن حرق عربة داخل حرم الجامعة لا يدخل ضمن النشاط الفكري للحرم. وقبض على كل زملائي الإخوان بالجامعة؛ منهم فلسطيني في قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، وقضي على مستقبله بعد أن أخذ مؤبدا لاشتراكه في المظاهرة، ولم أره حتى الآن، ولا أدري إن كان حيا أو ميتا. وتساءلت: لماذا لم يقبض علي أنا أيضا؟ صحيح أنني لم أكن نشطا إلى هذا الحد، واخترت الإخوان اختيارا فكريا أكثر منه سياسيا. كان هناك ضابطان بالكلية: الأول مبتسم أبيض البشرة، طويل ونحيف نسبيا يصادق الطلاب ليأخذ منهم المعلومات عن زملائهم بدافع الصداقة والحماية. والثاني أسمر عبوس الوجه، مكفهر، مملوء وقصير يخبرنا الأول عنه أنه خطر على أمن الطلاب، ومن الأفضل أن يكونوا ضده، وهو يساعدهم في القبض عليهم. وأخبرني الأول أنهم بحثوا عني، واقتفوا أثري، وتتبعوا حركاتي وسكناتي، فوجدوني إخوانيا مسالما، ولست خطرا، وأن جمع التبرعات لأسر الشهداء والمعتقلين ليس عملا مضادا لأمن الدولة بل إنه يخفف عنهم هذا العبء. هذه رواية. وافتراض آخر أنهم لم يقبضوا علي لأن أخي من الضباط الاحتياط؛ ومن أجل بسالته «وعشان خطره» تركت حرا بشرط ألا أعود إلى المظاهرات من جديد. وبالفعل لم تكن هناك مظاهرات حتى عام 1956م سنة التخرج والمغادرة إلى فرنسا بحرا. وظللت صامتا، كاتما الخوف في قلبي وفي سلوكي، ومقسما العالم إلى أبيض وأسود، حق وباطل، صواب وخطأ، كما فعل سيد قطب في مرحلته الأخيرة بعد أن كان شاعرا، قصاصا ناقدا أدبيا ثم إسلاميا اشتراكيا ثم إسلاميا إخوانيا.
لقد كان الجو متوترا بين الإخوان والثورة على مدى سنتين منذ اندلاع الثورة. وحدث الانفجار في عام 1954م بمناسبة رفض الإخوان المعاهدة التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا بالانسحاب من قناة السويس ولكن لها الحق في العودة في حالة «الضرورة القصوى». وكان خوف القوى الوطنية من عبارة «الضرورة القصوى» التي يمكن أن يكون لها عشرات التفسيرات؛ فهو جلاء مشروط. كنت أوزع نقد المعاهدة في الجامعة، وفي مظاهرات كبرى خرجت من الجامعة إلى كوبري الجامعة وهي تهتف بسقوط اتفاقية الجلاء. ويهتف الطلبة السودانيون يسقط «صلاح الرجاص» ويقصدون صلاح سالم من أعضاء مجلس قيادة الثورة، والذي هو اسمه على طريق جديد يربط بين شمال القاهرة وجنوبها، والذي يعزى إليه فصل السودان عن مصر، وجنوب الوادي عن شماله كما فصل أخيرا جنوب السودان عن شماله. وسمي «رجاص»؛ لأنه لبس سودانيا، وركب حصانا يرقص على إيقاع الدفوف. وكان عبد الناصر وزيرا للداخلية في ذلك الوقت وعينه على السلطة فأمر بإطلاق النار على الطلبة المتظاهرين على كوبري الجامعة فتفرقوا وأعادوا التجمع في ميدان عابدين، وكان ذلك عام 1954م، وكنت في السنة الثانية. وشاركت في مظاهرات 1954م بعد أن كان عبد الناصر قد وقع مع بريطانيا اتفاقية الجلاء التي تخرج بريطانيا طبقا لها من قاعدة التل الكبير ومن منطقة القناة، وتجلي معسكرها الأحمر على ضفاف النيل مكان الجامعة العربية الحالي. ومع ذلك تسمح بالعودة إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى»، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف.
كنت فرحا بالجامعة ليس فقط بما يلقى في المحاضرات التي كان يغلب عليها الطابع المدرسي، ولكن أيضا بالنقاشات خارجها، على الحشائش في الحرم الجامعي، هايد بارك أخرى. وإذا كان فكري بارزا في المحاضرات فإنه يستحسن في مناقشات الحرم الجامعي. وظللت أفكر كيف تكون حديقة الأورمان ساحة يتناقش فيها الطلاب إن عز على الجامعة ذلك، كيف تكون «هايد بارك» القاهرة وكلها أراضي فاطمة إسماعيل بما فيها الجامعة وحديقة الحيوان؟
ومنذ ذلك الوقت فرض نظام الفصلين الدراسيين في العام ، ليس لأسباب علمية بل حتى ينشغل الطلبة في المذاكرة ولا يكون لديهم وقت للمظاهرات. ومع ذلك، ظلت عقلية الفصل الدراسي الواحد موجودة، نبدأ في أكتوبر، وتنتظم الدراسة في نوفمبر حتى مايو في السنة الثالثة باستثناء إجازة نصف السنة. في حين أن نظام الفصلين يقتضي أن تبدأ الدراسة في أوائل سبتمبر، وتتوقف عند عيد الميلاد ورأس السنة، ثم يبدأ الفصل الدراسي الثاني في يناير، وينتهي في يونيو، أربعة أشهر كل فصل دراسي على الأقل؛ أي ستة عشر أسبوعا، فأضر نظام الفصلين بالعلم، ولم يمنع المظاهرات؛ فالوطن أحيانا تكون له الأولوية على العلم، بدليل شهداء كوبري عباس، وكما يحدث الآن بتطبيق نظام الساعات المعتمدة أو اختيار الطالب بين الدروس الإجبارية والاختيارية؛ فيصبح هم الطالب تجميع درجات
A . ويكاد الاختياري لا يحضر فيه الطالب لأنه اختياري ولا الأستاذ؛ فكيف يقود سيارته من مدينة 6 أكتوبر حتى الجامعة لطالب أو طالبين وقد تعود على القاعة المملوءة ولو نسبيا لتوزيع كتابه. وفي الإجباري لا يتورع الأستاذ عن توزيع الكتاب المقرر. ويبقى الحال هكذا لمدة سنتين عليها 60٪ من درجة الماجستير أو الدكتوراه، ثم يكتب رسالة صغيرة عليها 40٪ معظمها معلومات منقولة من الإنترنت.
خرجت من السنة الأولى خاوي الوفاض، لم أتعلم شيئا. وفي السنة الثانية نظرا لغياب زكي نجيب محمود في أمريكا درس نيابة عنه مصطفى سويف المنطق. ولما كان أستاذا لعلم النفس وليس المنطق إلا أنه اختار موضوعا هزني لغويا وهو «المفاهيم العلمية وضرورة الدقة في استخدامها» مثل الفرق بين التقدم والتطور، وكان يرتجل. كان جادا عبوسا لدرجة أن أحدا لا يستطيع أن يمزح معه، وكان يمشي في الطرقات مستكبرا مع أنه لم يكن قد أخذ الدكتوراه بعد. وقد توفي منذ عامين، وحضر العزاء كثير من طلابه ومريديه. وهو الذي بنى أكاديمية الفنون، وقام باختبارات نفسية للقبول، وهو مؤسس علم النفس الاجتماعي. أما درس الفلسفة الإسلامية فكان يلقيه علينا - وهو جالس - أحمد فؤاد الأهواني، وهو درس تقليدي في الفلسفة الإسلامية، يركز على الفلسفة بالمعنى الدقيق، الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. كان ضاحكا مبتسما اجتماعيا «ابن نكتة»، ولكنه لم يثر في ذهني أي مشكلات، ولا ربط بين الماضي والحاضر. كان قريبا لعيسى البابي الحلبي صاحب المكتبة الشهيرة بالأزهر، يمده بالنصوص التقليدية، وقريبا من الأب جورج قنواتي، وهو من نفس الروح، وهي روح يوسف كرم التي كتب بها «تاريخ الفلسفة اليونانية»، و«تاريخ الفلسفة في العصر الوسيط»، و«تاريخ الفلسفة الحديثة»، روح جيلسون؛ فالفلسفة عمل الفلاسفة، ولكل فيلسوف منهج، مع أن جيلسون قد تجاوز هذا المنهج بكتاب «روح الفلسفة في العصر الوسيط»، ولم تكن هناك فلسفة مسيحية أو يهودية، ولم تؤثر في أحد من أساتذة الفلسفة تأثيرا كبيرا، وهي نظرة استشراقية للفلسفة الإسلامية. كانت روحه أقرب إلى وزارة التربية والتعليم؛ فقد كانت رسالته للدكتوراه «التعليم عند القابسي» بين التعليم والتراث الإسلامي.
وكنت طالب قسم امتياز، وهو القسم الذي يدخله الطلبة الحاصلون على جيد جدا أو أكثر في السنة الثانية، ويأخذون فيه مادة زائدة، ويكتبون بحثا، وكان لا يتجاوز عددهم طالبين، وأحيانا لا أحد. فإذا حافظ عليه الطالب بعد الحصول عليه في السنوات الثالثة والرابعة يعد الماجستير مباشرة دون سنة تمهيدية، ويكون مرشحا كي يكون معيدا بالقسم، وهو شيء مهيب كالضابط في الجيش أو الشرطة ، وهو مثل أمين الشرطة اليوم.
وفي السنة الثالثة بدأت اليقظة الفلسفية مع عثمان أمين الذي كان يعشق الفلسفة ويعيشها، وكان يبتسم ويريد أن يوصل الفلسفة للطلاب بسهولة ويسر. كان حبيبه ديكارت، وترجم له «التأملات في الفلسفة الأولى»، وكان «مقال في المنهج» قد ترجم من قبل، وكذلك «مبادئ الفلسفة»، وكان يطيل في شرح النصوص، ويطبقها على الواقع العربي، وهو ما كان يسميه «بين قوسين»؛ أي خارج الموضوع، بينما هو في صلب الموضوع. وفي الفصل الدراسي الثاني كان يدرس كانط، ويطيل النظر، ويشرح ويضرب الأمثلة في معنى «الترنسندنتال» في مقابل «الترنسدنت». وهو ما سماه فيما بعد في فلسفته الخاصة «الجوانية» في مقابل «البرانية»، العقلي في مقابل الحسي، القلب في مقابل العقل، الباطن في مقابل الظاهر. كان يركز على «نقد العقل الخالص» لكانط وبدرجة أقل على «نقد العقل العملي» باعتبار أنه موضوع علم الأخلاق، ولا يذكر تقريبا. و«نقد ملكة الحكم» عن الحكم الغائي والحكم الجمالي باعتبار أن ذلك موضوع علم الجمال في السنة الرابعة. وبعض الدارسين يرجعني إلى الظاهريات أصلا ومرجعا خارجيا، مع أنه من الأسهل إرجاعي إلى الجوانية كإطار مرجعي داخلي. كانت كلماته تدخل في قلبي مباشرة، فتوقظه، وتزيد من حرارته، وهو أحد معاني «ذكريات» إهداء الكتاب. وما زالت ذكرياتي معه هي الذكريات، ليس فقط في المدرج الجامعي بل في ساحات الحسين حتى الفجر، ونحن نطلب منه أن يتصل بزوجته الفرنسية كي تطمئن عليه، وهو يقول: لو اتصلت بها لقلقت؛ فالأفضل ألا أتصل حتى تطمئن. ولا غرابة في أنها تركته وأخذت أولاده، وعادت إلى فرنسا، موطنها الأصلي، واعتنت به شقيقته، ولكن شتان بين الزوجة الأقرب إلى القلب والشقيقة الأقرب إلى العقل. وعندما كنت أزوره في الفيلا التي يقطن فيها في ميدان أعضاء هيئة التدريس بالدقي كنا نتسامر حتى الصباح. زوجته تعرف عادته فتنام وابنه، أما الشقيقة فكانت تذكره دائما بأن الوقت قد تأخر فيقول لي: «سيبك منها.» وعلمت بعد ذلك أنها كانت تريد السيطرة عليه عندما زرته عام 1960م أثناء زيارتي للقاهرة آتيا من باريس وأهديته «نقد العقل الجدلي» لجان بول سارتر الذي صدر حديثا. وبقيت ترجماته لتأملات ديكارت آية في الإبداع والجمال اللغوي. كان يعرف قدره، يجمع بين الفلسفة والحياة، بين علمه وذكرياته. كان يعظم محمد عبده أكثر من اللازم، وهو موضوع رسالته للدكتوراه في باريس، وأنا أنقده لأنه يعتبر أن العقل في حاجة إلى وصي وهو النبي كما يصرح بذلك في «رسالة التوحيد»، وكنت قد كتبت على السبورة مرة: «أحب محمد عبده ولكن حبي للحق أعظم.» وهي العبارة الشهيرة التي قالها أرسطو عن أستاذه أفلاطون. وكنت وما زلت أقرب إلى الأفغاني الثوري أستاذه والذي كان يمسك بتلابيبه ويقول له: «والله إنك لمثبط.» ومع ذلك كان بالنسبة لمشايخ الأزهر من يغرد خارج السرب.
وأخيرا أتى زكريا إبراهيم، وكان قد عاد من فرنسا عام 1955م مشبعا بروح الظاهريات والفلسفة الوجودية. ولما سألناه من الذي أثر فيه وهو في فرنسا كتب على السبورة السوداء: هيدجر، ياسبرز، مارسل. وكنت أسمع عن هوسرل والقصد المتبادل، وعندما يخرج أنظر من النافذة وأشعر بهذا الإيحاء المتبادل بيني وبين الطلبة في الفناء. سمعت عن التجربة المشتركة لأول مرة منه. وكان لا يقرأ من ورق أو يقرر كتابا مع أن له - فيما بعد - عدة مؤلفات عن مشكلات فلسفية مثل مشكلة الفلسفة، مشكلة الحب، بأسلوب سهل شعبي لدارسي ومحبي الفلسفة على السواء. أحبه الطلبة، وكان منزله في مصر الجديدة مفتوحا لهم جميعا. ولم ينس الفلسفة الإسلامية؛ فكتب عن البيروني وآخرين. وكان هو الفيلسوف بعد عثمان أمين، تمت إعارته إلى جامعة الخرطوم، فرع جامعة القاهرة وإلى الأردن حيث كتبت عنه عدة رسائل، وإلى المغرب مثل نجيب بلدي وحبيب الشاروني. لم يعش طويلا، ولو عاش لكان أثره في مصر والوطن العربي أكبر، وأشد وأعمق كما حدث معي.
وبقدر ما كنت فرحا في السنة الرابعة بدراسة الفلسفة المعاصرة مع زكريا إبراهيم حدثت عدة أحداث قاسية. أعطانا يوسف مراد درسا في «علم النفس الصناعي»، وكيفية استعمال علم النفس في إدارة المصانع، فاعترضت على المقرر، وأنه استخدام العلم لخدمة المجتمع الرأسمالي، وقياس قدرات العمال لاختيار أحسن عامل لأحسن آلة. وأتانا سؤال آخر العام في الموضوع، وأجبت بنفس الطريقة فعرف ورقتي وأعطاني 12 / 20. وكان لا يوجد أستاذ لعلم الجمال، وكلف الأهواني بتدريسه، وكان السؤال: كيف تختار رابطة العنق؟ وكنت ثائرا على هذا النوع من علم الجمال؛ فقد كنت أنتظر علم الجمال عند هيجل وكانط، فعرف ورقتي وأعطاني 12 / 20. وكان عثمان أمين يدرس محمد عبده في الفلسفة المعاصرة، وكنت ناقدا لحركة الإصلاح بأنها لم تطور نفسها، وأن محمد عبده ليس عقلانيا كما يقال لأن العقل يحتاج إلى وحي ومعه النبي. ولما كان محمد عبده إلها، وبالنسبة لي يمكن تحويل الإصلاح إلى ثورة، فعرف ورقتي وأعطاني أيضا 12 / 20. وبدلا من أخذ 18 / 20 في ثلاث مواد خسرت 18 درجة في السنة الرابعة. وبدلا من أن أنجح بامتياز في السنة الرابعة وأكون طالب امتياز نجحت بدرجة جيد. وكان لدي ست عشرة درجة وفرا في المواد الأخرى أضيفت إلى الناقص فبقيت درجتان تبيح لجان التعويض منحها. وكان الأول في السنة الرابعة هو أخي وصديقي رشدي راشد الذي أصبح عالما كبيرا في تاريخ الرياضيات، ونال العديد من الجوائز العربية، وهو الآن باحث بمركز البحوث العلمية في فرنسا قبل أن يحال إلى المعاش، أتمنى له الصحة وطول العمر والبقاء. وقبل أن تعلن النتيجة النهائية قابلني رئيس القسم يوسف مراد وهو قبطي مصري على السلم الرئيسي وأنا صاعد وهو نازل: أين ستذهب يا حسن بعد التخرج؟ قلت: سأطلب تعييني معيدا بالقسم، ثم أعاد السؤال: في أي موضوع؟ قلت: أحول الإسلام إلى منهج عام للفرد والجماعة. فسأل لماذا؟ قلت لأصلح به حال الأمة، وأنهض من شأنها، وهو مشروع الأفغاني ولكن على المستوى الفكري أولا. فرد قائلا: «كده، طيب.» لا أتهم أحدا بالطائفية ولكني سمعت - فيما بعد - أنه أقيل من الجامعة محالا إلى المعاش بتهمة تغيير نتيجة أحد الطلاب المسيحيين؛ فأعطاه درجات أعلى من طالب مسلم كي ينجح بتفوق، وهذه تهمة أخلاقية أشنع ما يتهم بها الأستاذ الجامعي.
كما حدثت لي صدمة كبيرة في حرية الفكر في الجامعة، وهي الصدمة الثانية. كانت في امتحان اللغة الألمانية التي كانت مقررة علي في آخر سنتين باعتباري طالب امتياز يأخذ لغة أخرى ومادة زيادة. كان مقررا أن آخذها مع الدراسات العليا في قسم التاريخ بينما وضعتنا إدارة الامتحانات بالكلية مع قسم اللغة العربية. وفي الامتحان وجدت الأسئلة مختلفة، فطلب مني المراقب، وكان قبطيا من حرس الجامعة، أن أكتب طلبا للعميد أشرح فيه الموقف. وبالفعل أخذت اكتب طلبا للعميد وبدأ بعبارة «الأخ الفاضل» عميد كلية الآداب، فانتزع مني المراقب الورقة معترضا: هل يكتب لعميد الكلية بأنه الأخ الفاضل، وليس السيد العميد؟ فقلت له: «إن البشر جميعا إخوة لا سائد فيهم ولا مسود.» ويبدو أنه أراد إخراجي من القاعة فلمس قلم الحبر ذراعه وترك أثر الحبر فيه، وحولني إلى العميد، وكان هو يحيى الخشاب (زوج سهير القلماوي)، فحولني إلى رئيس الجامعة بتهمة «قلة الأدب»، الذي كون مجلس تأديب من خمسة أساتذة من ضمنهم أساتذة حقوق طبقا للقانون. وسألني أحد أعضاء اللجنة: هل العميد أخوك؟ فأجبت بحديث الرسول نعم «وأنا شهيد على أن عباد الله إخوان.» ثم سأل: هل تعتقد ذلك قولا وعملا، فكرا وسلوكا؟ فأجبت نعم، أنا لا فرق عندي بين رئيس الجمهورية وجامع القمامة في الشارع؛ فكلاهما يؤدي وظيفة طبقا لتقسيم العمل في المجتمع. فسأل: هل ستبقى على هذا الاعتقاد طول العمر؟ قلت نعم. وأنا الآن في طريقي إلى فرنسا لإتمام دراسة الماجستير والدكتوراه، فطالبوني بالقيام مع التوفيق والنجاح بالموافقة. وعلى هذا الأساس أخذت الورقة البيضاء وهي تعادل تأشيرة الخروج. وبعد عدة استطلاعات وجدت أن أرخص طريقة للذهاب إلى فرنسا هي المركب من الإسكندرية على ظهرها 588222. وكان ثمنها اثني عشر جنيها استطعت توفيرها. وكان معي في ذلك الوقت بهاء طاهر بقسم التاريخ، والسيسي عازف البيانو من قسم اللغة الإنجليزية، وعبد الجليل حسن الذراع اليمنى لتأسيس مجلة «الكاتب»، وكان في قلبه «اليسار الإسلامي»، والذي غادر إلى ليبيا، وربما هو الذي كتب «النظرية الثالثة» بأجزائها الثلاثة للقذافي - وهو تلميذ عبد الناصر - قبل أن يستبد ويتجبر فيعود عبد الجليل إلى القاهرة، ويموت في وطنه. وقد سبقني بدفعة نبيل زكي الكاتب الصحفي بجريدة الأهالي، وجاء بعدي حلمي النمنم الكاتب الصحفي الذي أصبح وزيرا للثقافة، ومكرم محمد أحمد الصحفي الشهير ونقيب الصحفيين السابق، وطه حنفي المليجي الذي كان مدرسا للغة الفرنسية في وزارة التربية والتعليم ثم أصبح موجها عاما لها. جاء لزيارتي بالكلية مرة وأنا أمين اللجنة العامة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين برئاسة الجوهري، وكنا ندرس موضوعا هاما لا أستطيع أن أترك الجلسة، وما إن انتهت الجلسة وخرجت وجدته قد غادر. خطئي أنني لم أطلب منه الانتظار في الغرفة المجاورة للعميد، ولم أخرج لتحيته أولا وسط الجلسة، وحزنت حزنا شديدا لأنني لم أره منذ أن غادرت إلى فرنسا. يبدو أنه شعر بالإهانة لأني لم أخرج على التو. وقرأت نعيه في الأهرام بعد شهر. يبدو أن التاريخ كان يريد أن يجمعنا من جديد، ولكن الإرادة البشرية عاقت دون ذلك. وكان أقرب الأصدقاء إلي في الجامعة في سنوات الدراسة الأربع. ونظر إلى عيني مرة وأنا في المسجد قبل السفر إلى فرنسا وقال لي: «عيناك تبرقان.» وربما كان ذلك من الحزن لما حدث في الجامعة، والفرح للسفر إلى فرنسا. أما أحمد الكاشف فقد بدأ بهيئة التحرير وانتهى إلى سكرتير محافظ القاهرة. ذهبت إليه مرة لأحل بعض مشاكل رخصة بناء بيتي العربي. بعد أن امتلأت شقتي بشارع الحجاز، وملأت الحوائط رفوفا لاستيعاب الكتب، بنيت منزلا عربيا بمدينة نصر الفارغة في ذلك الوقت؛ بناه نجل شقيقتي علية، وهو المهندس محمد عبد المحسن بعد أن جربت مهندسين ومقاولين آخرين؛ منهم من استولى على كتابي عن المدينة العربية ولم يرجعه. وكنت قد اشتريت الأرض من مفتشة في وزارة التعليم التي كانت تمتلك الأرض وتقسمها على موظفيها بستين قرشا للمتر، واشتريتها أنا حسب إعلان الجريدة بقيمة 180 جنيها للمتر، وكانت تريد المبلغ فوريا ونقدا، فأخذت المبلغ، وظلت هي وأختها يعدون هذا المبلغ الكبير في الحجر وأنا أريدهم أن يقوموا بذلك في المنزل، ثم طمعت في المبلغ والأرض معا، وذهبت إلى كل الهيئات الحكومية لإبطال العقد: المياه، الكهرباء، رصف الطرق، تنظيف الأرض. ولما ظلت تماطل رفعت عليها قضية، فكسبتها، وجعلت الدور الأرضي (البدروم) كله لتنظيم مكتبتي في دواليب جديدة، وأضيف إليها قسم من الدور الأول وبينهما سلم خشبي داخلي. وفي هذا القسم العلوي وضعت الفكر العربي والإسلامي المعاصر؛ مصر، والوطن العربي والعالم الإسلامي، ثم في الجانب الآخر العلوم الإسلامية؛ أصول الدين، وأصول الفقه، وعلوم الحكمة. ولم يبق مكان لعلوم التصوف فنزلت إلى الطابق السفلي، وفيه الفلسفة الحديثة والمعاصرة ابتداء من الفلسفة اليونانية ثم العصور الوسطى، المسيحية واليهودية ثم الإصلاح الديني، ثم عصر النهضة؛ القرن السابع عشر، ثم القرن الثامن عشر، ثم القرن التاسع عشر الذي استغرق جناحا بأكمله، ثم القرن العشرين؛ منهم من قضى نحبه، ومنهم ما زال حيا، ومكتبي وسط هذا التاريخ للفلسفة. وفي طرقة أخرى فلسفة الدين بداية بالاستشراق، ثم الفكر الشرقي القديم ثم المسيحية. وفي آخر الطرقة العلوم الإنسانية؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وما تبقى من العلوم الفلسفية؛ المنطق، وفلسفة العلوم، والفلسفة العامة، وعلم الجمال. وفي الطرقة الأخيرة التي يجلس فيها مساعدي الأول توجد العلوم السياسية والاقتصادية، ومصر والوطن العربي وأمريكا؛ حيث كنت أزمع الكتابة عنها «أمريكا، الحقيقة والأسطورة»، ثم فلسطين وإسرائيل، ثم تأتي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وأخيرا بجوار الحديقة الأدب؛ الرواية، والقصة، والشعر، ثم النقد الأدبي. ومنذ عدة سنوات عندما بدأ العمود الفقري يضعف وتغيير بعض مفصلات الفخذ خصصت غرفة بدور السكن، الدور الأول، للبقاء بجوار الأسرة، ولأنني لم أعد قادرا على نزول السلم الخشبي الداخلي أو صعوده. ولما أوشكت أجزاء «التراث والتجديد» على الاكتمال، ولم يبق إلا الجزء الأخير، «الجبهة الثالثة» «النص والواقع»، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي أكتبه في الغرفة المأخوذة من شقة السكن، وبعد إلقاء الأساس الأسمنتي وشرعت في بناء الدور الأول رفض مهندس الحي إعطائي التصريح لأنني بعد أن رخصت الأساس كان يجب أن أرخص الأدوار فوقه، «إلا إذا» ولم أفهم. وأنا لم أكن قد بدأت إلا في البدروم حسب نصيحة المقاول، فجاء معي اثنان للموقع للتحقق من صحة أنني لم أبن بعد الدور الأول، فطلب مساعده أن يدخل دورة المياه، فأشرت عليه في المنزل المقابل، ووقف ينتظرني، يشير بيديه، كما فعل حسن يوسف مع نادية لطفي في فيلم الخطايا؛ لأنه يريد أن يأخذ منها موعدا للقاء حبيبها عبد الحليم حافظ نظرا لاعتراض الأب الذي رباه وليس أنجبه، فلم أفهم ماذا يريد. فهمت بعد ذلك أنه كان يريد رشوة للإمضاء، فلما لم أفعل رفض إعطاء الترخيص. ورفعت الأمر إلى القضاء مرة ثانية. فكسبت القضية وخسر. أما موظفة الحي فقد طلبت مني أن أسعى في منحة من معهد الخدمة الاجتماعية لابنتها، وكنت على صلة بأساتذتها، فسعيت ونجحت، ولم تفعل شيئا، كما أشار مهندس الحي الذي بيده الموافقة من عدمها إلى مفتاح عربته وهزه؛ مما يعني أنه في حاجة إلى تكاليف الطريق من منزله إلى الحي، فلم أفهم الإشارة، ولم يرخص البناء.
وكان معنا كامل يوسف سلامة من كلية الحقوق. وفي الصيف كنا نجلس على المقهى للعب الطاولة، وبمشروب واحد (حاجة ساقعة). نجلس طول المساء نتحدث عما سنفعل بعد التخرج. كامل كانت له رؤية واضحة في أن يصبح وكيل نيابة، وكان هذا اللقب في جيلنا له هيبة كبيرة. وبينت أنا أنني سأصبح معيدا لتكملة الدراسات العليا في الداخل أو في الخارج. وطه لم يكن له رؤية واضحة؛ فالأمر يتوقف على مجموع درجاته حتى التخرج. وقد سكنت الدور الأول ومكتبتي في البدروم، وأبنائي فوقي، لكل دور. وبعد أن اكتمل بناء البيت العربي وانتقلت إليه عام 1994م، كتبت على الحائط في البدروم «المكتبة الفلسفية المتخصصة». وفي يوم من الأيام جاءتني مصلحة الضرائب كي تعرف كم مكسبي في اليوم منها، فشرحت لها أنها خدمة عامة، فطلبوا إزاحة العنوان، كما أتى مندوب الضرائب العقارية الآن كي يبلغني كذبا، مع أنه بذقن واطمأننت إليه، أنه هناك لجنة أتت وقررت ضرائب ألفين وخمسمائة جنيه على كل ساكن، وعلى البدروم الذي به مكتبتي اثني عشر ألفا ونصف جنيه باعتبارها مخزنا، فاستغربت لأن السكن ليس عليه ضرائب عقارية، ومكتبتي أين أضعها بعد أن اتسعت على مدى ستين عاما؟ فأخبرني أن الموضوع في «حاجة إلى فلوس» وفرك إصبعيه، أدفع له النصف والباقي بعد الطعن. ثم جاء مرة ثانية يطلب صراحة الفلوس فطردته من المنزل صائحا «لعن الله الراشي والمرتشي.» وأبلغته أن الأمر في يد المحامي الآن وأعطيته اسمه ورقم تليفونه. فخرج منكس الرأس أن الحيلة لم تنفع بعد أن ظن أنني ميسور الحال وأن مكتبات الجامعة ليس بها مثل مكتبتي. ولم يلق اهتماما إلى أن مصاريف الموظفين عندي؛ الممرض، وربة المنزل، واثنين من السكرتارية، والبواب، تبلغ اثني عشر ألف جنيه ومعاش أربعة آلاف جنيه، غير تكاليف الأدوية والأطباء والحياة اليومية وأنا عاجز لا أتحرك إلا على كرسي متحرك.
وفي يوليو 1956م سنة التخرج، ونحن جالسون في شقتنا بباب الشعرية، وكانت غرفة الصبيان تطل على السطح الداخلي الذي هو سقف مخازن السحار، وكنا ثلاثة: أنا وأخي سيد وصديق العمر محمد وهبي عبد العزيز، إذ سمعنا خطاب عبد الناصر في تأميم قناة السويس، فقفزنا من الفرح، وظل بعضنا يقذف بعضا بالمخدات، ومن يومها أصبحنا ناصريين، ونسينا الخلاف بين الثورة والإخوان. وبدأت المؤتمرات؛ مؤتمر لندن وعلي صبري ممثلا للثورة، ولم تنجح مفاوضات القناة؛ فلا حلول وسط بين ملكية فرنسا وإنجلترا لها، وملكية مصر وهي على أرضها. وبدأت تلوح في الأفق بوادر الحرب.
كانت المرحلة الجامعية هي مرحلة الانفتاح على العالم، ورؤية عدة طرق فأيهما أختار، مرحلة الضوء الجلي والمطلوب سلوك أي طريق فيه، وهي مرحلة اختيار أي الإمكانيات أنا مدفوع إليها؟ لم يكن عندي اختيار حر، بل كنت مدفوعا بمصير تحدد من قبل، من البداية إلى النهاية. لم أكن شقيا بل كنت سعيدا لأن الطريق واضح وما علي سوى السلوك فيه.
الفصل الثالث
السفر إلى فرنسا (1956-1966م)
عشر سنوات في فرنسا غيرتني كلية، وعمقت تجربتي العلمية والحياتية. كان الإصرار على السفر إلى فرنسا دون بعثة أو تكاليف خاصة يحزن الأسرة كلها، وبالأخص الوالدة، كيف سأعيش؟ ومتى سأرجع؟ وأنا أعد عدة السفر ملأت حقيبة كبرى بكتب السنة، وفي حقيبة أخرى مذكراتي التي كنت قد بدأت كتابتها في الصلة بين الفكر والواقع، وأحلامي التي كنت أدونها بمجرد الاستيقاظ. كتب السنة اشتراها لي أخي سيد حتى قبل أن يعين معيدا، واكتفى بالباحث قبل المعيد بعشرين جنيها؛ فمعاش أبي الخمسة جنيهات كانت لا تكفي حتى لإعاشة الأسرة، وكان هناك جوال به خبز جاف وعلبة جنبة صفراء من المعونة الأمريكية. حاولت الأسرة إقناعي بكل الطرق بعدم السفر، وكان هناك طالب أعرف أسرته بدرب البزازرة بجواري اسمه عبد الحليم، وكان بدينا مثل أمه، وكان عقله كذلك، وأبوه ضعيف الشخصية مقارنة بأمه، وكان يأتيني بين الحين والآخر لأشرح له كل مادة عن طريق وضع نسق له لمذاكرتها، أوحوا إلى أمه لمنعي من السفر، فأخذت الحقيبتين والجوال، وأصررت على السفر. وطلب مجمع التحرير أن يأتي الوالد شخصيا ويوقع أمام الموظف المسئول على موافقته على السفر، فذهب الوالد سعيدا حتى أعلم أنه ما زالت السلطة بيديه؛ فهو رب الأسرة مهما عاق الابن الجامعي المتعلم. وذهب معي إلى ميناء الإسكندرية أخي سيد والوالد قبل السفر بيوم. وكان لنا قريب للأسرة ترزي عربي بالمنشية، وهو أخ جدي حسانين تاجر الدقيق ببني سويف؛ فقد كان النزوح دائما من الجنوب إلى الشمال، كما يتم النزوح الآن من الشرق إلى السعودية والخليج أو إلى الغرب ليبيا أو إلى الشمال والأردن، وكما ينزح الإخوة السودانيون والأفارقة من الجنوب إلى الشمال، وكما ينزح كل العرب الآن إلى الشمال، أوروبا بحرا، وكان له ولد في شبه سني أو أصغر، وكان اسمه رشاد، دخل قلبي من أول لحظة، كان طيبا خجولا مثلي، وكنا نسير إلى الميناء وارتبطنا بصداقة نادرة وأنا على وشك المغادرة. ولما أخبرني أخي سيد أنه على صلة بهم كما كان على صلة بباقي أقاربنا ببني سويف، أعطتني زوجة أخي رقم تليفون وعنوان شركته «أولاد المصري» لمواد البناء عرفت أنني سأستعيد صداقة رشاد والأقارب، فاتصلت فرحب بي وسألت عن أفراد الأسرة فتوفي معظمهم، وسألته عن المواد التي تقاوم رطوبة أكبر فقال بخشونة: «معرفش.» ظانا أنني سأستخدمه مجانا بعد أن صرح لي أنه هو الذي جهز شقة أخي على البحر وأنه تغذى معه، فحزنت.
كانت الأسرة ترى المركب تغادر وأنا أرى الرصيف وعليه الأسرة. وغادرت السفينة يوم 11 / 10 / 1956م وهي تبعد شيئا فشيئا، ووصلت مارسيليا. وكانت الوالدة تريد أن ترمي نفسها في البحر لحاقا بابنها، ولكن منعوها. وفي الليل وبعد التوصية كانت توضع لي ملاية على كنب المطعم لأنام، وكنا نطعم مما تبقى من موائد الأغنياء. وفي الليل أرى النجوم في السماء وهي تتقلب يمينا ويسارا طبقا لحركة المركب. ولما كانت المركب يونانية فإنها تبقى أربعا وعشرين ساعة في ميناء بيريه في أثينا ، يلتقي فيها البحارة مع أسرهم، وينزل من يريد، فنزلت بعدما رأيت شيئا كسائح، الأكربولوس، وسجن سقراط، ورأيت أثينا الحديثة وميدان الشهيد الذي به البرلمان. وكانت منظمة أيوكا تعمل من أجل استقلال قبرص، وكانت جزءا من نضال العالم الثالث، وكنا نهتف باسمها باعتبارنا طلبة وطنيين.
وفي اليوم الثاني مرت السفينة من مضيق مسينا الذي كنت أقرأ عنه في الجغرافيا في الثانوية. وكان همي الوصول من مرسيليا إلى باريس، وتعرفت على فرنسية كبيرة في السن وأقرضتني مائة فرنك، ما قيمته عشرة جنيهات، ثمن تذكرة القطار من مارسيليا إلى باريس. ولما تأخرت عليها في السداد هددتني في خطاب بأنها ستشكوني إلى رئيس جامعة باريس. ورددت إليها ما اقترضته منها في أول دخل لي من تدريس اللغة العربية للإخوة الجزائريين.
ولما وصل القطار محطة باريس نزلت منه وأنا لا أدري أين أذهب. وقابلني أحد الفرنسيين وسألني إن كنت أريد سكنا، فوافقت، وأخذني معه إلى منزله، غرفة صغيرة يؤجرها كي يعيش منها. وأعطاني هذه الليلة طبق شربة ساخن حتى أستمر في السكن معه ومع زوجته العجوز مثله. وبدأ الهوام يهرشني؛ فالملابس ما زالت في الحقيبة لم أغيرها منذ أن غادرت القاهرة. ودفعت له ليلة وطلبت الانتظار للباقي حتى تستقر أموري في الجامعة. وما زلت أذكر الحساء الساخن في الليلة الباردة.
وكانت القضية الثانية أين سأقضي الليلة، فذهبت إلى بواب السفارة المصرية في الحي السادس عشر؛ فهو لن يرفض أن أسكن معه عدة ليالي حتى أجد مسكنا لي. وأخبرني أنه ممنوع لأن بواب السفارة موظف في الخارجية، ولا يجوز استضافة أحد عند بواب السفارة. وهناك بيت السفير المجاور المكون من عدة غرف، ولكن سيكون نفس الرد، فاستغربت، ألا يقبل بواب السفارة طالبا سيغير العالم بأفكاره، وهو مشروع «التراث والتجديد». فذهبت إلى مسجد باريس كي أقيم فيه على عادة الطلاب القدامى، فأخبرني الإمام أنه ممنوع؛ فهو مستخدم للصلاة فقط، وسلمني إلى أحد الجزائريين كي أنام معه، وكانت غرفة في فندق في الحي العشرين الذي يقطنه العمال الجزائريون ، ستة على سرير واحد. وطلبوا مني أن أعطيهم دروسا في اللغة العربية؛ فقد كانت فرنسا تريد فرنستهم، استعمار اللغة بعد استعمار الأرض. وكنت أشرب فنجانا من القهوة كل صباح حتى لا يشعر صاحب الفندق أنه لا يستفيد مني شيئا ببقائي مع الإخوة الجزائريين. وكان في وجه أحدهم حب الشباب يهرشها طوال الوقت، وتواعدنا مرة في محطة لوكسمبورج، وفجأة رأيته قبل الموعد بيوم، وأخبرني أنه ظن أنني قد آتي اليوم؛ أي قبل الموعد بيوم؛ فالزمن ليس له مسار، الأمس واليوم والغد يتساوون.
وكنت قبل المغادرة من مصر، أعطاني أحمد فؤاد الأهواني خطابا لأحد تلاميذه في باريس يوصيه مخ بي خيرا، فذهبت إليه وأعطيته الرسالة، فكتب هو رسالة إلى مدام رامبارك مديرة مكتب البعثات التعليمية الفرنسية بالسفارة المصرية بباريس. ولما قرأت الخطاب وضعته على مكتبها مستغربة أنها لا تملك أي سلطة في ذلك، هي فقط مديرة إدارية تنفيذية لما يأتي إليها من تعليمات من إدارة البعثات في مصر. وأدركت ما أسهل الكلام الشفهي أو المدون وما أصعب الأفعال، فأحسست بالحرج أمامها وهي تقول لي إنها لا تستطيع فعل شيء. وقد كنت أضع أملا كبيرا فيها وفي خطاب التوصية الذي كنت أخشى أن يضيع ويضيع معه مستقبلي.
وفي الطريق إلى السفارة أوقفني شرطي طالبا أوراقي، فأخرجت له جواز السفر فنظر إلي مستغربا وهو يقول: ولكن وجهك الآن «معضم» أو بتعبيرنا الشعبي «مقفع» أو «مفقع». فقلت له: لأني وصلت هذا الأسبوع، ولم أستقر بعد، فأرجع إلي جواز السفر مستغربا، بعد أن اطمأن أنني لست من المهاجرين غير الشرعيين كما يحدث الآن.
وبعد أسبوع في 25 / 10 / 1956م وأنا ما زلت في مرحلة الاستقرار بدأ العدوان الثلاثي على مصر حيث تجمعت أساطيل الدول الكبرى في البحر الأبيض المتوسط. وبالاتفاق مع إسرائيل بدأ العدوان في أكتوبر، وهاجمت إسرائيل من الشرق، فاحتلت سيناء وذلك لحصار الجيش المصري بين فكي الكماشة، إسرائيل في سيناء والقوات البريطانية والفرنسية في قناة السويس بدعوى تأمين حرية الملاحة البحرية، وشهد الجيش تدميره. وقد طالب الشيوعيون والإخوان عبد الناصر وهم في السجون بإخراجهم وتسليحهم للدفاع عن بورسعيد التي لم يكن قد تم احتلالها نظرا للمقاومة الشعبية في القضاء على جنود المظلات، ففعل عبد الناصر، ثم طالبوا بإعادتهم إلى السجون من جديد ففعل أيضا. وكان الشعب معه لا فرق بين إخوان ووفد وماركسيين ومصر الفتاة؛ فالكل واحد لإنقاذ الوطن. وغادر معظم الطلاب الدارسين في فرنسا، بعد أن اجتمعوا في السفارة المصرية بباريس لمعرفة ماذا عليهم أن يفعلوا؟ البعض قال يعود إلى مصر للدفاع عنها، فيرد السفير عبد النبي مع المستشار الثقافي ثروت عكاشة: هناك من هم أقدر منكم على الدفاع. وقال البعض الآخر نغادر هذه الدولة الاستعمارية، وندرس في ألمانيا. وبالفعل حزموا أمتعتهم، وغادروا إلى ألمانيا. وفريق ثالث فضل استمرار الدراسة في فرنسا؛ فهذا أكبر رد فعل على الدولة الفرنسية. أما أنا فلم يكن عندي إمكانيات للعودة إلى مصر ولا إلى السفر إلى ألمانيا، ففضلت البقاء في فرنسا. وذهبت إلى اللوفر ورأيت آثار مصر ومسلة الكونكورد في الواجهة وسط الميدان المسمى باسمها، وأنا أبكي مصر والعدوان عليها. وكنت أسير في الشوارع وأنا أغني «لك يا مصر السلامة». وتذكرت تدمير الأسطول المصري غرب الإسكندرية بعد حصاره من القوات البحرية الفرنسية والبريطانية في موقعة نوارين الشهيرة لإسقاط محمد علي بعد أن أصبح قوة تهدد القوى الغربية، تريد تجديد روح الإمبراطورية العثمانية والغرب طامع في إرث الرجل المريض؛ فالتاريخ يعيد نفسه. ولم نسترح نفسيا إلا بعد أن انسحبت جيوش الدول الثلاث من مصر. البعض يقول بفضل التهديد الأمريكي بالتدخل أو تهديد بولجانين، أو قرار الأمم المتحدة بإيقاف العدوان، كل طرف يريد أن يأخذ الحق في جانب الانسحاب الذي تم في ديسمبر من نفس العام. والبعض الآخر يقول بفضل الإنذار الروسي. وفي كلتا الحالتين يظل رنين خطب عبد الناصر في الأزهر «سنقاتل». وطالب صلاح سالم عبد الناصر بتسليم نفسه لقوات الاحتلال واتهام زملائه له بالخيانة العظمى.
وكان هناك أحد الأنظمة الإسكانية للطلاب؛ ففي 15 شارع سوفلو
Souflant
في الحي اللاتيني هناك مكتب جامعي يقدم خدمة سكنية للطلاب يقوم على أساس التبادل
Au Pair
سكن مجاني في مقابل خدمة طلابية لأحد أطفال الأسرة، وهي غرفة فوق السطح كانت مخصصة للشغالات. ولما لم يعد نظام الشغالات يتبع كل شقة سكنية قائما قدمت الأسرة غرفة السطح إلى أحد الطلاب أو الطالبات. وكنت أستيقظ في الصباح الباكر وأسير من الحي العشرين حيث كنت أسكن مع الجزائريين كي أكون أول من يقرأ قائمة الغرف المعطاة للطلاب في مقابل التدريس لأحد أطفال الأسرة أو مقابل أجر زهيد لا يتعدى فرنكات في الشهر للطلاب الفقراء. ونجحت مرة في الحصول على غرفة السطح مقابل تدريس العربية والإنجليزية لطفل الأسرة. وفي يوم وأنا عائد من الجامعة وجدت غرفة السطح قد كسر بابها، ونقل عفشها وكتبها إلى غرفة أخرى في فندق مع دفع ليلة واحدة! فاستغربت، وذهبت إلى صاحب الشقة، فأخبرني أنهم في مصر طردوا أخاه، وكان موظفا في شركة قناة السويس، وليس من المعقول أن يبقى مصري في غرفة تبعه، وأنا مصري وأخوه مطرود من مصر، مع أن الطفل فرح بمدرس له مصري. وبعد الفرح بحل قضية السكن المجاني حزنت، وسألت مكتب الطلاب في الجامعة ما العمل؟ فأخبروني أن هذا عمل غير قانوني، وعلي أن أرفع قضية على صاحبها في قصر العدالة
في الحي. وبالفعل بالرغم من أنه لم يكن معي إلا أربعون فرنكا وهو ثمن القضية، كسبتها، وأخذني صاحب الشقة جانبا واعتذر، وعلي بعد ذلك أن أذهب إلى المحكمة، وهذا يتوقف على مهارة المحامين، عندي وعنده! وأنا ما زلت أبحث عن الطعام والسكن. وحدث ذلك في إليزيا
Alesia
بجوار دانفير روشيرو
Danfere Rocherot ، وأسدها الذي في الميدان الذي نحته نفس المثال الذي نحت أسدي كوبري قصر النيل في عصر إسماعيل. وأدركت أن الحق فوق القوة أو أن العدل فوق أهواء البشر.
ومرة أخرى وجدت غرفة رخيصة في محطة رانلاج
Ranlagh
بجوار غرفة تشوين الفحم في البدروم بلا نوافذ، وكنت لا احتاج إلى تدفئة. وكانت جارتي على الشارع موظفة في المترو الذي آخذ محطته كل يوم، وهي تختم لي البطاقة الأسبوعية، ولا أكلمها لأني لم أكن قد تجرأت على مخاطبة النساء بعد، وأنا الإخواني القديم. وفاجأتني هي بالحديث مرة: ألست جاري؟ قلت نعم، ولم أستمر في الحديث بالرغم من محاولتها مع صديقة في زيارة لها إسماعي صوتها لي ليلا، ثم فقدت الأمل مع أن الأمور ميسرة. كانت غرفتها بجواري بها نافذة تطل على الشارع، أجمل وأفضل عندما كنت أجد الباب مفتوحا. كانت الأسرة مالكة حجرتي لطيفة وودودة، ترحب بالطلبة الأجانب، تسألني كل مرة عندما أحضر لدفع الإيجار وهو أربعة جنيهات شهريا إذا كنت أحتاج شيئا أو إذا كان هناك شيء ينقصني، فأشكر ربة الأسرة. ورأيت المصعد الحديدي مثل المصاعد التي في الأبنية التي على ساحل الإسكندرية مثل فندق سوفيتيل أو المعهد السويدي، وكنت أحس به تدريجيا أنني في فرنسا، بالإضافة إلى المترو المريح الذي يغطي كل شوارع باريس في أنفاق تحت الأرض بحديده المشغول على فتحات النزول والخروج، والأبواب التي تغلق آليا إذا وصل المترو إلى الرصيف ثم تفتح بعد ذلك بعد المغادرة بلا زحام أو خطورة. وأجد أحيانا على كنبات الاستراحة الخشبية متشرد
Clochaet
وفي يده زجاجة النبيذ الأبيض والأخرى الرغيف الفرنسي الطويل باجيت
لا يسأل إلحافا. وأحيانا أجد بين الدهاليز تحت الأرض الموسيقيين يعزفون أو بعض الفنانين يرسمون، وقبعته مقلوبة على الأرض بجواره، والناس تقذف فيها الفرنكات المعدنية. وأحيانا أجد في هذه الدهاليز بعض الشعارات السياسية لبعض الأحزاب. وفي نفس الغرفة حاولت صديقة أحد المصريين إغرائي لما عرفت أنني أيضا في الكونسرفتوار، ولكني لم أكن بعد قد تعلمت مخاطبة النساء. وقالت لي مرة وهي في زيارة لي أريد أن أقضي الليل هنا، ولم أفهم ما تريد كما أفهم الآن، ورجوتها الذهاب إلى سكنها الذي كان على التبادل في حي آخر باعتبارها طالبة في الكونسرفاتوار. وبعد عدة سنوات ذهبت إليها في غرفتها بعد أن تعلمت كيفية الخروج من ثقافتي الإخوانية الإسلامية الأولى. وفي هذه المرحلة الرومانسية كنت أركب المترو من رانلاج في الحي السادس عشر، وأغير المترو إلى آخر محطة دانفير روشيرو. وكان الباريسيون يتقنون فن التغيير لاختصار الوقت، فإما أن يركبوا القطار من الأمام إذا كانت محطة التغيير بالقرب منه أو من الخلف إذا كانت محطة التغيير بالقرب منه. وأحسنت هذا الفن، وكنت أركب عربة المترو الأخيرة لأن التغيير كان من هناك. وكانت هناك فتاة فرنسية بيضاء ذات وجه جميل بالرغم من أنها قصيرة ألتقي بها كل يوم، وفي نفس المعاد، وفي نفس المكان، ينظر كل منا إلى الآخر، كانت تنتظر أن تأتي المبادرة مني كالعادة، ولكني لم أفعل. ولما أتت الفترة الواقعية عام 1960م تركت المكان والزمان إلى المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر، وأدرس في منزلي وآكل في مطعم المدينة الجامعية، فحزنت لتأخري. وكانت ترن في أذني آية
وكان الإنسان عجولا . فأطمئن إلى ما فعلت. بعد ذلك وفقت في السكن في المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر في غرفة مزدوجة مع أمريكي في منزل الولايات المتحدة الأمريكية، وكان بالقرب من محطة المترو بهذا الاسم، وعلى الشارع بضجته، وسألت زميلي بالغرفة: كيف تنام في هذه الضجة؟ فأجاب: أنا أسكن في شيكاغو فوق محطة القطار؛ فأنا متعود على ذلك. لا يوجد منزل للمصريين، بل هو نزل الطلبة الأرمن عندما كان نوبار باشا الأرمني وزيرا للتعليم في مصر؛ فبناه على نفقة مصر باسم الطلبة الأرمن. وقانون الإسكان في المدينة النصف من البلد الذي بنى. والنصف الآخر من باقي الجنسيات حتى يتحقق الترابط العالمي، كما لا يسمح قانون الإسكان بأكثر من أربع سنوات حتى يسكن الجميع. وبعد عام انتقلت إلى البيت الألماني لأني أدرس الفلسفة الألمانية؛ ولا بد أن أعيش مع الطلبة الألمان كي أكسب مزيدا من المهارة في اللغة الألمانية. ومكثت في البيت الألماني ثلاث سنوات (1960-1963م)، وبالفعل زادت مهارتي في الحديث باللغة الألمانية، وانتخبني الطلاب رئيسا لاتحاد الطلاب الألمان. وجاءت زيارة الرئيس الألماني لوبكه
Lübke
ورحبت به باللغة الألمانية، فاستغرب! مصري رئيس لاتحاد الطلبة الألمان يلقي خطابا بالألمانية ترحيبا بالرئيس الألماني! ورد عليه الدكتور شتيفن
Steffen
مدير المنزل: هذه هي الديمقراطية . وفي المدينة الجامعية حيث يقطن طلاب العالم كله تطورت شخصيتي وتفتحت، فانتقلت من المرحلة الرومانسية إلى المرحلة الواقعية بعد عدة صدمات؛ ففي غرفة الدراسة في بيت الولايات المتحدة، كانت هناك طالبة في غاية الجمال تجلس بجواري على المائدة المجاورة وبيننا الباب، ينظر كل منا إلى الآخر دون حديث، وفي يوم رأيتها وقد التقطها طالب مغربي، وكانت هي من فنلندا، فندمت على تأخري في التعرف عليها. بعد ذلك تعرفت على أمريكية كبيرة في السن ضخمة الجثة ودعوتها إلى غرفتي في بيت ألمانيا، فقبلت بسهولة. ولما دخلت الغرفة ورأت حالي المتواضع، لا عربة ولا منحة ولا سكن وبمجرد جلوسي بجوارها على الكنبة قذفت بالملابس، وقررت المغادرة، فاستغربت. ومرة رأيتها مصادفة بشارع راسباي
Raspail
في تقاطع بول ميش وهي تسير معجبة بنفسها لعلها ترزق بصديق، فذهبت إليها وهي تعبر الشارع ودون أن أشعر لكمتها، وأنا الشرقي الذي لا يطيق الهجران، فرآني أحد الفرنسيين المارين الرياضيين، هرع إلي وضربني لكمة كادت أن تخرج فكي من وجهي قائلا: هكذا أنتم يا أهل الشرق تضربون نساءكم، أما هنا في فرنسا فذلك جريمة كبرى، وتحاورنا نحن الثلاثة حول هذا الدرس. ومرة أخرى رأيتها مع فيتنامي قصير رفيع، فسألت من هذا؟ فقالت لديه موتوسيكل وسكن ومال وسنجوب فرنسا محافظة محافظة سويا، فتمنيت لها التوفيق. وكنت معجبا بطالبة ألمانية أخرى ذات أنوثة أخاذة، وانتظرت هذا المصري الألماني أن يبادر، فلم أفعل، فالتقطها لبناني كان أخوه معنا في المنزل، ووعدها بالزواج ثم خدعها، وتركها في أثينا حيث أخذ الباخرة إلى بيروت، وعادت إلى ألمانيا كسيرة القلب، لديها فكرة سيئة عن العرب الخادعين، وحزنت. وفي هذه المرحلة الرومانسية كانت تدعوني بعض العائلات الفرنسية للعشاء عشما في زواج ابنتها، فكنت أذهب وآخذ الورد مما كان يكلف الكثير، وعلى العشاء في الساعة السادسة تنتهي منه في العاشرة. والابنة ذهابا وإيابا إلى المطبخ كما هو الحال في الأفلام المصرية تحضر صينية القهوة دون أن ترتبك. واعترفت لي الوالدة مرة بأزمة الزواج في فرنسا، فإذا وضعت المال في كفة وابنتها في الكفة الأخرى لشاب لاختار كفة المال، ونظل نرغي في مثل هذه الموضوعات التي تهم الأسرة ولا تهمني هذا الوقت الطويل، وأصاب بالصداع، وتقول والبنت وهي تودعني إلى الباب: نرجو أن نراك مرة أخرى، فأقول: إن شاء الله، آمل كذلك، ولا يرون وجهي بعد ذلك، مع أن العروس تجمع بين المال والجمال. حدث ذلك أكثر من مرة، وأحتار بين قبول الدعوة إلى العشاء وما يتعلق بها أو الاعتذار، وقلت في نفسي: ليتها عرفتني فتأخذ فكرة عن الشهامة العربية. وتعرفت على طالبة ألمانية نشطة، كانت تريد الزواج، وهو ليس في ذهني، فتركتني إلى طالب ألماني فصدمت، وبعد خمس سنوات أتت إلى باريس، فدعوتها إلى غرفتي، وانتظرت هي عريس المستقبل فلم تجد إلا شابا شقيا، يفعل ما يفعله جميع الطلاب، فخرجت ولم أرها بعدها؛ فلم تعلم أنني قد تغيرت، وأنني لم أعد الشاب الرومانسي القديم، ثم كتبت لي بعد عودتي إلى القاهرة بعد أن قرأت عني في الصحف الألمانية، فرددت عليها بالذكريات الجميلة التي انتهى عصرها. وكان مبدئي في ذلك الوقت: صادق أجنبية وتزوج مصرية، وإلا فلمن تترك المصريات؟ ثم عرفت ألمانية أخرى من البيت الألماني كان يحوم حولها الكثيرون، وظلت معي لمدة عام، لم تكن ذكية، عادت بعدها إلى موطنها الأصلي في ساربروكن
Saarbrücken
ثم عادت إلى باريس بعد عام لتعرف موقفي، وبعد أن بينت لها أن لا موقف لي إلا العلم، قالت: يا عبيط! وعادت إلى ألمانيا، ولم أرها بعد ذلك. والألمانية الأخيرة التي عرفتها وأنا في باريس ظلت معي حتى عدت إلى مصر، وجاءت بعدها إلى مصر لزيارتي، وطلبت من والدتي أن أتقدم لها ووافقت والدتي، فأجابتها: ولكنه لا يريد، وذهبت بمفردها إلى الأقصر وأسوان، ثم رأيتها في إحدى زياراتي إلى باريس، وتصورت أنها ما زالت صديقتي، فاستغربت؛ فإن الزمن قد ولى، ثم تلقيت منها رسالة أخيرة بعد أن قرأت عن فكري في إحدى الصحف الألمانية، ذاكرة إياي بالاسم بأنني أصبحت من كبار مفكري الوطن العربي من خلال مشروع «التراث والتجديد». رددت عليها وشكرتها، ولا أظن في العمر بقية حتى نتذكر ما مضى. وقد ازدادت معرفتي باللغة الألمانية منها على مدى أربع سنوات، وزرتها في هيلدسهايم
Hildesheim ، وتعرفت على أخيها المزارع ومربي الخنازير. زرت معها أرجاء فرنسا في الصيف وألمانيا وإسبانيا، تسوق عربتها، ثم نقتسم باقي المصاريف مناصفة. وفي ليلة استيقظت على ضجة في المزرعة، فأيقظتها وسألت: ما هذه الضجة؟ فقالت: مجرمون لصوص الخنازير. فقلت: ولماذا لا يطاردهم أخوك؟ قالت: لأنهم مسلحون قتلة، والأفضل أن نفقد خنزيرا أو اثنين على أن نفقد أخي، فتساءلت في نفسي: أين الشجاعة الألمانية؟
وبعد أربع سنوات إقامة بالمدينة الجامعية أقمت سنتين بغرفة مزدوجة مع مبعوث مصري في القانون الدستوري، وكان لديه صديقة روسية يقضي لديها عطلة نهاية الأسبوع، وأخرى فرنسية التي كان يراها وسط الأسبوع والتي زارته في مصر رغبة في الزواج منه، وكانت جميلة شقراء. وكانت لها صديقة فرنسية حاولت مصادقتها فلم أفلح بالرغم من جمال تسريحتها الأسبوعية؛ فلم أكن أستطيع التعرف عليها ولو حتى الصداقة. وكانت له صديقة طياري ثالثة جاءته مرة لزيارته. ولم يكن موجودا، فقالت وماذا أفعل الآن؟ فأجبت أنا موجود، فأجابت أيكما يقضي الأمر، ويقوم بالواجب. وأدركت حاجة المرأة للجنس بصرف النظر عمن يقوم به. وكانت الصديقة الروسية تود الزواج به بعد أن كان يقضي عطلة الأسبوع في منزل والديها، وتقدمه لهما على أنه صديقها، ولما لم يحدث ذلك قاطعته، فحزن حزنا شديدا، ولم يفرغ حزنه وهمه إلا صديقته الفرنسية. وبعد أن استنفدت جميع حقوقي كطالب في المدن الجامعية، سكنت من جديد في دانفير روشيرو آخر عام في غرفة السطح، وما زال اسمي على لوحة أسماء السكان للبريد؛ فالصداقة لها حقوقها مثل الزواج في بلادنا؛ فلا تجوز خيانتها. وفي السنة الأخيرة تعرفت بالمصادفة على فتاة فنزويلية قصيرة سمراء ولكنها مملوءة بالحيوية، تعلو فوق وجهها ابتسامة شرقية. ولما كنت من أنصار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية دخلت قلبي في التو واللحظة. دعوتها إلى غرفتي فاستجابت، وكانت على علاقة بفرنسي يبدو أنه وعدها بالزواج. علمتني الحياة. كونت شخصيتي التجارب. ولا أدري إذا كنت قد أحسنت.
وبالرغم من أنني تزوجت عن حب وكنت موفقا في زواجي، وكانت زوجتي موضع ثقة وتملأ علي حياتي إلا أنني كنت أشعر بين الحين والآخر ببعض الضعف تجاه الجنس الآخر، فأتذكر قول الرسول «إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.» عندما شعر بشيء تجاه امرأة زيد ابنه المتبنى، فأسرع بالخروج. حدث ذلك لي عدة مرات عندما بهرتني مخرجة مسرحية بشخصيتها وفنها بل وعقليتها في المسافر خانة، فكنت أذهب للعرض المسرحي كل يوم، وأنفعل كفنان بالغناء المسرحي وأنا الموسيقي القديم، ثم اكتشفت استغلالها مقدما. أتاها ضيوف أجانب فدعتني، وأخذنا العشاء على النيل، وطبعا دفعت التكاليف، كانت تستغلني، فأخبرت زوجتي التي كانت تضحي بنفسها من أجلي. ومرة أخرى دعتني جامعة الإمارات على العشاء في قبو فندق يسيل الماء من أعلاه، وكانت بجواري فلسطينية ذات رداء بلا أكمام، أرى ذراعها الأبيض وصمتها كالملاك، وفي نفس الليلة كان تلميذي قد دعاني إلى العشاء بمنزله على خروف مشوي واقف، وفاجأني بالدعوة ليلتها طبقا للتقاليد، وكان ذراع الفلسطينية الأبيض الغض يجذبني أكثر من الخروف الذي لا أراه. وهنا أدركت أهمية الإدراك الحسي كما لاحظ ميرلوبونتي في «ظاهريات الإدراك الحسي»، فغضب مني الطالب، ولم تشعر بي الفتاة الفلسطينية. ومرة ثالثة جذبتني امرأة بيضاء ضاحكة بالرغم من قصرها تعمل في الإعلام، حاولت أن أراها عدة مرات، ولكن لم يعد لدي ولا لديها وقت لذلك، فأخذ الزمان ما أحضر؛ فكلما رأيت امرأة حتى لو كانت شغالة أو امرأة بواب أكون لطيفا معها، أمازحها بلا أي هدف مما كان يغضب زوجتي أحيانا، فأقول لها هذا هو الطابع الفرنسي، اللطيف مع النساء ومغازلة المرأة من حيث هي امرأة دون أي قصد أو هدف. وعلى النقيض من ذلك كنت عندما أزور باريس أذهب إلى شارع القديس دينيس
Saint Denis
وأرى النساء واقفات على الصفين. شجعني أحد تلاميذي مرة فتعرفت على واحدة، وكانت عربية؛ فالدم يحن، ومرة أخرى فرنسية، أدت دورها بحرفية دون عواطف أو انفعالات. وكنت أستمع إلى اللغة العامية الفرنسية الشعبية فأتعلم مصطلحاتها وشتائمها إذا ضايقني أحد، مجرد فرجة بلا شراء. وقد يكون الغزل بالكلام تعويضا عن العجز بالفعل.
حزنت لوضع الطالبات المصريات وحصارهن بين التقاليد القديمة ومتطلبات الحياة العصرية؛ فلا هن يستطعن أن يقلدن الطالبات الغربيات وسط زميلاتهن الغربيات، ولا هن يستطعن أن يقلدن زميلاتهن الغربيات وسط زميلاتهن المصريات. ومن حاولت ذلك - الصمود بين القديم والجديد معا - أصيبت بمرض عقلي؛ فمع من ستقضي نهاية الأسبوع؟ لم يبق لها إلا حجرتها ذات الأربع حيطان تحادث نفسها؛ فلو خرجت بمفردها وسارت في الطريق أو جلست في مقهى يتقرب إليها الشباب، إن حادثت يطلبون المزيد، وإن صمتت يهجرونها إلى غيرها. وقد حدث نفس الشيء للشباب أيضا الذين لا يريدون التوافق مع ضرورات العصر، كما حدث لشاب عندما رأى ابنة أستاذه مرة وهو يزوره، فتصور أنه يحبها وأنها وقعت هي الأخرى في حبه، وانتهى من الرسالة وناقشها وعاش أعزب، فإذا سئل: لماذا لم تتزوج؟ قال: إنه ينتظرها. هل تحادثت معها أو راسلتها أو تعلم بوجودك؟! قال: لا؛ فالحبيبان يشعر كل منهما بالآخر . وقد تزوجت وأنجبت، وهو ما زال أعزب، في الانتظار.
كنت آكل بمطاعم المدينة الجامعية، ويقتضي ذلك كارنيه مع صورة، وكان يقتضي شهادة نجاح، مدته ثلاث سنوات يجدد مرة أخرى. ولما كنت أعد رسالة فكان ريكير يكتب شهادة بخط يده أنني أعد معه رسالة، ولم تنته بعد، فأحصل على الكارنيه. وكانت تذكرة الطعام بسبعة قروش ونصف، فإن كنت طالبا فقيرا أعطوني تخفيضا لتصبح التذكرة بأربعة قروش ونصف، وإن كنت فقيرا جدا أعطوني تخفيضا ثانيا وتصبح التذكرة بثلاثة قروش ونصف. وكنت آكل مرة واحدة في اليوم، هي وجبة الغذاء، وأذهب في نهاية الفترة التي تبدأ في الحادية عشرة والنصف وتنتهي في الواحدة والنصف عندما يترك ما تبقى من طعام، يأخذ منه الطالب ما يشاء. وكنت أبيع التذكرة التي كان ثمنها ثلاثة قروش ونصف على باب المطعم بسبعة قروش ونصف، وهو السعر العادي، وأكسب كل يوم أربعة قروش. ومرة أحرجني طالب فرنسي قائلا: أنت تاجر جيد، وهو لا يعلم أنني أفعل ذلك بدافع الفقر. ومرة رأيت طالبا يبيع تذاكر المطعم بنصف الثمن، وأنا تذاكري بنصف الثمن عن طريق المشرفة الاجتماعية التي كانت ترى ملابسي، فتوافق على الفور. سألته: كيف؟ فقال إن الموظف الذي يأخذ التذاكر قبل أن آخذ صينية الطعام يضعها خرقا في عامود معدني طويل كي يرميها بعد ذلك، وكان لا يرميها، بل يضع قليلا من الماء مكان الخرم، ثم يكويها، فتعود صالحة للاستخدام مرة ثانية، وكأنها جديدة، فعرفت أن الفساد عند الأوروبيين أيضا، وليس كما نتصورهم أمناء شرفاء، ولم أشأ أن أقول للطالب الذي يبيع التذاكر المستعملة كما قيل لي: «أنت تاجر ماهر.»
وكانت المطاعم نوعان: الأول مطاعم عادية للأصحاء. والثاني مطاعم خاصة للمرضى الذين يحتاجون رعاية خاصة زائدة
Diedetique . وكانت الأخصائية الاجتماعية هي التي تقرر لأي نوع تستحق؟ وما إن تراني بوجهي المعظم حتى توافق على إعطائي بطاقة المرضى. وكانت نوعان من البوفيه المفتوح: آكل كل ما أشاء من لحوم أو أسماك، وأشرب اللبن وليس الماء كما أشاء. وكان معظم الرواد من الأفارقة المتمارضين. وكان المطعم يقدم لحما آخر غير لحم الخنزير إذا قلت للتي تغرف إنك من المسلمين. وكانت تتعرف عليهم بسمارهم أو سوادهم؛ فلم يكن يوجد مسلمون بيض في هذه الأيام. فإذا قال طالب أبيض إنه من المسلمين لأنه لا يحب لحم الخنزير نظرت إلى عينيه وابتسمت؛ أي إنها تعرف أنه من غير المسلمين ولكن «معلهش»، فأعطته ما يريد إذا كانت «بنت حلال». أما إذا كانت قاسية القلب فإنها ترفض، وتطلب منه أن يتقدم بسرعة ولا يجادل لأن الطابور وراءه طويل. وكان ذلك بداية ظهور «كرشي» الذي لم أستطع التخلص منه إلا وأنا في حالة مرضي الحالية حتى نقص الهيموجلوبين، وأحاول رفعه من جديد. وكان مطعم المرضى في محطة لوكسمبرج للمترو قبل أن يتم تجديدها بالتذاكر الممغنطة وليس بعاملة تخرقها. كانت مطاعم الجامعة تقدم الغداء والعشاء دون الإفطار، فكنت لا أفطر، وأكتفي بكوب من الشاي واللبن في أنبوبة كالدواء. وكانت الكوب مستعملة لا أغسلها إلا إذا حضر أحد الضيوف. وكنت أترك دراجتي مربوطة على باب المبنى في عامود. وفي مرة في الصباح وجدت أن العجلة الأمامية قد سرقت كما يحدث في مصر دون جسم الدراجة المربوط. وأفهمني الزملاء كيفية ربط العجلة من الأمام أو العجلة الأمامية مع جسم الدراجة في العامود؛ فالسرقة تتعدى حدود الأوطان. والوطن يبقى في القلب وإن هاجر الجسد.
وفي نفس الوقت الذي أدبر فيه حياتي الشخصية كنت أكتب مشروع الدكتوراه، الرسالة الكبيرة أو الأولى «المنهاج الإسلامي العام»
La Méthode Islamique Générale . وقدمته إلى هنري لاوست الذي كان أستاذا بالكوليج دي فرانس
Collège de France
والتي كانت تعطي العلم دون الدرجات العلمية، والتي كانت نشأتها منافسة للسربون وراعية للفكر الحر في مقابل الفكر التقليدي. كان فيها برجسون وميرلوبونتي ورينان وماسنيون. فقرأه وأعجب به، ولاحظ نقص المصلحين؛ فهو مؤرخ، يهتم بالتاريخ، وليس فيلسوفا تجذبه الأفكار. وكنت قد كتبت مقدمة تاريخية طويلة عن مفكري الإصلاح الديني؛ فقد كنت أعتبر نفسي امتدادا لهم مع مزيد من الجرأة والشجاعة، فعرضته على ماسنيون، وكان أيضا أستاذا بالكوليج دي فرانس فأعجب بالأفكار وسألني: ألم تقرأ أصول الفقه الذي أوصى عندكم مصطفى عبد الرازق بقراءته؟ ودعاني إلى منزله كل يوم في مكتبته للاطلاع على علم أصول الفقه؛ فبحثي «المنهاج الإسلامي العام» أقرب إلى محاولة في علم أصول الفقه. وكان يقوم على تصورين، ثابت
Statique
ومتحرك
Dynamique . والثابت يتكون من عنصرين، التصور
Concept
والنظام
Ordre . والنظام يتكون من شيئين، الطاقة
Énergie
والحركة
Movement . وأدركت فيما بعد أن التصور هو علم أصول الدين، والنظام هو علم أصول الفقه. أما الطاقة والحركة فيقعان في التصوف. وكانت قراءتي الشاطبي في «الموافقات» فتحا جديدا، ثم «المستصفى» للغزالي الذي تغيرت صورته في ذهني من الصوفي إلى المنطقي الأصولي. وكنت قد سمعت عن العلم ولكني لم أقرأه، وسمعت عن رسالة علي سامي النشار في «مناهج البحث عند المسلمين»، رسالته للماجستير بتوجيه من أستاذه مصطفى عند الرازق، ولكني لم أقرأها. وذهبت إلى كوربان
Corbin
الذي كان يجمع بين الفلسفة والدراسات الإسلامية والتصوف الشيعي. ولاحظ أن الموضوع هو «التأويل». وكان هو المستشرق الذي يتخصص في التشيع والفيلسوف الذي كان أول من ترجم أجزاء من «الوجود والزمان» لهيدجر إلى الفرنسية، ثم حذرني ماسنيون من كوربان قائلا: حذار من التأويل الشيعي الباطني الذي قد تتوه فيه، ونصحني أن أظل في علم أصول الفقه؛ فهو علم عقلي مضبوط. واتفقنا على أن يكون الموضوع «مناهج التأويل: دراسة في علم أصول الفقه»
Les Méthodes d’Exégèse, Essai sur la Science des fondements de la compréhension, Ilm Usul Al Fiqh ، ثم طلب من برنشفيج مدير مركز الدراسات الإسلامية أن يسجل الموضوع تحت إشرافه لأنه جزء من السربون. وقرأ الفلاسفة الخطة، فقال جان فال: إني أحب الإسلام ولكني لست متخصصا فيه. وقرأ جان جيتون الخطة فقال هذا برجسون، الطاقة والحركة، ولكنه ليس متخصصا في الإسلام، لا يستطيع أن يشرف علي، وحولني إلى رينان الذي جمع بين الاستشراق والفلسفة الهيجيلية. ولما رأى ماسنيون هيئتي المتواضعة سأل: كيف أعيش؟ فقلت له: بلا شيء. وكانت العلاقات بين مصر وفرنسا مقطوعة بسبب العدوان الثلاثي عام 1956م، ومع ذلك كتب إلى أندريه ميكيل بالعلاقات الثقافية بوزارة الخارجية أن لديه طالبا ممتازا يحب أن يحصل على منحة دراسية. ولما كان ذلك ممنوعا رسميا أعطيت لي نصف منحة عشرون جنيها، بدلا من أربعين عام 1959م، ثم تحولت إلى منحة رسمية بعد أن أعيدت العلاقات مع مصر عام 1960م حتى عام 1964م. وفي نفس الوقت عينت مدرسا للهجة المصرية في مدرسة اللغات الشرقية الحية مع كساب، سوري الجنسية، لتدريس اللهجة الشامية، مع لوسيرف
Le Serf . وكنت أذهب إليها كل يوم لعدة ساعات في الأسبوع، بالإضافة إلى ما كنت أترجمه من وثائق صغيرة من العربية إلى الفرنسية، التي كان يتركها حاجب المحكمة الفرنسية كوثائق مقدمة إلى القاضي، ثم يدفع إلي ثمنها في المرة التالية، دون أن ينتظر بواب المبنى أي «بقشيش». وكنت أخصصها لشراء النصوص الفلسفية. وكان تعليم اللهجات يتم عن طريق سماع الطلاب مقتطفات لعبد الحليم حافظ أو أم كلثوم أو لمشاهير المغنين الشعبيين المصريين أو السوريين. وكانت هذه أول مرة أحب فيها الغناء الشعبي بينما كنت متعودا على الموسيقى «الكلاسيكية» الغربية مثل بيتهوفن وشرقية مثل سيد درويش. ولما أتى المشير إلى باريس 1965م، وشكونا إليه قطع المنح أعطت مصر العشرين جنيها حتى عدت عام 1966م. وكنت أعبر نهر السين من مدرسة اللغات الشرقية حتى المكتبة الوطنية
Bibliothèque National
مارا بمسرح الكوميدي فرانسيز
Française Comédie
إلى المكتبة الوطنية حيث كنت أقرأ مخطوطات علم أصول الفقه، وأتغدى في مطعم الجامعة المجاور، وأركن رأسي على ذراعي على المنضدة مستلقيا بعض الشيء، أقوم بعدها للوضوء والصلاة في دورة المياه النظيفة، وأستمر بها حتى السادسة مساء، وهي أغنى بكثير من مكتبة السربون؛ أي كلية الآداب. وكان الطلبة يذهبون إلى المقهى المجاور أمام المكتبة لشرب القهوة بعد الغداء وأنا لا أستطيع دفع ثمنها. وعرفت مصطلح القهوة السوداء
Café Noire . أما
Cappuccino
فلم أجرؤ الاقتراب منه أو طلبه لأنه أغلى ثمنا. وكان المقهى مكانا للتعارف بين الدارسين للصداقات الوقتية أو الدائمة مثل مطاعم الجامعة.
وبالنسبة للرسالة الثانية كتبت خطة تقارن بين الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركجارد، ثم أتينا مع بول ريكير فيما بعد أن فكري أشبه بظاهريات التأويل وتأويل الظاهريات، فسجلت الرسالة الثانية بعنوان «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل». ولما قرأ دي جاندياك
De Gandillac
الخطتين قال إنه متخصص في فلسفة العصر الوسيط، ورفض أن يكون الإسلام جزءا منه لأن له مساره التاريخي الخاص. وتكونت لجنة المناقشة من مستشرقين؛ لاوست الإصلاحي، وبرونشفيج الفقيه، وفيلسوفين غربيين؛ بول ريكر الظاهرياتي، وجان جيتون البرجسوني، ورئيس اللجنة دي جاندياك الذي يجمع بين الفلسفة والاستشراق. وهددهم جيتون إن لم يناقشوني كفيلسوف ويحاورونني كمفكر وليس كمؤرخ فسيغادر اللجنة، فاقتنعوا ولم يجرؤ أحد على أن يقول لي هذا ناقص أو ذاك زائد. واستمرت المناقشة من الواحدة حتى السابعة مساء مع نصف ساعة استراحة بين الرسالة الأولى والرسالة الثانية. وأقام مركز ريشيليو
Centre Richelieu
في ميدان السوربون، وهو مركز ثقافي كاثوليكي، حفل استقبال للأساتذة المناقشين الخمسة والطلاب. وحضر إتين جيلسون مؤرخ فلسفة العصر الوسيط الشهير، وكان تقليديا محافظا مثل أستاذنا جان جيتون ؛ فالحقيقة لديه في العصر الوسيط. كل ما قاله العصر الحديث بالنسبة للمسيحية انحراف عن توما الأكويني، وهو الحق ودونه الباطل. وأنا على العكس، ما قاله العصر الوسيط عن المسيحية اجتهادات للقضاء على اغتراب المسيحية في العصر الوسيط. لم يبتسم ولم يجلس حتى النهاية؛ فالجو ليس جوه، والعالم ليس عالمه. بدأت مناقشة الرسالة الأولى «مناهج التأويل في علم أصول الفقه»؛ بدأها لاوست بإبراز معلوماته عن الحركة الإصلاحية ثم برنشفيج المشرف بإبراز معلوماته في الفقه، ثم عقدت الاستراحة والحضور يصيحون عجبا، ولا تقدم مشروبات أو مرطبات للحضور أو للمنصة أو توضع الورود كما هو الحال في مصر، ثم بدأت مناقشة الرسالة الثانية «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل» ناقشها ريكير بهدوئه وعلمه ودقته في اختيار المصطلحات، ودي جاندياك رئيس اللجنة بين الحين والآخر يعلق على ما يسمع، ثم انسحبت اللجنة كالعادة وعادت لتعلن حصولي على دكتوراه الدولة
Tres Honorable Doctorat d’Etat
وهي أعلى تقدير. وقالت إن هذه رسالة بمعنى الكلمة؛ أي تحمل قضية مثل رسالة الأنبياء.
كنت أريد تسجيل المناقشة منذ البداية وأحضرت جهاز التسجيل للقسم في ذلك الوقت، فمنع رئيس اللجنة التسجيل لأن هذا ضد قواعد المناقشة، فرجوته أن يتركه للذكرى ففعل. وتوقف التسجيل في منتصف المناقشة فأغلقه الصديق رشدي راشد، فأعدت تشغيله، راجيا رئيس اللجنة أن يتركه للذكرى، وما زال عندي في مكتبتي الضخمة، يجده من يبحث عنه من الجيل الجديد. وتم الاحتفال بالدرجة العلمية، وأفرغت الزجاجات. وكانت السوربون قررت لأول مرة أن تطبع رسائل دكتوراه الدولة (الرسالة الأولى) قبل مناقشتها، والدولة الفرنسية تساعد الطالب الفرنسي على طباعتها، أما الأجانب فتعاونه فرنسا في إحدى دور النشر؛ المطابع الجامعية الفرنسية. وكتبت إلى المجلس الأعلى للثقافة في ذلك الوقت برئاسة يوسف السباعي، فوافق على طباعة الرسالة الأولى في المطابع الفرنسية الأميرية، وأرسل لي زوج أختي الكبرى سيد حامد مائة نسخة بحرا كما طلبت السوربون قبل المناقشة، وقد كان القائم بأعمال الأسرة كلها. وكتب لها برونشفيج مقدمة يقارنني بالفاروقي، وكانت هذه أول مرة أسمع عنه قبل أن أقابله في مصر أولا مدعوا إلى قسم اللغات الشرقية عام 1970م، ثم بالولايات المتحدة حيث عشت أربع سنوات معه. ثم طبعت أنا الرسالة الثانية بالفرنسية في مصر بعد العودة في الأنجلو المصرية «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل» في جزأين، ومهداة إلى بول ريكير مثال الأستاذ العقلاني المتأمل الهادئ،
1
ثم ترجمتها بنفسي إلى العربية. وقد انتشرت الرسالتان في الغرب لكل من يريد معرفتي، وبسرعة جعلوني أنتسب إلى المنهج الظاهرياتي عند هوسرل. وعندما قرءوا كتابي بالإنجليزية «الإسلام في العصر الحديث» (جزءان) والحضارات في صراع أم في حوار، انتشرت أفكاري، ونسبوني إلى لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وآسيا، طبقا لمنهج الأثر والتأثر، من المركز للأطراف.
وقد كتبت رسالتي الأولى مرتين: الأولى كانت مركزة للغاية، وتصل درجة التركيز إلى درجة الألغاز؛ فلا يفهم العبارة إلا من كان يفهم الموضوع من قبل، فلما قرأها المشرف برنشفيج قال: غامضة، وضح وفصل أكثر، فكتبتها مرة ثانية، فجاءت رد فعل على الصياغة الأولى، مفصلة للغاية بحيث أفضت في الفكرة التي أريد توصيلها وسط الركام الهائل من التنسيق، وهو ما أعاني منه حتى الآن. وتم حل هذا الصراع الطويل بين المستوى العلمي في التحليل المسهب الطويل والمستوى الثقافي المباشر الذي يدخل في الفكرة مباشرة دون جذورها وتطورها وغايتها. وقد استغرب السيد يس من هذا الطالب الذي يكتب رسالتيه مرتين، وهو لا يستطيع كتابتها ولو لمرة واحدة. وكتبت هذه الرسالة الثانية بهذه الطريقة العلمية الموثقة، فخرجت في جزأين «تأويل الظاهريات» و«ظاهريات التأويل». الأول شرح للمنهج الظاهرياتي عند هوسرل وتلاميذه، وبيان كيفية تطبيقه في ظاهرة الدين انتهاء بالتأويل. والثاني «ظاهريات التأويل، محاولة لتأويل وجودي ابتداء من العهد الجديد».
وإذا كان ماسنيون هو الذي أرشدني إلى علم أصول الفقه، وكوربان الذي اقترح موضوع «التأويل» وريكير هو الذي وضع يدي على الظاهريات، فإن جيتون هو الذي علمني الفلسفة وتاريخها. هو مثل عثمان أمين في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، يدخل كلامه إلى القلوب، الفلسفة لديه تجارب حية يعيشها الأستاذ وينقلها إلى الطالب. وهو من تلاميذ برجسون، كان يعطي ثلاث محاضرات أسبوعيا: الأولى لطلاب الفلسفة وتاريخ الفلسفة، ولم أفقد واحدة منها. كان أوغسطينيا، فكانت رسالته للدكتوراه «الزمان والخلود عند أوغسطين وأفلوطين»؛ فالزمان موجود لا يتجزأ. منه تعلمت تاريخ الفلسفة، وكان يوم الإثنين صباحا. والثانية حلقة بحث للدراسات العليا، يتكلم فيها الطلاب، ويعترض الأستاذ، كان ذلك يوم الإثنين من العاشرة حتى الثانية والثالثة. ومحاضرة عامة يوم الأربعاء مساء لمحبي الفلسفة، وكان يعرض ما يأتيه من رسائل من المستمعين؛ فالفلسفة رسالة وليست مهنة. طلب مني مرة أن أعرض موضوعا لطلاب الليسانس وهو بجانبي، عن إسبينوزا، كما فعلت مع تلميذي علي مبروك فيما بعد، فعرضته داخل إطار الفلسفة الغربية، والفلسفة الغربية داخل إطار الفلسفة العامة ومنها الفلسفة الإسلامية، والفلسفة داخل مسار الحضارات، والحضارات متغيرة، تنهض وتسقط مثل الحضارات الشرقية الصينية والهندية والفارسية ثم اليونانية والرومانية ثم الإسلامية ثم الغربية، وسطى وحديثة، وهو ما أصبح فيما بعد «مقدمة في علم الاستغراب». أعجب الأستاذ بسعة أفق الطالب، واتخذني صديقا له، وليس فقط طالبا. وكان لوي ألتوسير مؤسس البنيوية أحد تلاميذه وموجودا في مستشفى الأمراض العصبية، فأخذني معه لزيارته ، وكانت معه صديقته، وقارنت بسرعة بين مرضانا ومرضاهم وحقوقنا وحقوقهم. ظننت أننا سنتكلم في البنيوية ولكنها كانت زيارة ودية خالصة، وفضل الذهاب مع صديقته عن البقاء معنا، وتطورت الصداقة بيننا حتى بعد أن عدت إلى أرض الوطن في يونيو 1966م. قدمني إلى الدوائر الفلسفية الباريسية خاصة 104 شارع تورنون وهي جماعة فلسفية أخرجت كتابا عنه. وهو الذي قدمني إلى البابا يوحنا بولس أثناء انعقاد الدورة الرابعة للمؤتمر الفاتيكاني الثاني، وقد كان صديقا له عندما كان الكاردينال مونتيني كاردينال ميلانو، وكان ذلك في عام 1964م. وطلب مني البابا بولس السادس أن أجلس مع الجماعات المتخصصة لكتابة بيان الكنيسة عن الديانات غير المسيحية، ولأول مرة أجلس مع الكرادلة بأروابهم الحمراء في بدروم الفاتيكان، ونحن نتناقش في الموضوع. ورأيت انفتاحا اشتهر به المؤتمر الثاني والعشرين الذي بدأه يوحنا الثاني قبل أن يتوفى. وسألت أحد الكرادلة الأفارقة: كيف تناقش موضوعا وأنت غير متخصص فيه؟ فأجاب: إن الروح القدس تجيب بدلا عني! وأنا عندي العلم وليس الروح القدس. ومع ذلك خرج بيان الديانات غير المسيحية يعترف لأول مرة ربما بالأديان الأخرى، موحى بها أو غير موحى بها. وأنشئت سكرتاريا لغير المسيحيين كان جيتون أول من يرأسها، ويفخر بأن تلميذه يشاركه فيها. وأعطيت منديلا أبيض عليه شعار البابا هدية من المؤتمر، وأقمت في روما عند عائلة إيطالية، وأهديتها مجلدا عن مصر الفرعونية. وأهداني البابا بولس السادس الأناجيل المتقابلة وكتب عليها: «فليكن الله معك.»
Que le Seigneur soit avec Vous
وقد دعاني جيتون إلى مسقط رأسه بوسط فرنسا لإحدى الاحتفالات بعيد ميلاده في كليرمونفيران
Clermont-Ferrand . ولما توفت زوجته ماري تيريز، قامت بالعناية به بعدها شابة بولندية شقراء. وفي كل مرة أكون في باريس أزوره في منزله 1 ش فليريس
Fleuris
على جانب حديقة لوكسمبورج حيث كان يقطن أيضا برجسون وبيير دي شاردان، وهما على طرفي نقيض. وظللنا نتراسل حتى قرأ في الجرائد الفرنسية تأسيس لاهوت التحرير الإسلامي
Théologie Islamique de la Libération
الذي تعلمته من جنوب أفريقيا في عصر التحرر من النظام العنصري الأبيض، وما كتب عنه في الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت الكنيسة ضده، وتتهمه بالماركسية بعد أن انتشر في أمريكا اللاتينية عند الرهبان الشبان مثل كاميليو توريز، والذي عرضت أعماله في مصر، الذي كان يمثل اليسار المسيحي مثل مونييه وريكير. وقد أسسا مجلة روح
Espirt
معا، ثم أقام مونييه الشخصانية التي درسها المفكر المغربي محمد عزيز لحبابي ثم هشام جعيط من تونس فيما بعد، وبدأت مراسلاتنا تقل تدريجيا، وكنت أنقد مشروعه الضخم «الفكر المعاصر والكاثوليكية» (12 جزءا) دون توثيق لأنه كتب وهو في المعتقل في ألمانيا بعد أن أسره الألمان واحتلالهم باريس. كان من أنصار المارشال بيتان
الذي تقهقر حتى وسط فرنسا في مقابل ترك باريس مدينة مفتوحة، في مقابل ديجول الذي انتقل إلى لندن وأسس المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، أخذ إلى فريبورج وحيث كان يعيش الفيلسوف الألماني هيدجر المتهم بالنازية. كان يرى أن يترك باريس مدينة مفتوحة للألمان في مقابل عدم تحريرها والإفراج عن نصف المعتقلين من المقاومة شفاعة لهم بدلا من إعدامهم كلهم. وبعد نقدي له ونقده لي كانت آخر رسالة منه صورة له وفي ظهرها تبرير لموقفه. وما زالت ترن في أذني آخر عبارة له: «كان يجب الرهان»
Il faut parier . وما زالت هي الذكرى الأولى من أساتذة باريس التي ما زالت في القلب، وإن بقي غيرهم في العقل مثل بول ريكير.
وفي إحدى زياراتي إلى ألمانيا على دراجة في هيدلبرج صعدت إلى أعلى «طريق الفلاسفة» حيث كان يسكن جادامر، فتناقشنا سويا في الهرمونطيقا. كان مبتسما مرحبا، يريد الإطالة في الحديث، وصلني إلى الباب، وأخذت دراجتي نزولا في المدينة. رأيت البساطة والوضوح والتواضع والكرم. صحيح أنه لم يقدم لي شيئا أشربه كما كنت أتوقع، ولكن كان يكفي استقبالي وأنا لست شيئا، وهو كل شيء. ورجعت إلى بيت الشباب، وكتبت ذكرى اللقاء.
وكنت في ألمانيا أبحث عن بيوت الشعراء والأدباء والفلاسفة والموسيقيين فأجدها جميعا قد تحولت إلى متاحف في ذكراهم أو انهدمت تماما مثل الكلية الحربية في فرانكفورت التي تخرج منها الشاعر شيللر. ورأيت منزل بيتهوفن في بون وفيينا، ونزل موزار في سالزبورج بالنمسا، أصبح مصنعا للشيكولاتة؛ حيث وضعت صورته على غلاف القطع والعلبة الخارجية. وذهبت إلى فرايبورج حيث عاش هوسرل وهيدجر. ومالبورج مكان المدرسة الفلسفية الشهيرة. ورأيت نورنبرج حيث تمت المحاكمات الشهيرة. من المدن من حافظ على طابعها التاريخي مثل المدن المذكورة، ومنها ما تم تجديده تماما مثل فرانكفورت وبرلين. استهواني الجنوب أكثر من الشمال، وبافاريا أكثر من همبورج.
وكنت أستمع إلى فلاسفة فرنسا في ذلك الوقت، وكان الحضور عاما أو خاصا؛ إذ أعطى جان بول سارتر محاضرة عامة استغرقت ثلاث ساعات بأكملها، وهو يتكلم ويتأمل في قاعة موبيرميتيواليتيه
Maubert Mutualite ، وسميت محطة المترو المجاورة على اسمها. كانت نظرية مجردة للغاية، وصعب على الحضور فهمه. وبعد المحاضرة ذهبت إليه على المنصة، وأعطيت ما معي من كتاب كنت أقرأ فيه وهي بعض أعمال مارتن لوثر، فلما نظر إلى الكتاب قبل أن يوقع عليه قال لي باستعجاب وباستهجان لا أدري: لوثر! وحضرت محاضرات ميرلوبونتي في الكوليج دي فرانس بجوار السوربون والتي أنشئت لمنافستها. العلم للعلم وليس للدرجات العلمية، وحرية الفكر وليس للفكر التقليدي، والاتجاهات الجديدة وليس لتاريخ الفلسفة. وكان يدخن ويستبطن نفسه وكأنه في مكتبه، بلا جمهور، فلا يثير شوق أحد. وحضرت في منزل جابريل مارسل كل يوم جمعة لقاءه بجوار مسرح الأوديون، وكان يمينيا خالصا يدافع عن احتلال فرنسا للجزائر، ولم أر فيه شيئا يثير الانتباه، ولا تدخلاتي أثارت انتباهه. وحضرت سيمينار بول ريكير المشرف على الرسالة الثانية، وكان يغلب عليه الصمت والأدب الجم والصوت المنخفض إذا تكلم. يحضر حلقة بحثية في السربون ما يزيد عن الثلاثين، وكانوا هم الذين يتكلمون، ويعرضون شروحهم وآراءهم في النصوص التي يقرءونها باليونانية واللاتينية والألمانية والإنجليزية والفرنسية بطبيعة الحال؛ فمن تنقصه لغة يدرسها عدة أشهر، ثم يعود كي يكون على نفس المستوى. يعلق ريكير على منهج الطالب وتأويله للنصوص في جمل قصيرة دون تعالم أو استعلاء. زرته آخر مرة في شاتناي ما لابري
Châtenay-Malabry ، وأنا أعرض عليه الرسالة الثانية والثالثة لأنها من جزأين، فاستمع إلي بكل انتباه دون تعليق؛ أي إنه موافق على منهجها ونتائجها، تأويلي للظاهريات وتطبيقها في فلسفة الدين عند هيرنج
Hering
البروتستانتي، وديميري
Dumery
الذي كان راهبا ثم خرج من الكنيسة. أولتها من خلال علم أصول الفقه، وقرأت علم أصول الفقه من خلالها، وهما ما كونا شعوري الفلسفي حتى الآن. واستمعت إلى ماكسيم شول في الفلسفة اليونانية، كان أبيض أشقر مبتسما فيلسوفا، يقرأ الفلسفة اليونانية من خلال الفلسفة. واستمعت إلى جانكلفيتش أستاذ الأخلاق، وكان من أوروبا الشرقية محمر الوجه، يتكلم بإتقان، يوقظ النائمين والسارحين من الطلاب. واستمعت إلى جان فال أستاذ تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا، كان فيلسوفا مهنيا أمامه أوراق كثيرة، يبتسم وهو ينظر إليها، يحبه الطلاب المهنيون مثل كلكل
Kelkel
مترجم «بحوث منطقية» لهوسرل، وشاتل
Chattel
المنطقي الميتافزيقي، الفيلسوف ذو الشعر المنكوش الواقف والذي كان يخيف. وجاك دريدا الذي كان أقرب إلى الصمت، ربما كان يستمع كي يعرف كيف يفكك ما يسمع، وهو مترجم «أصل الهندسة» لهوسرل، وقد ظل عشر سنوات يدرس كيفية إعادة بناء العلوم الإنسانية، وهو موضوع رسالته للدكتوراه، فكتبت له السربون رسالة رقيقة دون تهديد بشطب رسالته من سجل الدراسات العليا كما يحدث عندنا بعد خمس سنوات وسنة إضافية، أنه تجاوز الوقت المحدد، وسيعطى عشر سنوات أخرى، فلما انقضت كتبت له السربون أن العشر الثانية قد انتهت ولا بد أن يقدم الرسالة، فكتبها في شهرين، وحصل على الدكتوراه بدرجة
Tres Honorable . وكان الأستاذان الأقل إغراء هما كانجييم أستاذ فلسفة العلوم والذي عمل معه رشدي راشد، وأوصى به كي يكون باحثا بالمركز الوطني للبحث العلمي
Centre National de Recherche Scientifique (CNRS) . ودي جاندياك وهو أيضا أستاذ فلسفة العصور الوسطى، وكان مجرد عارض لتاريخها كما فعل يوسف كرم عندنا في «تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط». وكان يتكلم وكأنه يحمل حملا ثقيلا على كتفه، مطأطأ الرأس، مقوس الكتفين، مكفهر الوجه، خاصة وأنه كان قصيرا لا يرى من وراء المنصة لو جلس، لم يستمر معه كثير من الطلاب. وأما المستشرقون فلم يكونوا يثيرون في شيئا، مثل هنري لاوست في الكوليج دي فرانس الذي كتب أطروحته للدكتوراه عن ابن تيمية ، والذي اعتبرني مثله مؤرخا للفكر الإصلاحي ليس مطورا له أو مبدعا فيه. وروبير برنشفيج الذي كان متخصصا في الفقه الحنفي. أما بلاشير
Blachere
فكان أقرب إلى الأدب العربي، يدرس معه بعض الأساتذة من شمال أفريقيا، وهو الذي ترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية، وطبعه طبقا لأوقات النزول، وهي الدعوة التي نادى بها خلف الله أحمد خلف الله من مدرسة أمين الخولي مثل سيد قطب الثاني، الناقد الأدبي (الأول هو الشاعر والقصاص، والثالث هو المفكر الإسلامي الاجتماعي، والرابع هو صاحب «معالم في الطريق») اعتقادا أن ترتيب القرآن من توقيف عثمان لإبراز الجانب الإنساني في التدوين. وكان هناك رودنسون صاحب «الإسلام والرأسمالية» زرته بين رفوف مكتبته، واعتذر أنه لن يطيل معي لأن صديقته ستأتي، وأنه لا بد أن تكون له صديقة تخفف عنه عناء الكتابة.
وإذا كان وعيي قد ازدهر مع جان جيتون، فإن وعيي السياسي قد تكون في مظاهرات الحي اللاتيني مع الطلبة المسلمين من شمال أفريقيا
Mena
ومقره 115 شارع سان ميشيل
B4 Mich 115
ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، ثم ضد انقلاب بو مدين على الرئيس بن بلا بعد الاستقلال، ومظاهرات أخرى ضد قذف أمريكا فيتنام بالقنابل بعد أن خرجت فرنسا، وكانوا بؤرة لتجمع طلاب العالم الثالث بالاشتراك مع طلبة أمريكا اللاتينية والطلبة العرب. وكان المطعم الإسلامي مكانا للتجمع خاصة يوم الجمعة، يوم «السكسك»
Socsoc
وبتعبير المصريين «الكسكوسي» باللحم والخضار. ومكان آخر للتجمع هو مسجد باريس، وكان أقرب إلى التجمع اليميني وجماعة البشير الإبراهيمي؛ فالوطن قد جمع الجميع بالرغم من الشقاق بين المجموعتين، قبل الشقاق بين حماس وفتح الآن في المقاومة الفلسطينية؛ فالوطن لا شقاق أو فرقة فيه. وفي المظاهرات تعرفت على علي شريعتي الذي كان ينادي بالثورة الإيرانية ضد الشاه، وكان أستاذه جاك بيرك يشكو منه ومن ضياع وقته، ولا ينجز رسالته الجامعية
Doctorat d’université
دون التطلع إلى دكتوراه الدولة. وعند الأستاذ برونشفيج مشرف رسالتي الأولى تعرفت على محمد أركون الذي كان يعد رسالته لدكتوراه الدولة
Doctorat d’etat
عن الأخلاق عند مسكويه، كما تعرفت على ناصف نصار في المطعم الجامعي، وكان قد أوشك على الانتهاء من رسالته لدكتوراه الدولة ويعدها للطباعة في المطابع الجامعية الفرنسية
. وتعرفت على كمال يوسف الحاج اللبناني الذي قتل أثناء الحرب الأهلية، وكان مفكرا بالإضافة إلى كونه باحثا، وانتقل إلى بيروت. وقد تكونت الآن جماعة في بيروت للاحتفال بعيد ميلاده المئوي وللحفاظ على تراثه. وتعرفت على حميد الله، العالم الهندي الذي كان مطلوبا في حيدر آباد بعد رفضها التنازل عن استقلالها لصالح الهند، وكان يسكن مع امرأة فرنسية عجوز، وكان يعد مخطوط «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري. ولما علم برنشفيج ذلك الذي كان يعد نفس المخطوط للطباعة مع طالبين له، أنا ومحمد بكير من تونس، تنازل لحميد الله عن العمل. واحترمت أخلاق المستشرق الذي تنازل عن عمل يقوم به زميل له في نفس الوقت. وكانت البحوث العلمية غير مسيسة. وطبع في جزأين في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في دمشق عام 1964م، ثم صورته دار التراث في بيروت في طبعة جديدة دون أن تأخذ إذنا من أحد. وقد توفي حميد الله الذي كان يعمل باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي
Centre National de Recherche Scientifiques (CNRS) . وبكير أستاذ الأدب العربي في جامعة تونس، وتوفي ولم يبق إلا أنا.
وكان نظام حياتي اليومي هو الاستيقاظ مبكرا، وبعد كوب الشاي مع اللبن المسكر في الأنبوبة أبدأ في القراءة والتعليق على ما أقرأ على هامش الكتاب؛ لذلك كنت لا أقرأ إلا الكتب التي اشتريتها. وظهرا متأخرا أذهب للغداء لسببين: الأول أني أستلقي بعد الغداء قليلا. والثاني أن مطعم الجامعة في آخر الوقت، حوالي الواحدة والنصف، يترك الصواني لمن يريد أن يستزيد، وأنا منهم طبعا لأني كنت لا أتناول العشاء مع أنه موجود في مطاعم الجامعة. وأعمل حتى التاسعة مساء برغم محبتي للنوم. وعجبت كيف يروى عني في القاهرة أنني في باريس كنت أقضي النهار في اللعب من الصباح إلى المساء إلا بدافع الغيرة بعد أن عمت الجميع. وقد كان يضرب بي المثل في العمل من الصباح إلى المساء، وكنت لا أرى في المقاهي أو الشوارع ، وأنا المجتهد الذي لا يسمح بضياع وقته على المقاهي، مع أن المقهى في باريس جزء من الحياة الثقافية؛ ففيه يتم التعرف على المثقفين، ولقاء من يريد غير الثقافة. أما بعد التاسعة مساء فأفعل أي شيء. وما زال هذا النظام اليومي سائدا حتى الآن.
وفي عام 1959م عندما كانت العلاقات بيننا وبين فرنسا ما زالت مقطوعة منذ العدوان الثلاثي على مصر في 1956م. كان أخي وزوجه في طريقه إلى كولومبيا بأمريكا اللاتينية بحرا متوقفا في مارسيليا، فذهبت مع صديقتي الألمانية كي أراهما؛ فليس من المعقول أن يكون كلانا على الأراضي الفرنسية ولا يرى بعضنا بعضا. وكان في عرف قبطان السفينة أن يهبط إلى أرض فرنسا من يريد، ولكن لا يجوز لمصري على أرض فرنسا أن يغادرها ويصعد السفينة، فقلت له هذا حق، لكن من حق أي راكب أن يغادر السفينة لمدة ساعة ثم يستكمل الرحلة فيما بعد ، وأريته بطاقتي السفر إلى كولومبيا فاقتنع، فغادرنا إلى باريس، وزرنا سويا أشهر معالم باريس؛ برج إيفل، كنيسة نوتردام، قوس النصر، مسلة الكونكورد، متحف اللوفر، قصر فرساي، حي منمارتر، مقبرة نابليون، السربون، البانثيون. وأخذ أخي معه تسجيل أم كلثوم «أنت عمري»، وكانت أول أغنية يلحنها لها عبد الوهاب، وكانت فيها كلمة «اللي شوفته»، وكانت صديقتي الألمانية عندما أسألها ماذا تحبين أن تسمعي من الموسيقى العربية تقول «اللي شوفته»، ثم أوصلناهما إلى السفينة بمارسيليا ليكملا الرحلة إلى أمريكا اللاتينية. وجاء إلى زيارتي بعض الأصدقاء مثل الطاهر مكي من مدريد وإبراهيم راشد من القاهرة. وزارني علي إسماعيل، فأخذت تصريحا من المستشفى بالخروج ولو لست ساعات، فأخذته لشراء بعض الهدايا المشهورة من باريس مثل رابطة العنق «أرجانس» بجوار الأوبرا. وكنت في المستشفى في الصيف آكل وأشرب وأستريح بعد اشتباه في مرض السل في الرئتين في مراحله الأولى، وهو التهاب الرئتين. ورفض مدير المستشفى إخراجي، ولو لمدة ثمان وأربعين ساعة. ولما شرحت له السبب، وصول أخي وزوجه إلى مرسيليا وافق، وعدت إلى المستشفى كما وعدت.
وفي صيف 1959مكنت قد شعرت بإرهاق شديد وأنا أصعد أي سلم. فلما ذهبت إلى عيادة المدينة الجامعية وكشفوا علي بالأشعة وجدوا التهابا في الرئتين، وهو مقدمة لمرض السل، فحجزوني في العيادة لمدة أربعة أشهر بعد مقاومة طويلة. شرحت للطبيب كيف أعيش: آكل مرة واحدة في اليوم ظهرا، وأجهد نفسي في العلم والفن؛ فأنا طالب في السربون أدرس الفلسفة، وطالب في الكونسرفتوار أدرس الموسيقى، في الصباح في الجامعة، وبعد الظهر في معهد الموسيقى، وفي المساء أقرأ في أوله، وأعزف مع كاتم الصوت على الكمان في آخره، فاستعجب أنني أحيا حتى الآن، وطلب مني أن أبقى في العيادة أربعة أشهر، آكل أربع مرات في اليوم، وأشرب العصائر، وآكل الفاكهة بين الوجبات، وأغذى بالمحاليل في الشرايين لأنه عندي مرض
BBC ، وهي المرحلة السابقة على السل، فسألت: وماذا عن حجرتي في بيت ألمانيا؟ فقيل: تخليها وتستعيدها عندما تخرج. قلت: وماذا عن كتبي التي أشتريها كل شهر ، النصوص الفلسفية؟ قال: نشتريها لك وتقرؤها في العيادة. ولما حان وقت الخروج وزاد وزني، قال: عليك أن تكتب تعهدا بالاستقالة، إما من الجامعة وتتخصص في الموسيقى أو باستقالتك من معهد الموسيقى وتتخصص في الجامعة؛ أي الفلسفة. وإن لم تفعل فسنرسلك إلى جبال الألب حيث تعيش في قمتها حيث الهواء النقي. وإن لم تفعل هذا ولا ذاك فستنتحر وتقضي على حياتك بنفسك. وكانت لحظة اختيار قاسية. وكيف أترك إحدى معشوقاتي؟ الموسيقى بلا فكر لحن خالص، والفكر بلا موسيقى تجريد خالص. وأخيرا اخترت الجامعة؛ فللفلسفة أتيت، وكتبت التنازل عن المعهد المطلوب وقلبي ينفطر حزنا. وأنا حتى الآن عندما أسمع موسيقى شرقية أو غربية أحن إليها، وأتساءل: هل أحسنت الاختيار؟ وبعد انقضاء العمر وجدت نفسي قد وقعت في الفلسفة الرومانسية، هيجل، فشته، شلنج، برجسون. وقد تكون الظاهريات؛ أي الفينومينولوجيا، التي يقال إنني وقعت فيها هو جمع بين الفلسفة والفن، بين العقل والذوق كما يفعل الصوفية المتأخرون حتى محمد إقبال. وما زالت آثار هذا المرض موجودة على الرئتين كلما قمت بكشف إشاعة على الصدر.
وكانت هناك مشكلة كارت الإقامة الذي يجعل وجودي في فرنسا شرعيا في حال قام شرطي بطلب أوراقي. وأخبرني المخضرمون في باريس بأن هذا أمر سهل، علي أن أفتح حسابا في أحد البنوك، وأضع فيه أي مبلغ، وآخذ دفتر شيكات، فإذا سئلت في المحافظة عن مصادر المعيشة قلت لهم عندي دفتر شيكات، ولا يسألون كم رصيده. وبالفعل فتحت حسابا في
Société Générale
ووضعت فيه فرنكا واحدا، وأخذت كارت الإقامة الذي يتجدد كل عام بنفس الطريقة.
وبعد أربع سنوات عدت إلى مصر لحضور حفل زواج شقيقتي المتوسطة فاطمة؛ إذ إن الشقيقة التي كانت بعدي، سعاد - أطال الله في عمرها - لم تكن قد تزوجت بعد. أما الشقيقة التي بعدي فقد كانت ما زالت تعد الدكتوراه. أما الصغرى فكانت ما زالت طالبة في مدرسة التجارة المتوسطة وليس المعلمات التي تخرجت منها جميع الإخوة البنات. فقررت أن أعود إلى القاهرة في صيف 1960م، وتركت غرفتي بالبيت الألماني للإيجار حتى أعفى من إيجارها الصيفي. وكان علي أن أشتري هدية لأختي العروس وباقي الأخوات وأخي والوالدين. وجاءت سامية أسعد من قسم اللغة الفرنسية التي كانت تسكن ببيت الطالبات بشارع بول ميش، يولفار سان ميشيل، وذهبنا إلى السوبر ماركت لافاييت عند سيفر بابليون، واشترينا أقمشة فساتين للبنات. وكان أحد الطلبة الألمان، كبير السن، قد قرر أن يذهب إلى مارسيليا بالسيارة، فذهبت معه كي آخذ السفينة من هناك إلى الإسكندرية، وكان يقود ليلا وبسرعة، فأرى الأشجار يمينا ويسارا تتوالى في ضوء كشافات العربة. أما أنا فكنت أنام بين الحين والآخر، فيوقظني غاضبا حتى لا ينتابه النوم هو أيضا. ووصلنا في الصباح، وذهبت إلى ميناء مارسيليا، وأخذت السفينة إلى الإسكندرية. وكان أخي بانتظاري والوالد والوالدة وزوج شقيقتي الكبرى سيد. ووصلنا إلى القاهرة، وكانوا قد غيروا السكن من باب الشعرية إلى العباسية، من شارع البنهاوي درب الشرفا إلى شارع أحمد سعيد في فيلا ذات دور واحد بحديقة مكثت فيها شهرين، وحضرت العرس. وأردت توزيع الهدايا على إخوتي فردا فردا، فأخذتها أختي العروس كلها بحجة أنها هي التي تحتاج إلى الأقمشة، ولم يحزن أحد. وفي ليلة العرس لبست شقيقتي الأكبر من العروس فستانا عاري الصدر، فرفض والدي وأخي، وأقنعتهما أن هذا طبيعي؛ فالأصغر منها تتزوج وهي الأكبر لم تتزوج؛ فلعل في هذا العرس يأتيها من يطلب يدها، وأنا قادم من باريس ولا حرج. وفي طريق العودة حيث كانت السفينة تتوقف ليلة في أثينا حيث يرى البحارة ذويهم، رأيت عبد المعطي شعراوي الذي كان يدرس فيها، وقضيت الليلة معه حتى عدت في الصباح إلى السفينة لاستئناف الرحلة إلى مرسيليا، ومن هناك أخذت القطار السريع إلى باريس، ولا يتوقف إلا في ليون بعد اختراع القطارات فائقة السرعة، أربع ساعات بدلا من ثمان.
وبعد العودة إلى فرنسا عام 1960م، والرجوع من مصر بعد رؤية العائلة، وحضور حفل زفاف شقيقتي فاطمة أحسست بتغير في نفسي في طريقة رؤيتي للعالم وسلوكي في الحياة؛ فبدلا من أن أبدأ بالفكر بدأت بالواقع، وهو ما سميته بعد ذلك «من النص إلى الواقع». وبعد أن كنت مثل باقي الإخوة المسلمين أتطلع إلى أعلى أصبحت أتطلع إلى الأمام. وهو ما سميته فيما بعد «من الفناء إلى البقاء». وبدلا من حرصي على الشعائر كمظاهر أبقيت على مضمونها الاجتماعي وهو ما سميته فيما بعد «من أحكام الشريعة إلى أحكام الوجود». وبدلا من أن أهاب وأخشى المرأة بدأت بالمغامرة معها والتعلم من التجارب معها. وبدلا من قراءة النصوص بدأت أعيش الحياة، التجربة الحية. وبدلا من حرصي على الصلاة اليومية أو الأسبوعية أصبحت حريصا على زيارة الأوبرا باعتباري طالب كونسرفتوار مجانا؛ فكان لطلبة الموسيقى بنوار خاص لخمسة أفراد. كنت أرى الطالب يأخذ صديقته الطالبة، تخلع حذاءها وهو يهرش لها قدميها، وأنا أبكي على حالي، وأحزن لثقافتي. ورأيت جميع الأوبرات، وشاهدت جميع المسرحيات، واستمعت إلى مقطوعات الموسيقى السيمفونية مجانا باعتباري طالبا في المعهد. ومرة وأنا أسمع حفلة موسيقية وضعت ما معي من كتب اشتريتها على الأرض، وأزيحها بقدمي تحت جاري، وهو يرجعها بقدمه تحتي حتى شخط في، فأدركت قبح ما فعلت.
وعرفت طبيعة الأوروبي دون تعميم على كل أوروبي؛ فقد عرفت جاك فاندنبرج عندما أتى إلى مصر في كتابة رسالته عن الاستشراق، ولما عاد إلى هولندا واحتجت أعمال هوسرل التي طبعت في هولندا، فأرسلها لي، وكان ل «الفلوران» العملة الهولندية سعران، واحد رسمي وآخر في السوق السوداء، أصر على موقفه، السوق السوداء، وأصررت على موقفي، السعر الرسمي. ولما ذهب إلى مصر حاول أخي إعطاءه المبلغ بالسعر الرسمي فرفض، فجمع له بعض العملة الهولندية وأعطاها له، ومن بعدها وقد سقط من عيني، مع أنه أصبح من كبار المستشرقين الآن، ويعمل في سويسرا، وبذقنه السوداء الطويلة، وشفتيه الحمراء تخيلت أنه دراكولا، مصاص الدماء.
وطالب آخر كان جاري في مدينة أنطوني الجامعية التي كنا نذهب إليها بالصيف حتى تقوم المدينة بإصلاح ما عاب من منازلها، سمعت أنه مريض، فأخذت بعض الفاكهة لزيارته لأن الحائط في الحائط، فشكرني وقال لي للأسف لا يستطيع أن يقدم لي شيئا لأن علبة السكر بها ثلاثون ملعقة، واحدة كل يوم، وعلبة الشاي بها ثلاثون ملعقة، ولا فائض له كي يعمل كوب شاي لي، فاعتذرت أنني لا أشرب الشاي، وتذكرت المثل العربي «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب.» فما الضامن أنه سيعيش إلى آخر الشهر وهو مريض؟
كانت ألمانيا وبرلين في ذلك الوقت مقسمة إلى قسمين: الغربية والشرقية، وبينهما حائط من الجهة الغربية مكتوب عليها كل ما ينكر حرية الغرب واستبداد الشرق، قبل أن يتحطم حين انهيار الكتلة الشرقية في أوائل التسعينيات. وكان هناك ترام يربط بينهما من خلال فردرش شتراسه. وبعد أن زرت المتحف الذي به رأس نفرتيتي الشهير داخل صندوق من الزجاج والذي يقف أمامه الألمان طوابير من الصباح، ورأيت باقي الآثار المصرية القديمة ذهبت إلى برلين الشرقية كي أرى جزيرة المتاحف التي بها كم كبير من الآثار الفرعونية والبابلية والآشورية. ورأيت أهم شارع، وهو طريق ستالين، بعرضه وطوله ومنازله المتشابهة على خط واحد. وكان المارك الغربي بستة دراهم شرقية تقريبا، مع صعوبة نقل أعمال ماركس وإنجلز ، فاشتريتهما مع صورته، ونقلت ذلك على الدراجة عائدا إلى باريس. ولما توجهت وأردت العودة إلى باريس أخذت القطار من ستراسبورج عائدا إلى باريس، وهي المدينة التي عليها خلاف بين الألمان والفرنسيين. ولما كنت مغرما بالألمان فقد لففتها بالدراجة ثلاث مرات، من الغرب إلى الجنوب حتى منشن والتي يسمونها ميونخ، ومن الغرب إلى الوسط حتى فرانكفورت ونورنبرج، ومن الغرب حتى الشمال حتى همبورج حتى حفظتها عن ظهر قلب. وما زالت آثار الحرب والتدمير في ذهني ومنها تسمية كنيسة الذكرى
Gedächtnis Kirche .
وكنت أريد أن أذهب إلى برلين بالدراجة، فأوقفتني شرطة ألمانيا الشرقية عند الحدود في هلمشتت وسألوني: إلى أين؟ قلت: إلى برلين. قالوا: ممنوع تمر عبر ألمانيا الشرقية إلى برلين كمدينة مفتوحة. قلت: وما المانع؟ قالوا: لا يمر إلا من كانت سرعته مائة كيلومتر. كم سرعة دراجتك؟ قلت: عشرين! قالوا: إذن ممنوع. ولا تمر إلا من ثلاثة طرق دولية، من الجنوب ومن الغرب ومن الشمال. فتركت الدراجة في المدينة الحدودية، وأوقفت عربة ذاهبة إلى برلين وركبتها أتوستوب
Autostop ، والرجل لا يتكلم فهو في أرض العدو، وقد عبر لي عن ضيقه بهذا الكبت للحريات. وبعد شهر في برلين عدت إلى المدينة الحدودية بنفس الطريقة، وأخذت الدراجة راكبا القطار من ستراسبوج الفرنسية عائدا إلى باريس. وقد ساعدني على اكتشاف الحياة الصداقات التي أخذتها من الحب الرومانسي، وسكني ببيت ألمانيا، وصديقتي الألمانية والإغراء بها. وكانت العادة القيام بحفلة رقص كل يوم جمعة مساء، وإظهار المهارات في هذا الفن الذي يعتبره البعض غير رفيع، تظهر كل فتاة ممارستها، ويظهر كل فتى براعته، فكنت أعمل مثلهم خاصة أنني كنت رائد اتحاد الطلبة في المنزل الألماني. وكانت هناك ثلاجة بها جميع المشروبات خاصة البيرة، لا يوجد أمامها بائع ولكن مجرد صندوق، يكتب كل شارب ما يشرب في بطاقة باسمه، ويدفع آخر الشهر من نفسه. ولما كنت مصريا متعودا على وجود بائع أدفع له مباشرة، فإنني كنت أشرب ما أريد دون تسجيل بطاقة، وكان من يجمع الحساب آخر الشهر من كبار الشاربين يجد المجموع أقل من المستهلك، وأولهم هو، ليس لأنه لص ولكن لأنه سكير لا يدري ما يفعل، وكان المنزل يدفع ما نقص من ميزانية البار المفتوح «اخدم نفسك بنفسك»
Self-Service . وكنت أشارك في حفلات رأس السنة بتزيين المنزل وزجاجه بالألوان. وكانت الموسيقى بالبدروم، فكنت آخذ كماني ليس فقط لأعزف ولكن أيضا للتعرف على باقي العازفات، وكانت إحداهن تعزف تشيللو، ومرة توقفت، وقالت: زهقت، قلت لها: وأنا أيضا، فتركنا الآلات وقمنا نعزف شيئا آخر. وكان معنا في المنزل طالب تمثيل «بانتوميم» جاء ليدرس مع جان لوي بارو أشهر ممثل للبانتوميم في العالم، وكان يدخل خشبة المسرح في المنزل، ويقوم بالتمرين، ولكنه كان يريد من ينظر إليه، فكان يناديني باعتباري فيلسوفا فنانا: يا حسن تعال انظر، فأحسست بضرورة وجود إدراك الذات حتى يتحقق الموضوع.
وكنت أفتعل مناسبة للتعرف على الجنس الآخر بالمطاعم الجامعية والمقاهي والأندية الرياضية؛ ففي المطاعم أفضل وسيلة للتعرف على جارتي الطالبة هو سؤالها: هل تريدين أن أصب لك الماء؟ هل تريدين قطعة خبز؟ فدورق المياه وسلة الخبز مشتركان على المائدة. ولما طلبت من جارتي: هل تريدين كوب ماء؟ وهي تعلم قصدي، قالت: أنا لا أعاشر، واللفظ الفرنسي أكثر وضوحا
je ne pense pas . ومرة أخرى بعد الغداء ذهبت إلى المقهى أسفل المطعم بعد أن سألتها ونحن في المصعد: أتشربين القهوة معي؟ قالت: إلى اللقاء، وهي تنظر إلي بحب أنها شربت قهوة على حسابي دون أن تعطيني شيئا. مرة ثالثة تقابلنا وأعطتني موعدا على ناصية شارع بول ويش وشارع المدارس، وأتيت في الموعد تماما، وانتظرت ولكنها لم تأت وبتعبير المصريين «فرقعتني» أو «ادتني زومبة» أو «ادتني بومبة». وكان حمام السباحة في الدور الرابع تحت الأرض في بيت الرياضيين الذي سكنت فيه في غرفة مزدوجة، وكانت حارسة الحمام سيدة جميلة، ذات صدر بارز، والسباحون ذوو عضلات بارزة؛ فأين أنا من هذه المنافسة غير العادلة، فعدت إلى الرومانسية من جديد مثل نجيب الريحاني مع ليلى مراد في «غزل البنات».
وفي برلين الغربية زرت جامعة فون همبولت وبحيرة البط، وسكنت ببيوت الشباب، وكنا في الإفطار أنا والشباب نجمع من الموائد المتبقية الخبز والبيض ونفطر به. وما تبقى يكون طعاما لليوم. وعلى الخروج من محطة متحف دالم كانت عربة واقفة تبيع السجق والمسطردة مثل عربات الفول عندنا على نواصي الشوارع والطرقات. وكان أحد الأصدقاء الألمان في باريس قد قدمني لأحد أصدقائه في برلين، فدعاني الصديق في برلين إلى العشاء واستقبلني هو وزوجته احتفاء بالضيف الباريسي. ولما نفدت النقود ولا أعرف أحدا، ذهبت إليه أطلب قرضا، فنظر إلي كيف تحولت من ضيف إلى سائل! وأعطاني ما طلبت. وأخبرني أحد الطلبة ببيوت الشباب أنه يمكنني العمل بالمعارض، وما أكثرها في ألمانيا! أفرد السجاجيد أو أنظم الكراسي، واليومية عشرون ماركا، فعملت وأرجعت ما اقترضت. ولما كان العمل ممكنا نهارا وليلا، فقد كنت أزور برلين صباحا وأعمل ليلا، وأنام في أحد حوائط المعرض كما يفعل الآخرون، ورأيت الألماني وصديقته يفعلان ذلك ، ولا أحد ينتبه إليهما؛ فقد جمعهما الحب والفقر.
أما فرنسا فقد زرتها مقاطعة مقاطعة مع صديقتي الألمانية بالعربة؛ غربا وشرقا، وجنوبا وشمالا. ورأيت نيس وكان، وهما ما كنت أسمع عنهما في المهرجانات الدولية للسينما. وأذهب إلى الأحياء القديمة التي لم تطلها يد التدمير في الحرب. وفي طولون تذكرت المدينة التي خرجت منها الأساطيل الفرنسية والبريطانية لهزيمة محمد علي غرب الإسكندرية. ومرة ذهبت إلى سافوا العليا
Lu Haute Savoie
الشهيرة بجبال الألب، ومكان للاستشفاء، ورأيت الثلج في قمتها صيفا وشتاء. وذهبنا إلى لوزان وجنيف لرؤية بحيرة لوزان الشهيرة والقصور على ضفافها، وفيها قصرا الرئيس المخلوع ونجله في زيارتي لجنيف.
وقد زرت إنجلترا بدعوة من جامعة أكسفورد، ووصلت إليها عن طريق النفق البحري تحت الماء الذي يربط فرنسا بإنجلترا، وكنت أخشى في البداية، ولكني لم أخش في النهاية، وتذكرت نفس النفق في إستانبول الذي يربط بين الجانبين الأوروبي والآسيوي. وأخيرا زرت الكوبري المعلق الذي يربط بين الجانبين، وعرفت أن التكنولوجيا ليست وقفا على الغرب، وكانت تركيا حليف الألمان في الحرب العالمية الأولى، وفيها امتد قطار الشرق السريع من برلين إلى بغداد.
كنت أجد نفسي نائما في محاضرات الطلاب المسلمين بشمال أفريقيا؛ فكانت علمية سياسية، في حين عند حميد الله علمية خالصة. وكنت أشعر أنني طليق اللسان عندما أتحدث عن الاستعمار والاستقلال والحرية للشعوب، ومع زميلي رشدي راشد. وفي صيف 1965م أتى المشير عبد الحكيم عامر إلى باريس للإعداد لزيارة الرئيس جمال عبد الناصر إلى باريس للقاء ديجول، وأعدت له السفارة المصرية في باريس استقبالا، وكتبت اليافطات، ورفعت الأعلام، ونظم السفير عبد المنعم النجار استقبالا، وكان من الضباط الأحرار، وجاء الطلاب من كافة أرجاء الدول الأوروبية للمشاركة في هذا الاستقبال. وذهبت وجلست في الصف الأول أمام المنصة. وكان عليها المشير، ود. محمود فوزي رئيس الوزراء، ولطفي الخولي الصحفي بالأهرام، ورئيس تحرير مجلة الطليعة الماركسي المعروف. وبمجرد ما انتهى المتحدث الأول من إلقاء كلمته بعد أن راجع السفير كل الكلمات خشية أن يكون في إحداها ما يغضب النظام ، أحسست بشيء يدفعني، فأخذت الميكروفون وقلت: سيادة المشير، كل هذه الزفة واليافطات والكلمات مزيفة؛ فقد راجعها السفير، ولا تعبر عما يجيش في نفوس الطلاب، ما يدور في نفوسنا جميعا هو منع تجديد جوازات السفر للبعض منا، وعدم تجديد المنح الدراسية لأننا مصنفون بأننا ضد النظام. وسرعان ما اختطف الميكروفون المتحدث الثالث من ورائي وأكد ما قلت، ووقف الطلاب طابورا للحديث في نفس التيار، وأنزلوا اليفط التي ترحب، وعلت الأصوات بالمنع من السفر، والحرمان من حضور جنازة الوالد، فأخذ المشير على غرة، ولم يعرف كيف يرد، وطلب من لطفي أن يرد على هؤلاء الطلبة العاقين الذين لا يعرفون أحوال بلادهم، فرد لطفي أنه اعتقل وعذب، وما زالت آثار التعذيب والكرابيج على ظهره، وكان د. محمود فوزي يبتسم ليعلن عن سروره العميق بخطاب الطلاب وأنه ما زال في مصر رجال.
وعاد المشير إلى القاهرة ليخبر ناصر بما رآه وسمعه في باريس، فطلب منه دعوة ممثلي الطلاب الدارسين في أوروبا ليناقشهم بنفسه في القاهرة في الصيف القادم، وهو ما سمي «مؤتمر المبعوثين». واستدعاني السفير في باريس كي يستفسر مني عما فعلت، فأخبرته أني قلت كلمة صدق، وبدأ في تكوين جماعة طلابية تجتمع في السفارة أسبوعيا لندرس فيها أحوال البلاد استعدادا للقاء عبد الناصر في الصيف القادم في القاهرة. واستعدادا لذلك كنا نجتمع في السفارة «مجموعة باريس»، وأسسنا نادي الطلبة الاشتراكيين من: حسن حنفي، رشدي راشد، حسام عيسى،
2
السيد يس، محمد عمران، فكنا نمثل الطلبة الدارسين في فرنسا، اثني عشر طالبا، ثمانية اشتراكيون وأربعة لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة مثل الإعفاء من جمارك العربات، توفير سكن مناسب أو سرعة التعيين. وقد اختير هذا الوفد بناء على انتخابات عامة من جميع الطلاب الدارسين في فرنسا، وحدث نفس الشيء في ألمانيا وإنجلترا، وكان التجمع الرئيسي في فرنسا، ومنها الطائرة التي نقلت الطلبة من باريس إلى القاهرة في يونيو 1966م وأعادتهم إليها، ينتقلون بعدها بالقطار إلى مقار دراساتهم في فرنسا أو خارجها؛ فما أسهل المواصلات الأرضية داخل أوروبا !
وفي هذا العام قمنا بنشاط سياسي في الموضوعات التي تحدثنا فيها مع المشير مثل الطبقة الجديدة في مصر، طبقة كبار الضباط والمديرين ورجال القطاع العام، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، والخوف من هذه الطبقة أو تضخمها. وكان تجمعا للطلبة التقدميين، نستعد فيه للقاء جمال عبد الناصر، وكان كل منا يكتب بحثا في تخصصه في أحوال مصر الاقتصادية والسياسية والثقافية؛ فكتب حسام عيسى عن أحوال مصر السياسية، ومحمود عبد الفضيل عن أحوالها الاقتصادية، والسيد يس عن أوضاعها الاجتماعية،
3
ورشدي راشد عن أحوالها الثقافية، وحسن عبد الحميد وأبو زيد رضوان ومحمد عمران عن أوضاعها القانونية، وأنا عن استقلال الجامعات، وكان البعض الآخر يجهز نفسه لخطاب شفاهي دون أن يكتب. وكان سيد يس في إحدى الجامعات الإقليمية مثل ديجون، وكان يأتي إلى باريس فأترك له غرفتي ليقضي الليلة فيها في البيت الألماني، وكنت أذهب لآخر الليل في مكان آخر، يقول هو مع صديقتي. والجوهري كان مدرس الطبيعة النووية. وأعددنا ملفا كاملا عن أحوال مصر لإعطائه إلى الرئيس عبد الناصر في الصيف عندما نقابله، ونحذره فيه من أي مواجهة مع إسرائيل لن تكون في صالح مصر. وكنا نغني: «لك يا مصر السلامة، وسلاما يا بلادي، إن رمى الدهر سهامه، أتقيها بفؤادي، واسلمي في كل حين.» وكان اللقاء في أغسطس 1966م في أكبر مدرج بجامعة الإسكندرية، وهو في قصر الطاهرة، واستمر لمدة أسبوع، انتهى بتصويرنا معه صورة تذكارية أمام قصر الطاهرة. وكان من أبرز التساؤلات: هل ما يحدث في مصر اشتراكية غربية أم تطبيق عربي للاشتراكية؟ فالاشتراكية واحدة نظريا، وإن كانت متعددة عمليا. وهو نفس السؤال الذي سأله سيد قطب في مرحلته الأخيرة: هل هم المسلمون أم جماعة من المسلمين؟ وسلمناه ملف الدراسات عن أحوال مصر، فأتانا اليوم التالي يعبر عن إعجابه بها، ولكنه يخشى من التطرف من الاشتراكيين كما يقال الآن عن تطرف الإخوان. وطلبنا منه أن يعاد كتابة الميثاق حتى لا يسمح بالفارق الطبقي أكثر من 1:10 والذي هو الآن واحد إلى عدة ملايين بل مليارات. وفي نهاية المؤتمر نشأ بيني وبين رشدي راشد حوار؛ أنا أستعد للعودة إلى مصر، وهو مصمم على البقاء في فرنسا حتى أصبح عالما كبيرا في تاريخ الرياضيات، وحصل على الدكتوراه لأبحاثه
Sur Travaux . وحاول إنشاء معهد لتاريخ العلوم بمكتبة الإسكندرية، ولكن لم تنجح الفكرة لغياب صاحبها. وحاولت إقناعه بتأسيس شيء في جامعة القاهرة من الجوائز التي يحصل عليها الطلاب ولكنه لم يستسغ الفكرة على خلاف مجدي يعقوب وأحمد زويل، بالرغم من توفر المال لديه من الجوائز التي نالها خاصة جائزة فيصل الإسلامية، بينما تقدم ناشر «من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه» لنيلها فحجبت الجائزة هذا العام. ودعوته أستاذا زائرا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، فكان بينه وبين الطلبة فرق شاسع في المستوى. ودعوته إلى إلقاء محاضرة عامة في المجلس الأعلى للثقافة باسم لجنة الفلسفة، فحضر القليل، وغادر أمين لجنة الفلسفة احتجاجا على هذه المحاضرة التي يعلو مستواها على مستوى الحاضرين. وتذكرت كلمة جان جيتون التي كتبها في آخر صورة بعثها إلي: «يجب الرهان»
Il Faut Parier ؛ فقد راهنت على مصر والجامعات العربية والإسلامية، ونلت أعلى الجوائز في مصر، جائزة الدولة التقديرية 2007م ثم جاءت جائزة النيل 2016م والجائزة البولندية من رئيس جمهورية بولندا، وجائزة الشيرازي من الرئيس خاتمي في إيران. وهو راهن على فرنسا، ونال أعلى الجوائز من السعودية، فيصل، وأصبح من أشهر علماء تاريخ الرياضيات في الغرب - أطال الله في عمرينا لمزيد من العطاء. لا نتراسل كثيرا ولكني أراه كلما أتى في اجتماع مجلس إدارة مركز المخطوطات العربية بمكتبة الإسكندرية؛ فكلانا عضو في الإدارة السابقة. وكان قد أتاني مرة في مكتبة مدرسة اللغات الشرقية يعرض علي إذا كان يحجز لي من دخله الشهري الذي كان يحول إليه جزءا، وأخرج من يده ورقة فرنكات وقعت على الأرض، فاعتذرت، وشكرته.
وكان الطلب الوحيد الشخصي من وزير التعليم حسين كامل بهاء الدين هو نقل مكتبتي من باريس إلى القاهرة بعد أن كنت سلمت مفتاح غرفة السطح التي كنت أسكن فيها إلى السفير؛ لأنني سأغادر بالطائرة ، فطلب مني الوزير أن يوافق عبد الناصر، فانتظرته وهو خارج من المدرج وشرحت له الأمر، فوافق ومضى على الطلب على الفور، وانتظرت حوالي ستة أشهر، من يونيو حتى ديسمبر. وعاد الزملاء في مؤتمر المبعوثين إلى باريس في سبتمبر 1966م، وتخلفت أنا في مصر بعد أن كنت قد ناقشت رسالة دكتوراه الدولة في السربون في يونيو من نفس العام. ولأول مرة بعد المناقشة أسير في شارع بول ميش خاوي الوفاض من هموم العلم وكأني سائح، كان همي فقط شراء النصوص الفلسفية التي تنقصني من مكتبات النصوص الفلسفية خاصة عند فران
Vrin
وأوبيي
Aubier
والمطابع الجامعية الفرنسية
. وغيرها، وكنت آخذ قوائمها وأعلم عليها باليد وأجمعها وأعطيها لمكتبة في شارع فورجيرار
Vaugerar
تعطي تخفيضا 20٪، جاء صاحبها مصر ليزورني، وهو الذي دعاني إلى الغداء. وتم شحن الكتب في ثلاثة صناديق خشبية ضخمة ووصلت للإسكندرية، وذهبت مع والدي وأخي لاستلامها، وفي الجمرك انتظر الموظف «بقشيشا»، ولما فتحها ووجدها كتبا قال: كتب! حزن. واكتفى بصندوق واحد ووقع بالموافقة على كتاب أورتيجا إي جاسيه «ثورة الجماهير ». وبعد شحنها إلى القاهرة ساعدني زوج أختي الكبرى سيد حامد في شراء ألواح الأخشاب ونجارتها من قريب لي توفي أخيرا هو علي النجار لعمل مكتبة لتصنيف الكتب عليها في غرفة من شقة الأسرة في شارع الجنزوري بالعباسية التي ما زال يقطن فيها ابن شقيقتي بعد أن توفي الوالدان والخالة. وفي هذه الأشهر الستة كتبت «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، وهو مجرد مقدمة لرسالتي الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» التي كتبت عام 1965م قبل «نحن والتراث» لمحمد عابد الجابري الذي ظهر عام 1980م والذي يسميه تلميذي أنور مغيث «مانيفستو حسن حنفي». وقد ظهر عام 1980م في دار نشر محمود الشنيطي رئيس الهيئة العامة للكتاب السابق والمؤسس لها، بعد أن جمعنا من شلة من المثقفين حوالي ستين ألف جنيه لبناء ملحق في فلته بمدينة نصر وإحضار آلات الطباعة، والبداية بتصوير النصوص القديمة مثل مذكرات أحمد عرابي، وأمده أخوه فتحي بآلات الطباعة التي كان يريد الاعتماد عليها في إنشاء مطبعته الخاصة في بدروم فلته. وبعد مدة توقف المشروع، وضاع رأس المال، وأخذ فتحي آلاته، ورد لي محمود خمسائة جنيه من خمسة آلاف تعويضا عن خسارة المشروع، وقال لي إن ذلك من ماله الخاص.
الفصل الرابع
الأستاذ الجامعي (1966-1971م)
ولا يعني الأستاذ الجامعي هنا درجة أستاذ، بل تعني بداية التدريس بالجامعة كمدرس 1967م ثم أستاذا مساعدا 1973م ثم أستاذا 1980م. ولا يعني نهايته عام 1995م بل التعيين كأستاذ متفرغ حتى عام 1980م، يجدد التعيين مرة كل سنتين بطلب القسم حتى الثمانين وكفى. ألغي الفرق بين المتفرغ وغير المتفرغ، ويستطيع الأستاذ أن يستمر أستاذا سواء درس أم منعته صحته عن التدريس على ما أذكر. وقد يكون القانون قد تغير.
تعرفت على سامي النشار بالإسكندرية وسعاد عبد الرازق ابنة علي عبد الرازق صاحب «الإسلام وأصول الحكم»، وكان من أشهر أساتذة الفلسفة بآداب الإسكندرية، وطلب مني أن أزامله في قسم الفلسفة بالإسكندرية، فاعتذرت لأن الشوق كان لجامعة القاهرة بعد حرمان طويل، عشر سنوات، وظللنا نتعاون علميا في فلسفة العصر الوسيط، وساعدني في تقديمي لدار الكتب الجامعية، ونشر أول كتاب لي «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، يحتوي على ترجمات «المعلم لأوغسطين»، «أومن كي أعقل لأنسليم»، «الوجود والماهية لتوما الأكويني». وقد كلفت بتدريس الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى بجامعة القاهرة، بعد أن تركها فتحي الشنيطي لأنه لم يكن راغبا فيها. وعندما عدت من الإسكندرية واقتربت من قسم الفلسفة بآداب القاهرة كان رئيس القسم أحمد فؤاد الأهواني الذي كنت قريبا منه وأنا طالب، واصطحبني معه إلى مكتبة عيسى البابي الحلبي في الأزهر الذي كان نسيبا له، وكان يعد لأن ينشر مخطوطا كلفني بنقله أولا بخط اليد، ولم يكن هناك كومبيوتر في ذلك الوقت، وحزنت عليه عندما غادر إلى الجزائر ولم يلق معاملة طيبة، ثم توفي بعد نشر رسائل ابن سينا في النفس، وكتب كتابا مقررا عن الفلسفة الإسلامية، وكان أولا في وزارة التربية والتعليم، فسر بعد لقائي بعشر سنوات، وأراد أن يعينني بالقسم بلا إعلان، ولكن الإدارة رفضت؛ فلا بد من إعلان، والإعلان عن درجة، والدرجة لا توجد، ولا بد من نقلها من قسم آخر مما يستدعي موافقة القسم صاحب الدرجة، وطلب القسم الذي يريد الدرجة، وعميد الكلية، ورئيس الجامعة، ووزير المالية! وهذا يحتاج عاما للحصول على كل هذه الموافقات دون أن يعترض أحد. وقابلت عبد الرحمن بدوي وكان في طريقه إلى إيران، ويريد من يحل محله، وأعلن عن درجة علمية شاملة في تاريخ الفلسفة حتى ينطبق علي الإعلان، فوافقت وأنا ليس لي عمل. وتقدم اثنان؛ عزمي إسلام في المنطق تلميذ زكي نجيب محمود وأنا، وبالطبع فضلني بدوي. ولما طلب مني القيام بإجراءات التعيين اللازمة لم أكن أشعر بأي شيء تجاه المبنى، مبنى كلية الآداب، جامعة عين شمس بالطوب الأحمر والمعمار الهندسي الصوري الشكلي، فذهبت إلى بدوي وأخبرته بأن الحيطان لا تكلمني، فسخر مني قائلا: وهل الحيطان بتتكلم يا أستاذ؟ واعتذرت له، فأخذ عزمي إسلام. وذهبت إلى سهير القلماوي التي كانت رئيسة قسم اللغة العربية لأرجوها مساندتي في مجلس الكلية في نقل درجة من قسم إلى قسم الفلسفة، فقالت بجفاء وهي تنظر إلى الكتاب المفتوح بين يديها: «عندما أعين طالبي أولا.» وتقصد عبد المنعم تليمة. رددت عليها في سري: ولكن طالبها لن يرفض؛ فأنا وهو واحد. وهي زوجة يحيى الخشاب الذي أحالني إلى التحقيق وأنا في السنة الرابعة لأني رفضت أن أدعو العميد، السيد العميد لأنه لا سيد إلا الله، وقول الرسول: «لا تسيدوني.» وكانت فيلتها في ميدان الجيش حيث أسكن في الشارع بجواره، شارع الجنزوري.
وطلب مني رئيس القسم أن أقوم بتدريس الفلسفة في العصور الوسطى منتدبا، وكان فتحي الشنيطي يقوم بها وهو لا يحبها، ففرح لأن أحدا غيره سيقوم بذلك، ولم تعرف الحسابات كيف تدفع لي أجرا؛ فأنا لست منتدبا من جهة حتى تعاملني بالمثل. وفي هذا العام زادت معرفتي بمصطفى حلمي، وكنت أذهب إليه كي أصحبه إلى الجامعة، كما كان يفعل أحمد مرسي مع عبد الحميد يونس، وعرفني بابنته ربما لغاية في نفسه، وما زلت أذكر معركتي معه عندما كان يعطيني بحث قسم الامتياز وأنا في السنة الرابعة، طلب مني أن أكتب بحثا عن نظرية المعرفة والسعادة عن الغزالي، وهو موضوع تقليدي، ولم أكن أحب الغزالي ولا التصوف، وفي الخاتمة بعد عرض البحث كتبت رأيي عن «السقوط والانعراج»، وعنيت به السقوط السياسي والاجتماعي في عصر الفتنة الكبرى ثم رد الفعل عليه بالتصوف بالصعود إلى أعلى، وهو ما شرحته بعد ذلك في «من الفناء إلى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف»، فلما قرأه قال لي اقطع هذه الخاتمة لأنها خارج الموضوع، فاعترضت بأن هذا هو رأيي الخاص، فرفض، وأعطاني المقص، وقصصت الخاتمة وكأنني أقطع قلبي. رزعت الباب بقوة، لا أدري إراديا أم لا إراديا، شعوريا أم لا شعوريا، وخرجت وكنت أخشى أن ينكسر الزجاج من وراء الحاجز الحديدي. لم ينتقم مني كما يفعل آخرون، وأعطاني امتياز، ثم حدثت هزيمة يونيو 1967م وكنت خجولا للسعي في مصلحة شخصية، والوطن كله في نكسة، ومع ذلك تمت إجراءات تمويل درجة مدرس، وتم الإعلان، وتقدمت، ولم يكن هناك منافس غيري، وعينت رسميا مدرسا بقسم الفلسفة بآداب القاهرة بثلاثين جنيها شهريا، وكنت أدفع نصفها للأسرة تكلفة إقامتي معها، والنصف الآخر قسط موبيليات أختي الصغرى حتى الزواج؛ لذلك كنت أكتب في «الفكر المعاصر» بعشرة جنيهات و«المجلة» بثمانية جنيهات و«تراث الإنسانية» بعشرين جنيها، و«الكاتب» بستة جنيهات، وكان المجموع مواصلاتي وثمن كتبي بالعربية، وحصيلة ذلك نشر بعد ذلك في «قضايا معاصرة» (جزءان): الأول «في فكرنا المعاصر». والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، أسلوب ثقافي سياسي عام 1968م، 1970م. وحذرني رئيس القسم: إياك أن تصبح مثل أنيس منصور؛ أي تترك الفلسفة إلى الصحافة، و«التراث والتجديد» لم يكن قد ظهر بعد إلا في الرسالتين بالفرنسية، فكان التحذير ليس في مكانه. وكان الموضوع الغالب فلسفة الدين، وفلسفة السياسة، والواقع العربي المعاصر، وهي الأضلاع الثلاثة في مشروع «التراث والتجديد». ووصلتني دعوة من المعهد الفرنسي في روما برياسة كاستيلي لحضور مؤتمر عن التأويل والهرمونطيقا في يناير 1968م، ورفضت السلطات الأمنية بالمجمع سفري، فأرسلت برقية إلى عبد الناصر أخبره بالأمر، فتم الرد مع راكب موتوسيكل بعد أربع وعشرين ساعة بالموافقة على سفري، وقدرت الرئيس، وأدركت خطورة أجهزة الأمن الموازية لسلطة الرئيس.
ودرست معظم المواد تقريبا: الفلسفة العامة للسنة الأولى، وفلسفة العصر الوسيط وعلم الكلام في السنة الثانية، والفلسفة الحديثة في الثالثة، وفلسفة التاريخ، والفكر العربي المعاصر في السنة الرابعة؛ فقد كنت شابا متحمسا يشعر بالخجل من الهزيمة 1967م، ويقرأ تاريخ الفلسفة من خلال المقاومة ابتداء من الدوناتيين ضد أوغسطين، ضد سلطة دفاعا عن الإمبراطورية الرومانية حتى فشته ونداءاته للأمة الألمانية ضد احتلال نابليون لألمانيا، وكان يحضر محاضراتي جميع الطلاب من جميع الكليات ورجال الأمن.
وكانت قبة جامعة القاهرة تبدو لي من شارع الجامعة وأنا داخل إليها مثل معبد البانثيون وقبة السربون. وكنت أشعر بالفرح داخلي أنني في حضرة العلم والعلماء في الصباح، وأحزن وأنا أغادرها في المساء، ولسان حالي يقول: هذه هي الجامعة التي تعلمت فيها منذ عشر سنوات والآن أنا أدرس فيها «عود على بدء»، أعود إليها منتصرا بعد أن غادرتها مهزوما ومتهما بقلة الأدب في مخاطبة العمداء، أعطي مثلا جديدا للطلاب بدلا من تقليد الجيل القديم، يكفي الارتجال دون كتاب مقرر وإعطاء الأسئلة من أول العام مكتوبة بالطباشير الأبيض على السبورة السوداء، وجامعا بين الفكر والواقع، ومعطيا خطابا من القلب إلى القلب يجمع بين العقل والوجدان. ومن هنا بدأ مشروع «التراث والتجديد»، كنت أشعر بانتمائي المطلق له؛ لذلك جعلت وديعة باسم كلية الآداب للصرف من عائدها على البحث العلمي والمؤتمرات التي تربط بين الأقسام مثل اللغة، «النص والتأويل»، وتشجيع الأقسام على عقد مؤتمراتها السنوية للخروج من العلم إلى الثقافة، وأنا سعيد بذلك، وما زلت حتى الآن أتوحد معها، ولا أدري إذا كانت هي تتوحد معي أم لا.
وكانت هزيمة 1967م طعنة في قلب كل مواطن. وتحولت من باحث فلسفي إلى مفكر وطني كما حدث لفشته بعد احتلال نابليون لألمانيا؛ إذ تحولت محاضراته كلها إلى فلسفة للمقاومة، الأنا في مقابل اللاأنا من أجل الوصول إلى الأنا المطلق، وهو الجدل الهيجلي.
1
وقد كتب هيجل ضمن مؤلفات الشباب مقارنة بين فشته وشلنج. وكان طلاب الكليات الأخرى مثل كلية الحقوق يأتون إلى الآداب لسماعي، ومنهم جابر نصار رئيس جامعة القاهرة السابق.
2
وملأت المجلات الثقافية ضجيجا فلسفيا عن المقاومة لتقوية الروح المعنوية للشباب. وشاركت في مظاهرات مارس 1968م ضد ما يسمى بأحكام الطيران التي كانت مخففة مقارنة بحجم الهزيمة، وقبض على كثير من المتظاهرين. وكنت أدعو للتحقيق في أسباب الهزيمة، والمشاركة في حرب الاستنزاف (1968-1969م) حتى توفي عبد الناصر عام 1970م، وشاركت في عزائه. وحزنت على تصفية الناصريين في 15 مايو 1971م، ثم استدعاني رئيس الجامعة محمد مرسي أحمد معترفا بأن محاضراتي عن المقاومة مسجلة في قسم الدقي، وهناك تحذيرات لي عن طريق رئاسة الجامعة بأنني موضوع تحت المراقبة، والأفضل أن أصمت أو أن أخفض الصوت أو أن أقبل الدعوة التي أتتني من إسماعيل الفاروقي لأزامله في التدريس في الولايات المتحدة، فقبلت الرحيل.
وكان الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ظاهرة تنتقد الأوضاع السياسية، وتدعو إلى المقاومة لما بعد الهزيمة. استمعت إليه لأول مرة في كلية الحقوق خاصة «جيفارا مات» التي كان ينهي بها الغناء. وكانوا ثلاثة بعد أن انضم إليهم محمد علي الطبال، كانوا فقراء لأنه لا وظيفة لهم، وكانوا يسكنون في حوش آدم بشارع المعز لدين الله حيث نشأ نجيب محفوظ بالجمالية، وحيث نشأت أنا بباب الشعرية بجوار باب الفتوح. كان يحيي الطلبة والعمال مثل لجنة الطلبة والعمال التي تكونت في عام 1946م ضد الإنجليز والقصر، والمناداة بالاستقلال التام أو الموت الزؤام. وكان أمن الجامعة يود القبض على هذا الثلاثي الثائر وعلى حشد الطلاب، ولكن لم يكن قادرا؛ إذ كان يختبئ في عربة دخول الجامعة وفي الخروج منها، فكتبت لأول مرة عن هذه الظاهرة مقالا في «الكواكب»، المجلة الأسبوعية التي كان يرأسها رجاء النقاش، وكان المقال بعنوان «الشيخ إمام إمام المثقفين»، ولكن رئيس التحرير غير العنوان إلى «الشيخ إمام والمثقفون»، وكأنه قد استكثر عليه أن يكون إماما، وكان أول مقال أكتبه، وكان مثل الشيخ سيد درويش في ثورة 1919م. وكلاهما له لقب الشيخ، وكانت ألحانه يغنيها الطلاب معه أو بدونه مثل «يا بهية»، وانضم إليه زين العابدين فؤاد بأشعاره الثورية مثل:
اتجمعوا العشاق في الزنزانة
اتجمعوا العشاق في باب الخلق
والشمس من الزنازين طالعة
والغنوة طالعة من الحلق
اتجمعوا العشاق في زنزانة
مهما يطول القهر مهما يطول الفقر
مهما يطول القهر بالسجانة
مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟
وكنت أشارك في تهريبه وإحضاره إلى كلية الآداب في إحدى المدرجين الكبيرين 74 أو 78. وكان العميد لا يستطيع أن يفعل شيئا أمام حشد الطلاب وشعورهم بالهزيمة والقهر والفقر.
وكان هناك نظام الأسر الطلابية ومنها أسرة مصر التي كان يغلب عليها الطابع الشيوعي. وكان لا بد لكل أسرة من عضو هيئة تدريس يكون مسئولا عن نشاطها، وكان رضوان الكاشف هو رئيس أسرة مصر، ولا تجد رائدا لها حتى تصبح شرعية، فتطوعت لذلك. وكان نشاطها يتعلق بتحرير مصر واستقلالها كما كانت الحركة الوطنية في الأربعينيات. وكان رضوان الكاشف قد اختار عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية موضوعا للماجستير وأنا المشرف عليه. وكانت الخطة في صياغتها وأسلوبها مثل خطب النديم، فطلبت منه أن يحول الخطابة إلى برهان، ويبدو أن الطلب كان صعبا، فتوجه إلى معهد السينما، وتخرج منه، وأصبح مخرجا ناجحا، له عدة أعمال يشار إليها بالبنان مثل «عرق البلح». وأنوي الكتابة عنه إذا أمد الله في العمر، كما فعلت مع المخرج توفيق صالح إعجابا وتقديرا لأفلامه الجادة مثل «درب المهابيل».
واستدعاني صوفي أبو طالب رئيس الجامعة وسألني: هل أنت شيوعي مثل هؤلاء الذين تجلبهم للجامعة؟ فأجبت لا، ولكني مثل جمال الدين الأفغاني، فرد قائلا: الشيوعي! وهو نفس السؤال الذي سألني إياه الرئيس السابق محمد مرسي عندما استدعى بعض المثقفين إلى قصر الاتحادية لمناقشتهم، وسأل: أين د. حسن؟ فقمت، فقال: يقولون عنك شيوعي! وكان يظن أني من الإخوان، وقد سافرنا سويا في مجموعة حوار في ألمانيا قبل أن يصبح رئيسا، فأجبت: لا، بل أبو ذر الغفاري. فأجاب أحد الحاضرين : شيوعي! فقد كانت صورتي في الإخوان أني شيوعي، وصورتي عند الشيوعيين أني إخواني، وصورتي في أجهزة الأمن أني إخواني شيوعي. ولم يكن «اليسار الإسلامي» قد انتشر بعد ليحل التناقض بين الإسلام والشيوعية أو الاشتراكية أو الأيديولوجيات العلمانية كالليبرالية والقومية. وما زالت أغاني الشيخ إمام ترن في أذني كلما اكتأبت أو شعرت بالإحباط.
ولما كنت ما زلت أعزب، وقربت التزاماتي الأسرية على الانتهاء حتى أفكر في نفسي، ومنذ أن عدت من فرنسا وعينت بقسم الفلسفة بآداب القاهرة التقيت بمجموعة من الشباب مثلي وعلى رأسهم عبد المنعم تليمة، ومنهم عبد الغفار مكاوي، وعبد المعطي شعراوي، والنعمان القاضي. كان من ينظم الشعر، ومن يكتب القصص، ومن يترجم عن الآداب الأجنبية، ومنا من ينظر للثورة وهو عبد المنعم تليمة الذي استفدت منه كثيرا في استعمال المصطلحات الثورية ومناهج التحليل الثوري. وكنا نقضي ليلة أسبوعيا في منزل أحدنا، نحاول التعرف على أسباب الهزيمة ومقومات النصر. وفي نفس الوقت كنا نحتاج إلى الحب، ومن أقرب إلى الحب من معيدات الكلية اللاتي ربما يعشن نفس القضية؟ وكن ثلاث معيدات تخرجن من قسم الإعلام عندما كان ما زال جزءا من كلية الآداب. كانت أكثرهن جمالا ونشاطا وحيوية ورياضة وسباحة في حمام نادي التوفيقية متزوجة من ضابط شاب، وتريد الانفصال عنه، وكان أكثر المرتبطين بها زميلا من قسم الفلسفة، وكان يعد رسالة ماجستير في علم الجمال عند كانط في «نقد ملكة الحكم»، كان يسكن في غرفة في شبرا، وليلة لا تنسى قضيناها، وهي ترقص لنا، وأنا أقول في نفسي ما أحلى الحب والزواج! ولكن هاتفا داخليا كان يقول لي دائما احذر من المطلقات وانتظر العذراء، ومن جرب الطلاق أول مرة لا يستبعد أن يمر به مرة ثانية. وكان الارتباط بالعذراء من بقايا الرومانسية القديمة، وقد تزوج الرسول مطلقة، خديجة، وأحب عائشة العذراء؛ فلا تعارض بين الاثنين. ومن منا قادر على أن يكون مثل الرسول؟
وقد بدأت التفكير في الزواج بعد أن بدأت في تسديد آخر قسط في جهاز شقيقتي الصغرى نادية، خمسة عشر جنيها شهريا، ولم يبق إلا خمسة عشر جنيها؛ فقد كان مرتبي ثلاثين جنيها كنت أساعد بها الوالد والوالدة لأن معاش والدي، خمسة جنيهات، لا يكفي. وكان أخي سيد قد تكفل بزواج باقي أخواتي، سعاد وفاطمة وعلية، بعد أن تزوجت أختي الكبرى نبيهة على اسم والدتي قبل أن يتوظف أخي. وكنت أعيش من دخلي من المجلات الثقافية، «الفكر المعاصر» و«الكاتب»، و«تراث الإنسانية»، و«المجلة»، وبعض الأحاديث التلفزيونية أعيش من دخلها وأعول أسرتي منها وما تبقى لشراء الكتب، نصوص الفكر الإسلامي؛ فقد كان لدي من الفكر الغربي الأوروبي ما يكفي. وكان البيت مرة خاويا من أي نقود، ورجعت من التلفزيون بأربعة جنيهات، ومررت على والدتي ووالدي، فقالت الوالدة: «عاوزين نبيض الشقة يا أبو علي.» فأعطيتها ما معي، وعدت إلى المنزل خاوي الوفاض كما نزلت، وكانت زوجتي تفعل نفس الشيء مع أسرتها، ولكن كنا سعداء، ونعيش بأربعة جنيهات في الأسبوع بما فيها المواصلات، وكانت الأشياء رخيصة وليس كما هو الآن. كنت سعيدا بشبابي وبشبابها، وكان الحب بيننا هو المانع من أي شقاق نسمع عنه في الأسر الحديثة التكوين وكما تصور الأفلام المصرية.
وأخيرا قدمني عبد المنعم تليمة إلى طالبة دراسات عليا، تدرس المسرح المصري عند يعقوب صنوع بإشراف شكري عياد، وفي نفس الوقت طلبت من أستاذها من يترجم لها بعض العبارات بالفرنسية التي وردت في أعمال يعقوب صنوع، فنصحها بالذهاب إلى شاب أتى حديثا من فرنسا، ويستطيع مساعدتها. وتقابلنا في مكتبة الجامعة، وكنت أقوم بما تطلب وأنا بجانبها أنظر إليها فأرى العينين مع
Eye Liner
الأزرق، وأشعر بالرقة والاحترام. وعرفت أنها تعمل أيضا في مكتبة الجامعة الأمريكية، فتواعدنا مرة في حديقة الجامعة الأمريكية بجوار النافورة، ورأيت جمال القوام وطريقة الحوار المتحضر والرشاقة، وكان ذلك في يوم 7 أغسطس 1969م، وما زلنا نتذكره كل عام، ونحتفل به. وفي نفس الوقت كان لقاء مع محمد حسن خليفة قبل سفره إلى جامعة تمبل لاستكمال الدراسة، وهي الجامعة التي كان فيها إسماعيل الفاروقي الذي دعاني إلى مصاحبته في التدريس بالجامعة بعد أن تعرفت عليه في جامعة القاهرة أستاذا مدعوا من يحيى الخشاب، بقسم اللغات الشرقية، وكان متخصصا في فلسفة الدين أو تاريخ الأديان. ثم تواعدنا على الغداء في نادي التوفيقية الذي كان يحق لأساتذة جامعة القاهرة الاشتراك فيه بخمسة جنيهات، وكانت وجبة الغداء بسبعة عشر قرشا ونصف، وأنا أسبح لأعرض قدراتي الرياضية، حدث ذلك عدة مرات. ومرة وأنا خارج ظهرا لاحظت والدتي أنني لا أتغدى في المنزل، وهي تطبخ لي، وقالت لي: «حاسب ولاد الناس يا أبو علي.» فطمأنتها بأن الموضوع جاد. وسألتها مرة: أتريدين أن تعيشي معي دائما؟ فأجابت: «يا ريت.» فاطمأننت إلى صدق العواطف المتبادلة. وسألت مرة أخرى: ولكني إنسان صاحب رسالة، أعد مشروعا قد ينقذ الأمة من كبوتها، وذلك يقتضي الجلوس على المكتب طيلة العمر، لا زيارات لأقارب أو أصدقاء؛ فوقتي كله للعلم ولأداء الرسالة ، فوافقت. ستعيشين مع ضرة، وهو العلم، فوافقت، فاستغربت! وفرحت أن فتاة مصرية لها هذا الوعي العلمي. ولم تطلب هي شيئا، لا خطوبة ولا مهرا ولا سكنا! ولما كانت دفعة جابر عصفور وقد أصبح صديقي طلبت منه أن يذهب معي إلى أسرتها للتعارف فوافق، واتفقنا على الالتقاء في ميدان التحرير، وذهبت قبلها إلى شارع معروف واشتريت بطة، وطلبت من «الفرارجي» لف رقبتها بشريط أحمر وفي آخره «فيونكا»، فطلب من صبيه أن يفعل ذلك، فتردد، وصفعه الفرارجي على وجهه، وقال له: «وأنت مالك.» البيه عاوزها كده، ووضعتها زوجته ثريا وهي من نفس الدفعة في كيس تحت القدمين وهي جالسة. ووصلنا إلى المنزل ووضعته ثريا على الأرض وهي «تقاقي»، فخاف الجميع أولا ثم ضحكوا، ودعتني والدة العروس لأن أذوق منها بعد أن طبختها فاستجبت.
وسافرت إلى مرسى مطروح في رحلة مع بيوت الشباب، وراسلتها شوقا إليها، وجاءتني بهدية صغيرة للذكرى أشبه ما يكون بالإناء العربي، أرضيته خضراء وعليه زينة ذهبية صفراء، ثم دخلت مستشفى هليوبوليس لعملية جراحية، وذهبت لزيارتها مع أخي سيد، وقمنا بما يقوم به المحبون في الواقع أو في السينما. واتفقنا على موعد رسمي للقاء الأسرتين، كان والدها متوفى ولها شقيقة مطلقة ولديها ابن وبنتان والكل يسكن في شقة واحدة بالقرب من ميدان الحجاز بمصر الجديدة، وكنت أنا من مواليد باب الشعرية قبل أن ننتقل إلى العباسية، وكانت هي من مواليد ميدان الجامع قبل الانتقال إلى ميدان الحجاز، فكنا متقاربين من حيث أصولنا الاجتماعية. كانت المشكلة هو الرصيد المالي، لم يكن لدي إلا مرتبي، وهي أيضا مرتبها الذي كان يبلغ ضعف مرتبي، هي تعول أسرتها، وأنا أعول مع أخي سيد أسرتي، فأين لي بالشبكة والمهر والسكن؟ وأين لي بتكاليف الخطوبة وكتب الكتاب والزفاف؟ أخبرها أحد أصدقائها الذي يعمل في الإعلام والسياسة بوجود شبكة للخطوبة بثلاثة جنيهات مثل الماس تماما، وذهبنا إلى الصاغة، واشترينا دبل الخطوبة، وكنا بها فرحين. وعدنا إلى مقهى أعلى سينما ريفولي للاحتفال بها، والنادل ذهابا وإيابا ينظر إلينا وهو يحمل الطلبات، ثم أقمنا ليلة الخطوبة في منزلها، وكان معظم المدعوين من كلية الآداب وفي المقدمة أحمد مرسي وهو يرقص الرقص الشعبي. وجاء أحد أقربائها، قريب عمر مكرم، وكان هو رجل العائلة الحاضر شاهدا على كتب الكتاب، وقد تم في نفس الليلة الخطوبة. وأحيط الدور الأرضي بساتر من محلات الفراشة، وكانت ليلة، الكل فيها سعيد، الوالدان وأخي وزوجته والأخوات المتزوجات وأزواجهن وأولادهن، وشقيقتها وأولادها وأم العروس التي طالما انتظرت زواج ابنتها، وطبعا أنا والعروس. كان الحفل بسيطا، ولم يقدم إلا المشروبات والجاتوه. وقبل انتهاء الحفل رأيت ربما من الأفضل أن آخذ عروسي للسهر في مكان ما. ولما كان جيبي خاويا طلبت من زوج أختي علية د. محسن الطبيب إذا كان معه نقود، فأجاب: خمسة جنيهات، أخذتها سلفا، وذهبت والعروس إلى شارع الهرم في باريزيانا، ورقصنا ثم عاد كل منا إلى منزله.
وكان علي أن أدبر بعض المال للمهر ثم لتأسيس شقة السكن دون أن أفقد الوقت. وكنت قد قرأت «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإسبينوزا وأنا في باريس. وكنت أقبل نفس أفكارها خاصة عن العنوان الفرعي «في أن حرية الفكر ليست خطرا على التقوى، ولا على سلامة الدولة، بل القضاء على حرية الفكر فيه قضاء على التقوى، وسلامة الدولة.» وكنت آتي بهذا العنوان الفرعي كسؤال آخر العام في مادة الفلسفة الحديثة، للسنة الثالثة أطلب فيها شرح العبارة. وقمت بترجمتها، وكانت ترجمة جيدة بفضل الصديق فؤاد ذكريا الذي راجع وصحح الترجمة، فكانت من أفضل الترجمات. وله عشرات الطبعات التي لا أعلم عنها شيئا، ومقرر على معظم الجامعات في درس الفلسفة الحديثة. وكانت المكافأة أربعمائة جنيه لم تصرف إلا بعد الزواج والإنجاب بمناسبة حرب أكتوبر 1973م. وكانت الخطوبة عام 1969م، والزفاف في 30 أبريل 1970م في نادي التوفيقية حول موائد وأطباق في كل منها إصبع موز وبجواره زجاجة كوكاكولا، وفي الطبق قطعة من الحلوى، وتورته دورين أحضرها أخي سيد. وأنجبنا حازم الطفل الأول عام 1971م، وهو الآن وزير مفوض وقنصل مصر في بورتسودان بالخارجية. وقد غنى فيه العزبي الذي كان زميلا لنا في الثانوية، خليل أغا، مع أبو زهرة، وغنت مها صبري بدون «نقطة» لأن أخي سيد كان أستاذا لشقيقتها، وطلبت فقط أربعين جنيها للعازفين دفعها أخي سيد. وصاحبنا مصور إلى منزل الزوجية في عدة أوضاع منها العريس يحمل العروس. ولولا أخي سيد ما كان الفرح قد تم. كان معظم الحضور من الأقرباء وزملائي في كلية الآداب وزملاء العروس في الجامعة الأمريكية، وأقارنه الآن بالأفراح في الفنادق خمسة نجوم والتي تنفق فيها عشرات الآلاف.
وكانت الشقة السكنية على ناصية شارع الحجاز وميدان الحجاز كبيرة، أربع غرف وصالة، قفلنا البلكونة فأصبحت خامسة منها حجرة مكتبي، كانت مشغولة قبلي، وأعطاني صاحب المنزل أسبوعين مجانا لو شئت لبياض الشقة لما علم أننا عروسان، كان الإيجار أحد عشر جنيها طبقا للجان تقدير الإيجارات منذ أيام عبد الناصر، وكان يملك مصنعا بشبرا الخيمة، وجاءني مرة وهو حزين لأن أخاه قد قتل، والعائلة تطالبه بالثأر من القاتل وعائلته، وهو في حيرة، هل يفعل أم لا يفعل، وطلب نصيحتي باعتباري أستاذ فلسفة، فنصحته بألا يفعل لأن الثأر حلقة لا تنقطع، وأن هناك قانونا يأخد له حق القتيل من القاتل، فاستمع الرجل إلى النصيحة، ولكن صورته أمام أهله لم تكن كريمة، فاغتم ومات. وتركتها بعد خمسة وعشرين عاما، وفيها ولد الأولاد الثلاثة، حازم 1971م، حاتم 1976م، حنين 1979م، وفيها ظهرت «قضايا معاصرة» (جزءان)، الأول «في الفكر العربي المعاصر»، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، كما ظهرت «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة أجزاء)، «من النقل إلى الإبداع» (ثمانية أجزاء)، و«الدين والثورة في مصر» (ثمانية أجزاء)، وما زلت أحن إليها كلما مررت بها، وقد أصبحت مرة محل كاوتشوك ومرة كوافير. وندمت على تغير رسالة المكان، وقد ملأت طرقاتها بالرفوف لوضع كتبي حتى تراكمت على الأرض، وأحسست بضرورة توسيع المكان، وتركت الشقة لأصحابها دون أن أتقاضي مليما واحدا (خلو رجل) لأنه لم يطلب مني شيئا عندما سكنت فيها، واحدة بواحدة، رجاني فقط أن أسلم الشقة لوالدته لأنها ستكون كبيرة السن، ولا تستطيع صعود السلم في منزل ليس به مصعد.
وكان أقرب الأقسام إلي قسم اللغة العربية حيث كان يدرس أخي سيد وأصدقائي الأوائل مثل عبد المنعم تليمة ونعمان القاضي، ونبتت أفكاري الثورية معهم عندما صفيت المعارضة من الجامعة عام 1981م، كان ستة منها من قسم اللغة العربية حيث كانت تدرس زوجة الرئيس، وأنا من قسم الفلسفة وأمينة رشيد من قسم اللغة الفرنسية وزوجة رشدي راشد السابقة، ثم قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، والشباب فيه مثل عبد المعطي شعراوي وأحلامنا في عمل سلاسل للأعمال الأدبية اليونانية واللاتينية المترجمة، ثم كلية دار العلوم حين كانت عمادته في يد محمود قاسم عندما كانت الكلية في المنيرة، وتعرفت على شباب الأساتذة هناك، قلبي مع دار العلوم، وعقلي مع الآداب، ولكن كلا الطريقين يؤديان إلى نفس الغاية، وبلغة العصر الوسيط المسيحي «أومن كي أعقل»، منهج دار العلوم، «وأعقل كي أومن»، منهج كلية الآداب. يعرفون الحقيقة ويبرهنون عليها، وأنا أبحث عن الحقيقة كي أبرهن عليها. يدافعون عن الله وأنا أدافع عن الناس. لا خلاف بين الإثنين؛ فالله هو رب الناس، ملك الناس، إله الناس. ومن دار العلوم تخرج إبراهيم بيومي مدكور، وسيد قطب، ومحمد غنيمي هلال. وقد تبرعت بجائزة الدولة التقديرية، ربعها لقسم اللغة العربية باسم أخي سيد، والربع الثاني لقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، والربع الثالث للجمعية الفلسفية المصرية، والربع الأخير وزعته على الأقارب الذين كانوا يستحقون العون.
وكنت أعجب من الأساتذة الذين يدرسون من كتاب لهم مقرر على الطلاب، والطلبة لا حيلة لهم إلا حفظ الكتاب واستذكاره، فإذا جاء السؤال خارج المقرر اعترضوا؛ فكانوا يذاكرون الفلسفة على أنها واجب للحفظ. أما أنا فكنت أتساءل مع الطلاب عن إشكالات الفلسفة والتي لا إجابة لها عندي أو عند أحد؛ فعندما كنت أدرس أوغسطين في الفلسفة المسيحية كنت أتساءل: هل العلم يأتي من الخارج أم من الداخل؟ (محاورة المعلم). هل المسيحية ديانة وطنية أم ديانة عالمية؟ (دوناتوس). هل أومن كي أعقل أم أعقل كي أومن؟ (أنسليم). هل الوجود له ماهية أم الماهية لها وجود؟ (توما الأكويني). وكنت أعطي الأسئلة أول العام حتى يفكر فيها الطالب. وعندما كنت أدرس الفلسفة الحديثة للسنة الثالثة: هل حرية الفكر خطر على الإيمان وعلى سلامة الدولة أم إن القضاء على حرية الفكر فيه قضاء على الإيمان وسلامة الدولة؟ (إسبينوزا). هل الشك له استثناءات أم شك في كل شيء؟ (ديكارت). اشرح معنى العبارة الآتية: «كان لزاما علي هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان» (كانط). وفي السنة الرابعة في فلسفة التاريخ: كيف ظهرت فلسفة التاريخ في الغرب؟ لماذا غابت فلسفة التاريخ في تراثنا القديم؟ في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ ولم تكن هناك إلا نصوص يقرءونها كديكارت، وإسبينوزا، وكانط، ولسنج، وابن خلدون. والآن في الجامعة المفتوحة أصبحت الجامعة وسيطا بين الأستاذ والطالب في الكتاب المقرر، تشتري الكتاب من الأستاذ وتطبعه وتعطيه للطالب، وتأخذ المكسب المقرر للناشر، ويظل الطلاب في هذه الدائرة، وكنت أحسبهم مثلي.
وأثناء حياتي الجامعية لم أرفض أي انتداب ابتداء من قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة عين شمس، عندما كان فؤاد زكريا رئيسا للقسم، وكنا ما زلنا أصدقاء، ثم قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية عندما كان فتح الله خليف رئيسا للقسم قبل أن يغادر إلى قطر، وانتدبني على الرغم من منع صوفي أبو طالب رئيس جامعة القاهرة له، وكان العميد أحمد أبو زيد رئيس القسم. وانتدبت للتدريس في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة بني سويف والتي كانت حينئذ فرعا من جامعة القاهرة، وكان أخي عميدا لها، وانتدبت للتدريس في فرع الخرطوم قبل أن تستقل الآن وتسمى جامعة النيلين. وعرفت عن قرب الشخصية السودانية، طيبتها وبساطتها وحبها للشعر والأدب. وكانت فرصة أرى فيها بعض المفكرين السودانيين وصوفيتهم؛ مثل محمد محمود طه الذي شنقه النميري بتهمة الإلحاد. ورأيت بعض الأولياء وهم يقبلون أيديهم وأرجلهم ويأخذون بصاقهم ليدهنوا به أجسادهم، ومؤلف أحدهم الرئيسي مجرد تجميع للآيات والأحاديث. ورأيت موالدهم للذكر ليلا في ضوء القمر. وفي الجامعات الأجنبية درست أستاذا زائرا لمدة فصل دراسي واحد أو شهر في جامعات بريمن وفرانكفورت وتمبيريه
Tempere (فنلندا)، وروما، وميلانو، وصقلية، وشاهدت آثار المسلمين فيها.
الفصل الخامس
السفر إلى أمريكا (1971-1975م)
سمعت نصيحة رئيس الجامعة بأن أقبل دعوة إسماعيل الفاروقي لمزاملته في التدريس في جامعة تمبل بمدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا؛ لأنه قد لا يستطيع حمايتي، بعد أن انتقل إسماعيل من جامعة سيراكوز
syracuse
إلى جامعة تمبل. واستعددت للرحيل، زوجتي وأنا وطفلي حازم وعمره حوالي ستة أشهر؛ إذ كان السفر أول سبتمبر، وهو موعد بداية الدراسة في الجامعات الأمريكية. أرسلت الجامعة لي تذكرة السفر، واقترضت من زوج أختي الكبرى سيد حامد ثمن تذكرة زوجتي حوالي ألف دولار، وكان الدولار وقتئذ بأربعين قرشا أو أقل. وكان مرتبي حوالي ألف دولار، وأرسل إلى أسرتي جزءا. وكانت الجامعة قد حجزت لي سكنا بيورك تاون
York Town . وهو سكن لطلاب الدراسات العليا، وكان في البدروم على الشارع رقم 13 الذي أعبر لكي أكون بالجامعة. بعدها بأشهر قليلة انتقلت إلى سكن آخر في المواجهة للأساتذة في كوني هول
Coony Hall
بالدور الأول، شقة فسيحة بغرفتين مع حائط زجاجي يطل على الحديقة في فناء المنزل، وركب فيه المدير شواية لحفل تعارف كل نهاية أسبوع، وكان هو من تعرف على طالبة كندية تذهب معه إلى غرفته بعد حفل الشواء والبيرة. كانت زوجتي فريدة وابني حازم معي، وكنت أتعرف على الشباب والشابات في الحفل. وكان حازم يمسك شعر الفتيات المستلقيات على الحشيش، وكانت فرصة للتعارف أكثر، وكان ينتظرني خلف الزجاج، ويهلل ويخبط بيديه وقدميه عندما يراني قادما، وأدخل فيشتكي لي أمه، فاستجيب له وأقول: ضربتك أنا عارف حتى يكف عن البكاء.
وجامعة تمبل في فيلادلفيا في وسط الحي «الأسود». وكان إسماعيل الفاروقي حريصا أن يجعل دروسه للطلبة المسلمين في الجامعة مع لقاءات لهم حرة في مركز النشاط الطلابي
Student Activity Center
الذي كنا نؤدي فيه صلاة الجمعة. وفي الغرفة المجاورة جمعية اللواطيين يغنون ويرقصون. ولا تعارض بين المجموعتين في عرف الجامعة طبقا لحرية الرأي، واستقلال الجامعات، والنشاط الطلابي الحر. وكان حريصا على إسلام الآسيويين والأفارقة والعرب والأمريكيين، وهو إسلام تقليدي عقائدي شعائري، على عكس إسلامي أنا الاجتماعي السياسي الثوري، وهو التقابل التقليدي بين اليمين واليسار. كان حريصا على تقوية إيمانهم، والحرص على شعائرهم، وكنت حريصا على تقوية عقولهم، وثورتهم على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وفي مقدمتها الفقر والظلم. نعيد الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة. وكانت هناك محاضرات عامة، نشاط حر للجامعة أشارك فيه ويحضره جميع الناس خدمة للمجتمع، وكنت أخشى من ضعف إنجليزيتي ولكني كنت مفهوما. وكان بيته مفتوحا للطلبة والزملاء وهو ما لم يتعوده الأمريكيون، زوجته أمريكية مسلمة (بيضاء) مثله في العقيدة والسلوك. وكنا نذهب إلى مساجد المسلمين في الشارع الثالث عشر لنخطب فيهم الجمعة ونصلي، ونعطي درس العربية. كان من الأساتذة من يتعاطفون مع إسرائيل مثل فرانك ليتل
Frank Little ، يكرهون العرب، لله في الله، وهكذا يفسرون المسيحية. وكان منهم العلماء الذين يفسرون الدين نفسيا واجتماعيا ولغويا وتاريخيا. فتعلمت منهم ما هي المداخل المختلفة لدراسة الدين، ليس فقط وحيا من عند الله إلى الرسول بواسطة جبريل، وأن التاريخ عامل حاسم في تكوين التوراة والإنجيل. وهو ما نتحرج منه حتى الآن؛ فكل شيء يأتي من السماء ولا شيء يصنع في الأرض.
وبعد أن غادرت بعشرة أعوام تقريبا بعد خصام طويل معه من اتجاه المسلمين نحوي، وأنني طالب مكانة عندهم، وأبحث عن عمل دائم في أمريكا، اغتاله هو وزوجته أحد المسلمين السود المتعصبين لأنه لا يعلم الإسلام كما يجب. ورواية أخرى تقول إنه تدبير صهيوني لخشية إسرائيل من أفكاره ووقوف المسلمين ضدها. وهو فلسطيني الأصل من حيفا، من مهاجري 1948م، واعتدوا على ابنه صخر لما علموا في الجيش أنه من المسلمين البيض، واختفت البنتان في الدواليب ليلة العدوان، فنجتا، وإلا كانت الأسرة كلها قد قضي عليها. وقد علمت بعدها أن القاتل كان جيمس جون أحد المسلمين السود المتعصبين، وحكم عليه وأعدم. وقابلته آخر مرة في دولة الإمارات العربية المتحدة في جامعة العين، كنت أستاذا لفصل دراسي، وكان هو مدعوا من أحد أصدقائه كمحاضر عام، نظر كل منا إلى الآخر دون حديث طويل. حاول أحد الطلبة السودانيين الاعتداء علي، وقذفني بالكرسي أثناء الصلاة، يبدو أنه اعتقد أنني من الكافرين، ولا يجوز الصلاة معه أو خلفه ولا حتى الحديث معه أو الاستماع إليه. لم نسمع عن أحد من طلبته كان له شأن كبير في العلم، إما وصل إلى الإدارة أو إلى الإعارة الطويلة أو إلى بناء فندق على الساحل ليعيش منه. مكثت أربع سنوات بالجامعة، وأرادوا تجديد عقدي ثلاث سنوات أخرى، فرفضت لأنني لا أستطيع البعد عن مصر؛ فطلابي أولى بي، ووطني أحق علي من الغربة. ولما أرادت زوجتي إكمال دراساتها في الأدب المقارن، ويستحيل ذلك لوجود طفل، قررنا إرساله إلى مصر مع والدتها وخالته. وكانت لحظة فراق وهو يبكي في المطار تاركا أباه، ووجوده بين يدي مضيفة غريبة عنه. واستقبلوه في مطار القاهرة وهو يبكي حتى نسي الأصل، وارتبط بالفرع. وكان عمره يومئذ ستة أشهر يكاد يمشي، ويستقبلني بفرح من وراء النافذة وأنا عائد من الجامعة، ويأخذ كتبي ويفرق أوراقها تقليبا كما أفعل، فنقلناه من السعادة إلى الشقاء، وهو لا ينسى لنا تلك القسوة، ونحن لا ننسى جرم ما فعلناه. وبعد عام ذهبنا إلى زيارته في الإجازة الصيفية، لم يتعرف علينا، وكان يهرب منا إلى أولاد خالته الأطفال الكبار. وأخذناه إلى الإسكندرية فلم ينم طيلة الليل وهو ينادي: «ماما سعاد.» وهي حماتي. ثم تكررت المأساة عندما تركناه مرة ثانية وغادرنا، وربما تساءل: من هؤلاء الناس الذين عشت معهم أولا، وناس آخرون ثانيا، ثم ظهر الأولون وغادروا؟ فإلى أي جماعة أنا أنتسب؟ ولما كنت أدخل الحمام وأغلق الباب كان يدخل يداه تحت عقب الباب لعلي أفتحه أو أرى يده، ونتكلم سويا من وراء الجدران حتى يطمئن إلى وجودي ثم خروجي له.
وكان الحدث الأكبر هو اكتشاف أمريكا، قوتها وضعفها. وكان هناك خدمة تؤديها الجامعة للطلبة تسمى خدمة النشاط الطلابي
Student Activity Service
لركوب الجراي هاوند
Gray Hound
لمدة شهر ب 99 دولارا وإعطائهم خطة السير، ويعرفونك على أسر في كل محطة تتعرف عليهم، ويتعرفون هم عليك كنوع من التعارف الثقافي والحضاري بين الشعوب، فاستخدمنا هذا النظام، زوجتي وأنا، ثلاث سنوات متتالية عبرنا بها أمريكا من الشرق إلى الغرب، من فيلادلفيا إلى سان فرنسيسكو، ومرة ثانية من الشرق إلى الشمال الغربي هانكوفر عبر كندا وشلالات نياجرا، ومرة ثالثة من الشرق إلى الجنوب عبر أورلاند ثم إلى المكسيك ذهابا وإيابا. وتعرفنا على عديد من الأسر الأمريكية شبابا وشيوخا، وتناقشنا في أسلوب الحياة الأمريكية، واكتشفنا الشعب الطيب الكريم المرحب بالأجانب غير صورة الحكومة، العدوان والاستعمار للآخرين. وما زلنا نحتفظ بأجمل الذكريات للأسرة الأمريكية: زوجة خرجت بطفلها قبل أن يكتمل أسبوعا ونحن لا نخرج قبل أربعين يوما. وأسرة كبار السن تبحث عن الزوج، فرد علينا من فوق شجرة تسلقها وهو حوالي السبعين عاما، ولا أحد يخشى عليه من الوقوع فتنكسر رقبته. أدركنا مدى التنوع في الجغرافيا الأمريكية بين الساحل والصحراء، الجبل والسهل. عرفنا مدينة القمار رينو لجلب السكان وتعميرها في نيفادا. رأينا ترام سان فرانسيسكو، ورأينا فخامة لوس أنجلس وبناياتها، ورأينا المنخفضات والمرتفعات، كما رأينا مستوطنات الهنود الحمر، السكان الأصليين. وقررت أن أكتب عن أمريكا، الوجه الآخر الذي لا يعرفه الناس. وجهزت مكتبتي إلى هذا الغرض للكتابة عن أمريكا، الأسطورة والحقيقة، عن الفقر وليس الغني، العنصرية وليس التسامح. وما زالت النية موجودة لولا التراث والتجديد استغرق كل حياتي، ولا أدري إذا كان في العمر بقية أو إذا كنت قادرا على النزول على السلم الخشبي الذي يربط بين السكن والمكتب وأفحص دولاب المراجع عن أمريكا. وأحيانا أقول: ربما تغيرت أمريكا بعد أربعين عاما، وقدمت مراجعي، وأصبح كتابي المزمع تأليفه «أمريكا، الأسطورة والحقيقة» في مهب الريح إذا كان جوهرها أو بنيتها ما زالت مستمرة.
ومرة رابعة من الشرق إلى الغرب عبر كندا، من تورنتو وشلالات نياجرا إلى أوتاوا العاصمة. قابلنا تحسين بشير سفيرنا في كندا، وحاولت التعرف على قضية كيبك
Quebeque
والرغبة في الاستقلال عن فرنسا. صحيح أن اللغة الفرنسية رابط بين كيبك وفرنسا الأم، ولكن كان هذا جزءا من التاريخ الاستعماري الفرنسي لأمريكا الشمالية، مثل الاستعمار البريطاني لأمريكا الوسطى، والاستعمار المكسيكي للجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية، والبرتغالي إلى أمريكا الجنوبية. وتعرفنا في فانكوفر على طبيب أسنان ونحات، وشرح لي أن الأسنان فيها طريقة التعامل مع عظام مثل التعامل مع الحجارة في فن النحت، مثل التعامل مع العظام. ومررنا بتورنتو في وسط الصحراء الممتدة من الشرق إلى الغرب. ورأينا المدن التي نسمع عنها في الجغرافيا.
وإذا كنت وأنا في باريس اهتممت بالمسيحية والنقد التاريخي للأناجيل الأربعة بسبب جيتون، فإنني في أمريكا أكملت دراستي في تاريخ الأديان باليهودية، خاصة التوراة وتاريخها وكل نتائج النقد التاريخي للكتب المقدسة التي نخشى من تطبيقها، كما طبق طه حسين نظرية مارجليوث في الشعر الجاهلي، وجمعت كل المؤلفات في الموضوع. وفي باريس اطلعت على معظم المؤلفات الفلسفية الفرنسية والمترجمة عن الألمانية. وتركت في نفسي وعدا بأنه سيأتي وقت أحصل فيه على المؤلفات البريطانية والأمريكية في أصولها الإنجليزية، وأتى هذا الوقت وأنا في أمريكا، واشتريت معظم المؤلفات الإنجليزية لرسل ولوك وهوبز وهيوم ومل مثلا والأمريكية لجيمس وبيري ورويس. وكان النظام أن أطلب ما أريد عن طريق مكتبة الجامعة والحصول على 20٪ تخفيضا باعتبارها كتبا دراسية، فأكملت مكتبتي حتى جاء وقت المغادرة، فطلبت من شركة شحن أن تقوم بذلك، وما أسهل الشحن في أمريكا! فالصناعة تجارة، والتجارة شحن ونقل وضبط مواعيد وثقة متبادلة بين البائع والشاري، دون فساد، فجاءت بثلاثة صناديق كبيرة من الخشب وشحنتها إلى مصر قبل مغادرتي أنا وزوجتي إلى القاهرة. وأحس حازم ابني بالغربة مرة ثانية، واستمر في النوم عند حماتي أمامنا حتى الغداء، وعلم أننا أبواه، وكان عمره أربع سنوات. كانت زوجتي قد حملت قبل المغادرة، ومن إرهاق البحث عن الهدايا قبل السفر أجهضت، وحزنا لأننا كنا نريد طفلا ثانيا. وذهبنا إلى نيويورك في الحي التجاري الذي تباع فيه الصناعات الأمريكية للتصدير بكهرباء قوة 220 كما هو الحال في بلادنا وليس 110 كما هو الحال في أمريكا.
وتعرفت على الفلسفة الشرقية في الصين والهند. وقرأت نصوص كونفوشيوس ومنشيوس وبوذا، وتياراتها المعاصرة، كما تعرفت على لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا؛ فالفلسفة في أمريكا كانت مفتوحة على فلسفات العالم كلها، وشاعت ترجمة نصوصها إلى الإنجليزية، وتوافرت طبعاتها؛ فأمريكا تمتد من ساحلها الشرقي إلى أوروبا عبر الأطلنطي، ومن ساحلها الغربي إلى آسيا عبر الهادي، ومن وسطها إلى أفريقيا منذ أخذ العبيد إلى العالم الجديد، ومن جنوبها إلى المكسيك وأمريكا اللاتينية، مستعمرات إسبانيا والبرتغال القديمة.
وسمعت عن اعتصام الطلبة في ميدان التحرير للمطالبة بتحرير سيناء والأرض العربية المحتلة، وحزنا لبعدنا عن مصر. وبعدها بعام اندلعت حرب أكتوبر 1973م، وكنا باستمرار أمام التفلزيون نشاهد مناظر العبور، ونفرح، والأساتذة والطلبة اليهود حزانى حتى يوم 16 أكتوبر، وقوع الثغرة. نحن نسمع أنها لا شيء، وأن الجيش المصري قادر على محاصرتها. ورأي آخر يقول إن الجيش الثالث محاصر، ويمكن القضاء عليه. وصعقنا عندما علمنا أن الهدنة قد وقعت وما زلنا بعد العبور لم نستمر على الأقل حتى المضايق. وطبقا لاتفاقية الكيلو 104 انسحبت إسرائيل من الثغرة، وانسحب الجيش المصري غرب القناة. وكان الجمصي والشاذلي يبكيان؛ فقد سلب منهما النصر. وقسمت سيناء إلى ثلاثة أقسام: أ، ب، ج. الأولى قبل الممرات، والثانية وسط سيناء، والثالثة الثلث المحاذي لإسرائيل، وفي كل جزء قوات محدودة. وفتحت قناة السويس بعد أن أغرقت فيها سفينة لمنع الملاحة. في عام 1974م بدأ الانفتاح الاقتصادي، وانقلب النظام على الناصرية، واعتمد الاقتصاد الحر؛ فالرأسمالية ليست جريمة. وبدأ التوجه نحو الغرب، الولايات المتحدة الأمريكية، وطرد الخبراء الروس.
والمرأة الأمريكية بالرغم من تحررها في الظاهر إلا أنها مسيحية عقائدية في الباطن؛ فلا تعارض بين الحرية والإيمان، بين الجنس والتقوى، بين لذة الجسد وصفاء الروح. وليس كالثنائية الشرقية كما غناها عبد الوهاب في فيلم أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات»: «وعشق الروح ما لوش آخر، لكن عشق الجسد فان.» تعرفت على إحداهن كانت تدعو الأساتذة إلى منزلها، تريد صداقة كاملة تؤنسها في وحدتها. وأين لي بذلك وزوجتي تقلق علي إذا تأخرت عن العودة إلى المنزل دقائق معدودة ؟ والصداقة تريد وقتا. ومرة أخرى تعرفت على فتاة تسكن بعيدا عن حي الجامعة، فتأخرت في العودة، فقلقت زوجتي، وسألت القاصي والداني أين أنا؟ خاصة وحوادث العنف شائعة، والصداقة تحتاج إلى راحة وليس إلى قلق على قلق.
وفي هذه الفترة ترقيت من مدرس إلى أستاذ مساعد عام 1973م بعد أن قضيت ست سنوات مدرسا، متأخرا سنة واحدة؛ رقتني اللجنة عن جدارة واستحقاق. ولما كنت من المشاغبين في السياسة فقد رفض مجلس الكلية بالألاعيب الإدارية والدينية لأن إيماني أيضا به شكوك. وكنت قد تقدمت بترجمتي لكتاب إسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» وترجمتي لمحاورة «المعلم» لأوغسطين، و«أومن كي أعقل» لأنسليم، و«الوجود والماهية» لتوما الأكويني في «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، كما تقدمت بالجزء الثاني من «قضايا معاصرة» بعنوان «الفكر الغربي المعاصر»، وبعض المقالات في مجلة «تراث الإنسانية». وأعاد مجلس الكلية إلى اللجنة العلمية التقرير، وكان رئيسها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، فرد عليه قائلا عبارة واحدة، وكان معروفا بإيجازه «إن ناقل الكفر ليس بكافر.» فاضطر مجلس الكلية إلى الموافقة ثم مجلس الجامعة. وعرفت كيف تستغل الاتهامات الدينية لتغطية الاتهامات السياسية، كانت رئيسة القسم معادية لي، وباقي الأساتذة خائفين منها، يتملقونها ، فوافقوا على عدم موافقتها على الترقية؛ فكانت هي القسم. وكان هناك من يقول: إنها ليست اتهامات دينية ولا سياسية بل هي الغيرة، قاتلها الله. واحتفظ العميد بالتقرير حوالي ستة أشهر وهو ينكر وصوله واستلامه، فذهبت إلى البريد وعرفت أنه استلمه مسجلا بتوقيعه، فنظر إلى مجموع المراسلات ورآه، واعتذر أنه كان مختبئا بينها، وعرض على مجلس الكلية في آخر الوقت، والأساتذة قد غادروا، وأيد قرار القسم بأني مشاغب، وأرسل إلى الجامعة، فلم تدر ماذا تفعل: قرار بالترقية من اللجنة العلمية، ولها الكلمة الأولى والأخيرة، وقرار بعدم الترقية لأني مشاغب من مجلس القسم ومجلس الكلية، فأعاد مجلس الجامعة الموضوع إلى القسم لرفع التناقض بين قرار اللجنة العلمية بالترقية وقرار المجلسين الإداريين بعدم الترقية. وقرر مجلس الكلية إرجاع الموضوع إلى اللجنة العلمية من جديد لعلها تغير رأيها، وتحكم بعدم الترقية؛ وبالتالي يرتفع التناقض المطلوب بين القرار العلمي والقرار الإداري، فأعادت اللجنة العلمية نفس تقريرها بأن المتقدم يرقى بجدارة، وأنه هو المحك في الترقية وليس القرارات الإدارية، ووصل إلى الكلية وكان رئيس القسم قد تغير، وأتى آخر قاوم الضغوط عليه بالرفض، ثم عرض على مجلس الكلية، وكان العميد قد تغير، وقاوم المجلس الضغوط عليه بالرفض، ورفع الأمر إلى مجلس الجامعة، وكان العميد السابق قد أصبح نائبا لرئيس الجامعة، فأصر على الرفض، ومعه عميد العلوم، فطلب رئيس الجامعة إبراهيم بدران بالتصويت، فصوت كل مجلس الجامعة لصالحي باستثناء العميد السابق وعميد العلوم. وكان رئيس الجامعة قد نصحني بألا أذيع الأمر إلى الإعلام حتى يمر بهدوء لأن ورائي أساتذة مثل عواطف عبد الرحمن ستكون في نفس الموقف.
وأتى منزلنا أحمد فخري عالم المصريات وقص علينا اكتشافاته بواحة سيوة، فقدرت أكثر فأكثر علماء مصر. وأنا أسكن الآن في شارع لوزاكا المتفرع من أحمد فخري بعد أن سمي الشارع باسمه، ولوزاكا في العهد الناصري والانفتاح على أفريقيا. كما زارني عالم الرياضيات الشهير رشدي راشد والذي زاملني منذ أيام الدراسة في جامعة القاهرة ثم جامعة باريس، واستقر هناك. وتعرفت على مالك بن نبي الذي زار فيلادلفيا بدعوة من جمعية الطلبة المسلمين، وشرح لي أن انفصال باكستان عن الهند عمل استعماري طبقا لقاعدة «فرق تسد»، وأن هذه القسمة هي التي حجزت الإسلام في الهند بعدما كان كالسكر في الماء. وقد كنت من أنصار محمد إقبال، ومحمد علي جناح، فأعدت التفكير في موقفي، وقد يكون مالك بن نبي على حق. وظل السؤال بالنسبة لي: وماذا عن كشمير؟ فمعظم سكانها مسلمون، ولا تريد الهند ضمها إلى باكستان، وما زالت تحت وصاية الأمم المتحدة، وبعد ذلك قسمت باكستان إلى جزأين، الشرقية والغربية، باكستان وبنجلاديش. وما زال مخطط التقسيم جاريا حتى الآن في الوطن العربي للدول الوطنية وتفتيتها إلى دويلات عرقية وطائفية بحيث تكون إسرائيل هي الدولة القومية الأقوى وسط هذا الركام من التفتيت.
وانتدبت إلى كلية الإعلام كي أدرس الفكر العربي المعاصر للسنة الرابعة عامي 1976م، 1977م. وكنت أربط الفكر بالواقع؛ أي بالسياسة. وكان الطلاب في غاية النضج، يناقشون ويجادلون. وكنت أتخلى عن المنصة، وأجلس مع الطلاب، وأكلف بعض الطلاب بالحديث بدلا عني حتى أبين لهم أن الفكر ليس له أستاذ. وكان حمدين صباحي، رئيس نادي الفكر الناصري، يجلس في آخر صف ليسمع ويناقش. سعدت بهذا المستوى العالي من الوعي الفكري والسياسي، ثم ألغي المقرر بعد مظاهرات يناير 1977م، ما سميت «انتفاضة الحرامية»، عندما خرج شعب مصر كله من الإسكندرية إلى أسوان يطالب بخفض الأسعار التي رفعتها حكومة ممدوح سالم، فتراجع على الفور بعد أن استعد الرئيس المغدور إلى الهرب بطائرته من أسوان إلى طهران عند صديقه الشاه، وحليف أمريكا. وذكرني كثير من الإعلاميين الآن بهذه السنوات، كما ذكرني رئيس الجامعة جابر نصار بالستينيات بعد هزيمة يونيو 1967م عندما كنت أتحدث عن فلسفة المقاومة، وكان طلبة الجامعة من كل الكليات خاصة كلية الحقوق التي أمام الآداب يحضرون لسماعي.
وكنت أعجب من الزملاء الذين يعارون للخارج، ويقضون سنوات الإعارة ثم سنوات مرافقة الزوجة، فإذا انتهت يبحثون عن أي عقد عمل لاستمرار الإعارة. ولما كانت القوانين لا تسمح للتفرقة بين الرجل وزوجه فإنهما يستمران في الخارج حتى سن المعاش، ويفقد فرصة ذهبية في القاهرة لتعليم الطلاب من أجل آلاف الدولارات يبني بها منزلا حين العودة النهائية؛ فيفقد وجوده في جامعته، وأثره في طلابه، وتضيع ذكراه في نفوسهم، ثم يقضون نحبهم فلا يتمتعون بما أثروا، ولا تكون لهم ذكرى في قلوب أحد.
الفصل السادس
إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية
(1976-1982م)
أراد النظام السياسي الذي انقلب على الناصرية، من القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التحالف مع روسيا إلى التحالف مع أمريكا أن يبين أنه نظام ديمقراطي في السياسة، كما أنه نظام حر في الاقتصاد؛ فالليبرالية ليست فقط في الاقتصاد بل هي في السياسة أيضا، فأسس المنابر: الوسط واليمين واليسار. ولما كنت صاحب اليسار الإسلامي فانضممت عام 1976م إلى منبر اليسار ويمثله حزب «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» برياسة خالد محيي الدين من الضباط الأحرار الماركسي الذي اختلف مع عبد الناصر فأرسله إلى لندن، ثم عاد، ومنذ أن شنق زعماء العمال خميس والبقري الذين طالبوا بحقوقهم أثناء الثورة، وكان يمكن أن يكونوا نصيرا شعبيا له، وكان يتكون من خمس قوى سياسية: الماركسيون، القوميون، الليبراليون، الناصريون، والإسلام المستنير. وبطبيعة الحال كنت في الإسلام المستنير، ولو أنني أفضل الإسلام الثوري، عودا من محمد عبده إلى الأفغاني. والفكرة كانت لكمال الدين رفعت من الضباط الأحرار وقائد المقاومة الشعبية في قناة السويس ضد الإنجليز في 1951م الذي كان إذا ذهب إلى العمل يلبس لبس العمال وهو في الوزارة. ذهبت إليه مع محمد عودة لعرض بعض أمور التجمع عليه، وكنا قلة يرأسنا محمد أحمد خلف الله وأنا وزين العابدين السماك ومحمد عمارة الذي تركنا بسرعة. وكان ضعيف الأثر أمام الماركسيين الذين يسيطرون على قيادة الحزب بما فيهم رئيس الحزب؛ فكان الرأي الواحد هو السائد، وكان الاستبداد هي بنية المجتمع بما في ذلك الأحزاب الليبرالية والشورى الإسلامية. وكنت عضوا بمجلس إدارة صحيفة «الأهالي» ولي فيها عمود كل أسبوع، وكانت تصادر دائما من القاضي أبو سحلي. ومرة زار رئيس البهرة من الهند مصر وزار السيدة زينب، وحول مقبض المقصورة إلى جوهرة، والمقصورة نفسها طلاها بالذهب، فكتبت «ذهب المقصورة أم جوع الفقراء»، وكانت قلعة الكبش خلف حي السيدة، وهي عشوائية أولى بهذا الذهب، فأحزن ذلك الحزب التقدمي! وقال رئيس الحزب الذي كان مسافرا: لو كنت بالقاهرة لمنعت هذا المقال؛ فمعظم أعضائنا في الحزب التقدمي من قلعة الكبش، وهم يقدسون السيدة! وبالتالي سنخسرهم، فكتبت: دور الحزب التقدمي في البلاد المتخلفة، وطلبت مناقشته، وأعطاه إلى يحيى الجمل، فقرأه، ولم يعلق شيئا، وبعد ذلك خرج يحيى الجمل مثلي من الحزب. وفي نفس الوقت اعتبر الحزب ثورة مصدق في إيران التي أمم فيها البترول وهرب الشاه إلى إيطاليا، اعتبرها ثورة شيوعية لأن مصدق كان شيوعيا مع أنه قد صرح أنه تعلم الثورة من عبد الناصر؛ فلم يكن هناك فرق بين الإخوان والتجمع في رفضهم ثورة مصدق واتهامها بالشيوعية، كما اعتبر ثورة الجماهير بقيادة الخميني ثورة رجعية «متأسلمة» بتعبير أحد قيادات الحزب الماركسيين رفعت السعيد. مع أن عبد الناصر كان يمد «مجاهدي خلق» بالسلاح عن طريق بغداد عندما كان أمين هويدي سفيرا، وهو عضو بالحزب، وكان «مجاهدو خلق» مثل حماس في منظمة التحرير الفلسطينية، تمثل يسارها، في حين تمثل فتح يمينها، فأوقفت نشاطي في الحزب دون أن أخرج رسميا منه، وما زال معظمهم أصدقاء ورفاق نضال.
وهنا بدأت فكرة «اليسار الإسلامي» في الظهور. كيف أحافظ على التراث الإسلامي كثقافة شعبية وفي نفس الوقت أستخدمه للدفاع عن مصالح الجماهير، وحقوق الفقراء، وكل ما يدعو إليه الإخوة التقدميون. وهو مشروع «التراث والتجديد» على مستوى الثقافة السياسية الشعبية. وهو ما رأيته في جنوب أفريقيا في لاهوت التحرير واللاهوت الأسود. وما رأيته في المشاريع النهضوية في ماليزيا وإندونيسيا. وما رأيته في جماعة 15 / 21، الجناح اليساري في حزب النهضة في تونس. وهو ما يحدث في تركيا بعيدا عن أيديولوجية الجيش بعد ثورة كمال أتاتورك الذي أراد تقليد الغرب والقطيعة مع التراث الإسلامي، ثم التحول إلى الضد، إلى الأيديولوجية الإسلامية مع أربكان ، والقطيعة مع مظاهر تقليد الغرب، ثم الآن حزب العدالة والتنمية لأردوجان الذي يجمع بين التراث والتجديد، بين الإسلام والتقدم. وهو ما أحاوله في مصر إلا أنه لم يجد قبولا لأن الصراع بين التيارين شديد، ولا أحد يريد أن يحاور الآخر؛ فالتقدم عند الإسلاميين علمانية وتقليد للغرب، مادية وإلحاد. والإسلام عند التقدميين غيبيات واغتراب عن الواقع، ويمين سياسي. ولا يمكن الجمع بين الاثنين، كما لا يمكن فصل تيار الإسلام المستنير عن حزب التجمع كقوة سياسية عن القوى الخمس المكونة له كما أراد كمال الدين رفعت صاحب الفكرة. كنت إخوانيا فخرجت بسبب موقفهم السلبي من ثورة مصدق، ثم كنت يساريا وخرجت بسبب موقفهم من الإسلام التقدمي أو الإسلام الثوري. وبدأت في تصور اليسار الإسلامي على المستوى النظري الخالص دون إمكانيات تنظيمية أو رغبة في السلطة والحكم، كما تريد كل الأحزاب.
وكان الرئيس قد صفى الناصريين من الحزب ومن الدولة فيما سماه ثورة 15 مايو عام 1974م، كما صفى الرئيس الحالي بعد 30 يونيو جهاز الدولة من الإخوان. وكان السؤال: هل الناصرية أيديولوجية فوقية يسهل تصفيتها؟ أين جماهيرها التي نزلت لتوديعه إلى مقره الأخير؟ وهل الدولة كانت مستعدة لهذا الانقلاب من الاشتراكية العربية إلى الرأسمالية الأمريكية؟ وهو الشعار المستمر حتى الآن والتي ولدت الفساد والاستبداد والفقر والإحباط والتشاؤم انتظارا لثورة الغلابة ثم ثورة الجياع، وثورة «الجرابيع».
وقامت مظاهرات 18-19 يناير 1977م ضد الانقلاب على الناصرية. ورفعت الجماهير صور عبد الناصر من الإسكندرية إلى أسوان، واستولت على الجمعيات التعاونية، وهي ثورة الفقراء ضد سياسة الانفتاح. واستعد الرئيس بطائرته إلى الهرب من أسوان، ولكن الجيش تدخل، وقمع المظاهرات، وأعاد الرئيس إلى قصر الرياسة. وخطب الرئيس، وسمى المظاهرات «انتفاضة الحرامية»، وقبض على زعمائها من قادة اليسار. ولما شعر بضعف موقفه في الداخل أراد الاعتماد على الخارج، فزار إسرائيل في نوفمبر 1977م داعيا للسلام، ثم ذهب إلى كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأمريكية للقاء رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجن، رئيس جماعة أرجون الإرهابية في 1978م، ثم عقد اتفاقية السلام عام 1979م، والأراضي العربية في الضفة الغربية والجولان ما زالت محتلة، وسيناء منزوعة السلاح، فأصبح مغضوبا عليه من كل القوى الوطنية، إسلامية ويسارية في مصر والوطن العربي، وقاطعته جامعة الدول العربية والتي انتقلت من مصر إلى تونس. ولم يتصور المصريون وجود سفارة إسرائيلية وسفير إسرائيلي على ضفاف النيل بالقرب من جامعة القاهرة مهد الوطنية والمقاومة ضد الاحتلال. واشتدت المقاومة للنظام حتى أصدر الرئيس قرارات سبتمبر 1981م الشهيرة بإخراج حوالي سبعين أستاذا معارضا من الجامعة، وتحويلهم إلى وظائف إدارية في المصالح الحكومية مع خصم كل الزيادات الجامعية. وحولني إلى وزارة الشئون الاجتماعية، وكنت أستاذا فأصبحت درجتي وكيل وزارة، واحتاروا في الوزارة أين يضعونني، فطلبوا مني البقاء في المنزل. وفصل حوالي سبعين صحفيا، وحولوا إلى وظائف إدارية، وقبض على محمد حسنين هيكل مع غيره من الصحفيين، وأرسل الأنبا شنودة إلى دير في الصحراء.
ومرة أخرى سلمني زوج أختي الصغرى كتيبا مكتوبا من عدة مشايخ لتكفيري لخروجي من الإسلام، ويوزع في المساجد، وكان هو من روادها، فقرأته، كله سب ولعن في الكافر الملحد على طريقة المشايخ وليس حوارا موثقا مطالبا اللقاء، ثم كتبت مجلة روز اليوسف تقريرا عن محاولة اغتيالي؛ إذ قبضت المخابرات العامة على ثلاثة من أصحاب الذقون، يحومون حول منزلي القديم، شارع الحجاز بمصر الجديدة، وكانوا تحت المراقبة؛ فقد كانوا مطلوبين في حوادث أخرى، فقبض عليهم واعترفوا بأنهم أتوا للاعتداء علي، وحوكموا، ولا أدري ماذا كان الحكم. وفوجئت يوما بضابط مدني يأتيني كي يتفقد منزلي الجديد بمدينة نصر من الداخل والخارج، ويتفقد الأسوار وكل الأماكن التي يحتمل أن تخترق للدخول إلى المنزل. وقال إنه كلف من الداخلية بوضع حراسة دائمة على المنزل يوميا، صباحا ومساء، ليلا ونهارا، أربعة حراس في اليوم على التعاقب، كل منها ست ساعات، مجانا، فبنيت لهم كشكا خشبيا بمقعد داخله، داخل المنزل، وراء البوابة الحديدية مباشرة، وكانت الحراسة مسلحة، وطبعا أعطيتهم مكافأة شهرية من عندي، فضلا عن مرتبهم من الداخلية، بالإضافة إلى ما أستطيع من طعام. وظلت هذه الحراسة حوالي تسع سنوات كنت أنام فيها أنا والأسرة مطمئنين. وعندما كتبت مقالا عن «التوريث في القرآن الكريم» رفعت الحراسة في اليوم التالي. وكان التوريث قد أصبح شائعا لخلافة الرئيس الذي قامت ثورة يناير 2011م ضده. وكان الابن قد سيطر على أجهزة الأمن، وهو الذي أعطى أمرا برفع الحراسة. والآن أستعمل كاميرات المراقبة الخفية بدلا عنهم.
وفي خضم الحزن من أجل كامب دافيد ومعاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، وعاد الإمام الخميني من منفاه في باريس زعيما لها. وكان هذا حلم حياتي أن تقوم ثورة باسم الإسلام أو أن ينتشر الإسلام كثورة للمضطهدين. وهرب الشاه من جديد، ولم يجد مكانا يقله إلا مصر، ثم يدفن فيه، ورئيس مصر أمريكي الاتجاه، استقبل الشاه أمريكي الاتجاه مثله. وكنت بالكويت مرة على بعد خطوات من إيران، وكان فهمي هويدي هناك أيضا، فطلبت منه أن أذهب إلى طهران، فتكلم مع المهري زعيم الشيعة في الكويت الذي راسل طهران، فرحبوا، وأرسلوا بطاقة سفر، الكويت-طهران، فذهبت وأنا طائر من الفرح. وذهبت مباشرة إلى حارة داخل حارة حيث يقطن الخميني، وكان يصعد فوق السطح ليحيي القادمين جماهير أو بالموسيقى، ويخطب فيهم. ودخلت إليه وكان معه الشيخ إشراقي زوج ابنته والإمام تسخيري الذي يود التقارب بين السنة والشيعة، فأنشأ لذلك مجلة «التقريب». كان الخميني يستمع وأنا أتكلم، فخجلت من نفسي. ألا أستمع إلى هذا الإمام الكبير والقائد العظيم؟ فقال لي من حوله: هو هكذا لا تنتظر منه أن يقول كثيرا. طلبت منه أن أنشر «الحكومة الإسلامية» في مصر فهل لديه شروط. قال: لا، انشره في كل مكان. وطلب ممن حوله أن يكون اللقاء مع العلماء في المنزل المقابل. وكان ورائي قائد من القيادة الليبية يتكلم كثيرا، والإمام الخميني يسأله سؤالا واحدا: أين الصدر؟ وهو الزعيم اللبناني الشيعي موسى الصدر الذي أخفاه القذافي سجنا أم تعذيبا أم قتلا، والخميني لا ينظر إلا إلى الأرض. وذهبت إلى قم وقابلت علماءها، الشيرازي، ورأيتهم وهم يصدرون الموسوعات. ورأيت شابا عراقيا مهاجرا من حكم صدام يصدر مجلة إسلامية أعطيته فيها حديث: قم تسأل والقاهرة تجيب، مما أحزن العلماء؛ فكيف قم تسأل وهي كعبة العلم والقاهرة تجيب؟ وهل القاهرة أعلى من قم؟
وفي ذكرى فيلسوف الإشراق صدر الدين الشيرازي الذي توفي 1050ه الذي يعتز به الإيرانيون لأنه أتى بعد ابن رشد بأربعة قرون، ويعتبرون الإمام الخميني تلميذا له، دعاني الرئيس خاتمي لزيارة طهران والاشتراك في هذه الذكرى. ولما كنت عقلانيا رشديا فجادلت العلماء في الإشراق وفي مسار الشيرازي: من الحق إلى الحق فناء، ومن الحق إلى الخلق نزولا، وليس من الخلق إلى الحق صعودا ومن الخلق إلى الخلق تقدما، فنقدت من الحق إلى الحق لأن أحدا لا يعرفه، كما نقدت من الخلق إلى الحق صعودا طبقا لمحاولتي إعادة بناء التصوف في «من الفناء إلى البقاء»، ونقدت من الحق إلى الخلق نزولا؛ فهذا هو التنزيل، وقد انتهى زمنه بخاتم الرسالات، وأبقيت على من الخلق إلى الخلق، عالم الحياة، والخلاف بين الناس، فأعطاني الرئيس خاتمي جائزة الشيرازي خمسة آلاف دولار، وخصموا منها ألفين نتيجة استضافتي أنا وزوجتي. وسأل عني عندما أتى إلى القاهرة بدعوة من هيكل ولكني لم أكن موجودا بها. وظللت أعتبر صديقا للثورة الإسلامية في إيران بالرغم من معرفتي ببني صدر في باريس، ومجاهدي خلق «اليمين واليسار في الثورة». وبلغت الصداقة القمة في حرب حزب الله ضد إسرائيل، وإطلاق الصواريخ عليها عام 1997م، ثم قاطعتها لما انحرفت، وتحولت من ثورة إلى دولة بفعل الظروف، غزو صدام لها، ثم خاصمتها تأييدا لشعب العراق وسوريا واليمن حتى الآن. وأرفض الذهاب إلى احتفال السفارة الإيرانية عندما أتلقى دعوة للاحتفال بعيد الثورة في فبراير من كل عام. ودعاني رئيس الجامعة مرة وسألني: ما هذه الثورة التي تدعو إليها؟ فقلت له: مثل جمال الدين الأفغاني. فأجاب: شيوعي! ولم أشأ أن أستمر في هذا الاستجواب على هذا المستوى.
وفي 6 اكتوبر 1981م ووسط العرض العسكري بطريق النصر، وأمام المنصة، هبطت جماعة من عربة مدججة بالسلاح، وأطلقت النار على الرئيس فأردوه قتيلا، وجرى من بالمنصة ومن هم خلفه. وحمل جثة هامدة بالهليوكوبتر إلى المستشفى العسكري بالمعادي. وكانت جماعة الجهاد، وخالد الإسلامبولي قائد الفريق الذي صوب بمهارة نحو رقبة الرئيس؛ فقد كان بطلا من أبطال الرماية، وتم إعدامه بعد محاكمة عسكرية. ويوم الجنازة لم يحضر إلا بعض الرؤساء الأجانب، وكان الموكب عربة حنطور، ليس جنازة عسكرية، وليس بها أحد من أفراد الشعب. ومن يقارن جنازة الرئيس عبد الناصر وتابوته على أكتاف الشعب بالملايين وهذه الجنازة يدرك معرفة الشعب بالفرق بين الاثنين.
وكان المفصولون أساتذة وصحفيين قد رفعوا أمر فصلهم بقرار جمهوري من الرئيس المغدور بغير وجه حق إلى القضاء ليدرس الأمر. وأصدر الرئيس التالي في يناير 1982م قرارا بإرجاع «من ثبت ولاؤهم» إلى وظائفهم في الجامعة، ورفض هؤلاء العودة إلا مع الجميع وبحكم من القضاء. وبالفعل صدر الحكم بأن الرئيس المغدور قد أخطأ في قرار الفصل، وتجاوز حدود سلطاته لأن الجامعة بها نظامها الرقابي ولجانها القضائية، والصحافة حرة. وعدنا جميعا في أبريل 1982م، وأرجعت إلينا مخصصاتنا، وخرج المعتقلون من السجون إلى القصر الجمهوري ليحاوروا الرئيس في الحريات العامة، وكان فرحا واستبشارا بقدوم عصر الحريات. وفي هذا العام الذي فصلت فيه من الجامعة تفرغت لكتابة «مقدمة في علم الاستغراب» ونشر في عام 1982م بين ناشر وآخر، وكان يمثل الجبهة الثانية من مشروع التراث والتجديد وهو الموقف من التراث الغربي.
وبعد نشر «التراث والتجديد» و«اليسار الإسلامي» جاءني إعلان من المحكمة بطلب من وزير الأوقاف محمد متولي الشعراوي، بأنني مطالب في قضية كفر، ولم أكن قد دخلت المحاكم من قبل إلا مرة واحدة إلى مجلس الدولة في مقاضاة رئيس الجمهورية الذي فصلني وزملائي من الجامعة والصحفيين ومحمد حسنين هيكل والبابا شنودة في مذبحة سبتمبر 1981م. وطلب مني الشنيطي رئيس الهيئة العامة للكتاب الذي نشر «التراث والتجديد» أن آخذ فتحي رضوان محاميا معي. أما «اليسار الإسلامي»، مجلة غير دورية، فلم يصدر منها إلا عدد واحد، وقد نشرته على نفقتي الخاصة، فرفضت بأني قادر على الدفاع عن نفسي. وذهبت باب الخلق، ودخلت على قاض شاب ومدعي الاتهام محامي الحكومة. وشرحت «التراث والتجديد»، وأن هذا الكتيب هو المقدمة لهذا المشروع، وأنه محاولة لإعادة قراءة التراث القديم في ضوء ظروف العصر. أما مجلة «اليسار الإسلامي» فهي نفس الأفكار، ولكن على المستوى الشعبي السياسي المباشر، وهو ما حاول المصلحون جميعا فعله؛ كيف أتقدم محافظا على شخصيتي الإسلامية وفي نفس الوقت أواجه قضايا الاستقلال والتحرر والحرية والوحدة والهوية والتنمية، فسأل القاضي محامي الحكومة: لماذا تريد أن تصادر هذين الكتابين؟ فأجاب: لأن الحكومة طلبت مني ذلك، ولم يقل كلمة واحدة في الموضوع، فأصدر القاضي حكما قانونيا ببراءتي، والإفراج عن كتاب «التراث والتجديد» ومجلة «اليسار الإسلامي». والحكم تاريخي فيه الإشادة بالمفكرين المصريين الشبان، وجهدهم الثقافي. وخرجت من المحكمة وأنا في نفسي أحيي القضاة الشبان المصريين ولعدم وجود دليل لدى الحكومة ضدي للمصادرة. وأعادت الشرطة ما أخذوه من مطبعة الشنيطي التي كانت في خلفية منزله. وسينشر الحكم مع وثائق أخرى في الجزء الثاني من هذه الذكريات «مقالات ممنوعة».
واقترحت جريدة اليوم السابع أن تجري حوارا بيني وبين محمد عابد الجابري في رسائل متبادلة تنشر في اليوم السابع، وقبلنا الاقتراح، ونشر الحوار بعد ذلك في «حوار المشرق والمغرب»، وله الطبعة المغربية الأولى، ثم توالت الطبعات له نظرا لشهرته وصعوبة الحصول على نسخة منه. وقد ترجم إلى عديد من اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وذاعت شهرته لدرجة إجراء عدة رسائل علمية عليه؛ فالفكر العربي ليس مجزئا، ولا ينعزل عن بعضه البعض؛ فهذه من الحوارات النادرة التي تربط الفكر العربي مشرقا ومغربا؛ فقد تمغرب المشرق وتمشرق المغرب. لقد تعلم الجابري في دمشق. ودرست أنا بالمغرب، وكلاهما جناحا الوطن العربي، ولبنان الرأس الذي حمل لواء الثقافة والصحافة العربية على مدى قرنين من الزمان. ثم تكرر الحوار بيني وبين منصف المرزوقي صاحب «إصلاح العقل» من تونس، ولكن لم تبلغ شهرته شهرة «حوار المشرق والمغرب». كان مفتعلا، تقليدا للحوار الأول، ليس له موضوع. ومع ذلك قامت حولهما رسالة دكتوره في الصين من د. فوزية عميدة كلية الآداب في جامعة بيكين ، وكانت تلميذتي بالقاهرة بعد أن ترجم الحوار الأول إلى الفرنسية والألمانية، وأثيرت حوله عدة دراسات. ومرة ثالثة أجري بيني وبين صادق جلال العظم من دمشق حول «ما العولمة؟» وظلت الحوارات التالية للحوار الأول تقليدا له. ويبدو أن الفكر العربي لم يتعود على استمرار مثل هذه الحوارات.
ودعيت مرة إلى الجمهورية العربية اليمنية لإلقاء محاضرات على طلاب جامعة صنعاء واستدعاني الشيخ الزنداني لقضاء أمسية مع جماعته، وكان رئيس جماعة الإخوان المسلمين اليمنيين، فذهبت، فوجدت جماعة من ثلاثين فردا تقريبا في وسطهم الشيخ الزنداني وبيده «المداعة»؛ أي شيشة ذات خرطوم طويل ملفوف تدور حول أفواه الجميع، فرحبوا بي، وطلبوا مني أن أعرف بنفسي، فبدأت أتحدث عن مشروع «التراث والتجديد»، وكيف أنه يحاول إعادة بناء التراث القديم طبقا لظروف العصر، وهم يسمعون، فتبدو على وجوههم الموافقة وهز الرأس والترحاب بي، وظلوا يسألون وأنا أجيب على مدى ثلاث ساعات أتجنب الدخول في الغيبيات والعقائديات وأضعها بين قوسين، ولا أجيب إلا على المسائل الاجتماعية من عدل وظلم، وحرية واستبداد، وفقر وغنى، وكانوا يمضغون القات، ولا يناقشون وودعوني. وفي الغد، وجدت عربة مصفحة أمام الفندق الذي أسكن فيه كي تأخذني إلى الجامعة، فسألت: لماذا؟ فقالوا: رئيس الجامعة أمر بذلك. واتضح فيما بعد أن الزنداني وأصحابه أعدوا بيانا بتكفيري يبدأ باسم الله والصلاة والسلام على رسوله لأنهم بعد أن استمعوا إلي وقرءوا، تأكدوا أنني كافر ملحد، أستحق العقوبة، فخاف علي رئيس الجامعة، وأمر بحراستي ذهابا وإيابا من الجامعة إلى الفندق، وأن أغادر في الغد ضمانا لحياتي. وكان معي جابر عصفور، ونصحني بسماع كلام رئيس الجامعة، فغادرت في الغد مسلحا حتى المطار.
وأثناء انتفاضة 18-19 يناير 1977م التي كان اليسار هو الذي يوجهها قبض على عبد المنعم تليمة، أودع سجنا في طرة، وذهبنا أنا وزوجتي لزيارته، وكان سعيدا، ولما طلبنا منه ماذا يريد قال: ينقصنا الخضار. وفي المرة الثانية جهزت له زوجتي صينية قرنبيط باللحمة المفرومة، وذهبنا إليه، وأفرغناها في أواني السجن، واسترددنا الصينية فارغة. ونحن في طريق العودة نزلت العربة في حفرة فكسر محورها
Axe . وكلفتنا الكثير، لكن كنا سعداء بأننا قمنا بواجبنا تجاه المعتقلين؛ فعلى الأقل نحن أحرار، مطلقو السراح.
وفي يوم استدعيت إلى قسم مصر الجديدة وأنا ساكن بشارع الحجاز، فذهبت، فقابلني ضابط، وظل يسألني أسئلة لا معنى لها ولا هدف؛ فمن ضيقي كنت أحرك إصبعي السبابة في يدي اليمنى المسنودة على يد الكرسي. ويبدو أنه كان دارسا لعلم النفس، فقال: تحريك إصبعك يدل على أن فيه شيئا تخفيه، فأجبته: أنا لا أخفي شيئا، وأنا أعترف أني من المعارضة، وهذا شيء مشروع.
ودعتني وزيرة الثقافة في البحرين لإلقاء محاضرة عن تجديد الفكر الديني، وقيل لي إنها من الأسرة الحاكمة، وكنت أنا مع الثورة في البحرين، وفهمت بعد الزيارة أن الثورة يقوم بها الإخوة الشيعة الذين يمثلون الأغلبية في البحرين. لقد كنت مع الثورة في أي مكان وفي أي طائفة مثل تروتسكي وجيفارا، ثم فهمت أن الغرض من الثورة في البحرين ليس الثورة بل القضاء على عروبة البحرين؛ وبالتالي تكون البحرين امتدادا لإيران، فقلت إن عرب الأهواز لا يمثلون خطرا على فارسية الجانب الشرقي للخليج، فشرحوا لي أن عرب الأهواز يمثلون أقلية في إيران، أما الشيعة في البحرين فهم الأغلبية؛ فهل من المعقول أن يكون الشيعة هم الثوار وأهل السنة العرب هم المطيعون للحاكم؟ ألا يوجد سنة ثوار؟ وهو نفس الوضع في كل أنحاء الخليج حتى اليمن. أما عمان، الإباضية، فقد كانوا ثوارا في البداية مثل علي بن أبي طالب دون أن يكونوا شيعة. وعرفت جماعة في البحرين يسمون «الشراة»، يبدو أنهم ثوار على الثورة، وهم الذين شروا أنفسهم للشهادة في سبيل الحق. وفي المرة الثانية توقفت في البحرين، ومددت إقامتي يوما زائدا، فأنكروا أنفسهم، فكنت أخشى أن تكون صفة الغدر أيضا قد لحقت بهم كما لحق بدار الأمير، دار نشر شيعية ببيروت، وهي التي قدمتني إلى العالم حسين فضل الله، مؤسس حزب الله، بعد أن غادره، وتبادلنا المؤلفات. المخلصون منهم من هم في معهد الدراسات الفلسفية، للشيخ حراجي ؛ حيث تعاونت معهم في وضع برنامج المعهد، وما زال غير معترف به في نظام التعليم اللبناني، طبعوا كتابي «قضايا معاصرة» (الجزء الثاني) في «في الفكر الغربي المعاصر» للقراءة داخل المعهد، وليس للاتجار به مثل باقي الناشرين اللبنانيين. أقمت لهم عدة محاضرات، واستمعت إلى الشيخ حسن قائد الحزب بمناسبة تحرير أحد أسرى الحزب من السجون الإسرائيلية، وكان جمهورا واسعا، لم أر تنظيم حزب سياسي مثله. ورأيت ما قامت به إسرائيل من دمار في جنوب بيروت، في المخيمات الفلسطينية. وتصورت نفسي هناك ينازعني الولاء بين الحزب والدولة، بين الإسلام والوطن. ورأيت السجون المنفردة التي أقامتها إسرائيل في الجنوب، مترا في متر؛ فيخرج المقاتل من السجون وقد انحنى ظهره إلى الأبد من هذه الأقفاص الفولاذية.
الفصل السابع
التدريس في المغرب والبحث
الدولي في اليابان (1982-1987م)
وبعد كل هذا الشد والجذب تعبت، فعرض علي صديقي حبيب الشاروني الذي كان يدرس بالمغرب بفاس أن أحل محله لأنه سيعود إلى مصر، وبالفعل قبلت. وغادرت إلى فاس مع زوجتي وأطفالي الثلاثة: حازم، حاتم، حنين. وأدخلناهم المدارس بجوار المنزل الذي كان أقرب إلى فيلا في حديقة في شارع بن عائشة رقم 12. وشرح إلي الإخوة المصريون والسوريون والعراقيون أن أوراقي ستتوقف في الوزارة، ولا تسير وتأخذ طريقها إلا إذا دفعت ما نسميه في مصر «رشوة»، فرفضت، وظللت بلا مرتب، وكان لا يزيد عن ألف دولار شهريا. وبعد تدخل الأصدقاء مثل محمد عزيز لحبابي صرفوا إلي المتأخر كله. ولما علمت موظفة البنك أنني مصري، وقد أرجع إلى مصر، طلبت مني أن أحضر لها قماش «بوبلين»، وكنت سمعت هذا اللفظ من والدتي وأنا صغير، كما طلب مني العميد «المعلوم» حتى أسوي أموري بالكلية والجامعة، فأخرجت رزمة من الأوراق فئة المائة درهم. ولما أخذت زوجتي العربة السيات التي اشتريناها من إسبانيا ونزلت وسط المدينة لشراء بعض المواد الغذائية خاصة اللحوم، وعادت، وجدت الشرطي واقفا ب «الكلبش» بجوار العربة، فعفي عنها لأنها سيدة مصرية وإلا لكان له شأن آخر. وكنت قد ذهبت إلى إسبانيا ، الدولة المجاورة، واشتريت عربة سيات
Seat
وهي فيات الإسبانية، فيات الإيطالية المصنعة في إسبانيا كي أتحرك بها إلى الجامعة وأزور المغرب. وكنت أدرس للسنة الرابعة لطلاب غاية في العمق والشجاعة والجرأة في المناقشة. ولم أر طالبا عربيا في مثل هذه الثقافة والوعي العربي والجرأة مثل الطالب المغربي. وكنت أعطي درسا ثانيا للسنة الأولى التي كان يحضر فيها حوالي أكثر من أربعمائة طالب من كل السنوات والكليات. وكنت أسمح لمن يريد الحديث أن يتحدث، وطلب الأمازيغيون الحديث كثيرا، وكذلك الماركسيون، ولم يكن هناك سلفيون، وكنت لا أرفض أي دعوة للحديث خارج الجامعة مثل حزب الاستقلال. وحاضرت في سلا ومكناس والرباط والدار البيضاء ومراكش في الجنوب، وتطوان في الشمال. واتصلت بالأحزاب التقدمية والجرائد والمجلات الماركسية مثل «أنوال».
وقمنا بالسياحة، زوجتي وأنا وأولادي الثلاثة عبر المغرب جنوبا وشمالا وشرقا؛ فذهبنا إلى الشمال عبر تطوان، وعبرنا جبل طارق إلى إسبانيا. ورأينا الآثار الإسلامية، قصر الحمرا في غرناطة، جامع قرطبة وجيرالدا في إشبيلية، وهي بقايا المئذنة لمسجدها الكبير، بل ذهبنا إلى مدريد وقبلها طليطلة لنرى سورها وآثارها الإسلامية، وفخامة العاصمة مدريد. ثم ذهبنا مرة أخرى إلى الجنوب إلى بلاد الأمازيغ حتى مراكش وجبالها من حولها. ثم نزلنا إلى الجنوب، مدينة العيون والحدود الموريتانية، وهناك حدثت حادثة للعربة؛ إذ أسقط علينا عامل على جبل حجارة فجاءت تحت العربة، فأوقف محرك السيارة تماما. وكان هذا العامل جنديا بالجيش، فاستدعى الونش وجرها إلى توكيل فيات بالمدينة، وانتظرنا حتى تم إصلاحها. ودعانا هذا الجندي إلى منزله بالطقوس المغربية، المائدة والمناديل البيضاء إرضاء لنا، وإلا كان الجيش وقع عليه عقوبة الإهمال. وعدنا إلى فاس، ومرة ثالثة إلى الشرق، من فاس إلى وجدة على الحدود الجزائرية بعد أن تلقيت دعوة من المؤتمر العربي للقاء في تونس. فذهبنا عبر المغرب العربي كله. وعجبنا من غلق الحدود بين المغرب والجزائر، ودقة التفتيش وخلع الأحذية. وكان موظف الجمارك يريد خلع باب العربة لعلي أخفيت فيها شيئا، وأخذوا ما لدينا من عملة مغربية نستلمها حين العودة ، ورأينا المهربين عبر الحدود. ومررنا عبر الساحل الشمالي بعد أول مدينة، مغنية، وكان جبليا، وخافت الأسرة، وفضلت طريق الأصنام الجنوبي حتى عبرنا الحدود الجزائرية التونسية. ووصلنا إلى تونس، وعدنا من نفس الطريق الذي فيه السلامة والأمان دون التوقف في تلمسان غرب تونس، وعدنا من نفس الطريق إلى فاس؛ لغضبي أننا لم نرجع عن طريق الساحل الجبلي كي تزداد معرفتنا به.
والمرأة المغربية في هذا الوقت كانت حديثة في لباسها وسلوكها؛ فلم تكن الحركة السلفية قد انتشرت بعد، تعتني بجمالها، شعرها، و«مكياجها». وكانت اجتماعية يسهل الحديث معها، يغلب عليها الطابع الفرنسي، وليس الشرقي. وكان معي أخي وصديقي محمود إسماعيل أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، معارا إلى المغرب. وكنا نذهب إلى المقهى، ونطلب قهوة بالحليب، ونحادث الفتيات على الكراسي المجاورة أو السائرات في الطريق، فلا يمانعن من تبادل الحديث. وكان المصري محبوبا للغاية، خاصة اللهجة المصرية من خلال الأفلام السينمائية؛ فكثير من العرب جذورهم مغاربة، نزحوا من الأندلس مثلي؛ فاسمي حسن حنفي حسنين أحمد حسنين المغربي؛ فقد نزح جد جدي من الأندلس، واستقر في المغرب. وكان كثير من المغاربة في طريقهم إلى الحج يمرون بمصر، ويستقرون بها حين العودة، وهناك حي بالإسكندرية يسمى حارة المغاربة، وما زال الأقارب يسكنون فيها ويعملون بالمهن العربية مثل الحياكة. وكثير من مشايخ الصوفية نازحون من المغرب مثل السيد البدوي بطنطا، والمرسي أبي العباس في الإسكندرية من مدينة مرسيا الأندلسية؛ فالتصوف المغربي رد فعل على انسحاب المسلمين من الأندلس وهزيمتهم أمام فرناندو إيزابيلا لآخر المعاقل في غرناطة، وتسليم عبد الله بن الأحمر قصر الحمراء لهما دون قتال بشرط عدم قيام المارشال بيتان بتسليم باريس للألمان في الحرب العالمية الثانية شرط عدم تدميرها، كنائسها، ومتاحفها، وقصورها.
والعادات المغربية فريدة في نوعها خاصة في شهر رمضان؛ فالصوم واجب ديني. وما إن ينطلق أذان المغرب حتى يبدأ المغربي بأكل الحلوى وشرب الشيشة وربما لعب الطاولة والدومينو وربما المعاشرة الجنسية. ويبدأ الإفطار في الساعة الحادية عشرة ليلا بعد صلاة التراويح ، ثم يبدأ الخروج إلى الشوارع للسمر ولقاء الأصدقاء. أما السحور فقبل الفجر بقليل مع صلاة الفجر. يوم الجمعة أكل السكسك «الكسكسي»، مقدم بالخضار واللحم وليس بالسكر والزبيب في الأفراح كما هو الحال عندنا في مصر، ويقدم على مائدة مستديرة يجلس عليها الضيوف وما تبقى يعطى لأصحاب المنزل، ثم يقدم الشاي الأخضر. واللباس المغربي للسيدات جلباب أخضر طويل، عليه نقوش من خيوط الذهب الصفراء، وتضع السيدة جميع أنواع الحلي في وجهها وعلى صدرها. أما الرجل فيلبس القفطان المغربي الطويل وعلى رأسه الطربوش الأحمر ذو الزر الأسود، وفي قدميه الخف المغربي، لم يتفرنس كما هو الحال في الجزائر وتونس . الحديث عن الدين يسبق الحديث عن السياسة، مؤمن بالقلب ومنفتح حر في السلوك، يتكلم العربية الفصحى قدر الإمكان بالرغم من وجود اللهجة المغربية.
والفقر في المغرب مثل الفقر في مصر، وسكان العشوائيات في المغرب مثل سكان العشوائيات في مصر، والقصور في المغرب مثل القصور والتجمعات الجديدة في مصر، والبطالة في المغرب مثل البطالة في مصر، ومغادرة الأوطان إلى أوروبا في المغرب مثل مغادرة الأوطان في مصر. المرأة في المغرب تعمل ربات بيوت، وتسمى في مصر «شغالة»، وأكثرهن في المغرب، ولكنها تتأنق وتلبس خير ما عندها من حلي وجلاليب مغربية، عملت لدينا أكثر من واحدة تطبخ وتغسل وتنظف. وإذا خرجت الزوجة من المنزل لعملها فإن الشغالة تقوم بباقي الواجبات للرجل مثل إعداد القهوة وغير ذلك، وقد تقوم بما تقوم به الزوجات حين غيابها. والمنزل المغربي منزل عربي أصيل، الديكورات العربية والأرابيسك والأقواس العربية، ما تبقى من الأندلس. في قلب كل مغربي يسكن قصر الحمرا بأعمدته ونوافذه ونوافيره المتسقة. والخضرة في ربوع المغرب تجعله جنة على الأرض، الورود بكافة ألوانها، والروائح العطرة التي تنافس روائح الورود. وتمتد المغرب من طنجة شمالا إلى العيون جنوبا إلى وجدة شرقا، جبال وتلال ونخيل وأشجار. من يعشق الحياة يحب أن يعيش فيها، ومن يعمل عقله؛ فالطالب المغربي خير محاور، ولغته العربية الفصحى سليمة، والابتسامة على وجهه، لا يعبأ بالزمن ، يفضل الاستمرار في الجامعة على أن يتخرج ويصبح عاطلا، وبالرغم من بعده عن الوطن العربي مثل مصر إلا أنه يحمل همومه، وفي قلبها فلسطين، وكما قال الجابري: تمشرق المغرب وتمغرب المشرق. وما زالتا مدينتا سبتة ومليلة تحت الاحتلال الإسباني، لا تثاران في السياسة المغربية خشية أن تطرد إسبانيا المغاربة من على أرضها، طابعها أوروبي وليس عربيا، العرب فيها يهربون ما يستطيعون رجالا ونساء، ولهم أسواقهم، تتركهم إسبانيا في المدينتين يدخلون ويخرجون في مقابل الاحتفاظ بهما إسبانيتين، وتتحول المدينتان إلى غصة في القلب، وأنا ابن جيل التحرر الوطني.
كانت طنجة مثلهما ثم تحررت، فلماذا لا تتحرر المدينتان أسوة بطنجة وسنغافورة وهونج كونج وكيب تاون وربما أيضا قناة السويس قبل اتفاقية الجلاء 1954م والتأميم 1956م.
ومرة دعاني حزب الاستقلال لألقي محاضرة في فندق فاس عن «نظام الحكم في الإسلام». فقلت ما يعرفه الجميع، صغيرا وكبيرا، مؤمنا وملحدا، أنه ليس نظاما إلهيا أو ملكيا أو وراثيا. واستشهدت بآية
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، وأن نظام الحكم في الإسلام شورى، وأن مقاومة الحاكم الظالم جزء من واجب العلماء بناء على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فغادر بعض الأساتذة من الصفوف الأولى، ولم أفهم ما السبب. وأضفت أنه لا يجوز تقبيل يد الحاكم أو قدمه أو حافر حصانه لأن قدره لم يصل بعد إلى تقبيل القدم. وجاءت الشرطة إلى المنزل لاستجوابي في قسم الشرطة، وسألوني: إذا كنت أقصد فعلا ملكا بعينه؟ ألا أقبل يد الوالد أو الوالدة؟ فأجبت بالنفي. وما كان أسهل من الرد علي بالقول بأن سياق هذه الآية هو النظام الفارسي، نظام الكياسرة، والنظام الروماني، نظام الأباطرة! وقد كان داود ملكا على بني إسرائيل، وكانت سبأ ملكة على شعب اليمن وآمنت بنبوة سليمان، ولكن «اللي على رأسه بطحة يحس بها» أو «لك الكلام يا جارة». وظللت تحت الاستجواب، ورفضوا أن أتصل بالأسرة لأطمئنهم علي خاصة وأن حادثة بن بركة في الأذهان. وظل محمود إسماعيل وطه المصري الأستاذ الذي كان لصيقا بالعميد الفاسي يبحثون عني. وأخيرا جاء القرار بأن أترك البلاد في ظل أربع وعشرين ساعة، ثم أفرج عني، وذهبت إلى المنزل والأسرة تبكي. وهنا ذهب محمد عزيز لحبابي إلى بن سودة المسئول عن الجامعات في القصر، وأخبرهم أنها ستكون فضيحة لو طرد هذا الأستاذ الكبير من المغرب، فطلبوا مني الاعتذار، وعن أي شيء أعتذر؟ عن آية قرآنية لست مؤلفها؟ وأخيرا رضي الملك أن يؤخر مغادرة البلاد حتى 30 يونيو نهاية العام الدراسي من أجل الأولاد في المدارس، وطلبوا من زوجتي التي كانت تدرس اللغة الإنجليزية الاستقالة، واشترطوا علي ألا أتكلم خارج الجامعة. ووقعت مظاهرات الشمال، في الحسيمة والناضور يناير 1984م، مظاهرات الفقراء مثل 18-19 يناير 1977م في مصر، واتهم الملك من جديد الأساتذة المشارقة، مصريين وسوريين وعراقيين بنشر الأفكار الاشتراكية في البلاد، أمر بطردهم جميعا في نفس التاريخ. وأنا أعد العدة للرحيل أعددت بيانا لشعب المغرب: «أتيت المغرب طائعا، وأتركه مكرها». وزع على جميع الطلاب والجامعات. وأرسلت الأولاد الثلاثة: حازم، حاتم، حنين جوا إلى القاهرة، بالرغم من رغبة حازم العودة معنا بالعربة. ولما كنا نخاف عليه وعلى أنفسنا فرجوناه أن يعود مع إخوته بالطائرة. وقد أخبرني المؤرخ الاجتماعي والمؤرخ المغربي علي أومليل الذي أصبح سفيرا لبلده في لبنان أن الفكر الفلسفي يؤرخ قبل قدوم حسن حنفي وبعد مغادرة حسن حنفي، وما زال أثري في المغرب مشهودا، أتلقى اتصالات هاتفية، أساتذة الفلسفة، وكانوا يوما ما طلابي في فاس، ينقلون رسالتي إلى طلابهم؛ فالمغرب هو البلد العربي الوحيد الذي درست فيه سنتين، وتحملني النظام السياسي على مضض هذه المدة. وما زلت أرى أن الطالب المغربي هو أفضل من رأيت من الطلاب العرب. أتوق للحياة في المغرب، أنا والأسرة، ونعتبر هاتين السنتين أجمل عمر قضيناه من حياتنا. بنيت منزلي تقريبا أندلسيا، والسكسك والبسطيلة أحضرهما معي كلما دعيت إلى المغرب. لم أوضع على القائمة السوداء ليحجزوني في المطار كما حدث في تونس في عصر زين العابدين بن علي أو في وقت ما في مصر قبل ثورة 2011م، خاصة إذا كنت عائدا من إيران. وما زال الجلباب المغربي لي ولزوجتي أفضل ما ترتديه في القاهرة. وبعد ذلك بعشر سنوات دعيت إلى عمالة فاس لألقي محاضرة، وكنا كأننا في مظاهرة بميدان التحرير. بعدها دعتني عاملة فاس وكانت من حزب الاستقلال للزيارة في لقاء مفتوح مع طلابي القدامى، وأهدتني إبريقا وصينية وأكوابا ستة فضية، وقالت: إن جلالة الملك يهديك التحية، ويهديك ذلك ليعتذر لك عما بدر منه من عشر سنوات. وأقبل الدعوة لزيارة المغرب دائما، مثل ذكرى الأربعين لصديقي محمد عابد الجابري التي أقامها له الحزب الاشتراكي. وكان الطلبة يصفقون ويهتفون كلما ذكرت مثلا اشتراكيا من القرآن الكريم مثل الأخ الذي له تسع وتسعون نعجة ويريد أن يأخذ نعجة أخيه الوحيدة حتى يستولي على كل شيء. رأيت للأسف بعض الأصدقاء الشيوعيين وقد مالوا إلى الحكومة، وتركوا المعارضة، كما رأيت انتشار الحركة السلفية، ووضع بوابات حديد بين طرقات الجامعة لمنع الطلاب من التجمع مثل الحواجز الحديدية في حرم جامعة القاهرة. وفي عام 1984م قبض على ثمان وثلاثين من طلبة السنة الرابعة من قسم الفلسفة لأول مرة، وكنت أهرب لهم الكتب داخل السجن لعل وعسى. وتلقيت دعوة أخرى للاحتفال بمحمد شكري صاحب «الخبز الحافي»، وكنت من أوائل من كتب عنه بعد أن زرته في طنجة ولكني لم أستطع الذهاب؛ فقد كبر السن، وضعف الجسد، وأصبحت جالسا على كرسي متحرك: غادرت المغرب ولكنه لم يغادرني.
وتلقيت دعوة في الصيف لزيارة اليابان، جامعة طوكيو، زميلا لإيزوإتاجاكي لتدريس فلسفة الغرب والشرق، دراسة مقارنة، ويركز هو على تدريس الفكر الإسلامي في الوسط، فذهبت أنا وزوجتي وأولادي الثلاثة إلى طوكيو. دخل حازم وحاتم المدرسة الفرنسية ذاهبين بالمترو، وحنين إلى الحضانة نوصلها على دراجة مثل معظم اليابانيين. وسكنا في بيت للجامعة، وفي البيت المجاور إيراني وزوجته من المعارضين للثورة. وعجبت من سهولة الحياة، بجوارنا ست أوان، في كل آنية نوع من المخلفات: الزجاج، البلاستيك، الكانز، الكارتون، الجرائد، ثم مخلفات المطبخ. وهذا يسهل على تدويرها لإعادة استعمالها. والمواصلات في طوكيو عن طريق المترو تحت الأرض، وتذاكر إلكترونية تفتح البوابات آليا، لا أحد يدفع أحدا أو يسابقه، لا أحد يعاكس أحدا أو يتحرش به، الشوارع نظيفة، وكل ياباني يكنس الرصيف أمام بيته بمن في ذلك رئيس الوزراء. والمطاعم وما أكثرها! بين كل مطعم ومطعم مطعم، وأمامنا كرة حمراء معلقة، والأكلة الشهيرة إسباجيتي بالمرقة، تؤكل بالعصايتين الشهيرتين. والياباني لا يأكل مع زوجته رسميا إلا في نهاية الأسبوع عندما يلبس الكيمونو الياباني، ويذهب الجميع إلى المعبد. والطالب الياباني يستمع جيدا للأستاذ ويدون ملاحظاته، ولكنه لا يناقش ولا يعبر عن تساؤلاته للأستاذ، بل لرئيس الشركة التي يأتي منها؛ فالفائدة عملية له وليس نقاشا حرا بغية العلم مع الأستاذ، والبحث عن الحقيقة أو كيفية البحث عنها؛ فالأستاذ يحاضر وكأنه يكلم نفسه.
وبعد أن انتهى عام جامعة طوكيو دعتني جامعة الأمم المتحدة، وهي الجامعة التي أنشأها يوتانت سكرتير عام الأمم المتحدة الفيتنامي من أجل ربط العالم الثالث بمجموعة من الباحثين الشبان، تنشر الجامعة أعمالهم، وتخرج الجامعات اليابانية من عزلتها، وليست جامعة طلاب وشهادات ودرجات علمية، كي أشرف على الأبحاث في العلوم الاجتماعية فيها، أنسق بينها بدلا من تناثرها، فذهبت لمدة عامين 1985-1987م. وكان هناك مشروعان كبيران: الأول لأنور عبد الملك بعنوان «البدائل الاجتماعية الثقافية»
Socio-Cultural Alternatives (SCA) . والثاني عن التنمية الوطنية لعالم نرويجي كبير استقر في اليابان وتزوج يابانية، ويدور على العالم شرقا وغربا، ويشرف عليه أزنييرو. وكان حسام عيسى قبلي في هذا المنصب، وكنت أزور مواقع البحث العلمي في أفريقيا وآسيا وفي أفريقيا في غانا حيث كان سمير أمين يقوم ببحث في المكتب التابع للأمم المتحدة. وكان هناك مكتبان: الأول في القاهرة يشرف عليه أبو سيف. والثاني في كوناكري-نانا يشرف عليه سمير أمين، يستعملان المنهج الماركسي، كانا لا يقبلاني بسهولة وأنا لست ماركسيا بل يساريا إسلاميا. قابلت سمير أمين في إحدى المسيرات الشعبية في روما ضد الاستعمار، وجها لوجه وكأنه لا يعرفني، وكنت في مكتب القاهرة كنت أشعر أنني غريب عنه، ولسان حاله يقول: ما الذي أتى به إلى هنا ؟ كان الأول معروفا برسالته للدكتوراه بعنون «النمو اللامتكافئ»
Unequal Development ، يأتي إلى مصر بين الحين والآخر، تستقبله دار نشر عين لعدة أسباب، علمية وغير علمية، كما عرف لبنانية كثيرة الكلام كمثقف لبعض هذه الأسباب. ويحمد له أن جمع حوله عديدا من الباحثين الشبان الأفارقة.
وفي الهند عند الباحثين الشبان الجدد، وفي مصر في المكتب التابع للأمم المتحدة. وكانت كل هذه البحوث تحت إشراف موشاكوجي، عالم ومفكر وباحث منفتح على العالم الثالث خاصة أمريكا اللاتينية. وكان رئيس الجامعة من إندونيسيا، المرشح لرئاسة الجمهورية. كان مفكرا من مفكري العالم الثالث. وفي كل مرة أذهب إلى أحد مراكز البحث في أفريقيا أمر على القاهرة لأرى الأسرة. ولم أنقطع عن طلابي فكان نصر حامد أبو زيد في أوساكا أستاذ اللغة العربية، وكنا نتهاتف كل يوم، وهو يكتب «مفهوم النص»، ودعوته إلى مؤتمرات الجامعة عن الثقافة العربية حول مفهوم النص. وبعد سنتين في جامعة الأمم المتحدة وسنة في جامعة طوكيو وسنتين في المغرب يكون المجموع خمس سنوات، وهو ما تسمح به قوانين الجامعة المصرية، فعدت. وكان يمكنني أن أجدد إقامتي بجامعة الأمم المتحدة باعتبارها مهمة قومية، وعلى صلة دائمة بسفير مصر في اليابان وبمستشارها الثقافي الذي كان لا صوت له تقريبا، والمعار من إحدى الجامعات المصرية خاصة قسم اللغة اليابانية بكلية الآداب. وكان أحد الماركسيين المصريين يحوم حول المنصب كي يخلعني مع تشجيع ومؤازرة من كانوا قبلي في المنصب. وكانت أسرتي قد غادرت طوكيو بعد عام واحد نظرا لأن ابني الكبير حازم قد وصل إلى مرحلة الثانوية العامة، وهي شهادة لا يمكن امتحانها في الخارج مثل باقي السنوات السابقة في السفارة المصرية. وكان أحمد عبد الحليم يراسلني في فيورباخ، وأرسل لي رسالته لقراءتها وإعداد الملاحظات عليها. وقبل العودة النهائية، عادت زوجتي إلى طوكيو لتساعدني في الإعداد للعودة النهائية. وأثناء العودة وبمصاحبة زوجتي بدأنا ببانجوك، والمعبد الكبير لبوذا ثم مانيلا وحي اللهو، ثم جاكرتا إندونيسيا وكولالمبور وماليزيا وسنغافورة. وفي كل دولة أتعرف على جامعاتها وأساتذتها ومدى ما وصل إليه المسلمون من مناصب. تعرفت على عبد الرحمن وحيد رئيس جماعة نهضة العلماء بإندونيسيا والذي أصبح رئيس جمهوريتها فيما بعد. دعاني إلى القصر الجمهوري وألقى محاضرة عن فكري والحاضرون ينظرون إلي بإعجاب. وكان قد أتى إلى القاهرة من قبل وهو طالب واستمع إلى محاضراتي قبل أن يكمل دراسته، وغادر إلى العراق. وتعرفت على زين العابدين رئيس جماعة المسلمين بسنغافورة والذي أصبح فيما بعد عمدة لها؛ فقبل العودة إلى القاهرة كان الطواف بالشرق الآسيوي بعد الطواف في المغرب العربي.
وكان الصراع في جامعة الأمم المتحدة التي أسسها يوتانت السكرتير العام للأمم المتحدة السابق بين الإداريين والأكاديميين. وقد كتبت مذكرة إلى رئيس الجامعة الإندونيسي، ورئيس قسم العلوم الإنسانية الذي أعمل به برئاسة موشاكوجي. كان الإداريون لهم رؤية إدارية محضة، وكان الأكاديميون لهم رؤية أكاديمية خالصة، وأصروا على تغليب الرؤية الإدارية على الرؤية الأكاديمية، كما أصررت على إقامة سيمينار مرة أسبوعيا ندعو فيه المتخصصين في الجامعات اليابانية ونقضي على عزلة جامعة الأمم المتحدة التي أنشأها يوتانت كجامعة للعالم الثالث، بحيث تفتحها عليه، وتفتح اليابان عليها.
وكانت الفائدة الكبرى هي السياحة في اليابان خاصة رؤية هيروشيما ونجازاكي، وأثر القنبلة النووية عليهما حتى بعد أن أعيد بناؤهما إلا جزءا صغيرا للذكرى. وما يميز الحكم الياباني بالإضافة إلى الديمقراطية الشديدة الحرفية، تقديس الإمبراطور كما هو الحال في المغرب العربي؛ فهو خارج لعبة الديمقراطية، يعيش في قصر في طوكيو هو وعائلته، ولا يكاد يراه أحد إلا نادرا. وناطحات السحاب الطويلة في وسط المدن لا تنفي البيت الياباني التقليدي في ضواحيها، ويظهر الإحساس بالجمال في كل شبر فيها، والخضرة والورود تحوط كل شيء. والكل يشهد بالنبوغ الياباني: أربع جزر بين آسيا والمحيط الهادي لا مواد أولية فيها ولا طاقة ولا أرض، تستورد الطاقة من الخارج، والحديد من جارتها، لديها فقط العقول والسواعد، وأصبحت تنافس أمريكا الممتدة من الأطلنطي إلى الهادي. والصين التي أصبحت الآن الأولى في التصدير نظرا لمساحتها من المحيط حتى أواسط آسيا، أشار إليها المصلحون كنموذج للمسلمين.
وامتحن الأولاد الثلاثة سنواتهم الدراسية قبل الثانوية العامة في السفارة المصرية، وحين أتت الثانوية، اضطرت الأسرة إلى العودة إلى مصر. وكان الأولاد قد دخلوا المدرسة الفرنسية وتعلموا ما استطاعوا، اللغة والعلوم الإنسانية. واضطررت إلى مغادرة منزل الجامعة الكبير والسكن في غرفة أرضية في منزل ياباني بكيشيجوجي. وكنت قد تعرفت على ممرضة يابانية في إحدى العيادات التي تملأ الأحياء، ورحبت أن أعلمها الإنجليزية، واتفقنا على أن تأتي مرة أسبوعيا في نهاية الأسبوع، وفي المقابل تعطيني هي درسا في أساليب الحياة اليابانية، تنسيق الزهور والرقص والموسيقى والرسم. وكانت تأتي ومعها بعض الحلوى والفاكهة من السوبر ماركت القريب من محطة المترو، وتتصل تليفونيا أنها وصلت، فأذهب إلى المحطة على الدراجة لأصطحبها وهي تجلس على المقعد الخلفي كما نفعل في مصر. وبعد الغداء نستريح، ونسمع الموسيقى السيمفونية، حفل السادسة مساء، ثم تغادر. ومرة أتت وهي جادة أكثر من اللازم، فلما سألت: ما الخبر؟ قالت كنت في عملية جراحية. ولما كنت أعلم ضعف مرتبها ساهمت معها بالنصف، وعندما غادرت بعد سنتين كانت تبكي. وأتت زوجتي من القاهرة إلى طوكيو لمصاحبتي في رحلة العودة النهائية، فبكت أكثر لأنني لم أستطع أن أراها بعد ذلك. وغادرت طوكيو في عام 1987م. وراسلتني عندما قرأت عني في صحيفة
Japan Times ، وهي صحيفة بالإنجليزية، ورددت عليها مرة، ثم انجرف كل منا في تيار الزمن. والمرأة اليابانية على الرغم من أدبها وإخلاصها لزوجها إلا أنها تحب الاستطلاع، وتغيير إيقاع الرتابة التي تعيش فيها، والصداقة نوع من المعرفة وحب الاستطلاع، إذا صادقت أحدا فلمرة واحدة، ثم تختفي وكأنه لم يعرفها حتى لا يكون لها سجل وتاريخ؛ فهناك فرق بين الأبدي لزوجها وأسرتها والحب الوقتي العابر لمن لاقته مصادفة وأعجبت به وتريد معرفته.
وكانت فرصة ونحن في اليابان أن نزور كوريا الجنوبية والعاصمة سيول والتي أصبحت نموذجا للتنمية، ورأينا المعابد البوذية. وفي معبد يتكرر بوذا اثني عشر مرة أو يزيد من الكبير إلى الصغير، والابتسامة على وجهه، يد مفتوحة إلى السماء ويد موجهة نحو الأرض كما نقول نحن
رب السموات والأرض ، ولكن يدينا الاثنتين مفتوحتان كالشحاذ إلى السماء. ومنها إلى جزيرة هاواي في وسط المحيط الهادي، سيادة أمريكية ولكن شعورا يابانيا. ما أسهل السكن هناك في فيلات، وليس في فنادق! وما أسهل أكل اللحوم، الاستيك الأمريكي، والأيس كريم الأمريكي! وركبنا الطائرة السياحية لنرى الجزيرة «من فوق» وأشجار الموز. صحيح أنها تربط بين الشرق والغرب. طالبتي وزميلتي وصديقتي يمنى طريف الخولي أخبرتني كم هي معجبة بجامعة هاواي، ومحاولة التعرف على الفكر العربي المعاصر بما فيه فكري.
وكثيرا ما توقفت في جاكرتا إندونيسيا؛ فقد كان عندي في الولايات المتحدة طلبة إندونيسيون من جماعة نهضة العلماء التي كان يرأسها عبد الرحمن وحيد الذي كان طالبا عندي في الستينيات، ثم ذهب إلى العراق، ثم عاد إلى إندونيسيا. وقد بدأت هذه الجماعة صوفية ثم تطورت فأصبحت عقلية، تسير في تيار محمد عبده. وكانت الجماعة الثانية المحمدية، بدأت عقلانية ولكنها انتهت صوفية بزعامة الريس، تعمل بالسياسة مباشرة في حين أن نهضة العلماء تعمل بها بطريق غير مباشر، يكفي استنارة الجمهور ووعيه بالوضع السياسي. تجاوزهما محمد مهاتير العقلاني التجريبي في ماليزيا، وأصبح قادرا على أن يصبح رئيسا للوزراء، وقد عرفته في معهد الفكر الإسلامي الذي أسسه وأداره في كوالالمبور، وعملت معه في كيفية تطوير المعهد، بعمل برامج تنموية محددة، وعندما أتى مصر طلبني، فحادثته عبر التليفون في برنامج معه. كان يلتف حوله السلفيون والإصلاحيون والماركسيون؛ فالتحدي هو التنمية وبناء البلاد. ولما اطمأن إلى مشروعه التحديثي 2020م استقال، ونادرا ما يحدث ذلك في الوطن العربي؛ فالرئيس في الحكم إلى أن يقضي نحبه بشكل طبيعي أو اغتيالا أو إزاحة من الحكم بانقلاب أو بثورة شعبية، وهو في سجن أو مستشفى أشبه بفندق من النجوم الخمسة!
ولما ذهبت إلى المغرب واليابان (1982-1987م) كان أبو الوفا التفتازاني هو رئيس الجمعية الفلسفية، فلم تنشط الجمعية، وعدت ووجدت في محمود حمدي زقزوق خير صديق ورئيس للجمعية، وما زال حتى الآن يباشر نشاطه خاصة المؤتمر السنوي من كل عام في الجلسة الافتتاحية مع رئيس القسم والعميد ورئيس الجامعة وكلمة الضيوف العرب. وكان أول رئيس للجمعية هو إبراهيم بيومي مدكور، وهي الجمعية التي أسسها منصور فهمي باشا ثم انقطع نشاطها بسبب الحرب، ثم استأنفه علي عبد الواحد وافي ومحمود قاسم وعثمان أمين وعثمان نجاتي، وكانت تجمع بين الفلسفة والاجتماع وعلم النفس، كان يقتصر نشاطها على الإصدارات، ولم يكن لها مقر ولكن كان يديرها محمود قاسم من كلية دار العلوم بالمنيرة، ثم انقطع من جديد. وكنت أنا قد أعدت نشاطها، وبحثنا عن مكان ووجدناه في مساكن هيئة التدريس بجامعة القاهرة بالدور الأرضي، شقة كان يمتلكها أستاذ في كلية الهندسة، فاتفقنا على تقسيط التسعين ألفا. واستمر النشاط بتأييد من جامعة القاهرة في المؤتمر السنوي، وبدعم من وزارة الثقافة التي خفضت الثلاثين ألفا من فاروق حسني إلى المنتصف عندما كلمه محمود حمدي زقزوق رئيس الجمعية في ذلك الوقت ووزير الأوقاف، فتبرع للجمعية، وأعطانا على مدى خمس سنوات كل سنة ثلاثين ألفا سددنا بها أقساط الشقة، وأسسناها، وفتحنا صالة كبيرة للمحاضرات، وصنعنا دواليب للكتب ومكتبا للكومبيوتر والتليفون والإنترنت، وعينا موظفة ثم موظفتين. وبدأنا في طباعة مجلة الجمعية السنوية، ومطبوعات الجمعية، وندوات الجامعة الشهرية، والندوة السنوية التي أصبحت تجمعا للتفلسف للوطن العربي خاصة الوطن الشقيق، الجزائر والسودان، ثم قطعها جابر عصفور، ثم عادت بفضل صابر عرب وشاكر عبد الحميد وحلمي النمنم مع تخفيضها إلى النصف من صندوق التنمية الثقافية، مع تقديم كل الوثائق اللازمة في كيفية الصرف. وقد بدأنا بعدة محاضرات للأساتذة، ثم بمؤتمر سنوي في الجامعة أيدته الكلية بخمسمائة جنيه. واستمر نشاط الجمعية على هذا المستوى الصغير بدفتر توفير في البريد في يد الزميل أحمد عبد الحليم كان فيه أربعون جنيها قبل أن تتحول إلى الحساب البنكي حينها لرغبة وزارة الشئون الاجتماعية التي تخضع لها الجمعيات الأهلية. ونظرا لشدة خلافي مع النظام السياسي حول سياساته خاصة كامب دافيد، فقد أمرنا العميد في ذلك الوقت بالمغادرة؛ فنحن جمعية أهلية والمكان مؤسسة حكومية، فاستغربت لأن معظم الجمعيات الفلسفية تمارس نشاطها من خلال أقسام الجامعة المماثلة. وأنا أدير الجمعية منذ نشأتها الثانية 1976م منذ أربعين عاما متواصلة، فإذا افتقرت لأسباب مالية دفعتها من الجوائز التي آخذها، التقديرية والنيل. والآن نفكر في تغيير الأجيال حتى نطمئن على استمرارها من جيل آخر بعد اعتلال صحتي، وقد وصلت أربعا وثمانين عاما. وما زال زقزوق يتحمل أعباء الجمعية واستشارته فيما يطرأ عليها من مصاعب. وحاولنا أن ننقل مسئولياتها على جيل، ولكن عين البعض كان على الرئاسة، يريد أن يأخذ أكثر مما يعطي، فظللنا كما نحن عمودين للجمعية، ولو بصفة شرفية حتى يقل طمع الطامعين خاصة بعد أن أصبح لها وديعة في البنك نصرف من عائدها على النفقات الشهرية للموظفين وفواتير الكهرباء والماء والإنترنت والإيميل وصيانة العمارة التي بها شقة الجمعية لاتحاد الملاك. واستقال أمين الصندوق سمير أبو زيد وقاطع الجمعية لأنه رفض صرف هذا القسط الكبير للشقة من ميزانية الجمعية، فأخبرته أن المقر ضروري، وأن البديل بعد أن تركنا الجامعة هو الشارع. واستلمها صديق عمر منذ عودتي من باريس وهو أحمد الأنصاري كسكرتير عام، ولم أر إنسانا مخلصا مثله في العمل التطوعي، وهو خريج قسم فلسفة، وقد أشرفت على رسالتيه، الماجستير والدكتوراه، وراجعت ترجماته العديدة لمؤلفات رويس، فتطوع باستلام الجمعية وأصبح دعامتها الأولى ماليا وإداريا، وكان وفيا في الإشراف على حساباتها وطباعة مجلتها وأعمال ندواتها السنوية، والاشراف على الجمعية العمومية السنوية، والاستجابة لمطالب وزارة الشئون الاجتماعية التي لا تنتهي، فكان ذراعي الأيمن الذي حاول آخرون قطعه، أستشيره في كل شيء، وأعرف أن نصيحته خالصة لوجه الله. أما السابق فقد كان يكتب عدة مقالات في الأهرام ويمضي باسمه عضو الجمعية الفلسفية المصرية، ولما نصحته بالعودة إلى نشاطه بالجمعية اعترض بأن واحدا فقط هو المسيطر عليها، فطلبت منه أن يحاضرنا في اعتراضاته على سير الجمعية، فأتى ولم يقل شيئا ذا قيمة. وأذكر إخلاص رشا ماهر وقدرتها على الإدارة التنفيذية للجمعية حتى شعرت بالتعب، وفضلت إكمال رسالتها للماجستير واختفت، فخلفتها ليزا سعيد وآلاء شلتوت بقيمتهما الفائقة في إدارة الجمعية، والاتصال بالأعضاء، والترتيب الإداري للندوات الشهرية، الأحد الثاني من كل شهر، والمؤتمر السنوي في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر من كل عام. والجمعية تبارك للسكرتيرة الأولى بالزواج والإنجاب من المهندس كريم، وترجو لآلاء أن تلحق بها عن قريب.
الفصل الثامن
رئاسة القسم ومحاولة تكوين
مدارس فكرية (1987-1995م)
عدت إلى الجامعة وأنا في شوق إليها، إلى الطلبة والقسم، خاصة وأنها السنوات الأخيرة قبل أن أحال إلى المعاش. تسلمت رئاسة القسم عام 1988-1994م على فترتين متتاليتين، كل فترة ثلاث سنوات. وكان همي هو ربط القسم فلسفيا ، وتعاون الأساتذة مع بعضهم البعض لأداء الفلسفة كرسالة، وليس فقط كمهنة. كانت مهمة صعبة، كيفية التعامل مع الزملاء ومع تضارب المصالح وتدخل الأهواء البشرية مثل الغيرة والحقد. وكنا نضع في لجان الامتحانات أسماء زكي نجيب محمود صوريا ويأخذ القسم مكافأته للصرف على المناسبات التي تمر بالقسم، فذهب أحد الأساتذة ومضى بالاستلام من الصراف بعد أن أعطاه «بقشيشا» كبيرا ليزيحني مع أنه ضد القانون، وذهب إلى الأستاذ الكبير وأعطاه مكافأته، وأبلغه أن رئيس القسم هو الذي يأخذ هذه المكافأة وليس القسم، فذهبت إليه، وشرحت إليه هذا الأمر وقال لي: «كان من المستحسن إبلاغه، وعمل ذلك بطريقة أفضل.» فاعتذرت إليه. وحاول بعض الأساتذة مقاطعة جلسات مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب فيبطل الاجتماع، لكن كان النصاب باستمرار مكتملا؛ فبعد عام عادوا لحضور مجلس القسم مثل العصا في العجلة الدائرة. تحملت كل شيء بحكمة وعدل، فأدخلت في القسم عدة مواد جديدة أو حاربت من أجل إدخالها، فلسفة التاريخ للسنة الرابعة، وكنت أدرس المادة فأثير سؤال: في أي مرحلة من التاريخ أنا أعيش؟ بعد عرض فلسفات التاريخ في الغرب. وسؤال: لماذا لم يظهر موضوع التاريخ في تراثنا باستثناء ابن خلدون؟ كما أدخلت الفكر العربي المعاصر حتى يتخرج الطالب وهو على علم بما يدور حوله وبماذا يفكر الناس. وحاربت من أجل إدخال فلسفة اللغة التي أصبحت أحد المداخل للفكر الغربي المعاصر. وأدخلت فلسفة الدين في السنة الأولى بحيث يعرف الطلاب أن الدين علم يمكن دراسته في علم تاريخ الأديان. وجاهدت من أجل إدخال اليهودية مع المسيحية في فلسفة العصور الوسطى. ويحاول البعض الآن إدخال «فلسفة البيئة»، و«فلسفة المرأة»، و«فلسفة حقوق الإنسان» ولو في الدراسات العليا. واستدعيت أساتذة زائرين مثل حسام الدين الألوسي من العراق في الفلسفة العامة، أنور عبد الملك من مصر في الفلسفة السياسية، ورشدي راشد من مصر ومن المركز الوطني للبحث العلمي بباريس في فلسفة الرياضيات، وسيد حسين نصر من العراق في الفلسفة الإسلامية حتى يسمع الطلاب أصواتا جديدة في الفلسفة .
ولما أصبح رئيس الغيورين رئيسا للقسم لم أستطع الجلوس فيه حتى تقل هذه الغيرة وينضج من كل كلمة يقولها أو فعل يفعله؛ فكنت أجلس في قسم اللغة العربية المجاور، ولي فيه أصدقاء، يقابلني الزملاء والطلبة هناك، ولا أحضر مجالس الأقسام حيث الكراهية تشع من العينين. وأزيح من رئاسة القسم، ولم يكمل دورته، فعدت إليه، وكان القسم ما زال في المبنى القديم، وكان في حالة يرثى لها؛ فالأساتذة مع الرئيس أيا كان بحثا عن مصالحهم الخاصة كما يحدث في الدولة. وتحول القسم إلى عصابة، ورئيس قسم آخر يفتح الباب بدفعة من قدمه احتقارا له، وثالث يساند في جانب ومثله في جانب آخر كما يفعل المنافقون، وآخر عقله في القسم، ولكن قلبه مع منصب أعلى يتطلع إليه؛ فرئاسة القسم سلم للعمادة، والعمادة سلم لرئاسة الجامعة، ورئاسة الجامعة سلم للوزارة، والوزارة خطوة نحو رئاسة الحكومة، بل أصبح رئيس القسم موضوعا للتندر والسخرية في المسرحيات الذكية مثل «أستاذ ورئيس قسم».
وكان همي إنما هو تكوين مدرسة فكرية في القسم كما فعل طه حسين وأمين الخولي بقسم اللغة العربية، ومصطفى عبد الرازق بقسم الفلسفة، ومحمد أنيس بقسم التاريخ، ومحمد صقر خفاجة بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ورشاد رشدي بقسم اللغة الإنجليزية.
وفي نفس الوقت كنت رئيسا للجان العلمية لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين في الفلسفة، حاربت فيها «التربيطات» من أجل ترقية أحد الزملاء بتشكيل لجنة ثلاثية للفحص موالية أو أخذ اللوم لأن أستاذا لم يرق، بل والخصام والعداء، وقد كنت عضوا ثلاث سنوات عندما كانت لجنة فلسفة وعلم نفس واجتماع ثم أمينا لها ثلاث سنوات أخرى، ثم ست سنوات رئيس لجنة الفلسفة معي في الدورة الأخيرة أمين الفلسفة فيصل بدير عون صامدين ضد أي تدخل خارجي لصالح أحد المتقدمين، ثم جاءت اللجنة الثالثة تسير في نفس الطريق حتى وهنت. وكانت لجنة التظلمات هي الباب الخلفي والتي يرقى فيها من لا يرقى في اللجنة العلمية.
أما الأبناء فسأذكر ابني البكر الذي أصبح نجما من نجوم الفلسفة العربية والإسلامية . وقد سرني أن كتب عني مقالا يقارن فيه بين «من العقيدة إلى الثورة» و«اليسار الإسلامي»، والمقارنة بين الاثنين خاطئة. «من العقيدة إلى الثورة» المستوى العلمي لمشروع «التراث والتجديد». أما «اليسار الإسلامي» فهو المشروع الشعبي. الأول للخاصة والثاني للعامة. ومع ذلك فرحت لأن أحد تلاميذي تجرأ ونقد الأستاذ على غير من يتكلمون في الموضوع ولا يذكرون الأستاذ أبدا، مع أن ذلك من أصول البحث العلمي للدراسات السابقة. وقد رجوته أن يستمر في نقده لي حتى يحدث التراكم العلمي الكافي لإحداث تيار فلسفي، فكان يكتفي بالنقاش الشفاهي بيني وبينه. وسرني أن تصلني عدة دراسات ورسائل للماجستير عني في كل أرجاء الوطن العربي ومن المغرب العربي، الجزائر وتونس وليبيا، والأردن والعراق ولبنان، حتى كل المشرق الآسيوي، اليابان والصين وإيران، تقريبا بمنهج العرض للتعريف بمشروع «التراث والتجديد» وبفكري أو ناقدا إياه من وجهتي النظر الماركسية أو السلفية، ومنهم من يأخذ جزءا من المشروع ويفنده مثل «مقدمة في علم الاستغراب» دفاعا عن الغرب ظانا أن الكتاب به نقد للغرب دون أن يتأكد من هذا الجانب في نظرية المعرفة، وقلب الذات إلى الموضوع، والموضوع إلى الذات، استكمالا لحركة التحرر الوطني على المستوى الثقافي والفكري والحضاري. وقد كنت أحد أفراد اللجنة الخماسية التي شكلها مجلس الكلية مع مصطفى سويف للرد على تقرير اللجنة بعدم الترقية التي تدخلت في ضمير الباحث وحكمها عليه بالإلحاد والكفر بأن ذلك خارج اختصاصات اللجنة العلمية ردا على تقرير اللجنة الثلاثية الذي وافقت عليه اللجنة العامة، ولكن الأمر قد تسرب إلى الإعلام. ودخل تلميذي في مباراة إعلامية ضد من ردوا عليه، ودخل المتخصص وغير المتخصص، من يريد الشهرة ومن يريد الإثارة الصحفية. وبالرغم من نصيحتي لتلميذي ألا يرد، وألا يتكلم في الإعلام فذلك شأن جامعي خالص، ولا يناقش إلا في الجامعة بين متخصصين، ولكنه أصر على مواجهة الإعلام؛ فلا فرق بين معركة الجامعة في الداخل ومعركة حرية الفكر في الخارج، فأبلغته أن الأمر ما زال مبكرا. يكفينا أن نكون كتيبة في الداخل مثلي ومثله قبل أن تخرج إلى المجتمع. نحن الآن نقوم بحرب عصابات «اضرب واجري»، ولا نستطيع أن نكون جبهة مثلهم. علينا أن ننتظر عدة أجيال؛ فكما اكتشفته أنا فعليه أن يكتشف آخرين من طلابه حتى نكون جبهة في مقابل جبهة. أما الآن فالمعركة ما زالت مبكرة. وقد كانت هذه هي نصيحة إبراهيم بدران رئيس الجامعة لي. ليس للمجالس الإدارية وليس للجنة العلمية الحق في النيل منا حتى لا نصفى واحدا تلو الآخر، ثم حدث ما حدث بتركه البلاد، ثم استمع إلى نصيحتي أن يعود إلى الجامعة ولو ليوم واحد قبل المعاش أي سن الستين، حتى يعين أستاذا متفرغا، وهو ما حدث.
وهناك عدة نماذج جامعية، زملاء وطلابا أصبحوا أساتذة يمكن تصنيفها كالآتي: (1)
الغيرة التي تتحول إلى كراهية ثم إلى كراهية بدلا من المنافسة الشريفة، نموذج الغيرة من العلماء دون التقدير أو حتى المنافسة الشريفة والتحدي المهني؛ فتتحول هذه الغيرة إلى كراهية، والكراهية إلى عداوة علنية، خاصة إذا كان في اليد سلطة وقدرة على الإيذاء، بتعاون مع الإدارة لتحويل هذه الأهواء إلى قرارات إدارية مثل المنع من التدريس أو عدم الموافقة على تقرير اللجنة العلمية للترقية في مجلس القسم حينما يكون الأستاذ الوحيد أو يخاف منه باقي الأساتذة اتقاء لشره، وحرصا على مصالحه. وتتدرج الكراهية من مجلس القسم إلى مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة؛ فهذه المجالس تأتمر بأمر الأمن لمعاقبة من يقف ضد النظام. ويعود القرار بالترقية إلى اللجنة العلمية فتعيده إلى المجالس الإدارية فإنها قالت كلمتها؛ فإن القرار بالترقية هو قرار اللجنة العلمية وليس موافقة المجالس الإدارية، فتسقط الأهواء الذاتية أمام موضوعية العلم، وينال هذا النموذج جزاءه من الدنيا قبل الآخرة بالإهمال وعدم نيل أي استحقاق علمي، وتفرق الطلبة عنه وإصابته بالكسور والأمراض وعدم التوفيق الأسري، وينتظر نهايته منبوذا من الجميع إلا ممن استمر على النفاق والمداهنة بدافع الإخلاص والوفاء.
ويتكرر هذا النموذج حتى في التلاميذ ضد أساتذتهم والذي قد يصل إلى حد الإحالة إلى التحقيق لتوقيع العقاب أو مرة إلى القضاء إذا كان العقاب الجامعي لا يكفي، «الفاضي يعمل قاضي»، يشعر أنه أخذ الماجستير أو الدكتوراه بغير حق، ويفرح أنه تمت ترقيته إلى أستاذ مساعد وأستاذ وهو لا يستحق، وينال مناصب إدارية لأنه ينفذ ما يطلب منه من ممثلي النظام، ليس له مؤلف يعرف به أو يقوم بها تخصصه، وليس له دور في الثقافة العامة، يستمر في الإيذاء لإثبات الوجود، وهو محط احتقار الجميع. ويتحول هذا النموذج إلى خارج الجامعة، من الغيرة والكراهية والعدوان إلى الاستعلاء والاستكبار على الآخرين؛ فهو الأجمل والأعلم والأقدر على الصعود على أكتاف المشاهير وعن طريق صداقاته العليا أو الأيديولوجيات التقدمية ليعلو ويستكبر به على الجهلاء، يتوسط به الصغار حتى ولو كانوا من الأساتذة لقضاء مصالحهم، ويرقى في الدرجات العلمية باختيار لجان فحص أقل علما وقدرة. وقد انتشر هذا النموذج خارج القسم في الأقسام المشابهة في جامعات المحافظات؛ فالنموذج يتحول من فرد مؤسس إلى عصبة تتبادل المصالح. وهو قادر على الفهم، ولكنه كما يستعلي على الزملاء يستعلي على النص، وينظر إليه من عل، ويعيد التعبير عنه بلغته الخاصة، كتب عدة مقالات في إحدى المجلات العربية الشهيرة عن طريق الواسطة، وتوسط لمن أشرف عليه في الدكتوراه كي يأخذ جائزة الدولة التقديرية بعدي بعام، كان يرى أنه مخلوق من جنس آخر غير بني آدم، من ذهب وليس من طين، تأخر في ترقيته والتي تمت أخيرا عن طريق لجنة اثنان يميلان ويتحيزان له، الأولى لضعفه العلمي، والثانية لصداقته لأستاذه، وما زال يخاصم ويصادق طبقا لأهوائه ومصالحه مثل أستاذه، وأرجو أن يرقى إلى أستاذ قبل أن يحال إلى المعاش، وأعتذر أيضا لذلك. قد يكون الانطباع خاطئا، وقد يكون الأمر أفضل بكثير مما أتصور. وهل من الضروري الحكم على الأشخاص بما يجب أن يكون أم يكفي بما هو كائن؟ وبماذا يجيب كانط؟ أعتذر للجميع مرة ثانية، وأذكرهم بأنني معهم وليس عليهم؛ فأنا بمثابة الأب، وأذكرهم بآية:
ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .
ومن ينتمي إلى النموذج الأول كان أول من أوصت دار نشر بمراجعة ترجمتي لكتاب جان بول سارتر «تعالي الأنا موجود»، وكان يحسن استعمال المصطلحات الفلسفية، وله قاموس بالاشتراك عن المصطلح الفلسفي. لم يكن قد ظهر اتجاهه السياسي بعد إلا أنه ماركسي، وأنا لم أشعر أنه كذلك. يبدو أنه كان كذلك عندما كانت الماركسية رائجة من خلال الاشتراكية العربية. والآن يعيش على قضيتين: أن ابن رشد ليس مثله من قبل ولا من بعد، وهو ممثل العقلانية. والثانية الهجوم على الأصولية، والدفاع عن العلمانية الغربية. ارتبط بالدوائر الفلسفية الغربية أكثر من العربية، ويكتب أسبوعيا في الأهرام ويكرر نفسه. لم يحصل على أي جائزة، وهو الآن مفكر الجامعة للهجوم على الإسلاميين.
وهناك أيضا زميل من خارج القسم هو صديق تاريخي من أيام باريس ومؤتمر المبعوثين، وظللنا على صداقة مستمرة نحضر المؤتمرات سويا، وكل منا معجب الآخر، ثم أتت فترة بان فيها الخلاف. هو من المعجبين بالرئيس الجديد، واتهمني بأنني بعد خمسين عاما أنني من الإخوان، وأنا لا أعجب بأحد، بل مهمتي نقد الحكم بناء على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أطالب بالحريات، والإفراج عن المعتقلين، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية بعد أن ارتفعت الأسعار، فاغتنى الأغنياء وافتقر الفقراء. اتهمني في صحيفة لا يقرؤها أحد، ورددت عليه مواجهة بأنه يعمل لحساب الدولة «عميل الدولة». كاتب مراوغ لا يوجد فيما يكتب أي نقد للوضع الحالي، وكل ما يكتبه مستمد من الإنترنت لعرض آخر النظريات في العلوم السياسية والاجتماعية، ونبهته على ذلك أكثر من مرة، فإذا لم يجده في الإنترنت طلب مني أن أكتب له هذا الموضوع في عدة أوراق. نال عدة جوائز من الخليج لأن كلامه لا يضر ولا ينفع في حين أنني منعت جائزة الملك فيصل في علم أصول الفقه، وألغيت في العام الذي تقدم فيه الناشر بكتابي في الموضوع «من النص إلى الواقع»؛ فمقالي الحسن هو ما لا يتعرض للنظام ويقول كلاما في الهواء لا يصيب، ومقالي السيئ هو الموجه ضد النظام، رئيسا أو مؤسسات لأنه يصيب. وعندما نكون على منصة واحدة يتكلم كلاما ليس موجها ضد أحد، فأحسست أنه أيضا غيور مثل باقي الزملاء الذين أعيش بينهم منذ خمسين عاما، وما زلنا متخاصمين؛ فأنا لا أحب التابع للنظام، وهو لا يحب الناقد له، طريقان مختلفان. وكثيرون غيرهم كونوا جماعة مضادة لي في مؤتمرات وندوات، ولكني لا أرد. لم يزر إسرائيل مثل غيره من الاجتماعيين ولكن لا مانع لديه من استقبال صحفيين إسرائيليين في مكتبه بالرغم من الثورة عليه.
ومنهم من كان صديقي الأول في مصر أستاذا ورئيس قسم الفلسفة بعد تعييني في القاهرة، استقبلني استقبالا حارا، وانتدبني للتدريس بالقسم بعد سفر رئيس القسم السابق إلى إيران ثم إلى باريس، وقراره بعدم العودة نهائيا إلى مصر لأن القسم طلب منه أن يكتب طلبا للعودة بعد جوازه السنوات المقررة بالإعارات فرفض لأن كرامته لا تسمح بذلك. وكنت أهديه أول نسخة من أي كتاب يصدر لي، ثم غادر في إعارة، وتجاوز المدة المقررة بخمسة أضعافها، وعاد وهو يريد أن يصبح صحفيا مثل هيكل، فكتب مرة أو مرتين في الأهرام فلم يلتفت إليه أحد؛ فشتان بين الكاتبين. ونظرا لطول إقامته في الإعارة بمفرده استعمل حريته إلى أقصى حد حتى بعد العودة، وعلمت أسرته بذلك فأتتني باعتباره صديقي الأول في مصر ، وأسرت لي بما يدور في خلدها وهي تبكي، فلم أستطع إلا أن أتعاطف معها، ثم جاء الصديق ليقنعني بموقفه، ويأخذني إلى صفه كما فعل كل زملائه بالقسم رغبة في الإعارة أو مدها. ولما كنت أبغي الحق فلم أغير موقفي، فما رأيت منه إلا أن كتب مقالا طويلا ضدي، وضد «اليسار الإسلامي»، واتهمني بأنني زعيم الحركة السلفية وممثل الإمام الخميني في مصر ومن أنصار الثورة الإسلامية في إيران في وقت كان النظام السياسي في مصر يعادي الثورة خوفا من الإخوان. وكان الرئيس يغالط في كلماته ، ويتهم الخميني بأنه يقول «الله أكبر، الخميني أكبر.» أي إنه أكبر من الله مع أن الكلمة الفارسية «هربر» تعني قائدا أو زعيما. وظل الرئيس يعتمد على هذه المغالطة لتملق الحس الديني للجماهير، فتعادي الثورة الإيرانية. فحزنت أن ذلك يأتي من أعز صديق لي في مصر، فقاطعته. وعلم صديق مشترك بيننا علماني الاتجاه مثله، ودعانا إلى العشاء عنده لعلنا نصطلح، وأدخلنا الشرفة وأغلقها علينا. وانتظر هو أن أفاتحه في الأمر مع أني هو المعتدى عليه، وانتظرت أنا ليبدأ بالاعتذار، ويوضح موقفه، ولكنه لم يفعل استكبارا؛ فمن مثله يعتذر؟ ومن مثلي حتى يتم الاعتذار له؟ وبعد مدة لا نعرف ماذا نقول وفي أي موضوع نتحدث غادرنا الشرفة، والصديق المشترك يتعجب من عدم إتمام المصالحة. ورأيته مرة واحدة في عزاء زميل مشترك آخر بالمجلس الأعلى للثقافة، يسنده اثنان لأنه لا يستطيع السير، ومن يومها لم أره حتى وفاته. تحدثت إليه مرة واحدة تليفونيا عندما علمت أنه قد هدد من الجماعات الإسلامية بالقتل، وأطمأننت عليه، وأعلنت مساندتي له، ووقوفي بجانبه. (2)
الصداقة التي تنقلب إلى غيرة وعداوة في فترتين من العمر، من النقيض إلى النقيض. وهو النموذج الثاني الذي تبدو عليه علامات النبوغ الفكري كمفكر وليس كباحث، والبحث العلمي أداة للتفكير الحر. وجد صعوبات في حصوله على الماجستير لأن الفلسفة الإسلامية كانت تتم بشكل تقليدي تاريخي. وكرر نفس الشيء في الدكتوراه معي، فكر جيد ولكن بحث علمي ضعيف غير موثق، فنصحته أنه يمكن أن يحصل على الدكتوراه معي، ولكن المهم ما بعد الدكتوراه أن يعيد النظر في منهجه لأنه لا يحفر بيديه ويستخرج النفط من البئر بنفسه دون أن يعتمد على أفكار الآخرين، ويعيد إنتاجها بأسلوب جديد؛ فجيد أن يكون الإنسان مفكرا بعد البحث والتمحيص والحفر باليدين، وليس قبله، ولم يستمع. كان يريد الشهرة بسرعة، فالتصق بتلميذي الآخر نصر حامد أبو زيد لأنه لم يعترض على الشهرة السريعة أو مخاطبة الإعلام. وبدأ الخروج إلى الإعلام، وكتابة أفكاره في الصحف، فكان يأخذ قطعة من «النداغة» من فمي فيكون منها بالونة كبيرة حتى تكبر ويراها الناس ثم تنفجر بسرعة لأنها لا تستمد هواءها من ذاتها. كان هدفه الشرب من بئري لينال شهرة نصر حامد أبو زيد؛ فهو خليفته، مع أنه على النقيض؛ فنصر حفر بيديه بعد أن أخذ الشرارة مني. ونبهته إلى أن ذلك ليس بحثا علميا، ونبهته إلى أن البحث العلمي ليس أخذ قطعة من السكر أو الملح من ماء غيره ويذيبها، فلم يستمع، وتقدم ببحوث من هذا النوع، العلم مني والشهرة من نصر حامد أبو زيد، وأسمع من الزملاء أنه كان كثير النقد والتجريح لي. ومرة أراني زميل ما كتبه على الفيسبوك بأنني كاهن الفلسفة في مصر، ورجل النساء والشهرة والمال والأسفار، وأنني لا أعرف الموضوعية ولا الملوخية، وأنني سبب تعطيله في الترقية إلى أستاذ مساعد. وعندما كلفته بجمع أوراق «التراث والتجديد» تقدم بها للترقية إلى أستاذ مساعد عن «الثيولوجيا والأنثربولوجيا»، وأخذ من نصر حامد أبو زيد «النص والخطاب». مع أنه طلب الأوراق التي وصلت إلى الجمعية فأعطيناها له؛ فالعلم ليس فيه احتكار. وقد وجد صعوبة في الترقية، وتقدم أربع مرات، ورفضت الترقية لعيب في المنهج، فتقدم إلى لجنة التظلمات التي كونت لجنة ثانية «مطبوخة» فرقته. وأنا لا أعطي لذلك أي اهتمام حتى إنه قال إني أغار منه! وعرف العميد ذلك وسألني هل يقدمه إلى التحقيق، فرفضت؛ فكيف يشكو الأب أبناءه؟ كما أن الزمن سيعلمه. وقد تقرب من أحد الأساتذة الغيورين مني والذي أعطى زوجته رسالة ماجستير عن «إخوان الصفا» في إحدى الجامعات الإقليمية. اخترته عضوا في لجنة مناقشة طلب لرسالة دكتوراه، وما إن علم العضو الثالث حتى أراد الاعتذار، وخفت أن يأتي الإعلام فيصور المناقشة، ويشهر في اليوم الثاني بنا، فطلبت تغييره إلى أستاذ آخر بناء على طلبه. وجاء مدرس كاره، وكان تلميذا لي من قبل، ويظن أنني وقفت ضده في ترقيته إلى أستاذ مساعد منذ عدة سنوات، يطعن في أمام القسم دون أن يتحدث هو بأنه هو الذي طلب الانسحاب. وقد صاحب نصر حامد أبو زيد في رحلته الأخيرة من إندونيسيا إلى القاهرة، ثم توفي نصر بعدها بعد أن طلبت منه زوجته نقله إلى القاهرة، وليس إلى هولندا. قال نصر قبل أن يغادر هذا العالم: «علينا ألا نترك أستاذنا وحيدا، وأن نقف معه، ونتعلم منه.» وحينها اتصل بي الأستاذ آخر مرة، وقال إنه يريد أن يحتفل بعيد ميلادي ليس بالطريقة المعهودة، فأفرغت ما في قلبي تجاهه، مددت له ذراعي فقطعه. كانت كتابته أشبه بالمقالات الثقافية المطولة، يعرض أفكاري وكأنها أفكاره، ولم يشر إلي ولو لمرة واحدة في إحالاته المرجعية، وكأن هذا الماء قد خرج من بئره. لم يهدني أي كتيب من كتيباته ظانا أنني لم اكتشف خداعه ومصادره غير المعلنة. كان القسم يعتبره خير من يخلفني، ولكني اكتشفت باطنه كما عرفت ظاهره؛ فقد كان يبدي إخلاصا لي في الظاهر، ويبطن عداوة في الباطن، ثم توفي بعدها رحمه الله دون أن ينال لقب باحث أو مفكر، وسمعت أنه قال وهو في النزع الأخير: حسن حنفي هو أستاذي في النهاية. وتكونت حلقة معادية لي من تلاميذي الذين أصبحوا أساتذة بأنني السبب في إجهاضه بل وموته شهيدا للفلسفة بسبب كراهية القسم له. وتقرب إلي أستاذ كان في معيته، وكان يسعى إلى نحو الشهرة والمال، وكان يكتب في «الأهرام» و«القاهرة»، وجعلوه نائب رئيس لجنة الاحتفال بنصر حامد أبو زيد بعد أن كانت زوجته رئيسا، ولكنه كان يريد أن يكون الرئيس ولا أحد غيره. أتى مرة إلى مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية، وحضر يوما واحدا لأن هناك عربة ستغادر إلى القاهرة، وكان سؤاله: «هل أنت رئيس كل الجلسات دائما؟» وقد أراد زحزحتي عن درس التأويل في الدراسات العليا، ولو كان طلبه بمحبة لكنت تركته له. كان إذا أتاني الطلبة الإندونيسيون عندي كما يفعلون كل عام أدعوه للمشاركة. ودعا هو رئيس جمعية نهضة العلماء إلى الأهرام مع أحد كتابه الغيورين وسأل: «طبعا أنت راجع من السفر وتعبان ولا تستطيع أن تأتي إلى «الأهرام»؟» فأجبته: نعم. أراد أن يحل محلي ومحل نصر حامد أبو زيد، كان يريد أن يسير على طريق شقه غيره، وكانت الدراسات العليا عند فلان، مثل «من محمد عبده إليه» لوصف مسار الفكر الإصلاحي. هذه شهادة للحق وأعتذر له وهو في السماء حيث يسود الحق والعدل إن كنت قد ظلمته في شيء، وليرد علي أحد من مجموعته. وقد يحدث هذا في الطبعة الثانية من الذكريات يردون فيه على تجربتي مع الراحلين؛ فربما أكون قد أسرفت أو أولت أو ظلمت. والله أعلم. (3)
الازدواجية بين القول والفعل، بين اللسان والقلب، صداقة باللسان، وعداوة بالقلب والفعل، إظهار غير ما يبطن؛ باللسان صداقة وحب وتقدير وعرفان بالجميل، وبالقلب كراهية دفينة، وبالفعل إيذاء وانتقام. يقضي حياته في إيذاء الآخرين، يشعر بضعف الشخصية والعلم النسبي، ويتخفى وراء الآخرين، ويعمل تحت أجنحتهم، لا يستطيع أن يعمل بمفرده أو يقوم بواجباته إلا من وراء آخر، في تربيطات ومحاور. هو «تافه» في رأي أحد من يحتمي وراءه، لم يسمع حديث الرسول: «لا تأتوني بأنسابكم، وأتوني بأعمالكم.» ولم يسمع عن آية:
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا . يترك العلم مع أنه قادر عليه لو أخلص له، لم ينل إلا أصغر التقديرات وهو التقدير الذي يناله أصغر الباحثين تشجيعا له. ويتشكل هذا النموذج بطريقة أخرى معاكسة، ظل وقتا حتى أصبح نجما من نجوم الفلسفة العربية، له نشاطه وتعبيراته واتصالاته ومؤتمراته، ولكنه أصبح «أجوف» الفلسفة. ولما بدأ ينتشر في الوطن العربي، كنت قد أردت أن أشركه في عملية الانتقال من جيل زقزوق وجيلي إلى جيل آخر، مع أنه لم يصبح عضوا في الجمعية الفلسفية لأنه لم يدفع اشتراكاته على مدى ثلاثين عاما، ولم يشارك تقريبا في أي ندوة شهرية. وكنت قد استبعدته جانبا منذ ذلك الوقت عندما لاحظت أنه بدأ يغلب مصالحه الخاصة على العامة، يعمل لصالحه الخاص وليس للصالح العام. وقد حاول هذا النموذج الاستيلاء على النشاط بعضوية جديدة لعشرات المعيدين والمعيدات في الجامعات الإقليمية وبعض الأساتذة في القسم، وتم التصويت لصالحهم، وكانت انتخابات باطلة لأن العضوية الجديدة في هذا النشاط الفلسفي، ولم يمر عليها ستة أشهر. وعاد النشاط إلى إدارته القديمة، ثم قدمت شكوى إلى وزارة الشئون الاجتماعية بأن الانتخابات باطلة، وأتى المفتشون ووجدوا أنها صحيحة، وعاد من جديد عندما وجد أنه ليس رئيسا ولا نائبا ولا حتى سكرتيرا للجمعية، اشتكى بأنها ستنهار، وهدد موظفات الجمعية أنه يمكن هدمها بخطاب صغير بثلاثة تعريفة؛ أي يشكونا كما فعل من قبل إلى وزارة الشئون الاجتماعية التي تشرف على الجمعيات العلمية الخاصة، وأخذها عدوا له. واتهمني في مجلس القسم أنني من الإخوان. ويشترط في عقد المؤتمر السنوي بالاشتراك مع القسم ألا تشترك أي منظمة أخرى، ويعني المعهد السويدي بالإسكندرية التي تعقد فيه أيامها الثلاثة الأخيرة بعد عقد الأيام الثلاثة الأولى في جامعة القاهرة، ويصرح بأن العميد هو الذي طلب ذلك، وكأنه يمثل العميد لدى القسم ولا يمثل القسم لدى العميد. مع أني أعتبر هذا النموذج تلميذي، وأعتمد عليه في تحريك النشاط الفلسفي في القسم، هو نموذج صامت لا يتكلم، لا يسمع له صوت. وقد حامت حوله بعض الشبهات وأحيل إلى التحقيق، وكنت أدافع عنه في اللجنة العلمية للترقيات، ساعدته ماليا عندما تراكمت عليه ديون المطبعة. ولم يأت المؤتمر السنوي لهذا العام، بل إنه سوأ سمعتي لدى بعض الزملاء وجعلني مسئولا عن عدم اشتراكهم في المؤتمر، عرفت أن الطبع غلاب. ومع ذلك أحضر كتبه ومجلته ووضعها على منضدة يبيعها بنفسه دون تكليف أحد الفراشين ودون فصل بين كتبه وكتب الجمعية، بالرغم من التنبيه عليه من موظفات الجمعية ألا يرتكب الأستاذ أخطاء البيع والشراء والحسابات. هذا ليس نيلا من أحد ولكن وصف لما يحدث كل عام مع التقدير الكامل لجهده في إصدار الكتب والمجلة، ولم ينل أي جائزة تقدير ولم يستدع في أي إعارة. (4)
اللعب على الحبلين حتى يكسب الجميع ولا تعادي أحدا، إيثارا للسلامة؛ فمنه من عين في منصب ثقافي كبير ثم طرد منه، له صديقة بالقسم، وتلميذة له، يقول ما لا يبطن، ويبطن ما لا يقول حتى لو كان عالما، وكما استبعد هو من أمانة المجلس الأعلى للثقافة، استبعدت من أمانة لجنة الفلسفة فيه، وعين بدلا مني زميل مريض لم يحضر، فأصبح أقدم من في اللجنة أمينا ثم توفي، ثم أصبح زميلا عائدا من الخارج بعد عشرين عاما، وإقالته من جامعته تأسيا ببعض أساتذة القسم. (5)
الابتعاد وإقصاء النفس عن الاختيار طبقا للمثل الشعبي «اللي يجيلك منه الريح سده واستريح» وهو نموذج الابتعاد والعزلة وتجنب المشرف بعد الحصول على الدرجتين العلميتين؛ فقد تحقق الهدف بعد أخذ درجة الماجستير، وكان لا يعرف كيفية الكتابة، وأرسلته إلى الكلية العلمية ببرلين
Kolleg Wissenschaftliche
لمدة عام ليتعلم الألمانية، ويدرس اليهوديات وتجميع نصوصها خاصة الفلسفة اليهودية العربية المكتوبة بالعربية ولكن بحروف عبرية، ولم يفعل شيئا في الدراسات اليهودية، وهو المشروع الذي بدأته أنا وأحمد هويدي من قسم اللغات الشرقية. وكان يريد العودة بعد شهر لولا منعته كما منعه نصر حامد أبو زيد الذي كان هناك يقضي أيضا عاما في سيمينار علوم القرآن، فاتفقنا مع أساتذة اللغات السامية أن يشتركوا معي في ذلك، فوافقوا. وأصدر أحمد هويدي وأنا جزأين لم أرهما، وبعد أن كان يقول أستاذي اختفى، ولا أدري عن المشروع شيئا. ولما رأيتهما أعجبت بالنشر في مركز اللغات والترجمة ولكني صعقت أنني رأيت علم إسرائيل على غلاف الجزء الثاني! فعاتبته أن هذا الشعار ضد المشروع الذي يقوم على نشر التراث العربي اليهودي، ونقله من الحروف العبرية إلى الحروف العربية. وكان يجب أن يراجع أغلفة الكتب . ويسير المشروع الآن ببطء للغاية نظرا لكثرة المعروض على المركز القومي للترجمة، وقلة الإمكانيات. وقد نشر هذا التراث من قبل في إسرائيل بحروفه العبرية كما هو تحت عنوان «التراث اليهودي»، وفي أوروبا وأمريكا إلى اللغات الأوروبية تحت عنوان «التراث اليهودي في العصور الوسطى». وهو خطأ تاريخي لأنه لا ينتمي إلى العصور الوسطى المسيحية الأوروبية، بل إلى الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها الأول في الأندلس. وإذا كانت الماجستير في علم الكلام اليهودي، فقد كانت الدكتوراه في زوهار
Zohar ، في التصوف اليهودي. ولما لم يكن قد تعلم شيئا وهو في برلين بل تعرف على مجرد صديقات، لم يفهم النص الإنجليزي الذي صوره من عندي، ولم يعرف ما المقصود من الرسالة، وما التصوف اليهودي مقارنة بالديانات الأخرى، خاصة التصوف الإسلامي. كتب رسالة لا تقرأ، فأعدت له لصياغتها حتى حصل على درجة الدكتوراه، وبعد ذلك اختفى، لم يكتب مقالا واحدا! ولم يشارك في بحث واحد إلا نادرا تحت ضغط مني، ولم يكن له مشروع لدراسة الفلسفة اليهودية العربية في إسبانيا. وقد قارب على المعاش، وما زال مدرسا، وهو فرح بطبع كتابه عن الفلسفة اليهودية دون أن يشير إلى أنها رسالة الماجستير، وأن طبعاتها متعددة لأنها مقرر في مادة الفلسفة اليهودية في القسم وفي التعليم المفتوح، ثم طبع رسالته الثانية عن «زوهار» وهو كتاب «الضياء»، ولم يشر إلى أنها رسالته للدكتوراه، ولا إلى المشرف على رسالتيه، ولا حتى إلى أن الاسم مشتق من الفعل العربي «ظهر»، ولم يساهم في تنمية هذا الفرع في الفلسفة وهو الفلسفة العربية اليهودية. ويبدو أن الأستاذ يضع كثيرا من الآمال في طلبته، وأعتذر له إن كنت قد أخطأت في حقه
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .
ونوع آخر من هذا النموذج الخامس البداية بالعلم الجاد يقرأ ويكتب بمهنية عالية، وبمجرد الحصول على الدرجتين العلميتين لم يكتب مقالا أو أثار قضية، وما أكثر القضايا الفلسفية قبل اليونان مثلا! وماذا عن حديث «اطلبوا العلم ولو في الصين.» لو كان صحيحا؟ في كل مؤتمر أدفعه هو وزملاءه للاشتراك، تأخر في الترقية، وما زال مدرسا، وسمعت أخيرا أنه تمت ترقيته. رفعت صوتي عليه لأنه لا يحضر ندوات الجمعية الفلسفية المصرية، الأحد الثاني من كل شهر، فزعل. كان يستعملني أحيانا كمساعد باحث، أبحث له في مكتبتي عن مراجع في التخصص، وأكلف أحد مساعدي بالقيام بذلك، يقرأ له الفهارس وسرعان ما يحكم لا، لا، فعجبت! ومكتبتي مفتوحة للجميع، والتصوير مجانا. ربما لم يستقر أسريا ولا عاطفيا فأثر ذلك على الناحية العلمية. وكان فيه العيب الرئيسي لهذا النموذج، لسانه معي وقلبه وسلوكه مع غيري طبقا للمصلحة، ليس لديه الشجاعة الكافية لمواجهة الظلم حتى لو أتى من رئيس القسم خوفا على مصالحه. وأستاذه كان يواجه الظلم بمفرده حتى لو ازداد الظلم ظلما؛ فالعدل في النهاية هو الذي ينتصر؛ لذلك اختصر المعتزلة أصولهم الخمسة في اثنين: التوحيد، والعدل. سمعته مرة في مجلس القسم وهو يجلس بجواري يدافع عن الكتاب المقرر. ومرة كنت أحاول المصالحة بين رئيس القسم وأحد الأساتذة الذي أحيل إلى التحقيق، وطلبت التصويت على إرجاعه للقسم، والقيام بالتدريس، فلم يصوت مع الاقتراح إلا اثنان. وقام هو وزميله التابع له بمغادرة حجرة القسم حتى لا يصوتا بنعم أو لا خوفا أو جبنا. والفريق الثالث قال إن ذلك يترك للجامعة وليس في يد القسم. وعجبت! وأرجو معذرتي إذا كنت أخطأت في شيء، إذا كنت لم أقدر الظروف الأسرية التي يعيش فيها الزميل. كان علي أن أختار إما الصمت تماما عن تجربتي الحية وأنا أكتب ذكرياتي أو أن أكون منافقا أعبر عما لا أعتقد، وهو ضرر بالتاريخ، أو أن أكون صادقا مهما أسأت في التأويل أو في التقدير، والثالث أفضل.
ومن هذه النماذج من فضل الابتعاد بعد تحقيق غرض وهو نيل الدرجتين العلميتين. لقد تعب من العمل الجاد، ولا يريد الاستمرار فيه، وغير قادر على النموذج السابق وهو الازدواجية إلا عن بعد لأنه يعتبره سلوكا لا أخلاقيا فيؤثر الابتعاد الكلي أو النسبي تحت حجج كثيرة مثل الخلافات في القسم. ومنه من يظهر بين الحين والآخر ليبرر انقطاعه عن الأستاذ ويغرقه بالكلام الذي لا يفهم منه شيء، وبينه وبين نفسه هو غير قادر على كتابة شيء غير رسالتيه العلميتين. ومنه من يتخفى كلية لأنه يخجل من نفسه لأنه لم يكن قادرا على كتابة رسالته الثانية خارج الترجمة، فكتبها له الأستاذ بأسلوب عربي سليم ومفهوم، وأفكار متسلسلة. لم يعرف كيفية التعبير باللغة العربية، بالجملة الاسمية أو الفعلية، لها بداية ونهاية، نقل وترجم صفحات دون التعبير عن أفكار. لا يشارك في ندوة أو في مؤتمر أو يلقي محاضرة عامة أو يكتب مقالا في جريدة. هو فيلسوف من منازلهم، لا يشارك في حياة عامة أو خاصة. ويتكرر هذا النموذج كثيرا بحجة الخلاف مع القسم أو بعد المكان أو الإعارات المتتالية أو عدم الاهتمام بالعمل العام. وهو أقرب إلى المرأة منه إلى الرجل، حقيقة أم تمثيلا، هادئ الطبع. تعلم الألمانية، ولكنه لم يستطع السفر إلى الخارج لأنه لا يعرف الكومبيوتر والإنترنت، وهي وسائل الاتصال الحديثة لطالب البعثات. غالى في استعمال منهج تحليل المضمون، فاكتفى بمجرد الإحصاء دون البحث عن الدلالة. اعتمد على «قال ... يقول» نقلا عن الدارسين للموضوع. ومن يوم المناقشة حتى الآن لم يتصل بي، وقاطعني إما خوفا أو خجلا أو حرجا، وادعى أن هناك خلافات في القسم وهو بعيد عنها. ولم أر له حتى الآن كتابا عن الهيجليين الشبان ولا حتى طبع رسالتيه، ولا أدري ماذا يفعل في محاضراته؟ وكيف يواجه الطلاب؟ وقد قيل إن أحد الزملاء الشبان ضبط وهو يراسل زوجته على الإنترنت، وأنه محال للتحقيق، لا يحضر مجالس الأقسام، ولا يشارك في المؤتمرات، ولم يكتب ولو مقالا واحدا، ولا يعتني بالشئون العامة. كان أقرب إلى مدرس الابتدائي، حاولت عدة مرات أن أخرجه من هذا الطابع، ولكنه احتج بخلافات القسم! وأي قسم خال من الاختلافات؟ ولماذا لم يأت ويدافع عن الحق؟ وأعتذر إن كنت قد أخطأت في الوصف والتقدير. قد يكون هو غير ذلك، ولكن ما الدليل؟
ونوع آخر من هذا النموذج ، طالب عانى الأمرين في الماجستير في الإشراف، وساعدته قدر الإمكان في إشرافي على الدكتوراه بعد أن كانت هناك محاولات لإيقاف مناقشتها إما بالحديث مع بعض أعضاء اللجنة للاعتذار أو مع السلطة الدينية «الفاتيكان» لبيان خطورة الرسالة أو مع إدارة الكلية، وكان هناك زميل يعاديه، ربما كان هناك في الذهن شخص آخر في نفس التخصص يراد تعيينه ولم يكتف بتعيينه لمدة سنتين، من خارج هيئة التدريس، وهي مسيحية أقدر على أن تقوم بتدريس الفلسفة المسيحية، ولم تنجح هذه المحاولات، واستطاع أن يناقش. وظننت أنه سيحفظ الجميل على الأقل حتى ألقى الله أو ربما يحافظ على ذكراي. وظننت أنني أستطيع أن أعتمد عليه كذراعي اليمنى، ظل هكذا عامين أو ثلاثة أعوام. ولما كلفته بالقيام ببحث في المؤتمر السنوي للجمعية الفلسفية المصرية عن مناهج البحث في العصر الوسيط وشرحت له ماذا أقصد بذلك «أومن كي تعقل» أو «أعقل كي تؤمن» وهو موضوع شهير للغاية خاصة عند أنسليم تكلم في معركة أوغسطين مع الدوناتيين الذين كانوا يودون الاستقلال بشمال أفريقيا عن روما، فانفعلت عليه علنا بأن هذا خارج الموضوع، فاعتبر التعليق إهانة! وبدأ ينسحب شيئا فشيئا مني حتى اختفى تماما. وعهدته أن يقبل اليد عندما يسلم علي مصادفة، ورأيته يقبل يد رئيس القسم ونهرته. ورأيت له كتابا في الفلسفة المسيحية مقررا على طلبة التعليم المفتوح. لم يشارك في أي معركة ثقافية في الفلسفة المسيحية أو أعد مشروعا فيها للدراسة والبحث.
وهناك زملاء سلبيون لا يهتمون إلا بمصالحهم، دروسا أو توزيع كتب أو الإشراف على رسائل أو التعليم المفتوح، عذرهم أنهم يسكنون خارج القاهرة. أحدهم علمه محدود لكن أخلاقه تبدو طيبة. ومنهم من يتخذ العلم سلما للإدارة؛ فالعلم يتوقف بعد الدكتوراه، ويبدأ البحث عن الإدارة في السلم الجامعي، ولا تتوقف الإدارة إلا عند الوزارة. وهو نموذج يتكرر في جميع الأقسام، العلم وسيلة، والمنصب غاية، يستحق التقدير في العلم، والحزن في السعي إلى الإدارة أو الحزن على فقدانها. العلم الهدف القريب، والمنصب الهدف البعيد. وما أسهل أن يقع الرجل في حب هذا النموذج إذا كان امرأة! ولا نكتفي بالمظاهر؛ فإننا لا ندخل قلوب الناس. إنهم نموذج من الأساتذة الذين يتركون غيرهم للقيام بدورهم في الظلم أو في العدل، ويتخلون عن أخذ المواقف، وكما يقال في المثل المصري «معاك معاك، عليهم عليهم» باهتون في اللون أو يتلونون، وأحيانا يكونون كالعقرب يلدغون من وراء ستار، بالرغم من مدح اللسان. ينشطون في تكوين الجبهات والمحاور من أجل إشعال النار، بالرغم من براءة الوجه وسماحة الكلام، وينضم إليهم جماعة من المظلومين بالرغم من تباين المواقف. لا يدافعون عن حقوقهم، ولا يقومون بمعاركهم، ويتركون غيرهم يقومون بها؛ فمن يتقدم ويعلي صوته دفاعا عن الحق غير من يتراجع ولا يسمع دفاعا عن الحق ضد المتخاذلين الذين يحبون غيرهم القيام بدورهم بدلا عنهم. لا يعني ذلك أن هؤلاء الزملاء لا فضائل لهم؛ فلكل إنسان فضيلته التي تتغلب على أهوائه وانفعالاته؛ فالإنسان ليس شيطانا ولا ملاكا، وإنما السؤال أي الجانبين يتغلب على الآخر حتى يمتلك الفضيلة. بالفضائل تبنى الحضارات والرذائل تنهدم. ولما كان الإنسان هو صانع الحضارة فإنه هو المسئول عن بنائها بفضائله وعن هدمها برذائله. ويمكن أن أقلب الصفحة فأجد الصور والنماذج الأخرى للفضائل، وما منعني من ذلك هو أنني أخشى أن أكون من المداحين، وما أكثرهم في عصرنا! بالرغم من قول الرسول: «احثوا التراب في أفواه المداحين.» وهناك قلة من الأساتذة يدافعون عن الحق، ويدينون الباطل، لا يؤخذ برأيهم مهما علت أصواتهم، وتكررت تهديداتهم، أصوات تضيع في الهواء مهما علت؛ فلا أحد يستمع إليها، وإذا استمعوا إليها فإنها تدخل من أذن وتخرج من الأذن الأخرى. لا تعرف كيف تكون الجبهات مع الصامتين، مع ما يسمى في السياسة «حزب الكنبة» الممتنعون عن التصويت بيديها، متباطئة أو بالخروج بسرعة من القاعة حتى لا يأتي عليهم الدور، فيصوتوا بنعم أو لا. سمعت مرة أن هناك صراعا بين رئيس مجلس القسم وأحد الأعضاء الأساتذة كان قد خسر الانتخابات أمامه عندما كانت الرئاسة والعمادة بالانتخاب، وينتظر أن تلحق به رئاسة الجامعة، حاولت الإصلاح بينهما قبل أن ينتهي التحقيق باعتباري أقدم الأساتذة وأطولهم عمرا، فأصر رئيس القسم على عدم التنازل عن التحقيق، وضرورة توقيع العقاب عليه. ولما ذكرته بآية
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ، واعتذر له الزميل عدة مرات فلم يقبل الاعتذار، ولما صدرت العقوبة عليه من الجامعة باللوم رفض الاعتراف، وأصر ألا يوزع عليه حقه في جدول التدريس، والكل وافقه باستثناء أستاذتان، فأحسست أنني في عصبة، ولست في مجلس قسم علمي، وأن الكل يريد أن يأخذ نصيبه من الميراث. وذكرني ذلك برواية «علي بابا والأربعين حرامي»؛ فشتان ما بين أحلامي والواقع المعاش. ولم أدخل القسم بعدها حتى لا أشارك في ألاعيب المدرسين مع ناظر المدرسة. وتعبت من سياسة المحاور في القسم؛ فلا أنا قادر على مواجهة العداء بالعداء، ولا أنا قادر على أن أعطي محور الصداقة ما يريد من تحقيق المصالح. وظللت قائما على ساقي حتى انتهت المدة مع سن المعاش. ولا يوجد معاش في الجامعة، بل يعين الأستاذ بعد الستين أستاذا متفرغا، له نفس الحقوق للأستاذ العامل إلا المناصب الإدارية. وبعد السبعين يعين أستاذا غير متفرغ كل سنتين مرة بطلب القسم يقوم بالإشراف على الرسائل، ثم ألغي الفرق بين الأستاذ المتفرغ وغير المتفرغ، وأصبح الكل متفرغا حتى ينتقل إلى رحاب الله. ولا أدري هل يجازونه الفرق بين المرتب والمعاش كما سمعت أم إنه من لا يعمل لا ينال كما قال أحد العمداء، وقد جاءني خبر الآن أنهم يفعلون. فلم أتعرف على أحد منهم، ولا هم حاولوا التعرف علي بالرغم من أن الطلبة والأساتذة الشبان يأتون إلي من أقاصي الأرض للتعرف علي. يعرفون طريقهم منذ البداية: اختيار أستاذ يختار لهم موضوعا مضمون النجاح فيه مع درجة الشرف الأولى في الدكتوراه، وممتاز في الماجستير، معي لا شيء مضمون في الدرجات إلا العلم، يهابونني قبل التعرف علي. لم تعد الإدارة الجامعية ولا طلبة الدراسات العليا يقرءون شيئا. (6)
الصداقة الهوجاء الانفعالية التي تضر أكثر ما تنفع، تقوم على التمركز على الذات. وهو عكس النموذج الأول، الغيرة والكراهية والعداوة العلنية، أحيانا ينفعل بصداقته لدرجة أنه قد ينقلب في يوم من الأيام إلى خصام دون عداوة، وقطيعة دون تواصل، مما يثير في الذهن المثل القائل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل.» ولا مانع لديه من التقرب من الزميل الأعلى إداريا، يمدحه بقدرته على الكتابة بحيث لا يكون هناك فرق بينه وبين رجال الإعلام، يتعصب لرأيه، يصيح ويصرخ ويتشنج، لا يحاور لأنه لا يسمع الرأي الآخر، ولا يسمع إلا صوته، لا يعمل إلا تحت جناح أستاذ، فإذا توفي انتقل إلى غيره. كون ثلاثيا مع أستاذ غيور وأستاذة دون شخصية أو علم، حاولت أن تغطي هذا النقص بعد أن أصبحت في منصب إداري أعلى، وهي آخر رئيس بالانتخاب، نافقها كل الأعضاء طلبا للمصالح الخاصة للتدريس في التعليم المفتوح ومكافآت الجودة، حاول كل عضو أن يسيطر عليها بمن فيهم المدرسون، ولكنهم كتلة صماء في القسم. لم ينل من تحت الجناح الأخير إلا أقل الجوائز شأنا بتربيط مع أعضاء لجنة الفلسفة، وعندما رشح إلى جائزة أعلى لم ينل إلا صوتا واحدا. نادرا ما يتحقق هذا النموذج في شخصيات سوية، قادرة على الحوار، والأخذ والعطاء، تعاديه باقي النماذج لأنه لا يسير طبقا للمصالح الخاصة، ولا يحقق إلا المصالح العامة.
ومن هذا النموذج السادس من كان انفعاليا، يغضب بسرعة، كان يدي اليمنى في الجمعية الفلسفية بعد قطع يدي اليمنى الأولى، وأدى واجبه خير أداء بالنسبة لجمع الاشتراكات، والإشراف على الأعداد الأولى للمجلة، ثم غضب من أحد الأعضاء عندما كان يمزح معه وهو يدفع اشتراكه، فظن أن ذلك إهانة! وغادر الجمعية بلا رجعة. ومع ذلك أعتذر له إن كنت قد أخطأت في حقه حتى لا يحمل لي إلا المعروف وجميل الذكرى. (7)
الصداقة العاقلة التي تعرف عيوب النماذج السابقة وتحكم بالعقل الهادئ على ما ينفع وليس على ما يضر حرصا على المصلحة العامة، وهي صداقة مخلصة صريحة، تتفق معي في تحليل أحوال الجامعة وأحوال البلاد. كل منا يصرح بهمومه إلى الآخر، ويتحسر على الزمن القديم، زمن الأساتذة الكبار الذين تعلمنا على أيديهم قبل أن تتحول الجامعة إلى وسيط تجاري بين الطالب والأستاذ خاصة في التعليم المفتوح. تعترض على جامعة الكتب المقررة والملازم والتلقين والحفظ في مرحلة الليسانس، كما تعترض على النظام الأمريكي للدراسات العليا، نظام الساعات المعتمدة؛ فيكون هم الطالب هو تجميع أكبر قدر ممكن من
A ، ثم ينقل رسالته من الإنترنت ويتخرج حاملا الماجستير أو الدكتوراه يبحث عن عمل، ويتظاهر أمام دور الحكومة ليسمع صوته، كما تتحسر على النظام السياسي كله؛ فهذه الجامعة صورة منه. أتينا ومصر تقاوم الاستعمار والقصر والباشوات، ونغادر الآن ومصر ترزح تحت عبء التدخل الخارجي والانهيار الداخلي، وترك مركزها للخليج وإسرائيل؛ فقد تحول الصديق إلى عدو، والعدو إلى صديق. وما زالت تشعر بغربة في الجامعة واغتراب في الوطن.
وأما المعيدون الجدد فمنهم من يحتمي بالأستاذ المشرف الذي يساعده على فرض الحماية طبقا للسلوك الشعبي في حماية النبوت لأنصاره كما هو الحال في الحرافيش «التوت والنبوت» لنجيب محفوظ. ومنهم من يظل صامتا حتى يدرس الموقف ويعرف من أين يؤكل الكتف، يفرض عليه موضوع الماجستير والدكتوراه، فلا يعيش المعيد تجربة الاختيار، ولا معاناة البحث العلمي، فيتخرج شخصية باهتة، وعلمه منقول من الإنترنت، والموضوعات المنقولة من الغرب مثل «الفلسفة والبيئة» في مجتمع لا يعرف كيف يجمع القمامة، و«فلسفة المرأة» لأن الغرب يتكلم عن النسوية
feminism
في مجتمع يضرب الرجل فيه المرأة ويطلقها باللسان دون أن نتعرض إلى وضعها في التراث كنصف شاهدة، وربع زوجة، وسبية في نكاح الجهاد. ومنهم من يظهر علمه وهو طالب، ويحضر دروس الدراسات العليا وهو ما زال في الثالثة أو الرابعة ليبين علمه، وما إن يتخرج ويعين معيدا حتى يختفي. ومنهم من يبحث بجهده الخاص على منحة للسفر واستكمال الدراسات العليا بالخارج، وما إن يسافر حتى يقاطع الأساتذة، وقلما يعود، يتكبر ويستعلي، رأسا برأس. وأعتذر لهذا الجيل الجديد كله الذي لم يتعود بعد على سلوك الجيل القديم، وأهمية النقد الذاتي.
فما أضاع القسم وجعله مفككا، لا هدف له يسعى إلى تحقيقه ولا قضية يدافع عنها هو الانفعالات البشرية، وليس العواطف؛ فالانفعالات سلب والعواطف إيجاب.
1
وكانت الغيرة أقوى الانفعالات، مع أنها كان يمكن أن تتحول إلى منافسة علمية وجادة. الغيرة تدمر، والمنافسة تبني. تكون جريمة بأفعال مرئية أو تكون باطنة مكتومة. وثاني الانفعالات هي المصلحة الخاصة وتغليبها على المصلحة العامة. ويتغير السلوك طبقا لتغير المصالح. وهنا أدركت أهمية ما كتبه هابرماس عن «المعرفة والمصلحة»
Knowledge and interest . وثالثها الجبن عندما تعرف الحقيقة ولا يتم الدفاع عنها حفاظا على المصلحة أو لضعف الشخصية، ويتم العمل العدائي من وراء ستار وتحت جناح القوي القادر على الفعل، ويتغير الحامي ولا يتغير المحمي، فتضعف شخصيته حتى لو كان ذا علم؛ فالانفعالات مترابطة، كل منها يجر الآخر. ورابعها النفاق عندما يتكلم اللسان بما ليس في القلب، ويكتم القلب ما لا يقوله اللسان. وخامسها الخوف من الرئيس مع أنه لا ينفع ولا يضر، وموافقته على ما يقول وما يقرر، والتنازل عن حق المراجعة، وشجاعة الرأي، وهو ما يسمى في التراث «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والخوف هو وهم مما لا وجود له، الخوف من المخيف للأطفال. وسادسها السلبية أو الانزواء والانطواء على النفس عملا بالمثل الشعبي «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، وبذلك يخلق الأستاذ عالمه الخاص الذي يعيش فيه، ولا شأن له بالقضايا العامة.
وقد حاولنا أن نعيد الترابط للقسم بين أعضائه بدعوتهم إلى اللقاء مرة شهريا عند أحدهم. وحضروا عندي مرة، وكان ناجحا للغاية؛ إذ إنهم نسوا الخلافات بينهم والمصالح المتعارضة. ولما حاولوا تكرارها عند أحد الأعضاء وحدد موعدا ثم أجله إلى موعد آخر ثم أجله إلى موعد وحدد موعدا ثالثا، ثم أجله إلى أجل غير مسمى، فعرفت أن ما خرج عن الطبيعة لا تعيده الصنعة، ثم جمع رئيس القسم فريقا مختارا من أنصاره إلى منزله احتفالا بحصول أحد أنصاره على درجة علمية، فقسم القسم فريقين: الأنصار، والأعداء.
وعندما جاء الفيلسوف اليوناني موتسوبولوس إلى القاهرة، وهو الذي أشرف على رسائل أستاذة الفلسفة اليونانية بالقسم، دعوته إلى منزلي مع أعضاء القسم جميعا للعشاء كما تقضي بذلك التقاليد في الجامعات الأوروبية والأمريكية خاصة، لم يحضر أحد إلا تلميذة الأستاذ، هدى الخولي رئيس القسم الحالي، ولم يقدموا حتى الاعتذار، وهو أهم فيلسوف يوناني. كان مدير جامعة أثينا، يجمع بين الفلسفة وعلم الجمال، بين الفكر والموسيقى. خجلت، ولا أدري إذا كان الآخرون قد خجلوا مثلي. ولما طلب مني أحد رؤساء الأقسام أنه يريد أن يدعو سيدة فرنسية لديها تسجيل مع جان بول سارتر كي ترينا إياه وأن الجامعة ليس لديها ميزانية لذلك أعطيته ما يكفي لشراء بطاقة سفرها باريس-القاهرة، ذهابا وإيابا، وعندما أتت لم تقل جديدا عما نعرفه عن الفيلسوف، مع أنها أتت وكأنها تحمل أسرار الدنيا والآخرة. صحيح أن رئيس القسم دعاني على العشاء معها في نادي العاصمة ولكن الفائدة منها كانت قليلة، فعزمتها على طبق من الكشري في مدينة أعضاء هيئة التدريس، ولم أكن محرجا، وقبلت هي عن طيب خاطر الأكلة الشعبية. وأثناء إقامته مؤتمر القسم عن التأويل حاملا العبء بمفرده طلب مني مبلغا من المال يكفي لدعوة الضيوف على عشاء في باخرة نيلية ففعلت. ولما طلبت منه هذه الأيام تحكيم بحث في علم الجمال للنشر أم لا في مجلة الجمعية الفلسفية رفض أن يأخذ أجرا.
وإذا أحس بعض الزملاء أن ما قلته على القسم تعريض بهم، فالرد أمامهم مفتوح. وأعد أن ما سيكتبونه ردا سأنشره في الطبعة الثانية، تلك شيمة العلماء، الردود والاعتراضات. ويا ليتهم يكتبون انطباعاتهم عني وذكراي في نفوسهم كما حاولت أن أفعل. لا يعني ذلك أني غاضب عليهم أو أنني لا أتعاون معهم في أي نشاط علمي بالقسم بل إني أكن لهم كل تقدير واحترام. ويا ليتني أقرأ صورتي عندهم في ذهنهم كما قال عمر بن الخطاب : «رحم الله من أسدى إلي عيوبي.»
وأتى زوار آخرون أعرفهم ويعرفونني؛ فقد كنت عضوا بلجنة حوار الأديان التي أسسها هانزكونج
Hans Küng
برياسة هلموت شميت رئيس ألمانيا السابق. وأصدرنا البيان الدولي لحوار الأديان ونشر وترجم إلى كل اللغات. وجاءت اللجنة في مصر لرؤية رئيسها وإطلاعه على مهامها. ولما رأت الخارجية المصرية اسمي ضمن قائمة اللجنة رفضت؛ فما لهذا المصري بشأن اللجنة؟ واستعجبت وانتهى العجب لأنه لا يكرم نبي في وطنه، ورن في ذهني بيت الشاعر:
أحرام على بلابله الدو
ح حلال للطير من كل جنس؟!
وكنت أدعى للمؤتمر السنوي لحوار الأديان الذي يعقد في روما كل عام، وأجد عز الدين إبراهيم من مصر، وزين العابدين السماك من لبنان، نجتمع فيما بيننا ونتحاور؛ فلا حوار مع الآخر إلا لمن هو قادر على الحوار مع النفس أولا، ونصلي، ثم نسير بالشموع في الطريق الطويل المؤدي إلى الفاتيكان، وبعدها تعقد عدة ندوات. ورأيت مرة شيخ الأزهر حاضرا في وفد رسمي؛ فقد حول الأزهر نفسه إلى كهنوت إسلامي. وأنا حاضر كالعادة في لاهوت التحرير والعقيدة والثورة أمام دهشة المسلمين واستعجاب المسيحيين. وبعد عمر طويل في حوار الأديان أدركت أن الهدف البعيد هو الإقلال من التوتر بين الاستعمار والتحرر، بين الغرب والإسلام باسم الدين، التخفيف من العداوة بين الشعوب المتحررة حديثا والشعوب الاستعمارية القديمة. تأتي المبادرة من القوي، وليس من الضعيف، وليس على الضعيف إلا مصافحة اليد الممدودة وإلا اتهم بالتعصب والإرهاب. ويتم ذلك على مستوى الشكليات، أداء الشعائر، حمل الشموع، المسيرات، الغناء، حشد الجماهير وكأنها مظاهرة إسلامية. فإذا ما طلبت أن يتحول ذلك إلى مساعدة الفقراء والمساكين واليتامى وتخصيص بعثات تعليمية، وفك الارتباط بين التبشير والاستعمار كان ذلك سياسة، والحوار لا سياسة فيه. يبدأ الحوار مع المحتاجين حتى تمد لهم يد العون وبالتالي قد يحدث تحول في الاعتقاد كما حدث لعبد الجليل المسلم الجزائري الذي تحول إلى راهب مسيحي لاعتباره مكتشفا للحقيقة. وقد تكرر نفس الشيء مع محمد عثمان السوري الذي كان باحثا بالمركز الوطني للبحث العلمي في باريس والذي قضى حياته في دير الآباء الدومينكان لنشر «الفتوحات المكية» لابن عربي، نشرة جديدة موثقة في عشرات المجلدات كي يعرف مزايا الرهبنة.
ولما أتى رئيس وزراء تركيا السابق مع داود أوغلو وكنت أعرف الاثنين من القاهرة، وأساهم معهما في الانتقال من التوجه نحو الغرب، حلف الأطلنطي، إلى التوجه نحو الشرق، العرب والمسلمين، رفضت الرياسة أن أجلس على المائدة الرئيسية، وجلست مع موظفي الخارجية في البلدين على مائدة مجاورة، فقام داود أوغلو ليجلس بجواري فمنعه البروتوكول.
وكبر الأنجال، وقاربوا على الزواج؛ فتزوج حازم خريج العلوم السياسية من الجامعة الأمريكية بعد أن قضى في جامعة بولدر عاما دراسيا يحسب له، وماجستير من لندن في موضوع الفيدرالية. وهو ناصري قومي عربي، ثم عاد وأصبح موظفا بالخارجية المصرية. من مستشار ثان إلى مستشار أول إلى وزير مفوض، ثم أصبح قنصلا عاما لمصر في بورسودان هذا العام. لم يوفق في زواجه الأول، وانفصل بعد عام، وهو الآن على استعداد لزواجه الثاني. هوايته الغطس، يذهب تقريبا كل نهاية أسبوع من الخميس مساء إلى الأحد صباحا إلى دهب لممارسة هوايته، ويريد أن يصل فيها إلى أعماق منافسة. ذهب إلى سفاراتنا في نيبال وسيدني وطرابلس-ليبيا وعمان وصوفيا-بلغاريا. أراد أن يؤسس مركزا للدراسات الفيدرالية في سيناء أشبه بابن خلدون بالقاهرة، ثم حاول تأسيس المركز في الدور الثاني في المنزل الذي نسكن فيه بجوار مركز والدته لتاريخ السينما المصرية، ولكن الغطس الآن هوايته الأولى.
أما حاتم فهو خريج هندسة عين شمس، مهندس اتصالات، تعرف على التيار الإسلامي هناك، إسلامي الاتجاه هو وزوجته، عمل في شركة سويرس، ثم تركها لما أغلقت. كان مسئولا عن الاتصالات الخارجية وامتداد الشركة في باكستان، وبعد بيع شركة سويرس لشركة روسية ظل يبحث عن عمل آخر حتى جاءه عمل بالسعودية ثم تركيا التي استقر بها هو والأسرة، وأسس هو وصديق له شركة اتصالات صغيرة للاستيراد والتصدير. وهو الآن سعيد بإستانبول، نذهب لزيارتهم بين الحين والآخر. وهو متزوج وله ثلاثة أطفال: أنس في الثانوية، وعلي في الإعدادية، وخديجة في الابتدائية. وهو أكثر الأولاد التزاما بالقضية التي اختارها مثل ما اختاره أبوه في أول حياته، الفكر والسياسة.
وأما حنين الصغرى فهي خريجة الجامعة الأمريكية، قسم الأدب العربي، والماجستير علوم سياسية. أرادت أن تتزوج عن تجربة حب؛ فالزواج بالطريقة التقليدية بارد لا طعم له، ووجدت ذلك في رئيسها في شركة للتنمية البشرية، وهو دكتور أطفال. وهي ما زالت مليئة بالحيوية، وعمرها الآن ثمانية وثلاثون عاما، أنجبت طفلة «لارا» أربع سنوات الآن حبيبة كل الأقارب. هي وزوجها ماركسيا الاتجاه . سافرت إلى عدة بلاد أوروبية وعربية، وهي ملتزمة مثل أخيها الأوسط لولا الزواج وأعباء الحياة والإعداد للدكتوراه ورعاية الابنة «لارا» والبحث عن عمل بعد أن أغلقت الحكومة معظم المنظمات الأهلية المتعلقة بالتنمية البشرية. وقد كان لمنظمتهم حضور كبير في الريف، وتقوم بأبحاث ميدانية حتى تقدم الأحكام النظرية على تحليلات إحصائية وموثقة.
وكانت زوجتي أمينة مكتبة بالجامعة الأمريكية، خريجة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وماجستير من قسم الأديان من جامعة تمبل بالولايات المتحدة. والآن هوايتها السينما، النقد والتوثيق. وحصلت على بكالوريوس المعهد العالي للسينما، ثم أسست مركزا لتوثيق السينما العربية في الدور الثاني في منزلنا الجديد «البيت العربي»، ونشرت من قبل أعمال حسن جمعة في ثلاثة أجزاء. بدأت ليبرالية وانتهت ليبرالية إسلامية. والأب يساري إسلامي. نتعايش سويا في حوار مستمر؛ فعندي في المنزل كل الاتجاهات السياسية ممثلة، والكل مسموح له أن يمارس نشاطه بحرية تامة. مرة حاول الابن الأصغر أن يضع على باب الشقة السكنية «لا إله إلا الله»، فمنعته لأن هذه الشقة بها تيارات مختلفة، توضع فقط على باب غرفتك، وعلى الحائط معلق «يا يهود، يا يهود، جيش محمد سوف يعود»، «إن الأقصى قد نادانا: من سيعيد القدس سوانا؟» وفي حجرة ابني الأكبر صورة عبد الناصر فوق خريطة الوطن العربي. وفي حجرة ابنتي الوحيدة صورة ماركس ولينين. والأب يساري إسلامي يجمع بين الإسلام والتقدم، وهو ما سمي علميا «التراث والتجديد».
وإذا كان قد تم اللجوء إلى نظام الفصلين الدراسيين منذ أيام عبد الناصر لإشغال الطلبة بعيدا عن المظاهرات، فإن الجامعة تحولت من النظام الفرنسي في الدراسات العليا، كتابة رسالتين لدكتوراه الدولة إلى النظام الأمريكي، الساعات المعتمدة مع بحث صغير، فأصبح هم الطالب أن يجمع أكثر من
A
حتى يكتب الرسالة معتمدا على الإنترنت بمئات المراجع التي لم يقرأ منها شيئا أو رسائل لا هدف منها ولا قضية، وفي نفس الوقت يدفع قدرا من المصاريف، ويدفع الطالب العربي أضعافا مضاعفة؛ فلم تعد الجامعة تهتم بالعلم، ولا الأستاذ المشرف، وأصبح هم الطالب هو نيل الدرجة العلمية، وما أسهلها! ثم تقوم المظاهرات في الشوارع بعد ذلك لأن مئات الحاصلين على شهادتي الماجستير والدكتوراه بلا عمل، فامتنعت عن الإشراف على رسائل جديدة، ولكني ما زلت أناقش بعض الرسائل القديمة التي يشرف عليها الزملاء. أما «التعليم المفتوح» فهو مشروع تجاري خالص، يدفع فيه الطالب آلاف الجنيهات، والطالب العربي الضعف ثمنا للكتب التي تشتريها الجامعة من الأستاذ، وتكون وسيطا تجاريا بين البائع والمشتري، ويأخذ الشهادة الجامعية، ولم تنطبق عليه شروطها وهو المجموع الكلي المطلوب في الثانوية العامة. وتتساوى الدرجتان العلميتان، التعليم المشروط والتعليم المفتوح؛ فالجامعة أصبحت تحمي الكتاب المقرر، وتتاجر فيه قبل الأستاذ. أصبح التعليم الجامعي حفظا وتلقينا لمعلومات يدرسها الطالب على الإنترنت، والطالب يغيب، والأستاذ يغيب، والدرجة العلمية مضمونة. ولا يمكن دعوة أستاذ من خارج الجامعة لإلقاء محاضرة إلا بموافقة سلطات الجامعة وعلى رأسها الأمن. ولا يمكن عمل أي نشاط علمي خارج المقررات الدراسية إلا بموافقة السلطات الجامعية. وعربات الأمن المركزي تحيط بالجامعة، وقد سأل أحد الزوار الأجانب رئيس الجامعة لما شاهد هذا المنظر: هل أنتم في حالة حرب؟!
وقد أعطيت عدة جوائز في مصر وخارجها. أعطيت جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، والفلسفة جزء منها عام 2007م، ولم يرشحني قسمي بل رشحني قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، في حين رشح القسم محمود حمدي إبراهيم من القسم الذي رشحني! وأعطيت جائزة النيل الكبرى عام 2015م وليس من قسمي بل بترشيح من الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وأتيليه الإسكندرية. وكان رئيس الدولة هو الذي يسلم الجوائز للمفكرين في عيد العلم، وفي حالتي كان رئيس الجامعة ونوابه عندما بدأ التوتر المكتوم بين الرئيس والمثقفين. وأعطيت جائزة «المفكر الحر» من بولندا وسلمها لي رئيس جمهورية بولندا، وقدمني لمفكري بولندا، وألقى خطابا في حرية الفكر، ولما عرف أني أعزف الكمان طلب من الفرقة عزف كونشرتو الكمان لموزار، وطلب مني أن أعزف شيئا، فعزفت «الكمان» على العشاء في القصر، من موسيقى سيد درويش.
وقد شاركت في معظم نشاطات المجلس الأعلى للثقافة منذ إنشائه حتى حكم العسكريين، أي حتى الآن؛ فكنت أحد أعضائه البارزين قبل تشييد البناء الخاص به في أرض الأوبرا. وكان في البداية يسمى المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم الاجتماعية برئاسة يوسف السباعي. وبعد اغتياله تولى رئاسته في لجنة الفلسفة زكي نجيب محمود وفؤاد ذكريا ومحمود أمين العالم وأنا وأخيرا أنيس منصور كما طلب من فاروق حسني. كانت اللجنة في مبناها القديم تصدر «الفكر المعاصر»، «تراث الإنسانية»، «المجلة»، كما كانت تصدر «الكاتب»، وكانت متنوعة الاجتهادات، وشاركت في معظمها والتي جمعتها بعد ذلك في «قضايا معاصرة» (جزءان)، الفكر العربي المعاصر، الفكر الغربي المعاصر. رأستها وهي في المبنى الجديد وبعد عام أزحت عنها دون إبداء أسباب. وجاء من بعدي زميل مريض لم يحضر ولا جلسة ثم زميل آخر بالنيابة حتى توفي. والآن يرأسها من قضى في الكويت معظم عمره بعد أن كان أستاذا في الفلسفة اليونانية في جامعة عين شمس، ويصرح بأنه يعد مشروعا للفلسفة المصرية. ولم أكن أقبل أنيس منصور مفروضا علينا من وزير الثقافة لأن تعليقاته على الأساتذة وكأنهم جهلاء بأورتيجا وغيره من الفلاسفة، وكنت لا أقدره لأنه كان أنيس الرئيس المغدور، وكان يفتخر أن معاهدة كامب دافيد قد تم توقيعها بقلمه الذي يحتفظ به للذكرى. وفي اليوم الذي قرر فيه مناقشة كتابي فشته، فيلسوف المقاومة تعاركنا، وقذف بالكتاب أحد الأعضاء على المنصة مستهجنا حتى انتقل الاثنان إلى الرفيق الأعلى، ومن يومها لم أدخل المجلس. ولم أدع إلى حضور نشاط فيه بعد أن استولى عليه التيار المعادي للإسلاميين، وصنفت بأني من الإخوان، وأنتسب إليهم، ثم عزلت عن نشاطاته تماما وكأنني لم أعد مثقفا، وقد كانت الرئاسات السابقة لا تفرق بين إسلامي ويساري. لقد أصبحت كل مؤسسة ثقافية أو سياسية أو اقتصادية تسير على ساق واحدة، فتسير عرجاء، وترى العالم بعين واحدة فتكون عوراء، وتتنفس برئة واحدة فتختنق. وما عابوا عليه الحكم الإسلامي، أحادية الطرف، وقعوا فيه. الخطورة اليوم هو التبعية لنظام الحكم مثل الإعلام، وربما كل مؤسسات وزارة الثقافة، وهو ما جعل الثقافة خاوية؛ فالثقافة حوار بين تيارات مختلفة حتى لو كانت متعارضة أحادية، الفرقة الناجية تموت.
وكان أثري في ماليزيا وإندونيسيا وأوزباكستان وكثير من جمهوريات آسيا الوسطى كبيرا. وعرفت في إندونيسيا عبد الرحمن وحيد رئيس جماعة نهضة العلماء، والرايس رئيس جماعة المحمدية، وهما أكبر مجموعتين إسلاميتين في إندونيسيا. وأفكار اليسار الإسلامي منتشرة هناك، بدأت نهضة العلماء يسارية وانتهت يمينية، وبدأت جماعة المحمدية يمينية ثم أصبحت يسارية، وكان همي الجمع بين الجماعتين في اليسار الإسلامي، إلا أن الرغبة في الرئاسة منعت من هذا التواصل. وما زالت إندونيسيا ترسل لي سنويا في الصيف حوالي عشرين طالبا وطالبة دراسات عليا كي أستمع إلى رسائلهم وأصححها لمدة شهرين مرة أسبوعيا لعدم قدرتي على الحركة، وعندي قاعة للاجتماعات تكفيهم وأكثر. وماليزيا أكثر تحررا وعلمانية بفضل محمد محاضر رئيس الوزراء السابق بالرغم من خلافه مع أنور إبراهيم على السلطة، وقد عرفت الاثنين، ولكن الشعب كان مع محاضر. وذهبنا إلى كابل عن طريق موسكو؛ فروسيا هي الطريق الوحيد لأفغانستان، وفنادق موسكو كلها نمطية، جادة، لا زواق فيها، بين الحين والآخر تشاهد فتاة روسية شقراء بكعب طويل وميني جيب لا أدري ماذا يفعلن في بهو استقبال الزوار. وفي مطار موسكو وقفنا بالساعات للتفتيش، الأوراق، الجوازات، تأشيرات الدخول، صحيحة أو مزيفة حتى كدت أصرخ فيهم: نحن ضيوف منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. لا يدل على وجوه الموظفين والموظفات الذكاء، يريدون فقط أن يؤدوا واجبهم بحرفية مطلقة، لا توجد أي شبهة في أي من أعضاء الوفد، ومع ذلك التفتيش هو التفتيش. وفحص الأوراق هو فحص الأوراق، ولا يهم أوراق من؟ معنا مرافق يرسم له الطريق، ولا يستطيع أن يغيره، معه كاميرا خاصة للتصوير لبيان مدى ترحاب روسيا بالوفد. وحاضرت علماءهم وأهدوني العباءة الوطنية الأفغانية، ثم أخذوها لأني رفضت الذهاب إلى السفارة الأمريكية. وذهبت إلى جامعة كابل، ورأيت تمثال جمال الدين الأفغاني، مفجر الثورة العرابية في مصر وواضع أيديولوجية التحرر الوطني للعالم الإسلامي. وبعد كابل من أواسط آسيا زرنا أوزبكستان وطشقند وسمرقند وباكو، وتعرفت على علمائهم، يبدءون الطعام بالفاكهة، طلبوا مني في المسجد أن أتلو القرآن؛ فأنا من جوار الأزهر الشريف، حاولت لكن ليس مثل القراء المحترفين. وفي بخارى رأيت مدرسة بخارى. وفي طشقند توجد المدارس والمساجد العالية. وفي سمرقند مرصد أولوغ بك، والبوابة الكبيرة على مدخل المدينة. فرحت للحضارة الإسلامية، وانتشارها في أواسط آسيا، والحفاظ على آثارها، ثم حزنت على ضياعها وتحولها إلى إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي مع محاولة استقلال الشيشان.
وقد امتد أثري إلى أمريكا اللاتينية، المكسيك وفنزويلا والأرجنتين. ورأيت مدى التشابه بين حياتهم العامة والخاصة مع حياة العرب، كانوا يتوقون إلى التحرر من سيطرة الولايات المتحدة الاقتصادية. وفي المكسيك حياة إسبانية، بها بقايا الأثر العربي القديم. وامتد أثري في جامعات أوتوا العاصمة الكندية وتورنتو وكاليجري. وحاضرت هناك مع الأساتذة العرب والكنديين. ورأيت كيف أن الأمريكتين الجنوبية والشمالية مرتبطتان بالوطن العربي والثقافة العربية، ولا خوف من تكفير أو حكم بالردة؛ حيث يسمع الطلبة والأساتذة هذا الفكر الجديد من أحد ممثليه. ولما قابلوني بعد ذلك في مؤتمرات قبلوني ومنهم من قبل يدي وكأنني شيخ طريقة جديد، سمعوا عني وقرءوا لي قبل أن يروني، وقد جاءت المناسبة الآن للتصوير معي، كي تبقى لهم ذكرى في التاريخ. ولا يعرف معظم الناس في مصر عن أمريكا اللاتينية إلا لاعبي كرة القدم.
وأثر دعوة لبعض المفكرين المصريين للحج، دعوة من الملك عبد الله مباشرة، ذهبت أنا ومحمود أمين العالم وآخرون وعشنا في المخيم مثل باقي الحجيج. ودعينا إلى الغداء مرة على مائدة الملك، فوجدنا الخراف المشوية المنتصبة واقفة على الموائد وتحتها الأرز، وفي صدر المائدة جلس الملك. وقام أحد المدعوين بإلقاء كلمة نيابة عن المدعوين، وكان فلسطينيا بليغ اللسان وهو بلال الحسن. وبعدها أردنا أن نجالس المثقفين السعوديين من مكتبة الملك عبد العزيز، فلم يستجب إلى الطلب، تحادثنا مع أنفسنا. وكان الشباب السعودي يأتوننا في المساء بلا دعوة ليجالسوا بعض المفكرين العرب الذين يسمعون عنهم، ووجدنا روحا جديدة راغبة في السماع والتعلم ومناقشة الأفكار المثيرة التي نمثلها، وكانت الجلسات تستمر حتى الصباح في بهو الفندق. وكان السؤال: هل نفتح قلوبنا لهم كما فتحوا قلوبهم لنا أم نحترس؟ ففتحنا قلوبنا بلا خوف، وتحدثنا عن مضمون الإسلام وليس شكلياته، وأنه بنية اجتماعية وليس أحكاما شرعية. وتفرجت على شعائر الحج، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات، والصعود إلى عرفات من شرفة بناء مجاور، وأنا في ملابس الإحرام. ورفض محمود أمين العالم أن يلبسها أو أن يشارك في شيء، ولم يأخذ ملابس الإحرام الخاصة به؛ فهو صاحب مبدأ لا يتنازل عنه. ولما عدت كتبت «خواطر حاج» في «أخبار الأدب». ودعوت فيها إلى أن عرفات يجب أن يكون في القدس، بهذه الملايين الصاعدة فوقه خاصة وأن القدس كانت أولى الحرمين. وعجبت من أخي الذي أخذ الوالدين على نفقته الخاصة للحج مرتين، وكانت مرة واحدة تكفي من أجل إرضاء رغبات الطبقات الشعبية.
وفي هذه الفترة كان لي أصدقاء، معظمهم من «حزب التجمع» مثل محمد عودة والذي كان شيخ حارة يعرف الأصدقاء بعضهم ببعض، وكان معظم الأصدقاء الذين عرفتهم في مصر عن طريقه مثل فيليب حلاب وزوجته الصحفيين وكمال الذين رفعت والذي كان من الضباط الأحرار، وعائلة النقاش ومحمد الفولي، وكنا نجمع بين الثورة والحياة، فذهبت إلى مزرعة مجدي حسنين في بنها معهم والذي كان محافظا للبحيرة أيام عبد الناصر لنأكل البط الأصيل. وكان لي أصدقاء يعيشون في فرنسا ولكن يأتون إلى مصر خاصة بعد حرب 1973م ليساهموا في بناء مصر التي انتصرت وأزاحت عن كاهلها عار هزيمة 1967م، مثل أنور عبد الملك الذي غادر مصر في أزمة الشيوعيين مع عبد الناصر في 1958م، وأقام في باريس، وعمل بالمركز الوطني للبحث العلمي، ورشدي راشد. وبعد عام 1973م أراد أن يشد الرحال إلى مصر، ولكن أين؟ بالجامعة وهي مغلقة على أهلها بقوانينها أو في «الأهرام» وهي جريدة الدولة أو في المركز القومي للبحوث الاجتماعية وهو ما زال تقليدي الاتجاه. كان مديرا لمشروع البدائل الاجتماعية الثقافية في «جامعة الأمم المتحدة» بطوكيو، وكان على صلة قوية بمفكري العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وانتخب نائب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وهو خريج قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، وتلميذ عبد الرحمن بدوي، وآخر كتبه «الوطنية هي الحل». وقد كتب فيه وفي أمثاله لطفي الخولي مقال «العابرون بعد العبور». وكان في وداعه الأخير في الكنيسة بضعة أفراد معدودة على الأصابع، كانت القاعة شبه خالية، ولم يحضر المتحدثون ولم يعتذروا، وكما هو في المثل: «البعيد عن العين بعيد عن القلب.»
الفصل التاسع
«التراث والتجديد» وأحزان
خريف العمر (1996-2011م)
لا يعني بروز هم العلم تواري هم الوطن أو البعد عن السياسة التوقف عن ممارستها أو عدم الاهتمام بها، بل يعني عدم وقوع أحداث كبرى تجعل المفكر يتجه بشعوره نحو الواقع المباشر، ونحو تحليل الحوادث الحاضرة. هذا الاستقرار السياسي الذي دام ثلاثين عاما كان ربما في الظاهر، ولكن الباطن كان يسخن على نار هادئة حتى درجة الغليان في الثورة الشعبية الكبرى في يناير 2011م، باستثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م والحرب بين حزب الله وإسرائيل وإطلاق صواريخه عليها عام 2006م. وتملكني إحساس بأن النهاية قد قربت وأن إكمال «التراث والتجديد» ما زال بعيدا، والعلوم النقلية التي أردت تحويلها إلى عقلية أو على الأقل إلى علوم نقلية عقلية مثل أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة وعلوم التصوف.
1
وقد أخذ مني «من النقل إلى العقل» خمسة عشر عاما مثل أولى أجزاء «التراث والتجديد»، «من العقيدة إلى الثورة». والعلوم النقلية خمسة: القرآن، الحديث، السيرة، التفسير، الفقه.
2
وهو موثق توثيقا دقيقا مع تحليل كل مساهمة للقدماء في كل علم، وتضخم جزء «التفسير». والفقه أكثر حساسية لأنه يحكم الناس شرعيا. ولم أشأ أن أخرجه إلى الإعلام في مقالات أو مراجعات صحفية حتى لا يجده صحفي شاب يريد الترقي في جريدته، ويثير زوبعة إعلامية تدخل فيها الاتجاهات المحافظة، وأصبح ضحية الإعلام مثل نصر حامد أبو زيد، ومن الأفضل أن يكون ضحية الصمت عن أن يكون ضحية الإعلام.
وقد ركزت في هذه السنوات على إخراج أجزاء «التراث والتجديد». وكنت أكتب فيه منذ المغرب العربي، ثم بدأت «من النقل إلى الإبداع» لإثبات أن علوم الحكمة؛ أي الفلسفة، ليست نقلا عن اليونان بل فيها قدر من الإبداع في تسعة أجزاء عن طريق تحليل المضمون. الثلاثة الأولى عن النقل، الترجمة، التعليق والشرح أو التفسير. والثاني عن التحول، في التأليف في الوافد دون الموروث ثم التأليف في الوافد مع غلبته على الموروث ثم التأليف في الوافد مساويا بالموروث. والثالث الإبداع، التأليف في الوافد مع غلبة الموروث مع اختفائهما، اختفاء الوافد والموروث تماما مثل العلوم الرياضية والطبيعية دون الاعتماد على أي من الرافدين والذي اكتمل في عام 2002م بعد أن كان الكومبيوتر قد دخل عالم الطباعة. وجمعت كتاباتي الصحفية في «الدين والثورة في مصر (1952-1981م)» في ثمانية أجزاء؛ الأول: الدين والثقافة الوطنية. والثاني: الدين والتحرر الثقافي. والثالث: الدين والتنمية الثقافية. والرابع: الدين والتنمية القومية. والخامس: الحركات الإسلامية المعاصرة. والسادس: الأصولية الإسلامية. والسابع: اليمين واليسار في الفكر الإسلامي. والثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية، وصدر عام 1988م. طبعة أيضا لينوتيب بالرصاص.
وهناك ثلاثة مستويات لمشروع «التراث والتجديد». أولا: المستوى العلمي للمتخصصين. وهو ما سماه القدماء خاصة الخاصة والذي لا يمكن عرضه في الصحافة وأجهزة الإعلام التي تبغي الإثارة، المدح أو القدح، وقد يصل الأمر إلى التكفير والاغتيال، ولا يناقش إلا في الجامعات والمراكز والمعاهد المتخصصة. والثاني: المستوى الفلسفي والثقافي للفلاسفة والمثقفين من أجل نشر الوعي الفلسفي وبيان أثر المشروع في الثقافة. والثالث: المستوى السياسي الشعبي للعامة الذي يحول المشروع إلى ثقافة شعبية سياسية؛ فلا يجوز الخلط بين هذه المستويات الثلاثة. والحفاظ على كل مستوى لأهله.
3
لم تثر أجزاء «التراث والتجديد» في علم أصول الدين أو أصول الفقه أو علوم الحكمة أو التصوف قدر ما أثاره «من النقل إلى العقل»؛ فقد حدث أن أقامت مؤسسة آل البيت الملكية الفكرية للفكر الإسلامي بعمان-الأردن مؤتمرها السابع عشر عن علم السيرة. وقدمت بحثا بعنوان «السيرة بين الواقع والخيال». ووصفت مراحل كتابة السيرة من المرحلة الأولى ، مرحلة المغازي، إلى الثانية مرحلة الشمائل إلى الثالثة مرحلة التعظيم والتبجيل مما يصل إلى درجة التأليه، والرابعة مرحلة القراءة؛ فكل عصر له احتياجاته في السيرة. وهي دراسة لتطبيق الرواية، وليس لشخص الرسول، في حين أن كل الأوراق تقريبا كانت حول شخص الرسول وطاعته، فتصور العلماء الأجلاء أنني أطعن في الرسول، ومما يدل على ذلك عدم ذكري «
صلى الله عليه وسلم » أو «عليه الصلاة والسلام». وشرحت أن الأمر يتعلق بالرواية وليس بمضمونها كما هو الحال في علم أصول النقد التاريخي للكتب المقدسة؛ فماذا سيحدث إذن في الجزء الخامس عن «الفقه»، وهو يحاول وضعه في إطاره الزمني وفي مرحلته التاريخية من أجل التحول من فقه الأحكام إلى فقه الوجود؟ وعرضت الأمر على دور نشر أخرى فطلبت مني المساهمة في ثمن الورق فوافقت. وعلى هذا النحو نشر «الواقع العربي المعاصر»، ثم رد إلي ما اقترضته ليس بعد عام كما وعدت بل بعد أربعة أعوام مع بعض الحقوق. ولما عرضت باقي أجزاء «من النقل إلى العقل» على صاحب الدار طالب بدفع كافة التكاليف، عشرون ألف جنيه مصري لكل جزء. ولا يرد منها شيء إلا 33٪، وبالمثل الموزع 33٪ والناشر 33٪. والبعض رفض النشر لأن سوق الكتاب واقف ولا يستعيد الناشر حتى تكاليفه. فكيف يربح؟! وأخيرا بدلا من أن ألف على الناشرين كالشحاذ قررت طباعة الجزأين الأخيرين على نفقتي الخاصة، وتركت قضية التوزيع للمستقبل، وربما ما بقي من مؤلفاتي سأطبعها على نفقتي الخاصة «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى»، «ذكريات» و«هيجل والهيجليون الشبان أو اليسار الهيجلي »، ثم أنشغل بعد ذلك بإعادة طباعة ما نفد من مؤلفاتي الأولى. اقترح أحد الأصدقاء المقربين: لماذا لا أنشئ دار نشر باسمي مثلا، «دار حنفي للطباعة والنشر والتوزيع». ولكني خشيت أن أدخل في مشاريع تجارية وقوانين الشركات والضرائب ومهايا الموظفين. إن ما يهمني طبع الكتاب وترك الباقي للتاريخ. ليتني أستطيع أن أجد ناشرا واحدا لجميع مؤلفاتي يقصدها الناس كما وجد الجابري «مركز دراسات الوحدة العربية» ببيروت، ينشر كتبه ويوزعها، ويحفظ له حقوقه في حياته وبعد مماته؛ فقد لاقيت الأمرين عند الناشرين. بدأت ببيروت
4
وهي شيعية الهوى، ثم توقفت الدار عن النشر بعد الجزء الأول «علوم القرآن، من المحمول إلى الحامل». وصادقني صاحبها الذي هدمت دار نشره في حرب 2006م بين حزب الله وإسرائيل، وعرفني بالسيد حسين فضل الله، وهو المؤسس الفعلي لحزب الله والذي أهداني بعض مؤلفاته، ورأيت أن موضوعاته عن الطاقة والحركة والقوة تشبه أفكاري الأولى وأنا أضع خطة رسالتي للدكتوراه، الصورة الاستاتيكية، التصور والنظام، والصورة الديناميكية، الطاقة والحركة، وهو ما سميته يومئذ «المنهاج الإسلامي العام». وهو نوع العنوان تقريبا لكتيب لأبي الأعلى المودودي، ثم غيرته إلى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه». وظنت أننا سنبقى أصدقاء إلى الأبد، صاحب دار النشر وأنا، ثم توقف بعد الجزء الأول «علوم القرآن» لأنه فيما يبدو لا يعبر عن عقائد الشيعة في الإسلام، ثم توجهت إلى الهيئة العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة في عهد محمود الشنيطي مؤسسها والتي طبعت لي عملي الثاني وهو ترجمتي لإسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» والذي راجعه فؤاد زكريا. وقد كان عملي الأول 1968م «نماذج في الفلسفة المسيحية» (أوغسطين، أنسليم، توما الأكويني) بمساعدة علي سامي النشار في «دار الكتب الجامعية» بالإسكندرية. وبعد طول انتظار، طبعت الهيئة العامة للكتاب ضمن مؤلفاتي الكاملة الجزء الأول «علوم القرآن، من الحامل إلى المحمول»، والجزء الثاني «علم الحديث، من نقد السند إلى نقد المتن»، والجزء الثالث «علوم السيرة من الرسول إلى الرسالة»، ثم توقفت، ربما خشيت من الجزأين الأخيرين «علم التفسير»، و«علم الفقه». ولكي أشجع الهيئة تنازلت عن كل حقوقي بشرط إصدار كتاب كل شهر أو شهرين، ووقع العقد رئيس الهيئة أحمد مجاهد. وانتظرت سنتين ولم يصدر شيء، ربما لأسباب رقابية، فذهبت إلى مدبولي الابن فلم يطبع الجزء الأول «علوم القرآن». وربما خاف من العنوان بعدما حدث للكثيرين بالاغتيال أو التقديم إلى القضاء أو مغادرة البلاد. وأنا في هذه السن المتأخرة، أربع وثمانين عاما، لا أتحمل هذه النتائج بالرغم من أني لا آخذ أي حقوق عن مؤلفاتي، يكفي نشرها، وكان مدبولي الأب يقول: لماذا تريدون حقوقا؟ نحن تجار، نستثمر مكسبنا في بناء العقارات، وأنتم مؤلفون، تشتهرون وتنشرون أفكاركم عن طريقنا، فلا تزاحمونا في المال، ونحن لا نزاحمكم في الشهرة. ثم أصدرت الهيئة العامة للكتاب القسم الأول من «مناهج التفسير» بعد أن قررت طبعه في قسمين لكبره وصعوبة تغليفه، وإلى الآن لم يصدر شيء، وتأخرت سنوات، وكانت الحجة أنني ذكرت سيد قطب في كتابه الأخير «معالم في الطريق» الذي كتبه تحت آثار التعذيب وتكفير النظم السياسية، والقول بالحاكمية مع أنه الشاعر في «الشاطئ المجهول» والقصاص في «أشواك» و«طفل من القرية». والناقد الأدبي في «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه»، و«التصوير الفني في القرآن الكريم» و«مشاهد القيامة في القرآن الكريم» وسبق ذلك كله «الإسلام حركة إبداعية في الفن والحياة». والاشتراكي في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«الصراع بين الرأسمالية والإسلام»، ثم المفكر الإسلامي في «المستقبل لهذا الدين» و«خصائص التصور الإسلامي ومقوماته».
ويمكن تصنيفهم إلى أنواع طبقا لدرجة صدقهم؛ فهناك الصدق المطلق مثل الهيئة العامة للكتاب ولكن تتأخر في الطباعة عدة سنوات قد تصل إلى خمس سنوات لأنها هيئة حكومية. ومنها بعض دور النشر في جيل الآباء المؤسسين مثل الأنجلو المصرية قبل أن تتحول مثل باقي الناشرين. ومثل دار غريب التي أسسها الأب فكان له طموح اللجنة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، وما إن توفي حتى اختلف الأبناء على الإرث، فتفرقوا، ولم يحافظ أحد على تراث الأب، وأسس أحدهم الشركة المصرية السعودية. ودار الطليعة في بيروت التي حاسبتني بالجنيه المصري بدلا من الدولار عندما انخفض الجنيه وارتفع الدولار. وثانيا هناك الكذب المطلق الذي أخذ الكتب ولم يعط الحقوق، دار التنوير التي نشأت في 1982م ببيروت، أسسها أحد تلاميذي السوريين بلبنان. وطبع كتبي الأولى ووزعها، وتوسع في توزيعها، وأقام الصفقات، وطبع بعض مؤلفاتي مثل «من العقيدة للثورة» في بيروت بالتعاون مع المركز الثقافي العربي المغربي اللبناني، المركز يقوم بالطباعة، وهو يدفع حقوق المؤلف، رأيته عدة مرات في بيروت والقاهرة، واختفى. وسمعت أنه نصب على غيره من الناشرين، وظل يهرب حتى سمعت أخيرا أنه قضى نحبه. ومثل دار ماي اللبنانية الليبية، وطبع لي «محمد إقبال» و«من الفناء إلى البقاء» و«من النص إلى الواقع»، وأعطاني حقي في الكتاب الأول ثم اختفى بالكتابين الأخيرين، وطباعته الفاخرة يبيعها في الخليج. وقد أخذت منه وعدا بطباعة كتبي طبعة شعبية لفقراء العرب، وتحجج بأنني طبعت الكتابين طبعة مصرية رخيصة توزع في الوطن العربي، فغرقت السوق. وأخيرا قررت الطباعة على نفقتي الخاصة، الجزأين الأخيرين: من «النقل إلى العقل: مناهج التفسير، من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي»، و«علوم الفقه: من أحكام الفقه إلى أحكام الوجود» ثم «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى» ثم «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم». وأنا الآن أفكر في طباعة هذه «الذكريات» على نفقتي الخاصة. وهناك الصدق النسبي الذي يعطي جزءا من الحقوق ثم يختفي.
5
والثالث المحايد الذي لا يأخذ ولا يعطي مثل دار «الكتاب للنشر» ودار «عين». وهناك من يأخذ ولا يعطي مثل دار «الكتاب المصري» الذي أخذ كل ما لدي من مؤلفات من دار «غريب للتوزيع»، وبعد أن أعلن صداقته لي، وأنه يريد أن يكون ناشري وموزعي مثل «مركز دراسات الوحدة العربية» ببيروت وتعاقده مع الجابري ليكون ناشره وموزعه والمحافظ على حقوقه. وهناك دور نشر صادقة في سوريا حمى الله شعبها وخلصها من حكامها الظالمين وقادتها المنتخبين. أما المغرب فقد نشر «حوار المشرق والمغرب»، وتونس «التراث والتجديد» ولم آخذ حقوقا نظرا لاعتزازي بثقافتهم وتقديري لمثقفيهم.
وكما تعبت مع الناشرين تعبت مع السكرتارية التي تساعد في المنزل؛ فقد أتت سكرتيرة من دار قباء تعمل وقتا إضافيا عندي على نفقتي الخاصة، وكانت مدعية الإسلام، وتتظاهر بأشكاله وعباراته النمطية في الصلاة والسلام على الرسول، واقترضت مبلغا من المال تعمل به، ثم لم أرها بعد ذلك، بل إنها أخذت الكومبيوتر الخاص بي للعمل في المنزل اختصارا للوقت، ولم تعد. وتكررت الواقعة مع العديد من السكرتارية الآخرين، يقترضون المال للعمل به، ثم لا يعودون. وآخر يعمل لحسابه الخاص حتى استهلك ما لدي من إنترنت مدعيا أنه يقوم بما كلفته به من أعمال. وكل له دينه، ولا فرق في النصب والاحتيال بين دين وآخر؛ فالأخلاق تجمعهم. ومنهم من اقترض آلاف الجنيهات واختفى. وعلمت أنه كان يسرق قطع الكومبيوتر من مركز الدراسات الاجتماعية مما اضطر مديره إلى ترقيمها. كما علمت ممن يليه أنه أصيب بفشل كلوي، وأنهم يجمعون له المال في القصر العيني، ثم اقترض من أتى بعده بحجة أنه صعيدي أمين، ثم اختفى. وكنت أحمل لهم بنفسي الإفطار في رمضان، فكان يأتي بعد عمله، ويصل قبل الإفطار، ويفطر ثم يعمل لمدة ساعة ثم يغادر نظرا لزحام المواصلات. وسمعت أنه ضرب امرأته وطردها من المنزل. وكنت أعطيهم جميعا العيديات والمكافآت في المناسبات.
وباستثناء اثنين، بقي أحدهما معي ما يفوق العشر سنوات، مثال في الأمانة والصدق والإخلاص وهو شريف صبري، وما زال يمثل ذراعي الأيمن، هو الذي يرد على المراسلات، ويكتب الخطابات. ويعد أوراق الدعوات للمؤتمرات، بالإضافة إلى الأبحاث والأوراق المقدمة في الندوات. وما تبقى له من وقت يساعدني في كتابة الأبواب والفصول للمؤلفات. والثاني محمد فاروق مثال آخر في الصدق والأمانة والولاء بالرغم من صعوبة وضعه المالي الاجتماعي. بدأ كل يوم بعد الظهر، ولما مرض عمل ثلاثة أيام. ولما أرهق عمل يومين في الأسبوع، ويحدد بنفسه حقه آخر الشهر، يكتب أيضا الأبواب والفصول لمؤلفاتي، ويراعي المكتبة، ويسجل ما يأخذه الناشرون. وما زلت أبحث عن ثالث لطباعة «ذكريات» الذي انتهيت منه هذا الأسبوع، وقد تكون ابنتي. ثم وجدت أخيرا شريف سعد، وقد كنت مشرفا وعضوا في مناقشة رسالته للماجستير، وهو أيضا مثال الكفاءة والأمانة، بالإضافة إلى ثقافته الفلسفية. وأرجو أن يظل الشريفان، صبري وسعد معي حتى أغادر هذا العالم، أمناء على مكتبتي واستمرارا في الرد على المراسلات التي تأتيني، واستقبال الزيارات التي تأتيني، وتصوير النصوص التي يشاؤها الطلاب. وجميعهم يدخلون المنزل ويخرجون بمفاتيح خاصة بهم، أستأمنهم في كل شيء في حياتي العامة والخاصة.
وكان الخاسر الأكبر في هذه الرحلة الطويلة هو الجسد؛ فقد بدأ الوهن يدب فيه: عملية القلب المفتوح لتغيير أربعة شرايين بعد أن اكتشفت ابنة أختي د. داليا عندما رأت وجهي أصفر في زيارة لأخي سيد، وأخذتني عنوة على القصر العيني، وقرروا إجراء العملية فورا، ولم يشأ الجراح أن يقوم بها في القصر العيني حيث يعمل بل في مستشفى السلام الدولي، أول طريق المعادي، ثم أجريت عملية جراحية أخرى لاستئصال المرارة خوفا من تجمع حصاوي فيها، كما أجريت عملية البروستاتا خوفا من كبرها في المستقبل. وأجريت عملية العمود الفقري بعد أن تداخلت الفقرة الرابعة والثالثة معا في انزلاق غضروفي. ولما وقعت في المنزل وأنا خارج من الحمام وانكسر فخذ الرجل اليمنى المرتبط بالحوض غيرته بمفصل حديدي، وبعدها لم أستطع السير بسهولة. ولما تعب البصر من كثرة إجهاده أجريت عمليات الماء الزرقاء والماء البيضاء. ولما لم يتحسن البصر حقنت ثلاث مرات في العين. ولما لم يتحسن البصر كثيرا أجريت عملية في العينين بالليزر. ولم يتحسن البصر حتى الآن؛ فالعصب قد ضعف بسبب السكر، ولا حل لذلك إلا القطرات طول العمر حتى لا يضعف أكثر. ولبست نظارة ميكروسوبية لتكبير الحروف، مستوردة من ألمانيا، ولكن عيناي كانت تدمعان، ثم وضعت عدسة مكبرة على الصفحة ولكن الأمل ضعيف في أن أرى بسهولة ويسر، وأنا الآن لا أرى الألوان، كل شيء أبيض وأسود أمامي، ولا أتحمل ضوء الشمس، ولا أتعرف على من يأتيني للتحية، كما أنني أجلس على كرسي متحرك في الذهاب وفي الإياب. ويرافقني ممرض قدير أطال الله في عمره، محمود محمد الدهروطي، ثقافته العامة والفنية واسعة، ضحوكا، قادرا على القيام بكل ما يطلب منه في شئون المنزل، يوفر لي كل وسائل الراحة أربعا وعشرين ساعة يوميا، بل إنه يصاحبني في الحل والترحال مثل أبو ظبي وعمان والسودان وتونس وتركيا، في المنزل والجامعة، وزوجته وأولاده في بني مزار بمحافظة المنيا، والتي منها مصطفى عبد الرازق. يذهب إليهم كل شهر مرة. ويأتي بديل له ليس له نفس القدرات ، ويصعب عليه أن يتعود علي في عدة أيام، وهذا جزاء من يجلس على كرسي متحرك.
وأصبحت زوجتي وأنا من كبار السن، لا يستطيع كل منا أن يقوم بشئون نفسه؛ فلا أنا أستطيع الحركة بعد الوقوع على الأرض، ولم تعد هي قادرة على القيام بشئون المنزل، وفي حاجة إلى من يساعدها. وقد عانينا الأمرين مع الشغالات؛ فالمصرية تسرق حتى ولو كانت كفؤا، والنيجيرية تصر على أخذ أجرها بالدولار بعد ارتفاعه، والسودانية أفضلهن، ومع ذلك لا يوجد منهن أحد خاليا من العيوب. فالكل بشر مع أننا نقف بجوارهن دائما في حالة الاحتياج. جاءت إحداهن معي إلى البنك وأنا أسحب بعض المال من حسابي، واستكثرت المبلغ مع أني أصرف حوالي خمسة عشر ألفا من الجنيهات، مرتبات شهرية، المرافقين والسكرتيرين والبواب وصيانة المصعد والكهرباء والمياه والأدوية، والغذاء آخرها وأقلها كلفة، فأخبرتني أن أمها بالمستشفى تجري عملية في المخ، وبأن المطلوب منها ثلاثون ألفا من الجنيهات، وإلا تقضي نحبها، فتأثرت، وأعطيتها ما طلبت، وكتبت على نفسها وصل أمانة، فقطعته أمامها، كما فعل نجيب الريحاني مع تحية كاريوكا في «لعبة الست»؛ فالعمل الإنساني لا يحتاج إلى أوراق. وكنت قد ركبت في أسنانها طاقما لأنها يبدو أنها ضربت عند من كانت تعمل عنده قبلي، ثم ضبطت وهي تبيع مسروقات شرقية في خان الخليلي. فقبضت عليها الشرطة التي اتصلت بي كضامن لها فرفضت. وقدمت للمحاكمة، ولا أدري كم شهرا سجنا كان الحكم. والثانية كانت مرحة تعتبر نفسها من أهل البيت، تجلس معنا وتسافر معنا. ومرة أخبرتني أن سقف غرفتها فوق السطح قد وقع، وهي في العراء، وأن ثلاجتها قد توقفت عن العمل، وهناك تخفيض لا يعوض لشراء ثلاجة جديدة، فأعطيتها ما أرادت، ثم سرقت أموالا من درج مكتبي، آلاف الجنيهات، ثم غادرت، ولم ترجع، وغيرت أرقام تليفوناتها. وثالثة كانت تسرق من المطبخ ما تشاء من أوانيه، ثم اختفت فجأة، وعلمت أنها هاجرت إلى أمريكا، وتزوجت أمريكيا رأسماليا أقام لها مصنع مشغولات شرقية، وأنها أصبحت من الرأسماليين. ورابعة كان يأتيها زوجها في الصباح الباكر، وتسلم له ما تستطيع من أواني المطبخ من الشباك، ونحن في الدور الأرضي. القصص كثيرة، ولا أدري ما السبب، الأخلاق كما يقال أم الفقر؟ لا يعني ذلك أنني لم أعرف الأمينات؛ فقد عرفت بعضهن منذ ثلاثين عاما في شقتي القديمة: قبطية، تعمل هي وابنتها، وتجلس بعد أن تنهي العمل في انتظار عودتنا من العمل، صامتة لا تتكلم، كفوء وأمينة في عملها. فهل تغير الزمن؟
ولما كنت لا أستطيع قيادة السيارة فلزمني سائق كان يعمل لابني حاتم وزوجته وأولاده وأصدقائه. ولما غادرت الأسرة استعملته أنا، وكنت كريما معه. وفي يوم طلب أن أقرضه ستة آلاف جنيه لحاجته الماسة لها، ويردها كل شهر ألفا، ففعلت لأني لم أر منه شيئا قبيحا، وكان في كل مرة أحتاج شيئا يحضره لي وأكافئه الضعف، ورد ثلاثة أشهر متتالية، وفي الشهر الرابع قال لي: هل تصبر علي هذا الشهر؟ ففعلت. وحتى أسهل عليه رد المبلغ المتبقي، وهو حوالي النصف، طلبت منه أن يعمل به، في كل مرة يوصلني إلى الجامعة أو إلى الجمعية الفلسفية المصرية أخصم الأجر سدادا لما عليه من دين، واعترض على ذلك، كيف يعود إلى أسرته مساء وجيوبه فارغة؟ ولما رأيت كثرة التلاعب منه أوقفت التعامل معه، ولم يرد باقي السلفة حتى الآن.
أما البوابون فكان جميعهم من الصعيد، وكانت الوظيفة بالنسبة للبواب مجرد مظهر، كان ينظف عربات سكان المنازل، ويقضي حاجاتهم من الأسواق، فيأخذ ضعف المرتب أو الثلاثة أضعاف، وكانت زوجاتهم تعملن عند السكان في النظافة. يأخذ أحدهم أجر الجرائد الأسبوعية، ولا يسلمها لصاحب الكشك حتى أتى يشتكي أن علي ديون شهرين! وسرق سيراميكا من تحت السلم، وكان يقترض ثم يقترض على الاقتراض، ثم عمل عند غيري لمدة شهر سايس عربات، ثم غادر إلى بلدة سوهاج.
وبائع الجرائد الذي كان يفرشها على الرصيف في كل مناسبة يأتي لطلب الإكرامية، وليس فقط العيدين، ويضيف نصف شعبان، ليلة القدر، أول السنة الهجرية، عيد ميلاد المسيح. طلب سلفة ثم سلفة يدفعها من ثمن الجرائد الأسبوعية، وغالط في الحساب أكثر من مرة، فغيرته إلى آخر أكثر أمانة، وأكثر تعليما. وكان يأتي عمال النظافة والصرف الصحي لطلب مبالغ كبيرة ليزوجوا أولادهم وبناتهم، ثم عرفت أنهم كاذبون. فهل هو الفقر؟
ومرة أخرى سمعت عن طبيب يذهب إلى كبار السن في منازلهم ويكشف عليهم ويعالجهم بخمسمائة جنيه للزيارة للفرد، فاستدعيته وأنا في المنزل، وأخذ ألف جنيه، وكتب أدوية أعرفها من قبل، ولم أره بعد ذلك. وقال إنه يحب المال، فكنت ضحية عدة مرات، واعتبرت ذلك من جانب التعلم.
وكما تحكي القصص والروايات عن العلاقة المتميزة بين الطالبة والأستاذ، وكما هو الحال في فيلم «غزل البنات»، بين ليلى مراد ونجيب الريحاني، كانت هناك طالبة شقراء تدور حولي منذ السنة الثالثة، لم تظهر علما، ولم تسأل سؤالا، وفي الدراسات العليا ظلت صامتة، وظلت تلاحقني في كل خطوة بالمشروب البارد أو الشيكولاتة حتى في معرض الكتاب. ولم ينقطع تليفونها يوميا حتى تساءلت زوجتي: ما الخبر؟ وسجلت معي رسالة عن «الزمان والسرد عند بول ريكير»، وهو موضوع صعب. وفي إحدى رحلاتي إلى الخارج أحضرت لها ترجمة إنجليزية للكتاب موضوع الرسالة، وبعد مدة جاءتني برسالة كلها شرح
للكتاب. استغربت! كيف عرفت ذلك كله؟ ومتى قرأت؟ ومتى فكرت؟ يبدو أن أحد الزملاء قد قام بذلك نيابة عنها وأعطته بعض المال، وربما قام بذلك مكتب من مكاتب بين السرايات المتخصص في كتابة الرسائل نظير كثير من المال. وظلت تعطيني هدايا، دبوس ذهب لا أعرف أين هو الآن، ورابطة عنق. ولما رأيتها مرتبطة بي إلى هذا الحد أعطيتها صوري في ماليزيا وإندونيسيا مع الطلبة، وصورا أخرى لا أذكرها، واشتريت ألبومين، وطلبت منها أن ترتب هذه الصور بالمئات في هذين الألبومين، فأخذتهما مع كيس الصور وعينيها تبرقان. لم أفهم ذلك إلا بعد أن سألتني: متى ستأتي إلى المنزل؟ لم أفهم القصد إلا مؤخرا؛ أي متى تطلبني من أبي؟ وكان أخوها نجما في الحزب الوطني، ويتطلع إلى المزيد. أحضر إلي صناديق من المانجو رصها في عربتي، لا أذكر كم صندوقا، فظننت أن الأسرة كريمة ومضيافة، ولها مزارع في الفيوم. وكانت الطالبة تسألني عن خطابها، المهندس وغيره، وأنا أنصحها بألا تقبل إلا المثقف الذي يفهم طبيعة عملها في الدراسات العليا. وبعد ذلك سمعت أنها ذهبت إلى قسم الفلسفة متنازلة عن الرسالة، وتشتكي من الأساتذة الذين يغرون الطالبات، وغيرت الطالبة رقم تليفونها، ولم أرها حتى الآن. ولما كنت حريصا على صوري التذكارية طلبت زوجتي من والدتها أن ترجع ابنتها صور الأستاذ، فإذا بالأم تطلب أن أدفع عشرة آلاف جنيه تكاليف مصاريفها في الدراسات العليا! وكادت زوجتي أن تسبها. يبدو أن التخطيط كان بين الطالبة وأمها على أن تستدرجني للزواج، وأنا قاربت الثمانين، والطالبة في العشرينيات، وعيناها على البيت العربي الذي بنيته خمسة أدوار لأولادي الثلاثة ودور للسكن ودور كمركز للدراسات السينمائية لزوجتي والنصف الآخر للدراسات الفيدرالية لابني الكبير حازم، وهو تخصصه في الماجستير. وسأكتب في وصيتي رجاء لها أن تعيد الصور وأضعها في مكتبتي لأنني سأحولها ربما إلى متحف للزيارة وقد سميتها «المكتبة الفلسفية المتخصصة».
ووسط هذا الهدوء وهذا السكون السياسي انهار برجان بنيويورك بفعل طائرة اصطدمت بهما. وسقط رمزان من رموز الإمبراطورية الأمريكية، وهما ناطحتا سحاب، وانهار البناءان، وتصاعد الدخان والأتربة. وبدأت أصابع الاتهام توجه إلى القاعدة وبن لادن الذي اغتالته الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات، وألقت بجثته في المحيط حتى لا يعرف له أثر، وبدأت تفكر في الانتقام لنفسها لاسترداد هيبتها، فوجدت حجتها في حصول العراق على السلاح النووي، وهذا ضد قرارات الأمم المتحدة. وبدأ العدوان 2003م من الجنوب والشمال والوسط بالبوارج الحربية والقوات الأرضية بمساعدة المياه الإقليمية لبعض الدول العربية، والقوات الجوية، بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، واحتلت العراق كلها، واستشهد الآلاف. وتم البحث عن صدام فوجدوه في مغارة تحت الأرض، وعقدوا له محاكمة صورية، يعرف حكمها قبل أن تبدأ. ووقف صدام في المحاكمة متحديا قضاته إلى أن حكموا بالإعدام شنقا، ونفذ الحكم في وقفة عيد الأضحى، وكأنه ضحية، يدفع العرب ثمنها من الإهانة والتحقير. وكان صدام قد اعتدى على إيران بدعوى تحرير الأهواز حيث تقطن أغلبية عربية كما يقطن في شرق الخليج خاصة في البحرين أغلبية شيعية، وضحى بالآلاف، ولم ينضم عرب الأهواز إلى العراق بل ظلوا على هويتهم الإيرانية، ثم اعتدى صدام على الكويت بدعوى ضم المناطق البترولية التي عليها خلاف، ودخل الكويت لعدة أشهر سالبا ناهبا.
وانتفضت الجامعات ضد العدوان الأمريكي على العراق، واستمرت عدة أسابيع حتى توقف العدوان. وبدأت الحركات الوطنية تطالب بانسحاب المعتدي، وحكم العراق أمريكي واستولى على أموال النفط، وترك وراءه حكومة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية. وأثار العدوان ضجة، وتركت مصر العراق دون أن تتحرك، وإذا تحركت ففي الاتجاه المضاد، استعمال مياهها الإقليمية لمساعدة القوات الأمريكية في إطلاق صواريخها على جنوب العراق. وظهر مخطط تقسيم العراق إلى ثلاث دول: شيعية في الجنوب وعاصمتها كربلاء، المدينة المقدسة. ووسطها السنة وعاصمتها بغداد، عاصمة العباسيين. وشمالها الأكراد وعاصمتها كركوك. وتدخلت إيران بقواتها لمناصرة شيعة العراق، وبدأ تنفيذ مخطط التفتيت في المنطقة، والقضاء على الدول الوطنية وتحويلها إلى دويلات طائفية؛ سنة وشيعة، وعرقية؛ عرب وأكراد، بداية بالعراق، ولا نهاية له إلا في مصر التي استعصت على التفتيت نظرا لوحدتها منذ الملك مينا موحد القطرين، الشمال والجنوب حتى الملك فاروق، ملك مصر والسودان، وقول النحاس باشا: تقطع يدي ولا أفصل مصر عن السودان، حتى عبد الناصر، زعيم القومية العربية.
ثم ظهرت بارقة أمل عندما نشبت حرب بين حزب الله وإسرائيل عام 2006م، وطالت صواريخ حزب الله تل أبيب وبعض المدن الإسرائيلية الأخرى، ورفعت صور جمال عبد الناصر بجوار صور حسن نصر الله. وأيقظت الحرب في العرب روح النصر وإمكانياته وتكرار حرب 1973م من جديد، بين حزب ثوري ودولة مغتصبة أرض العرب، ثم غير حزب الله وجهه بانضمامه إلى الأسد ضد الثورة الشعبية السورية في 2011م بالربيع العربي. وانضمت إليه إيران التي كانت أول من أشعل الثورات في المنطقة في فبراير 1979م، انضماما إلى الحكم الطائفي العلوي؛ فكان لحزب الله وجهان. الأول ثوري ناصري ظهر في 2006م، ووجه طائفي علوي ظهر في 2011م.
وهدأت الأمور من جديد، وظل السؤال يدور في ذهن الجميع: إلى متى يبقى هذا النظام في سوريا ومصر؟ وقد بقي حوالي ثلاثين عاما وما زال يريد أن يستمر، إما عن طريق الأب أو عن طريق الابن عن طريق التوريث، ولا الجيش ولا الشعب قابل له. وبدأت الروايات عن نهب أموال مصر من الرئيس ونجليه بل وامرأته وصحبه، وتهريبها إلى الخارج بالمليارات. وكما كان الشعار في الجمهورية الثانية التي انقلبت على الناصرية «الرأسمالية ليست جريمة» أصبح الشعار «الفساد ليس جريمة». وكما قال الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
وانتشرت الرشوة والفساد في مؤسسات الدولة والمصالح الحكومية لقضاء أي مصلحة خاصة. وما زالت قضايا الحريات مثارة، وأهمها استشهاد خالد سعيد الذي قتلته المخابرات، وهو يشبه بو عزيزي البائع المتجول الذي كان يسعى إلى قوته اليومي فصفعته شرطية على وجهه ليفسح الطريق لأصحاب العربات فكان الشرارة التي أوقدت الثورة التونسية التي كانت الشرارة التي انطلقت منها ثورات الربيع العربي في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن. اختزن خالد سعيد في قلوب المصريين حتى اختمر في ثقافة شعب شيمته الصبر، وكما قيل له: «أنتم شعب صبور.» كما كثر الحديث عن حياة البذخ في شرم الشيخ التي يحياها الرئيس المخلوع وأسرته، والبذخ في تزيين منزل الرئيس وراء الشيراتون في الوقت الذي لا يجد فيه الفقير قوت يومه.
الفصل العاشر
الثورة المصرية، والربيع العربي (2011-2018م)
وفجأة وبلا سابق انتظار انفجر القدر بضغط البخار الصاعد منه في يناير 2011م، عيد الشرطة. وقد تطورت المظاهرات الشعبية تدريجيا من عيد الشرطة إلى المطالبة بالإفراج عن المعتقلين الذين احتجزتهم الشرطة بلا سبب وبلا محاكمة، ثم تعالت المطالب حتى وصلت إلى ضرورة استقالة الرئيس الذي رفض الاستجابة لمطالبهم أو حتى لقاء وفد من المتظاهرين الذين كانوا يؤلفون كل القوى الوطنية في البلاد. وجيء بالجمال لتدهس المتظاهرين في ميدان التحرير بما يسمى «موقعة الجمل» ومعارك أخرى مثل معركة «محمد محمود» وهو الشارع المجاور للجامعة الأمريكية وكذلك معركة «ماسبيرو» حول مبنى الإذاعة والتلفزيون، واستشهد المئات. وفي 11 فبراير قدم الرئيس استقالته، وعين عمر سليمان نائبا له. واستمرت المظاهرات تطالب باستقالة الرئيس بعد أن حاصروا قصر الرئاسة، ورفض الجيش التدخل لصالح الرئيس لأنه كان حانقا على التوريث، وسلم السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وعمت الفرحة الشعب. ونظرا لعدم وجود قيادة للثورة الشعبية وعدم وجود تنظيم لها، وإن كانت تطالب بمبادئ أربعة: الخبز، الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية، ظلت الثورة تتأرجح بين العسكريين والإسلاميين. وبدأ الجدل حول وضع الدستور أولا ثم الانتخابات أم الانتخابات أولا ثم الدستور؟ تنظيم انتخابات برلمانية أولا ثم انتخابات رئاسية، أم انتخابات رئاسية أولا ثم انتخابات برلمانية؟ وكل هذه الدوائر المغلقة التي تدور حول نفسها تهدف إلى إرباك الثورة، ووضع الدستور المؤقت تسير عليه البلاد ثم تجرى الانتخابات، وعين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسا مؤقتا. وأجريت الانتخابات بين: أحمد شفيق ممثل النظام السابق، محمد مرسي مرشح الإخوان، عبد المنعم أبو الفتوح «إخواني مستقل»، عمرو موسى «ناصري قومي»، حمدين صباحي «ناصري»، وأربعة آخرين، لا ذكر ولا لون لهم، ونجح المرشحان الأولان، ثم أجريت انتخابات الإعادة بين شفيق ومرسي. فانتخب الناس مرسي بأغلبية ضئيلة خوفا من شفيق صديق الرئيس المخلوع وإلا فلماذا كانت الثورة؟
وبعد عام تقريبا لم يسجن فيه أحد، ولم تكبت الحريات، ولكن بدأت أخونة الدولة. وكان الرئيس الجديد يتلقى توجيهاته من مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين. كانوا قد رفع العريان شعار «مشاركة لا مغالبة»، ولكن في الواقع مارسوا «مغالبة لا مشاركة». فبدأت القوى السياسية الأخرى، الليبراليون والقوميون والناصريون والماركسيون بالضجر من هذا الحكم الفردي والذي يمد يده إلى قطر وإيران وتركيا، إلى الخارج قبل الداخل، إلى المحيط قبل المركز على عكس البنية الثقافية التي تعطي الأولوية للمركز على المحيط. وأجريت الانتخابات البرلمانية، فأخذ الإخوان الأغلبية، واختير رئيس المجلس إخوانيا، وأظهر بعض السلوك الديمقراطي، ومنع النداء على الصلاة وضبط الجلسات؛ فالصلاة يمكن أن تكون على التراخي وليس على الفور، قضاء وليس أداء؛ أي آجلا وليس عاجلا كما حدد علماء الأصول منعا للمزايدة؛ فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ورعاية مصالح المسلمين لا تقل إيمانا عن الصلاة. لم ترتفع الأسعار، ولم يقبض على أحد، ومع ذلك تجمعت القوى المناهضة للإخوان بعد عام واحد لعمل ثورة مضادة لحكم الإسلاميين الذين أتوا بالانتخاب الشعبي الحر المباشر في 30 يونيو 2013م، ثم ساندها الجيش بقيادة وزير الدفاع ورئيس المخابرات السابق. ولم يقبل الإخوان انتخابا مبكرا لمعرفة اختيار الشعب تمسكا بالشرعية، ورفضوا إنذار الجيش، مما اضطر الجيش إلى تولي الحكم في 3 يوليو. وقبض بعد ذلك بأيام على الرئيس، وأودع في السجن، من القصر إلى المعتقل مع الاتهام بالتخابر مع قطر. في حين أن الرئيس السابق عليه أودع في جناح في المستشفى العسكري بالمعادي، وله كل الحقوق في زيارات الأسرة والأصدقاء، وهو الآن يطالب بالعودة إلى منزله في شرم الشيخ حتى مع الإقامة الجبرية. كما قبض على معظم أعضاء مكتب الإرشاد من أول المرشد العام حتى كبار الشخصيات في الجماعة. أطلقت الاتهامات بالتكفير والعنف والاغتيالات، وطالت قوائم الممنوعين من السفر، وزادت نسبة الهاربين إلى الخارج، وكانت تركيا هي الأقرب ثم قطر.
1
ونشأ الجدل: هل ما حدث ثورة أم انقلاب؟ وبعد أربع سنوات وتكشف السياسات التي اتبعت منذ 2014م يعود السؤال مرة أخرى: هل ما حدث انقلاب أم ثورة مضادة؟ فكما كانت هناك أخونة الدولة من الإخوان كما كانت تفعل كل الأحزاب، أصبح هناك عسكرة للدولة من الجيش؛ فهو الذي يقوم بحل كل الأزمات: المواد الغذائية، رصف الطرق، بناء المساكن الاجتماعية، إقامة المزارع السمكية. ويقف الضابط في حفل الافتتاح ويضرب كعبي الحذاء، ويرفع يده إلى الرأس ليحيي الرئيس معرفا بنفسه «العقيد فلان قائد خط الجمبري»، بالإضافة إلى الأمن القومي. وأضيف إليه القبض على المعتقلين مثل زوار الفجر. وأصبح الجيش أكبر شركة استثمارية في البلاد، وبدأ يقابل العنف بالعنف في سيناء. وسألت دماء المصريين من الطرفين، مع أن إسرائيل احتلت سيناء ست سنوات ولم نسمع عن قتال بين بدو سيناء وجيش إسرائيل، بل استطاعت إسرائيل كسب قلوب السيناويين بأداء الخدمات: المستشفيات والمدارس والأندية، وتوفير المواد الغذائية اللازمة والتي تنقص الوادي؛ فهم مواطنون إسرائيليون وليسوا مواطنين مصريين. والمواطنة حيث المصلحة، والمصلحة حيث المنفعة.
وارتفعت الأسعار إلى أكثر من الضعف وأحيانا الأربعة أضعاف بلا مبرر معقول، كما زادت فواتير الكهرباء والغاز، وتذاكر المواصلات، والمترو قادم. وزادت نسبة الفساد ابتداء من الوزراء وكبار المسئولين بالملايين حتى صغار الموظفين بالجنيهات. وأصبح الفقير غير قادر على أن يعيش حتى بالفول والطعمية. وبدأ التجار يخبئون السكر الذي به حياة المصريين ليبيعوه بسعر أعلى، والشعب يخطفه من على الشاحنات. ومن ناحية أخرى يكسب كبار التجار بالتعاون مع رجال التفتيش، يرفعون الأسعار، ويكسبون الملايين. أما الوزراء وكبار رجال الأعمال فيكسبون بالمليارات بطرق غير شرعية. وتم سفر الفقراء على مراكب بحرية فيغرقون، ويزداد عدد المعتقلين بالآلاف. وكان كل شيء لا يحل إلا بالجيش. وبدأ البحث عن التمويل شرقا وغربا من الأشقاء العرب والبنك الدولي. وتركت المليارات تنهب في الداخل، مع أنه يساوي الاقتراض من الخارج عشرات المرات، ولكن رجال الأعمال مثل رجال الأمن هم سدنة النظام. والاستقواء في الداخل تعويض عن الضعف في الخارج. والوطن العربي تسيل دماؤه ومصر لا تتحرك، وهي المناطق التي امتدت إليها الناصرية، سوريا والعراق شمالا، وليبيا غربا، واليمن جنوبا. وتعقد المؤتمرات من أجل تحقيق السلام في سوريا شقيقة مصر التي حملت عربة عبد الناصر على الأكتاف عندما زارها، دون دعوة مصر، وكأن سوريا أقرب إلى روسيا وأمريكا وإيران وتركيا من مصر، وهي القوى التي تتحكم في مصير سوريا على الأرض، بل إن مصر تؤيد «الأسد إلى الأبد» دون الشعب السوري الذي ثار ضد نظام الاستبداد والظلم بدعوى الخوف على وحدة سوريا من التفتت، وكأن وحدة الأوطان لا تتحقق إلا بالاستبداد، وأن الديمقراطية وحكم الشعب يجلبان التفتت والتجزئة.
2
وبدأ القدر يغلي من جديد، ولكن لم يتصاعد البخار بعد، والضجر الموجود في القلب لم يحن له أن ينفجر؛ فلم يأت الوقت بعد، أصبح الوطن طاردا لأبنائه. أما الخصومة السياسية فلم تجد لها حق التعبير عن نفسها، وتخشى الاعتقال. والبطالة والفقر، لا حل لهما في سنوات الثورة. ولا يفي النظام بما يعد مثل تكوين لجنة من الشباب للإفراج عمن يستحق الإفراج من السجون. وهل الحرية منتقاة للبعض دون البعض الآخر؟ وربما هو كلام في كلام. وفي الواقع يزداد عدد المعتقلين، ويزداد بناء السجون مثل الإسكان الشعبي. ووزارة الداخلية تصرح بأنها لم تتلق أي طلب للإفراج عن المعتقلين أو على الأقل إعداد قائمة بمن يستحق الإفراج باسم الشباب ومن لا يستحق. ومرة ثانية يتم الاجتماع مع تنظيمات حقوق المرأة، والوعد بتحقيق ما تبقى منها ولم يحدث شيء. ومرة ثالثة الاجتماع مع المعاقين، والوعد بتسهيل حياتهم المعيشية، ولم يحدث شيء. في حين أن عبد الناصر بعد الثورة بسبعة أسابيع أصدر قانون الإصلاح الزراعي لتمليك الأرض للفلاح، وتوزيع أراضي الملك والباشوات على فلاحيهم في الأرض، بدلا من العمل فيها كعبيد، وأقام محاكم الثورة، فأصدرت أحكامها على رجال العهد البائد، ولم ينتظر سنين طويلة، والمثار ضدهم يعيشون في أجنحة في مستشفى المعادي أو في قصورهم سنوات وسنوات قبل أن يبرئهم القضاء كما حدث بعد ذلك.
وكان مصير الثورة العربية في تونس وسوريا والعراق وليبيا واليمن ليس بأفضل حال من مصيرها في مصر. منذ اندلعت الثورة في تونس بدأ التذبذب في الحكم بين العلمانيين والإسلاميين. ولما لم يختف العنف تماما راجع الإسلاميون المعتدلون في حزب النهضة أنفسهم وتجربتهم السياسية، وقرروا عدم العمل السياسي لفترة قادمة، والاكتفاء بالعمل الاجتماعي والتربوي. وما زال الجمع في حكومة واحدة بين الإسلاميين واليسار يتأرجح؛ فالماضي ما زال حاضرا في الأذهان. وفي سوريا بدأت الثورة سلمية، ولما بدأ النظام مقاومتها بالسلاح وليس بالحوار، اضطر الثوار إلى استعمال السلاح حتى تطورت إلى حرب أهلية، تدخلت فيها روسيا وإيران وحزب الله بجانب النظام. ولم تجد الثورة من يقف بجانبها إلا الشقيقة السعودية إلى حين وأحيانا تركيا، ووقفت مصر، كعبة العرب، بجوار النظام السوري، وتمت التضحية بالشعب السوري في سبيل السلطة، قتل نصفه أطفالا ونساء وشيوخا ورجالا، وهاجر النصف الآخر، ومن بقي ينتظر مصيره المحتوم، ويبكي على سوريا الوطن الحبيب. والعراق منذ الغزو الأمريكي وهو يصارع من أجل البقاء؛ فقد بدأت الطوائف، سنة وشيعة، والأعراق، أكراد وأرمن وتركمان في الصراع على السلطة المركزية في بغداد أو في تشكيل دويلات مستقلة طائفية وعرقية، مستقلة تماما في إطار السلطة المركزية في بغداد. وما زال الصراع دائرا حتى الآن. وفي ليبيا بعد انتصار الثورة انقسمت القبائل فيما بينها تطالب بالاستقلال أو بالعودة إلى الملكية أيام السنوسي قبل الوحدة، ودخلت في حرب أهلية لم تنته حتى الآن. وبعد أن نجحت ثورة اليمن، انقلب فريق من الثوار وهم الحوثيون على الثورة من أجل تولي السلطة في صنعاء، وانضم إليهم الرئيس السابق ناسيا جهاده من أجل توحيد اليمن بين الشمال والجنوب. وكون الفريقان ثورة مضادة. واحتلت صنعاء. وما زالت الحرب دائرة بين الوطنيين من جهة والحوثيين وصالح من جهة أخرى، ثم قتل بعد أن رقص على كل الحبال حفاظا على الكرسي. وضاع الشعب اليمني بينهما قتلا وذبحا وتنكيلا. وأصبح العالم كله يشهد جريمة قتل وتجويع ومرض ملايين الأطفال باسم الإسلام! وتصارعت أمريكا وإيران على باب المندب الذي جعله عبد الناصر بحيرة عربية؛ من الشمال قناة السويس، ومن الجنوب اليمن، ومن الشرق السعودية، ومن الغرب مصر.
وقد تنازلت مصر عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير اللتين حارب من أجلهما عبد الناصر في 1967م، ثم تنازلت عن ألف كيلو متر مربع للسعودية لبناء مدينة «نيوم» في ملتقى مصر والسعودية والأردن وإسرائيل مثل إيلات، وهي مدينة أم الرشراش المصرية التي احتلتها إسرائيل في 1948م، مصر بالأرض، والسعودية برأس المال، وإسرائيل بالتكنولوجيا والأردن بالسكان لتخفيف الضغط على غزة المحاصرة برا وبحرا، شرقا وشمالا إلا مصر جنوبا؛ فإليها الهجرة وتوطين الفلسطينيين، وحل القضية الفلسطينية في صفقة القرن. ويصبح الشرق الأوسط الكبير أو الجديد إقليما واحدا وسط إسرائيل التي يتودد الكل إليها وتؤازره أمريكا حليف المنطقة، فتبتلع إسرائيل المنطقة كلها، تربة وأرضا وسكانا وعقولا، وتكسب الحروب السابقة كلها بلا حروب قادمة.
وأخيرا عقد اتفاق بين مصر وإسرائيل على أن تشتري مصر الغاز من إسرائيل بخمسة عشر مليار دولارا، ومصر تعيش وسط بحيرة غاز، من السعودية والخليج شرقا، وليبيا غربا، وحقل «ظهر» شمالا. ومصر تدين ملياراتها للاستثمار، وهو ما فعله صديق الرئيس المخلوع عندما كان يصدر الغاز إلى إسرائيل بالمليارات، والحجة تصنيع الغاز، فتصبح إسرائيل مسيطرة على مداخل البحر الأحمر من الشمال في خليجي السويس، وأمريكا وإسرائيل على باب المندب، ويتحول البحر الأحمر من بحيرة عربية إلى بحيرة إسرائيلية. والآن يتم التخطيط لشق قناة بين البحر الميت والبحر الأحمر لضرب قناة السويس في مقتل التي من أجلها أضاعت مصر استقلالها وحفرتها بسواعد فلاحيها، وتم العدوان عليها في 1956م بعد تأميمها.
ورأيت فيما يرى النائم أنني دعيت للقاء الرئيس في معرض الكتاب وتسليم الجوائز، جائزة النيل، ومناقشته كما يفعل الرؤساء السابقون كل عام في عيد العلم. وغلب على تنظيم المعرض الجانب الأمني، وليس الجانب العلمي الثقافي. ووضعت الكراسي بالمئات بالقطيفة الحمراء وهي مكسوة بالأبيض وفارغة من أي زائر. وفات الموعد، والناس في الانتظار في الصفوف الخلفية يأكلون ما قدم لهم من طعام، ملء فراغ أو رشوة، فسرت بين الطرقات، وأنا أصيح: من ينتظر من؟ الرئيس في الاستقبال والمثقفون هم المستقبلون؟ وإلى الآن لم يظهر الرئيس! وهذه إهانة للمثقفين المدعوين، فجاء رجال الأمن، بعد أن قالوا لي كفاية يا أستاذ، ليستجوبوني: هل أنت إخواني؟ هل لك صلة بالإخوان؟ هل أحد الأصدقاء من الإخوان؟ وكأن أحدا لا يعترض على شيء إلا إذا كان من الإخوان! ولم يحضر الرئيس . وفي الحلم، رأيت أنهم أدخلوني في حافلة داخل سرداب طويل حتى جاءت استراحة لتناول المشروبات، وجاء من يعلن أن الرئيس مشغول اليوم! يبدو أن الأمن أخبره بشيء جعله يغير رأيه. وبعد ذلك بأيام عرض التلفزيون مقابلة قديمة مع بعض المثقفين، وكأنها حدثت في معرض الكتاب!
وبعد عام بدأت الرئة الأخرى التي يتنفس منها الشعب في الضيق؛ فقد غلت الأسعار إلى الضعف أو ثلاثة أضعاف في كل المواد خاصة المواد الغذائية التي منها يقتات الشعب مثل الفول والعدس، وزادت أسعار الخضار المجمد والطازج، وارتفعت أسعار اللحوم والأسماك والدواجن بحجة ارتفاع سعر الدولار حتى الفجل والجرجير والكراث والخيار والطماطم، وتعويم الجنيه. وبدأ النقد علنا، يخرج من القلوب إلى الأفواه، يد تعتقل في الداخل، ويد ممدودة للخارج. يد تسرق في الداخل، ويد فاسدة تهرب المليارات إلى الخارج. لا فرق بين رجال الأعمال ورجال الأمن ورجال السلطة. والأخطر من ذلك كله التفريط في أرض الوطن، والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. وأصدرت محاكم بكافة درجاتها أحكاما بإبطال العقد، عقد البيع، ثم صدر حكم أخير للمحكمة الدستورية العليا بإبطال كل الأحكام القضائية السابقة، وأن ذلك من حكم السيادة!
إن الحطب جاف، فأين الشرارة؟ تلمع بين الحين والحين ثم تنطفئ، وآخرها هتف الشعب في استاد القاهرة بعد القبض على بعض المواطنين «حرية، حرية، حرية». وتصفيق الحاضرين في مدرج بعد أن سأل أستاذ في مناقشة رسالة الطالب عن حال التمدن والمدنية، وهو موضوع الرسالة الآن، فأجاب الطالب بالكتب في الموضوع. وطلب الأستاذ، ليس الكتب بل ما يشعر به الناس، سائق سيارة الأجرة، بائع الخضار، المواطن العادي؟ فلم يعرف الطالب المقصود لأنه تعود على العلم في كتاب. فساعده الأستاذ: ألا تشعر بأنك إذا وضعت أذنك على قلبك وجدت أنه ينبض بالفقر والاستبداد؟ فضجت القاعة بالتصفيق. ويظل السؤال قائما: متى ينتهي السقوط، ومتى يبدأ الارتفاع من جديد؟ خاصة وأنا أنتمي لجيل بدأ حياته بالارتفاع بحركة التحرر الوطني في الخمسينيات وينهي حياته الآن بالقهر السياسي، لا اليد تكتب، ولا اللسان يتحدث ، ولكن القلب ما زال ينبض.
وأحس الشعب بالإحباط كما أحس بعد ثورة 1919م عندما استولى عليها القصر والإقطاعيون والباشوات، واحتاجت إلى ثورة جديدة؛ ثورة الضباط الأحرار في 1952م. لم يعرف أحد تموجات الثورة متى ترتفع ومتى تنخفض، والكل يعرف أن ثورة الجياع قادمة، وما ثورة الغلابة في 11 / 11 / 2016م إلا بروفة، كيف تستطيع ثورة الآلاف أن تجند نصف مليون جندي وشرطي وأمن مركزي؟
والأخطر من ذلك كله الإحساس بالإحباط واليأس، وترك السياسة كلية والبحث عن لقمة العيش، ويساعد الإعلام على إيجاد البديل لهم؛ فهل يستطيع الإرهاب أو الإخوان أن يكون عدوا بديلا عن إسرائيل؟ احتار الناس من العدو ومن الصديق؟ هل العدو فيما بيننا والصديق خارجا عنا أم إن العدو على الحدود والصديق داخل الحدود أم إن العدو خارجنا والصديق داخلنا؟ فلا فرق بين بدو سيناء وفلاحي الوادي، بين الجيش والشعب، بين الشرطة والخارجين على القانون؛ فكلهم مصريون.
كان الناس يظنون طبقا لما يشاهدون أن الشعب قد مات؛ فلا هو قادر على إفراز جيل جديد من الضباط الأحرار، مثل ثورة عرابي 1882م، وثورة 1952م، ولا هو قادر على أن يقوم بنفسه كما فعل في ثورة 1919م ثم ثورة 2011م، وبين الاثنين حوالي قرن من الزمان. ويتساءل: ماذا عن ثورة المفكرين الأحرار التي بدأت بها معظم الثورات وعلى رأسها الثورة الفرنسية؛ فتحرير العقول سابق على المجتمعات، ولو تحررت المجتمعات دون العقول لعادت إلى استبدادها الأول وأظلمت العقول؛ فهل من ثورة يقودها المفكرون الأحرار؟ لذلك يشتد التعتيم على الفكر، ولجم اللسان، وتقييد اليد، ولكن لم يشق أحد على قلوبنا.
الفصل الحادي عشر
كل نفس ذائقة الموت (2018م-...)
والآن وقد اكتملت ذكريات الماضي دون الحاضر، فماذا عن المستقبل؟ لم يتحقق المستقبل بعد، ولكن هل يمكن للاستباق أن يحل محله؟ هل يمكن بناء على ذكريات الماضي وربما الحاضر التنبؤ أو على الأقل الإحساس بما سيحدث في المستقبل قبل أن يتحول إلى ذكريات قد لا يعيش صاحبها؟ فالماضي مستقبل الحاضر، والحاضر والمستقبل هما الماضي قبل أن يتحققا، والمستقبل لا يمكن تحديد نهايته ولا بدايته ؛ فالبداية هو الحاضر، ونهايته الموت، ولا يتحول إلى ذكريات إلا يوم الحساب. ومع ذلك يمكن مراجعة الماضي، هل حقق كل ما أراده «التراث والتجديد» بمستوياته الثلاثة: العلمية الفلسفية، والثقافية، والسياسية الشعبية؟ صحيح أنني أسمع صداه في كل مكان، وعند عدة أجيال، والواقع يسير في منطقه الخاص ، لم يغير مساره في شيء؛ فالصراع بين أنصار القديم، الإسلاميين، وأنصار الجديد، اليسار، ما زال قائما من أجل الاستيلاء على السلطة في الحاضر. أنصار الماضي هم السلفيون، وأنصار المستقبل هم المدنيون، ما زالوا يتصارعون على الحاضر. والشعب الفقير هو الذي ضاعت مصالحه، ويحتاج إلى خدماته، ولم ينفع في ذلك لا المستوى العلمي للعلماء، ولا المستوى الفلسفي للمثقفين، ولا المستوى السياسي الشعبي للجماهير. ربما علي الانتظار حتى يكتشف التاريخ أهمية «التراث والتجديد»، ويحركه، وينقله من مرحلة ماضية إلى مرحلة آنية، من مرحلة السقوط في القرون السبعة الأخيرة إلى مرحلة النهوض في القرون السبعة التالية لحاقا بالقرون السبعة الأولى، من الأول إلى السابع، مرحلة النهضة الماضية الأولى إلى مرحلة النهضة الثانية الحديثة من القرن الرابع عشر حتى الواحد والعشرين، وابن خلدون علامة فارقة بين الاثنين.
استرسلت في الذكريات قدر المستطاع. قد أكون نسيت بعضها أو أولت البعض الآخر، ولكني لم أظلم أحدا، ومن يحس بالظلم بعد قراءتها فليرد علي، وتجمع هذه الردود وتطبع في نهاية الذكريات في الطبعة الثانية. الذكريات تسيل كنهر دافق، أكتبها كي أستريح من الكتب العلمية الموثقة في أجزاء «التراث والتجديد»، وتنتهي براحة نفسية بعد التخلي عن ثقل التاريخ وهمومه. هو علاج نفسي أعطيه لنفسي عن طيب خاطر، وأجربه لعلي أعود إلى «الروح الطائر». كنت أظن أنها ستأخذ مني سنينا، ولكنها أخذت مني شهرين في صياغتها الأولى، ثم شهرا ثالثا في الصياغتين الثانية والثالثة. وأنا أكتب كل يوم مرتين، صباحا ومساء، لعلي أترك للأجيال القادمة قصة حب مفكر لا يفرق بين هموم الفكر وهموم الوطن. الحمد لله أنني لم أسجن أو أعذب، ولكن السجن كان إراديا؛ سجن البدن بين أربعة جدران، وسجن الروح وعذابه في حمل الهموم دون التخلي عنها لحساب نظام سياسي أيا كان. لقد كنت أشعر دائما بواجب العلماء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد مناقشتي لعبد الناصر في مؤتمر المبعوثين صيف 1966م في المدرج الكبير بجامعة الإسكندرية. ولم أستطع أن أفعل ذلك على من خلفه في معرض الكتاب لأني اعتبرته قد تخلى عن الأرض بمعاهدة كامب دافيد واتفاقية السلام مع إسرائيل، ولكني ناقشت من أتى بعده في معرض الكتاب مبينا أهمية حرية الفكر والاستقلال الوطني للبلاد ضاربا المثل برمسيس، وصلاح الدين، وعبد الناصر، فسأل: وأين السادات؟ فلم أشأ أن أرد قائلا إنه عقد السلام مع العدو قبل أن ينسحب من الأراضي المحتلة. وكان عبد الناصر يقول دائما: ليست القضية سيناء؛ فأنا أستطيع أن استردها في أربع وعشرين ساعة، ولكن عيني على الضفة الغربية والجولان.
والآن وقد اكتمل المشروع، وقاربت حياتي على الانتهاء؛ إذ لما سمع أبو بكر آية:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، قال: «إن الرسول ينعى نفسه.» ولم يبق لي إلا هيجل واليسار الهيجلي أو الهيجليين الشبان؛ لبيان أهمية هذه الفترة من الفلسفة الغربية؛ فقد استطاع هيجل أن يحول الدين إلى فكر، والعقائد إلى حياة؛ فالتثليث هو الجدل الهيجلي، والتجسد هو الروح في التاريخ، والمطلق في الدولة. والدين والمثالية قرينان منذ كانط، وهيجل في النهاية هو أحد تلاميذه جمع بين كتبه النقدية الثلاثة، نقد العقل النظري، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم في عقل واحد، لا يفرق بين الظاهر والشيء في ذاته؛ فالعقل والغائية في التاريخ؛ فالماركسية هي التطور الطبيعي للدين، من العقائدية إلى المثالية إلى الإنسانية إلى الواقعية الاجتماعية. ولا فرق بين الإيمان بالمسيحية والإيمان بهيجل؛ فهيجل هو المسيحية العاقلة، والمسيحية المثالية هي هيجل التاريخي. ثم جاء تلاميذه ونقدوا مثاليته، مثالية الأستاذ والتي لا فرق بينها وبين الدين المسيحي؛ فالحقيقة تحت المثالية في الواقع، في المجتمع وحياة الناس، الفرد عند شترنر، والوعي الذاتي عند باور، والإنسان عند فيورباخ. ثم جاء تلميذ آخر، كارل ماركس، فنقد التلاميذ، العائلة المقدسة؛ فهم ما زالوا مثاليين مثل الأستاذ. أما الحقيقة لديه فهي الحياة المادية، الصراع بين الفقراء والأغنياء، بين من لا يملكون ومن يملكون، بين الحرية والاستعباد.
وكان بودي أن أنجز تفصيلات لما تركته عاما مثل «مقدمة في علم الاستغراب»؛ فالإعلان عن كونه مقدمة يوحي بأن أجزاء أخرى ستأتي؛ فقد أعلن في مشروع «التراث والتجديد» أن موقفنا من التراث الغربي وهو علم الاستغراب يشمل ثلاثة أجزاء: الأول، مصادر الوعي الأوروبي خاصة المصادر الأفريقية والآسيوية كما فعل مارتن برنال في الجزء الأول من «أثينا السوداء» لتحليل المصدر الأفريقي للحضارة الأوروبية. والثاني، تكوين الوعي الأوروبي؛ أي مراحله القديمة اليونانية والرومانية، الوسطى المسيحية، الحديثة في عصر الحداثة، وبالتوثيق اللازم كما فعلت في «موقفنا من التراث القديم». وكان هذا يحتاج عمرا جديدا لا أملكه، وعوضا عن ذلك ساندته ببعض الترجمات مثل «نماذج من المسيحية في العصر الوسيط» والجزء الثاني من «قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر»، و«دراسات فلسفية»، كما ساندته ببعض الترجمات مثل «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإسبينوزا، و«تربية الجنس البشري» للسنج، و«تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر؛ حيث يضع التقابل بين «الأنا أفكر»
Cogito
في بداية عصر الحداثة و«الأنا موجود»
Ego
في نهايته أو ما أسماه هوسرل الكوجيتاتوم
Cogitatum ؛ فالأنا ذات وموضوع، وبينهما إحالة متبادلة. ولو امتد بي العمر لنقلت إلى العربية «جوهر المسيحية» لفيورباخ حيث يحول فيه الثيولوجيا إلى أنثربولوجيا، وذلك لمساندة محاولات المعاصرين بمشروع مشابه داخل الحضارة الإسلامية، وكتابي الأخيرين عن «برجسون، فيلسوف الحياة»، «فشته، فيلسوف المقاومة». وكان بودي الكتابة عن فلاسفة الحياة، ليس بالضرورة كتبا، ولكن يكفي المقالات العلمية كما كنت أفعل في بداية حياتي العلمية الفلسفية في «الفكر المعاصر» و«تراث الإنسانية» و«الكاتب» و«المجلة». وقد جمعت فيما بعد في «قضايا معاصرة» (جزءان)؛ الأول «في الفكر العربي المعاصر»، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، وأيضا في «هموم الفكر والوطن» (جزءان). كنت أود أن أكتب عن فلاسفة الحياة الذين أتوا ليملئوا الفراغ بين العقليين والحسيين مثل دريش
Driesch ، دلتاي
Dilthey ، جويو
Guyau ، فوييه
Fouillée ، ثم فلاسفة الشخصانية مثل مونييه بعد أن قدمها محمد عزيز لحبابي في المغرب باسم الشخصانية، وهو مؤسس مجلة «روح»
Espirit
مع بول ريكير، ويمثل اليسار المسيحي. كما كنت أود الكتابة عن فلاسفة الوجود مثل هيدجر، وياسبرز، ومارسيل، وميرلوبونتي. وكنت أود الكتابة عن أورتيجا إي جاسيه بعد أن كتبت عن «ثورة الجماهير»، ونيتشه فيلسوف القوة والعدم بعد أن قدمه فؤاد زكريا.
كنت أود أن أنشط اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية، كما فعلت مع الجمعية الفلسفية المصرية، وبعد الاجتماع الأول، بدأت الصعوبات؛ أولها عدم وجود جمعيات فلسفية إلا في تونس والمغرب والأردن ولبنان، وعدم وجود التمويل اللازم لنفقات سفر الأعضاء أو الإقامة، وعدم وجود النية الصادقة والحماس اللازم للعمل الجماعي. وكنت أود أن أحول قسم الفلسفة عندنا إلى مركز للتفلسف، وخلق مدارس فلسفية يحاور بعضها بعضا، بدلا من الخصام والتوتر والمقاطعة بين الأساتذة. كما كنت أود أن أجمع أقسام الفلسفة في مصر في مؤتمر سنوي من خلال الجمعية الفلسفية المصرية أو بدونها بدلا من هذا التشتت الذي جعل بعضنا لا يعرف البعض الآخر. كنت أود أن أضع لكل قسم خطة بحث علمي للماجستير والدكتوراه بدلا من الاختيار العشوائي والمكرر. وكنت أود أن يظهر أثر هذه الرسائل في الواقع المعاش حتى لا يكون مكانها مجرد وضعها على الرفوف؛ فالفلسفة ليست بأقل أثرا من الأدب، بل إن استمرار غالبية المؤتمرات السنوية في جامعة القاهرة بدأ يشق على النفس، وتظن باقي أقسام الفلسفة أنها استكبار بالقاهرة على باقي المدن. ولم تتردد الجمعية الفلسفية المصرية ولا كلية الآداب في أن تستضيفها إحدى الجامعات المؤتمر السنوي تدعيما لنشاطها كما فعلت جامعة الإسكندرية، وجامعة بني سويف، وجامعة المنيا، وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وما زال الباب مفتوحا للجميع، وإلا فإن قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة يشرفه أن يكون بؤرة النشاط الفلسفي في مصر والوطن العربي والجامعات العربية.
كنت أود أن أقرأ أكثر وأكتب أقل خاصة من مكتبتي الزاخرة بكل فروع الفلسفة، تاريخها اليوناني والروماني والوسيط والحديث والمعاصر، والفكر الشرقي القديم وفلسفة الدين، والفلسفة العامة وفلسفة الفن، وباقي العلوم الإنسانية، المنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع. كنت أود إكمال ثقافتي في الفلسفة السياسية وأن أقرأ العلوم السياسية والاقتصادية. وكنت أود أن أكمل ثقافتي في تاريخ مصر وتاريخ العرب الثقافي. وكنت أود إكمال ثقافتي للعالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكنت أود الكتابة عن «أمريكا، الأسطورة والحقيقة» بعد أن أعددت مراجعها ولم ينقصني إلا الوقت والناشر الجيد. كنت أود أن تجمع مؤلفاتي في دار نشر واحدة، أعمالا كاملة أم مجزأة حتى يسهل الحصول عليها كما هو الحال مع أعمال الجابري الموجودة في مركز دراسات الوحدة العربية؛ فقد تناثرت دراساتي بين دار الفكر العربي، دار الكتب الجامعية، الهيئة العامة للكتاب، دار عين، مركز الكتاب للنشر، مدبولي، الأنجلو المصرية، مركز الكتاب المصري الحديث، وغريب، وقد طبعت على نفقتي الخاصة منعا لهذا التشتت ظانا أن ذلك يجمع المؤلفات في مكان واحد مثل: «الحكومة الإسلامية»، «جهاد النفس»، «اليسار الإسلامي»، «من النقل إلى العقل»، الجزءان الرابع: «علوم التفسير»، والخامس: «علوم الفقه»، و«محمد إقبال»، «من النص إلى الواقع»، «وطن بلا صاحب». وما زلت أنوي طباعة «هيجل واليسار الهيجلي»، «ذكريات» على نفقتي الخاصة؛ فأنا لم أعد قادرا نفسيا على التسول أمام أبواب الناشرين، بل هم الذين يأتون إلي سائلين. وكيف لي أن أستمر في التعامل مع رجال أو نساء لا هم لهم سوى الربح، ولا شأن لهم بالثقافة الجادة ونشرها؟ لقد انتهى العصر الذي تم فيه تكوين اللجنة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر التي أسسها زكي نجيب محمود وأحمد أمين وثالث لا أذكره، ولم تستطع الهيئة العامة للكتاب أن ترثها؛ فقد تغير عصر الثقافة إلى عصر التجارة.
كنت أتمنى ألا يعاديني أحد في القسم غيرة أو حسدا يتحولان إلى كراهية مستمرة وعداوة ظاهرة. لم أفعل شيئا يضر أو يؤذي أحدا، بل كنت طيبا وكريما مع الكل، إلا أن الأهواء البشرية كثيرا ما تطغى على طيبة القلب وصفائه، والأخطر من ذلك تكوين محور ضدي في مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب، فتبطل قراراته. وكانت العداوة تظهر في اللجان المشتركة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين من أجل تكوين محور معاد للمتقدم أو في صفه بغض النظر عن الأعمال العلمية وتقييمها. وفي إحدى جلسات المجلس الأعلى للثقافة عندما قررت مناقشة كتابي عن «فشته فيلسوف المقاومة» ووزع الكتاب على أعضاء اللجنة، أخذ أحد الأعضاء الحاسدين النسخة ورماها أمامه، وكان يبيع كتبه المقررة على معظم الجامعات التي ينتدب إليها، ويوزع الدرجات العلمية، الماجستير والدكتوراه، على الأصدقاء بتسجيلها في الجامعات الإقليمية التي يدور عليها، ولما نلت جائزة الدولة التقديرية عام 2007م سعى بالواسطة إلى أن ينالها هو الآخر. ونجح في ذلك، وقضى نحبه وهو خارج من أحد معاهد التدريس.
أتمنى أن أعيش لكي أرى الجامعة وقد عادت إلى مركز البحث العلمي، بعد أن تحولت إلى معهد لإعطاء الدرجات بالمصروفات بعد أن طبقت النظام الأمريكي، الساعات المعتمدة وإعطاء
A B C D E ، فأصبح هم الطالب الحصول على الدرجات، وكتابة رسالة صغيرة مادتها من الإنترنت، ووضع مئات المراجع في آخرها وهو لم يقرأها. وأصبح هم الأستاذ يبيع الكتب المقررة ليس فقط في مرحلة الليسانس بل أيضا في مرحلة الدراسات العليا. وشاركت الجامعة كوسيط تجاري بين الأستاذ والطالب، تشتري المقرر من الأستاذ، وتطبعه وتبيعه للطالب فيما يسمى بنظام «التعليم المفتوح» الذي لا يتعلم فيه شيئا منه، لا منهجا ولا موضوعا، بل يحفظ الكتب التي اشتراها بآلاف الجنيهات، ويدفع فيه الطالب العربي عشرات الآلاف؛ كل ذلك من أجل الحصول على الدرجة العلمية التي لا تؤهل لأية وظيفة أو مهنة بل تزيد أعداد العاطلين. كنت أريدها جامعة أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرازق وأمين الخولي، أساتذة لمدارس علمية، يجمعون بين العلم والفكر، بين هموم الفكر وهموم الوطن.
كنت أتمنى أن أكون أكثر نشاطا في العمل العام، وأكثر فاعلية في تضحياته، ولا أكتفي بالعمل العلمي في «التراث والتجديد» أو العمل الثقافي: في «قضايا معاصرة»، «هموم الفكر والوطن»، «حصار الزمن»، «حوار الأجيال»، «دراسات فلسفية»، «دراسات إسلامية»، ولا بالثقافة السياسية الشعبية مثل «الدين والثورة»، «من منهاتن إلى بغداد»، «جذور التسلط آفاق الحرية»، «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى»، «الواقع العربي المعاصر»، «نظرية الدوائر الثلاث»، ولا أكتفي بانضمامي إلى الإخوان المسلمين في الخمسينيات أو بحزب يساري «التجمع» في السبعينيات، ولا اكتفائي بالتنظير السياسي في «اليسار الإسلامي» في الثمانينيات. وتأتيني الآن خطابات عديدة من تيارات مجهولة كي أكون عضوا مؤسسا فيها مثل الحزب الشيوعي المصري، وحركة شباب الإخوان، فأرد بالاعتذار لكبر السن، واكتفائي بالعمل النظري. و«اليسار الإسلامي» ما زال ضعيفا على مستوى الممارسة العملية، وإن كان موجودا في حزب النهضة في تونس وحزب الاستقلال والتنمية في المغرب وفي تركيا، وهو موجود أيضا في رؤية ماليزيا وإندونيسيا. والأهم من ذلك أنه موجود في قلوب الناس وتمنياتهم بدلا من صراع التيارين الإسلامي واليساري على السلطة التي يستولي عليها العسكريون.
كنت أتمنى أن تحكم مصر حكما ائتلافيا بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد؛ الإسلامية (الإخوان)، والقومية (الناصريون)، والليبرالية (الوفد)، واليسارية (الماركسيون) من أجل خلق برنامج سياسي وطني موحد للقضاء على المشاكل الاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان مثل: التحرر الوطني، والحرية الفردية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، والهوية، وحشد الجماهير؛ فما زالت مصر تحكم في عصرها الحديث بطرف واحد قبل الثورات العسكرية أو بعدها، إما الوفديون أو العسكريون، إما العسكريون أو الإسلاميون، إما قريش وإما الجيش. أحدهما وطني، والآخر خائن. أحدهما ناج، والآخر هالك. فهل الحقيقة واحدة يمتلكها فرد واحد أم هي وجهات نظر لأفراد متعددين، والحقيقة افتراض نظري يعمل عليه الجميع؟
كنت أتمنى أن تكون مصر كما كانت في الستينيات زعيمة للأمة العربية وقائدة لنهضتها القومية والاشتراكية، قادرة على تجميعها، وتكون العالم حولها، كما فعلت في تكوين دول عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ودول العالم الثالث، والشعوب الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، تكون لها الأغلبية في الأمم المتحدة، ولا يجرؤ أحد على المساس بها أو غزوها أو تكوين قواعد عسكرية فيها أو إدخالها في أحلاف مثل حلف بغداد أو حلف القاهرة والرياض وتل أبيب أو صفقة أو صفعة القرن التي يتم تنفيذها الآن بعد تغيير اسم الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير تكون إسرائيل مركزه بديلا عن مصر. وكما كنا في الستينيات بؤرة للعالم الثالث مركزه مصر والهند ويوغسلافيا، ناصر ونهرو وتيتو، نكون الآن بؤرة لتحالف جديد بين مصر وتركيا وإيران ، نملأ الفراغ في الشرق الأوسط بدلا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي تملؤه أمريكا وإسرائيل، فلا نخسر دولتين لنا معهما إرث ثقافي وسياسي مشترك بسبب وجود الإخوان في تركيا والثورة الإسلامية في إيران، فيعود الخيال السياسي ليتحرك في مصر بدلا من أن تظل يدها ممدودة غربا وشرقا كي تعيش. تركت العراق مجزأة، وسوريا مدمرة، وليبيا متقاتلة، واليمن مشتتة الصف. وقد توفي عبد الناصر وهو يصالح الأردن مع المقاومة الفلسطينية من كثرة الإجهاد للذهاب للمطار لاستقبال الرؤساء وتوديعهم، بدلا من أن يذهب رئيس أكبر دولة عربية لاستقبال ولي عهد دولة عربية أخرى مخالفا قواعد البروتوكول السياسي. تخلت مصر عن دورها المركزي في قلب الوطن العربي، فانهالت عليها الضربات من الشرق، روسيا، ومن الغرب، أمريكا، ومن الشرق، إيران، ومن الجنوب، الحبشة.
أتمنى أن أعيش عاما أو عامين لأكمل «هيجل والهيجليون الشبان» (اليسار الهيجلي)؛ وبالتالي أكون قد أديت مهمتي للفكر وللوطن، للجامعة والمجتمع. لا أغضب من أحد، وأسامح الجميع، وأشعر بالسيد المسيح في قلبي يدفعني إلى التسامح والمحبة، عفا الله عما سلف، وأحاول أن تنتشر هذه الروح في القسم؛ المصالحة.
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم . وضعت وديعة باسمي في الكلية للصرف من ريعها السنوي على النشاط العلمي للكلية والأقسام في إقامة ندوات ومؤتمرات حتى لا يعيش كل قسم في عزلة عن الآخر، وكلها تدرس نفس الموضوع «اللغة»: اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية واليابانية والصينية، أو العلوم الإنسانية، علوم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، كما جعلت للأقسام ودائع أخرى، قسم اللغة العربية ذكرى لأخي سيد، وقسم الدراسات اليونانية واللاتينية الذي رشحني لجائزة الدولة التقديرية، وربما قسم الفلسفة الذي عشت فيه أستاذا خمسين عاما منذ 1966-2018م، وقبلها أربع سنوات أخرى طالبا (1952-1956م)؛ لأنه لم يرشحني لأي شيء، ومن رشحه القسم لم ينل إلا صوتا واحدا أو صوتين في مجلس الكلية. ووزعت الربع الأخير على عمال الكلية بالتساوي. واكتشفت بعد أن قررت الدولة التعامل بالفيزا أن الفرق بين المرتب والمعاش لم يصلني منذ هذا النظام؛ أي منذ أكثر من سنتين. وحولتني الشئون المالية بالكلية إلى إدارة المعاشات في أول شارع الهرم لأن ذلك ليس من اختصاصهم. وذهبت مع سائق تاكسي حدثني عن صدقه وأمانته ونسيان أحد أثرياء العرب لفة بها الملايين من الجنيهات أو الدولارات لا أذكر، ووجد فيها بطاقته، وذهب إليه ليعطيه إياها، وعرض عليه المكافأة الكبرى التي رفضها وطلب فقط نسبته الشرعية وهي 10٪، وهو سائق لواء بالجيش، ولا يعمل سائقا، وقادر على تصليح كل شيء؛ نجارة وحدادة وسباكة وكهرباء. ومكثت في إدارة المعاشات دقائق معدودة لأن إدارتي في كوبري القبة، ورأيت سائق التاكسي في انتظاري مع أني لم أطلب منه ذلك، وأوصلني إلى مدينة نصر، وأعطيته ضعف الأجر لأنه بلا عداد، وطلب المزيد فأعطيته ما أراد. وطلب بيته، وكان يتكلم في المحمول ولم يشعر أن العربة التي أمامه قد توقف صاحبها فجأة لوجود مطب على الكوبري، فاصطدمت عربته بالعربة الخلفية. وإلى الآن ما زالت الإدارة المالية تحيل من يذهب إليها بخصوصي إلى المعاشات مع أن المعاش يحول إلي عن طريق البنك بانتظام. وأخشى أن يكون في الأمر فساد بعد أن أصبح هو المصدر الأول للرزق للفقراء والأغنياء على حد سواء، فساد بالمئات أو فساد بالآلاف أو فساد بالملايين أو فساد وتهريب إلى الخارج بالمليارات كما حدث من المخلوع وأنجاله وصحبه، وأقاربه. ثم عرفت أنهم كانوا يحولون الفرق بين المرتب والمعاش إلى البنك عندما تكاثرت عليه الأسئلة من الزملاء.
كنت أتمنى أن أعيش أطول ولو أني راض من أني تجاوزت الثمانين، كي أعطي أكثر مما أعطيت، وأن أقوم بواجبي تجاه حقوق الشعب وواجبات الدولة وأمانة الوطن. وكنت أسر في رحلاتي إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي عندما أرى أجيالا جديدة قرأتني وهي في الثانوية حتى قبل الجامعة وأسعدتها رؤيتي، تريد أن تتصور معي وكأني أحد النجوم، وكأنني أحد المشايخ، ورئيس طريقة صوفية. وأنا وزوجتي كذلك؛ فزوجة مولانا مثل مولانا في الاحترام والتقديس، وتقارن بين فكري الثوري وشخصيتي الهادئة، كيف يعاديني المحافظون وأنا أرد عليهم في هدوء شديد وبمحبة لهم وعذرهم، وتمنياتي أن يفتح الله عليهم، وأن ينير عقولهم، يحيون أوطانهم، ويعبرون عن عصرهم؛ فكل إنسان هو ابن وقته كما يقول الصوفية. ومع ذلك إني راض تمام الرضى في هذه الثمانين عاما. والحمد لله أنني أعطيت وأخذت، ولي أسرة وأحفاد وأصدقاء ومحبون. والأهم، أثري على الناس وفي التاريخ والذكرى الطيبة.
أتمنى أن أدفن بجوار من أحببت طيلة حياتي، توفيق في الاختيار وسعادة في طول البقاء. ولن يحزن من في مقبرة أبي وأمي وأخي وزوجته وشقيقتي وخالتي وحماتي وزوج أختي وعلي النجار من أقربائي؛ فالروح لا مكان لها، تتزاور بين البساتين وطريق السويس. أتمنى أن تكون ضغطة الموت خفيفة؛ فقد تعبت في حياتي، وأرجو ألا أتعب في وفاتي. وأتمنى أن ألقى من كتبت عنهم، فشته وبرجسون، والأفغاني وإقبال. وأتمنى أن ألقى أساتذتي عثمان أمين وجان جيتون وطلابي، نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك. وأتمنى أن أرى أولادي حازم وحاتم وزوجته وحبيبة الأسرة مروة وحنين وأحفادي، أنس وعلي وخديجة ولارا. أتمنى أن يغفر الله الذنوب، ويعفو عني، وأن آتيه بنية صافية
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم . أتمنى ألا تكون في القبر وحشة بل أنس. أتمنى أن أرى النور في الظلام، نور القلب في ظلام المكان. أتمنى أن أشم رائحة الورود بدلا من رائحة الجسد المتحلل. أتمنى أن يكون اللقاء الأخير معك أنت دون رؤية بصرية، بل يكفي حضورك وحديثك. أتمنى أن تعفو عني في جميع من آذيتهم عن غير قصد، وأعود إليك صافيا مثل آدم ومحمد.
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم .
الإهداء
مقدمة: هل كانت التعليقات على الجزء الأول نقدا ؟
1 - الفقر السعيد
2 - المواهب الثلاث
3 - الحب العذري
4 - القضاء والمحاكمات
5 - الاضطهاد العلمي
6 - الدين والسياسة
7 - العلم والعالم
8 - التأليف والمؤلفات
9 - المساعدون والمساعدات
10 - العواطف والانفعالات
11 - ضرورات الجسد
12 - مثوى أخير أم بداية جديدة؟
الخاتمة
الإهداء
مقدمة: هل كانت التعليقات على الجزء الأول نقدا؟
1 - الفقر السعيد
2 - المواهب الثلاث
3 - الحب العذري
4 - القضاء والمحاكمات
5 - الاضطهاد العلمي
6 - الدين والسياسة
7 - العلم والعالم
8 - التأليف والمؤلفات
9 - المساعدون والمساعدات
10 - العواطف والانفعالات
11 - ضرورات الجسد
12 - مثوى أخير أم بداية جديدة؟
الخاتمة
ذكريات (الجزء الثاني)
ذكريات (الجزء الثاني)
1935-2021م
تأليف
حسن حنفي
جزيل الشكر للسيدة حنان عقباوي التي قامت بكتابة هذه المذكرات بعد إملائها عليها بسبب ضعف بصري؛ فهي التي حولت قلبي نورا بعد أن أظلمت عيناي.
الإهداء
ذكريات عبرت أفق خيالي
بارقا يلمع في جنح الليالي
نبهت قلبي من غفوته
وجلت لي ستر أيامي الخوالي
كيف أنساها وقلبي
لم يزل يسكن جنبي
إنها قصة حبي
ذكريات داعبت فكري وظني
لست أدري أيها أقرب مني
هي في سمعي على طول المدى
نغم ينساب في لحن أغن
بين شدو وحنين وبكاء وأنين
كيف أنساها وسمعي لم يزل يذكر دمعي
وأنا أبكي مع اللحن الحزين
كيف أنسى ذكرياتي وهي أحلام حياتي
إنها صورة أيامي على مرآة ذاتي
عشت فيها بيقيني وهي قرب ووصال
ثم عاشت في ظنوني وهي وهم وخيال
ثم تبقى لي على مر السنين
وهي لي ماض من العمر وآتي
شعر: أحمد رامي
غناء: أم كلثوم
حسن حنفي
مقدمة: هل كانت التعليقات على الجزء الأول نقدا؟
منذ أن صدر الجزء الأول «ذكريات»، وبالرغم من قلة توزيعه؛ لأنه طبع على نفقتي الخاصة جاءتني بعض التعليقات؛ معظمها شفاهية، وأقلها كتابة، وتركز على الفصل الرابع، وهي ذكرياتي في قسم الفلسفة؛ مدرسا، وأستاذا مساعدا، وأستاذا، ورئيس قسم، وأستاذا متفرغا.
و«ذكريات» أشمل من ذلك بكثير؛ إذ تشمل ذكريات الطفولة، المدرسة، الجامعة، السفر إلى فرنسا، والعودة إلى الكلية، والسفر إلى أمريكا، ثم إلى المغرب، ثم إلى اليابان، ثم محاولة تكوين مدارس فكرية، وإنشاء «الجمعية الفلسفية المصرية»، ثم «التراث والتجديد»، والثورة المصرية، والربيع العربي .
وكل قارئ رأى «ذكريات» من خلال لماذا لم يذكر؟ أو لماذا ذكر قليلا؟ أو هل أنا هو من تصفونه؟ لأنني لم أذكر الأسماء.
وترك الكل من أجل الجزء، والمصلحة العامة من أجل المصلحة الخاصة. وجاءت تعليقات أخرى خلقية: هل كان من الضروري ذكر مرحلة البلوغ أثناء المدرسة؟ هل كان من الضروري أن تذكر علاقاتك النسائية المتعددة؟ هل كان من اللياقة أن تصف إحدى الشقيقات بأنها «طيبة القلب وساذجة إلى حد كبير»؟ فالحياة الخاصة لا تدخل في الذكريات العامة لما فيها من إحراج شخصي أكثر مما فيها من فائدة عامة.
فيعاتب الكاتب العربي على ذكرياته، في حين يمدح الكاتب الغربي عند كتابة ذكرياته، وذكر فيها ما لا يذكر أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا ودينيا، وكأن الغرب هو الذي يتمتع بحرية التعبير، ولا لوم عليه، بل يصبح من كبار الكتاب مثل جان بول سارتر في «الكلمات». أما صاحب الذكريات العربي فإنه لا بد أن يعمل بمقص الرقيب أو بتدخل الإرادة الشخصية التي تحيط به، والنظم السياسية التي يعيش تحت سلطتها؛ فهي ذكريات تفتقد الصدق، وتكون أقرب إلى التأريخ، وليست تجربة إنسانية لفرد يعيش أيضا في جماعة.
ولا يعني الجزء الثاني تتبع المراحل التاريخية؛ لأن الفرق بين الجزء الأول والجزء الثاني ثلاث سنوات لا يكفي لإتمام مرحلة، ويعني الجزء الثاني إعادة كتابة الذكريات من المراحل التاريخية إلى الموضوعات الإنسانية مثل: الفلسفة والموسيقى، العلم والعالم، الدين والسياسة، التأليف والمؤلفات.
و«ذكريات» نوع أدبي مستقل بين الأدب والفلسفة وعلم النفس والاجتماع، والسياسة، والأخلاق، والدين. فهو نص أدبي مثل باقي الأنواع الأدبية: القصة، والرواية، والشعر، والمسرح. يطبق عليه معايير النقد الأدبي ومناهجه، وهو نص فلسفي يدل على تصورات فلسفية عامة، ورؤى للإنسان والوجود في العالم، وفي البيئة الاجتماعية. وهو تحليل نفسي أيضا؛ لأن الذكريات تجارب حية في وعي الكاتب، كانت في ماضيه ولم يجرفها النسيان، وظلت في الذاكرة جزءا من الشخصية التاريخية التي تكشف عن العصر بأفراحه وأحزانه، وهو نص اجتماعي يكشف عن البيئة الاجتماعية التي عاش فيها المؤلف؛ فالإنسان ابن بيئته، وأفكاره صدى لها، تمر أحلامه بها، وتصاحبه إذا ما تغيرت البيئة وانتقل إلى بيئة أخرى.
وهو نص سياسي؛ لأن المجتمع حامل للسياسة؛ فالذكريات صرخات في الهواء السياسي، ظلما وعدلا، غنى وفقرا، ظالما ومظلوما، استبدادا وحرية، إصلاحا وفسادا ، صدقا وكذبا، شجاعة وجبنا، سلطة أو معارضة، جلادا أو ضحية؛ فكل نص هو سياسي بالضرورة، مباشر أو غير مباشر، باستثناء بعض الأفلام المصرية المعلقة في الهواء؛ لا يربط بين شخصيات أبطالها إلا المحبة والكراهية، والوفاء والغدر، والخير والشر، دون بيئة اجتماعية لمعرفة الأسباب، أو سياسية لمعرفة الهدف.
والنص ليس موعظة خلقية تطبق عليه مقاييس الأخلاق في الحجاب والسفور، واللباس والعري، والذكر والأنثى. بل إن النص كثيرا ما ينقد هذه الثنائيات ويكشف عن المستور الذي يخبئه الناس، ولا يظهرون إلا عكسه؛ فالكل يعشق المرأة ويتمناها ويتظاهر بالقدرة على البعد عنها؛ خوفا على فضيلته من الشر القادم، وهم كثيرا ما يقبلون الرشاوى، ويطلب من الراشي الانتظار لحين الانتهاء من الصلاة.
وإذا كانت الفضيلة في كل سلوك فمن أين تأتي الرذيلة؟ وإذا كان الإصلاح عاما في كل هيئة فمن أين يأتي الفساد؟ وإذا كان كل البشر آلهة أو ملائكة فمن أين تأتي الشياطين؟
والنقد الأدبي للنصوص لا يعني الدفاع عنها أو الهجوم عليها، مدحها أو ذمها، إبقاءها أو استبعادها؛ فتلك أحكام مسبقة على النص وعلى كاتبه، طبقا لمواقف الناقد الأخلاقية أو الدينية أو السياسية الشخصية، وكلها مواقف متغيرة للناقد قبل أن يتناول موضوع النقد وهو النص. يحتاج النص إلى قراءة محايدة بصرف النظر عن آراء الناقد أو آراء المؤلف الشخصية؛ فالنقد عمل حرفي خالص، يحلل النص في بنيته اللغوية، وفي مدى تصويره للبيئة الاجتماعية، وفي مدى حمله لنداء مستقبلي؛ فالنص عالم مستقل بذاته، وحياة خاصة؛ لا يمكن وضعه في قالب آخر، وإعطاؤه لونا ليس له؛ فالقالب أو اللون يأتي من الناقد؛ فيصبح النقد قراءة على أحسن الظروف، وتأويلا في أسوأ الظروف. والنقد المتغير ضد الأمانة العلمية؛ إذ لا يكفي طلاء المنزل من الخارج، بل لا بد من الدخول فيه، ومعرفة أدواره وحجراته وحوائطه؛ فالنقد ليس إسقاطا من الناقد على النص، بل هو دخول على النص دون أحكام مسبقة، واعتمادا على البداهة الفعلية والفطرة الإنسانية.
ويبدأ النقد بمحبة الناقد للنص وتعاطفه المبدئي معه، كالمحب في أول تعرفه على الحبيبة يحتاج إلى عدة جلسات معها؛ يظهر التعاطف من الناقد تجاه النص، حتى تتكشف جوانبه، ويظهر دلالاته. بين الناقد والنص علاقة متبادلة، من الناقد إلى النص، وهو فتح الساعدين. ومن النص إلى الناقد، وهو الارتماء في الأحضان. يخاطب بعضهما بعضا.
1
والتحدي الكبير للذكريات هو استرسال ذكريات الحياة الشخصية مع الحياة العامة، فكلاهما ذكريات، فلا يمكن استبعاد ذكريات الحياة الشخصية لصاحب الذكريات ونفسه أو أسرته الصغيرة أو أسرته الكبيرة، ولا تبقى إلا الحياة العامة؛ خاصة الوظيفية؛ فالخاص دون العام تمركز على الذات وكأن الذات هي مركز العالم. والعام دون الخاص تاريخ صرف، ووصف لحوادث ووقائع محايدة، أشبه بالتقرير الصحفي أو الوثيقة التاريخية، وقد وقع كثير من أصحاب الذكريات في هذين الخطأين. وقع الكتاب العرب في الخطأ الأول، أي الذكريات كتاريخ (بدوي). ووقع بعض الكتاب الغربيين في الخطأ الثاني (جان بول سارتر).
وحاولت القلة الجمع بين الاثنين (عثمان أمين، زكي نجيب محمود). ويظل التحدي قائما. رؤية الذات من خلال الموضوع أو رؤية الموضوع من خلال الذات.
وهذه الذكريات قراءة النص كعلاقة متبادلة بين الذات والموضوع.
الفصل الأول
الفقر السعيد
نشأت في أسرة تحت المتوسطة وفوق الفقيرة؛ فعشت لا فقيرا ولا غنيا، ولكني كنت للفقر أقرب.
كان والدي شاويشا في الجيش المصري في «فرقة البيادة» أي الفرقة العسكرية الموسيقية التي تتقدم صفوف الجيش، وكان يلعب «الترمبون» وهي آلة نفخ طويلة، تتغير نغماتها بضم المنفاخ نحو الفم أو إبعاده عنه.
كان مرتبه أقل من عشرة جنيهات شهريا، ونحن أسرة مكونة من تسعة أفراد: الأب والأم، وولدان، وخمس بنات. وكانت والدتي تطلب منه أن يعزف بعد الظهر في فرق خاصة في الأفراح والملاهي الليلية أسوة بزملائه؛ كي يزداد دخلنا، وكان يرفض؛ لأن ذلك عيب لا يليق بموسيقي الجيش، ولا يستطيع أن يأخذ العدة الموسيقية من المعسكر إلى المنزل ثم يعيدها في الصباح، واغتنى زملاؤه من العزف ليلا بآلات الجيش ليزداد دخلهم، إلا والدي الذي فضل أن يكون فقيرا مكتفيا بمرتبه على أن يترك أسرته صباحا ومساء.
ولد والدي ووالدتي في بني سويف، وكان جدي والد الوالد تاجر دقيق، وله محل بجوار محطة القطار، ما زال موجودا حتى الآن، ساعدته في العمل زوجته الثانية النشطة بعد وفاة زوجته الأولى، وكان الحاج حسنين جدي أحمر الوجه، وليس أسمر كباقي سكان المحافظة، فلما سألته عن السبب قال لأنه نازح من الأندلس بعد خروج العرب منها، فاستقر في المغرب العربي، ثم نزح إلى مصر وهو في طريقه إلى الحج، وسكن حي المغاربة بجوار جامع الشيخ في الإسكندرية، ذهب إلى الحج وعاد واستقر في بني سويف.
ولدت شقيقتي الكبرى في بني سويف، وكان لجدتي أم أمي (الحاجة يامنة) أربعة منازل ريفية في وسط العاصمة، كل منزل من دورين، تعيش من دخلهما، كما كان لها بنتان؛ والدتي وخالتي، وابن ثالث توفي في حادثة لا أذكر كيف، غرقا أم انهيار منزل عليه.
ولما كبر والدي ووصل إلى سن الجندية أراد أن يزوجه والده قبل أن ينزح إلى القاهرة؛ فذهب إلى الحاجة يامنة وطلب منها ابنتها نبيهة لابنه. وكانت الطفلة نائمة، فكشفت جدتي الغطاء عن وجهها، ونظر إليها؛ فسألوه: هل تعجبك؟ قال: نعم. فاستيقظت أمي وكانت قد خطبت وتستعد للزواج.
وكانت منازل جدتي خلف المركز بجوار مدرسة زعزوع، وكان جدي والد والدي يقيم في آخر شارع الجبالي بالقرب من محطة القطار، وذلك قبل زواجهم.
أما خالتي فقد تزوجت عدة مرات ولكنها كانت عقيما، وكانت جدتي «يامنة» قد قسمت منازلها الأربعة على ابنتيها؛ نبيهة أمي، وخالتي أم عبد الله، وكانت خالتي تشتري بنصيبها أساور ذهبية ترتديها طوال الوقت؛ ولذلك طمع فيها الأزواج وهم يعلمون أنها عقيم ويتزوجونها طمعا في مصاغها.
أما والدتي فكانت تأتي بنصيبها إلى القاهرة، تعين به والدي على الصرف، واحتياجات الأسرة.
وكان هناك رجل طويل القامة، أحول العين، يضع طربوشا مائلا على رأسه كما يفعل الأفندية الكبار، كان زميلا لشقيقتي الكبرى في دشنا بمحافظة قنا، أتى إلى القاهرة في الصيف؛ ليتعرف على أسرتنا قبل أن يطلب يدها للزواج، وكان كريما يحضر لنا الهدايا، خاصة الحلوى للصغار، واعترضت والدتي على هذا الزواج الذي يجعل ابنتها البكر تعيش بعيدا عنها في أقصى الصعيد؛ فرفضت.
وكان لي أخ صغير توفي بعد ولادته، وليست لنا مقابر في القاهرة؛ فأخذته جارتنا، ودفنته في مقابر أسرتها، وبكت عليه بكاء مصطنعا. وكان زميل شقيقتي الكبرى حاضرا في مراسم الدفن، ويبدو هو الآخر متأثرا بما حدث، وكان اسم الطفل «علي».
كانت هذه الجارة تسكن في الطابق الأرضي، في غرفة تقع على مدخل الباب الأيمن، مع أسرتها وبلا رجال، كانت الغرفة أقرب إلى الظلام منها إلى النور، يبدو أنها كانت غرفة لسكن البواب، ولكن لم يكن هناك بواب. ولما تعددت أفراد الأسرة أخذوا مكان تحت بير السلم وجعلوه غرفة ثانية. وكان به دورة مياه، كنت أخاف ممن يسكن تحت بير السلم، فقد كانت الأساطير تقول يومئذ إن العفاريت يخرجون منه للقبض على من يصعد. فعجبت كيف يعيش هؤلاء وينامون في هذا المكان المسكون بالعفاريت!
ولما علمت والدتي أن جارتنا الأخرى قد حركت بلاطة من أرض الغرفة أو بلاطتين كي تصطاد صفائح السمن من المخزن أسفل شقتها، وبعد أن عرف صاحب تجارة الجملة وأحضر الشرطة للتحقيق، فوجدوا أن البلاط قد خلع من الشقة التي فوقها، ولما علمت والدتي بهذه الواقعة استخدمتها في مشاجراتها مع صاحبة الشقة، كما هي العادة في الأحياء الشعبية عندما يتشاجر النساء لأتفه الأسباب لكي تبين كل واحدة مهارتها في السباب كما يبين الرجال مهاراتهم في الضرب بالعصا.
وفي صبيحة يوم خرج والدي إلى الشارع كي يشتري شيئا ما، وفي الوقت نفسه الذي خرج فيه زوج الجارة سارقة صفائح السمن من المخزن، خافت والدتي أن يصطدم الرجلان، وقفت تنتظر وتنظر من الشباك عودة والدي، وبالفعل كان والدي ضخم الجثة لكنه طيب القلب، لا يعرف متى يتشاجر؟ ومتى يبتعد عن المشاجرة؟ ولما رأى والدي زوج المرأة السارقة يتقدم إليه ليعاتبه على هذه المشاجرة وكان الزوج قويا يعمل بمعسكر الإنجليز قال لوالدي: «أنت مجرد عنزة» فاضطرب ولم يكن ينتظر مثل هذا القول. وعاد إلى المنزل، وفرحت والدتي بعودته سالما تماما؛ إذ إنه شعر بالإهانة وهو الشاويش بالجيش، له زملاء وطلبة كثيرون علمهم العزف على «الترمبون» ومنهم «علي إسماعيل». فشعرت أنا أيضا بالإهانة لأنني كنت أحترم والدي، وأكره الجارة السارقة بالرغم من جمالها وبياض بشرتها.
وفي مرة من المرات في حوش المنزل رأيت عدة دجاجات تلتقط حبات الذرة الكثيرة والمفروشة على الأرض؛ فرشت جلبابي وأخذت ما تبقى من حبات الذرة كي نطبخها ونأكلها. رأتني صاحبة الدجاجات التي تسكن بالغرفة الأرضية وقالت لي: «عيب يا ابن الباش شاويش» فألقيت بحبات الذرة التي كانت في جلبابي، وصعدت إلى أعلى حيث نسكن في الطابق الأول وأنا أشعر بالحزن لما فعلت. فهل أنافس الدجاجات في حبات ذرتها وأنا أكثر منها قدرة على جلب الطعام لنفسي؟
وكان والدي لا يترك شقيقاتي الصغيرات يذهبن إلى دور السينما بمفردهن، فيطلب مني أن أصاحبهن؛ فتفرح البنات، ويلبسن أجمل ما عندهن، ويتزين ويفرحن لرؤية الشارع والخروج. كنا بمجرد خروجنا من باب المنزل يرفعن التنورات ويربطنها بالحزام حتى يقصرن من طولها، ويرقصن على السلم طربا وفرحا يهتفن «هانروح السينما.» وفي سينما مصر بشارع العباسية كان الزحام أمام شباك الرجال أكثر من شباك النساء اللاتي كن يدخلن من باب السينما، ويقطعن التذاكر بعد الدخول حرصا عليهن من زحمة الرجال. ولما نقرت على الباب وفتح لي المسئول ورأى رجلا وأنا مجرد صبي. قلت له «معي نساء» وأشرت إلى شقيقاتي، فأدخلنا من باب النساء، واشترينا بطاقات الدخول للسينما، وسعدنا بالفيلم، وكان عرضا صباحيا.
وأثناء العودة يفك شقيقاتي الأحزمة فتطول التنورات من جديد، وندخل المنزل وكأن لم يحدث شيء قبل دخولنا، وينشرح وجه والدي؛ لأننا عدنا بسلام.
وكان ابن الفران غير موفق في دراسته ويرسب باستمرار على العكس منا، وذات مرة ضربه والده فأحس بالإهانة، وسكب الجاز على نفسه وأشعل النار؛ فأسرعت الأسرة بإطفاء النيران، ولكنها كانت قد تمكنت منه فاحترق ساعداه ووجهه، أخذوه إلى صيدلية الحارة، عالجوه بالزيت، ونصحوه بألا يعرض نفسه للمياه، وهم يربطون ساعديه، ويضعون القطن والشاش على وجهه، أقسم الابن ألا يعود للمنزل من جديد، وكانت له عمات أو خالات يسكن في شارع البنهاوي على مدخل الحارة، فقمنا بزيارته هناك، أكد لنا على عدم عودته بسبب الإهانة التي تلقاها من والده، أجبناه أن الثمن الذي دفعه كان غاليا.
كانت له شقيقة جميلة سمراء ذات صدر بارز، تبدو عليها الجدية، كنت أود أن أقبلها ولكني لم أستطع ولم أعرف كيف.
كان لي صديق عزيز، لا يعرف شيئا في العلم، وكان يأتيني؛ لكي أشرح له الدروس التي نأخذها في الجامعة، فكنت أفعل ذلك، وشعرت أمه بالجميل فكانت ترده إلينا بإرسال بعض المأكولات، كانت امرأة سمينة على عكس زوجها، وكان الصديق سمينا مثل أمه، ولما رأت الأم أن والدتي حزينة في إحدى زياراتها لنا لأنني نويت السفر إلى فرنسا ولا تدري كيف سأعيش هناك؛ أرادت أم صديقي أن تخفف عن أمي، وأخذت حقيبة السفر التي أعددتها وخرجت بها من المنزل، وذهبت بها إلى منزلها في محاولة منها لمنعي من السفر، ذهبت إليها شارحا لها ضرورة الذهاب إلى فرنسا؛ لأنه لا مستقبل لي هنا في مصر؛ فلست معيدا في الجامعة بعد اضطهاد الأساتذة لي، ولا أرغب أن أكون مدرس ثانوي لتدريس الفلسفة للطلبة في المدارس، بعد أن وصلني بالفعل خطاب تعيين بإحدى مدارس بنها الثانوية.
وشرحت لها أنني أريد مواصلة تعليمي هناك، والحصول على أعلى الشهادات، وأنني أريد أن أجرب حظي، وأنه لا خوف من عدم وجود المال اللازم؛ فأنا قادر على اكتسابه هناك عن طريق تدريس اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية لإجادتي إياها. خجلت أم صديقي من نفسها، وأعجبت بطموحي؛ لأنها ترى أن ابنها غير موفق في دراسته وأنه لولا مساعدتي له في المذاكرة لما استطاع أن يتخرج من الجامعة.
ولما انتقلت شقيقتي الكبرى الابنة البكر لأمي من دشنا في محافظة قنا بعد خطبتها من أحد أقاربنا، انتقلت إلى مدرسة شبرا بجوار سكنها الجديد. وكانت والدتي تنتظر أن تساعد الأسرة بجزء من مرتبها؛ لأن مرتب والدي كان لا يكفي، ولكن شقيقتي الكبرى لم تفعل، فذهبت والدتي إلى باب المدرسة، وانتظرتها حين الخروج، وكما تقول الرواية دفعتها من صدرها وقالت لها شيئا يبين عدم وفاء الشقيقة/الابنة لأسرتها الأولى، والتضحية لصالح أسرتها الثانية.
فعادت الشقيقة الكبرى إلى منزلها وقصت ما حدث على حماتها التي كانت تسكن معها في منزلها الجديد، قالت الحماة: «إذا كنا نريد جنيها أو اثنين من مرتبك فيكون ذلك بالتراضي.» فازداد حزن أمي من هذه الكلمة واعتبرتها إهانة لها؛ فالأم ليست شحاذة، بل تريد أن تشارك الابنة الكبرى في تربية إخوتها الأصغر وخاصة أن مرتب والدي يكاد أن يكون أقل من مرتب الشقيقة الكبرى.
فأرسلوني إليها وقابلتني بالبكاء قائلة: «تلوموني بدلا من أن تهنئوني بالانتقال من دشنا إلى القاهرة!» ولم أعرف من منا على حق، ولكني أدركت أن الإخلاص للأسرة الجديدة أقوى من الوفاء للأسرة القديمة، فلم أعرف ماذا أفعل! وإلى أي جانب أنضم! ولكن الواقع فرض نفسه، فقد كان مرتب زوج شقيقتي الكبرى لا يكفي بمفرده لإعالة أسرته الكبيرة؛ أسرة بها والدته وزوجته وأطفاله القادمون.
وأدركت أن الأسرة القديمة، أسرتي التي أعيش بينها تستطيع حل مشكلتها بالذهاب إلى بني سويف، وطلب العون من جدتي أو خالتي، فانتهى الأمر على خير، وعاد الوفاق بين الأسرة الجديدة والأسرة القديمة.
كنا نذهب إلى بني سويف في الصيف ونحن صغار، وكان وقت الحرب العالمية الثانية، خوفا من الغارات الجوية التي كان يقوم بها الألمان ضد معسكرات الإنجليز في مصر، مع أن الفكرة الشائعة كانت أن الألمان يحبون المصريين، ولا يقوم بالغارات الجوية إلا الإنجليز المستعمرون. وكانت الكشافات الضوئية تبرق في ظلمة السماء، تبحث عن الطائرات الألمانية، وصحيح أن المجتمع المدني المصري لم يصب بأي سوء وقتها. وسمعت أن المصريين كانوا يهتفون أثناء معركة العلمين في غرب مصر «إلى الأمام يا روميل». وكان عزيز المصري وصحبه في مثل هذا الموقف المتعاطف مع الألمان ضد الإنجليز، وهو قائد عسكري في الجيش المصري.
ونحن في بني سويف كنا نلعب مع أطفال الشارع؛ شارع أبو عزيزة بمياه صنبور مطفأة الحريق الموجود وسط الشارع، كما كنا نلعب بأقفال شبابيك مدرسة زعزوع، حيث كنا نتخيل أنها رجال صغار وهي في مكانها، دون أن نخلعها، فكنا نحركها من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل، وكأنها لعبة للأطفال.
وكنت أسير في شارع الجبالي إلى آخره كي أجلس مع جدي في دكان الدقيق الذي كان يتاجر فيه. وبعد أن توفي، رفض والدي تقسيم هذا الدكان لمن يستحقون الإرث، وأعطاه بكامله إلى زوجة جدي الجديدة؛ لأنها كانت ساعده الأيمن في العمل، وكان لي عمات في الجهة المقابلة للشارع، لم نكن نذهب إليهن كثيرا بسبب عدم وجود أطفال. وفي منزل جدتي أي «ستي» وخالتي كنت أصعد على الفرن المبني من الطين لأجلب لها فروع قصب السكر الخضراء لكي تشعل بها الفرن بالإضافة إلى «قوالح الذرة». وكانت خالتي التي تخبز الخبز (الأرغفة) وتسويها. وأنا أنظر إلى الفرن والنار المشتعلة داخله وأتذكر ما يقوله الشيخ عن النار الحارقة يوم القيامة.
كانت جدتي بين الحين والآخر تعطيني سرا قرشا أو قرشين؛ لأشتري ما أريد وكذلك كانت تعطي لأخي، وكانت خالتي غير متزوجة بعد، وكانت عرجاء بسبب وقوعها من على السطح، ولم يحسن علاجها، فكان لها ساق طويلة والأخرى قصيرة، وكانت الخالة بأموالها من جدتي تشتري المصوغات والأساور الذهبية تلتف حول ذراعيها، وليس لها عائلة تنفق عليها، كان الرجال يطمحون للزواج منها ليس لشخصها ولكن لذهبها، ومرة تزوجها رجل، رأيتها بعد الزواج وهو لا يأتي المنزل ولا ينام عندها، فكانت تحزن، وكانت تغلف السرير بقماش أبيض مثل الشاش، تضع عليه كرات زجاجية ملونة بالأحمر والأخضر والأزرق تضعه حول القماش الأبيض. فكان مشهدا مبهجا لي ، وحسدت زوجها لتمتعه بهذا السرير الأبيض ذي الكرات الملونة والذي لا يراه أحد غيرهم. وأحيانا يأتي لزيارتها، وتنفرج أساريرها. فينظر لأساورها، يطلب أن تعطيه إحداها لحاجته إليها تساعده في عمله، وكانت حائرة بين طاعة الزوج وبين تسليمه مصاغها.
نبهتها جدتي إلى ذلك، كما نبهتها أمي، ولكن يبدو أن خالتي كانت امرأة ضعيفة أمام الرجل، فضلت أن يبقى بجوارها ويأخذ مصاغها على أن تعيش وحيدة والمصاغ في ذراعيها.
أخذت أفكر في ذلك، وفي المثل الشعبي عندنا «الرجال ولا المال».
وكان أمامنا منزل به حاج وعلى واجهة المنزل وحوائطه طبعت كفوف بأصابعها الخمس الواضحة، طبعت بدم الذبيحة والتي كانت تذبح احتفالا بعودته من الحج، كانوا يغمرون يدهم بالدم ويطبعون بكفوفهم على الجدار، ويكتبون «حج مبرور وذنب مغفور» بجوار الكف ذي الأصابع الحمراء، وكان الاعتقاد الشعبي أن هذه الكفوف الحمراء تقي من الحسد وتبعد شروره، وكان هذا الحاج من طبقة اجتماعية أعلى منا، فكنا نلجأ إليه إذا ما ساءت العلاقة بيننا وبين رجال الحي؛ فمثلا كان بيت جدتي نصفه مع نظام الشارع، والنصف الآخر بارزا يحتل نصفه، فكان عقبة أمام مرور عربات الكارو أمام الشارع الذي أصبح أضيق من تلك المنطقة البارزة والتي كانت أشبه بعنق الزجاجة، يصطدم به من يمر به، ذهبنا إلى الحاج نطلب منه التدخل لدى رجال الحي بعدم هدم هذا المنزل، لكنه لم يستطع فعل شيء. وهدم نصف المنزل البارز في الشارع.
وبعد نزوح والدي إلى القاهرة بسبب الجهادية أي التجنيد العسكري، سكن أولا في حي السيدة زينب، وبعد ذلك انتقل إلى حي باب الشعرية دون أن أعلم السبب، وسكنا في شارع البنهاوي المتفرع من شارع الجيش بالعباسية. وهو الشارع الذي ينتهي بميدان باب الفتوح من ناحية سور صلاح الدين، وقبل آخره بقليل كانت هناك حارة درب الشرفا التي تخرج فيها عطفة العيساوي. وأول منزل على اليسار فيها رقمه «4» وهو المنزل الذي ولدت فيه وفي الطابق الأول منه، وكان على يساره مخازن السحار تاجر الجملة للمواد الغذائية.
وكان سطحنا هو نفسه سطح المخازن، وكنا نلعب فيه بلعبة مشهورة «العوامة»، التي كنا نصنعها بأيدينا بعد أن نشتري عجل الرولمان بلي الصغير؛ اثنان على القاعدة يمينا ويسارا، وواحدا في المقدمة، تحت المفصلة التي تربط العمود بالقاعدة فتتحرك العوامة بفضله يمينا ويسارا. وكنت آخذ الخشب من «الجملون» الذي يدخل الضوء على مخازن السحار، وكانت عليه ثلاثة قوائم خشبية، وكنت أنزع القائمة الوسطى، وكان لونها أسود فكنت أحك الطلاء بالسكين حتى يظهر الخشب بلونه الطبيعي، وكنا نلعب «بالعوامة» في الصباح الباكر قبل الفجر والشوارع ما زالت فارغة، ولكن المقاهي كانت مفتوحة، ويجلس عليها المدخنون للشيشة. وفي صباح باكر كنت ألعب ب «العوامة» في الشارع، وأمام جامع البنهاوي على اليمين ودرب البزازرة على اليسار، قام شيخ من على مقعده رفع العوامة وهوى بها على الأرض لتنزل محطمة وهو يقول «بلاش دوشة على الصبح»؛ فحزنت، وكرهت هذا الشيخ الذي لم يقدر لعب الأطفال، لملمت عوامتي المكسورة إلى البيت ثم إلى السطح حتى أستطيع إصلاحها وألملم خشبها المتكسر.
وكنا نلعب أيضا بالكرة الشراب في الحارة مع باقي الأطفال، وكان غيرنا يلعبون «السيكا» بعدما يخططون على الأرض مربعات بالطباشير. ويضعون حجرا ويقفزون عليه، ويدفعونه إلى المربع التالي، وكانت البنات تشارك في هذه اللعبة.
وكان يأتينا «جمال إسماعيل» قريبنا والطالب بمدرسة الخديوي إسماعيل في حي باب الخلق. وكان يلعب معنا فوق السطح، يركب فوق ظهري؛ إذ تستطيع «العوامة» أن تحمل شخصين.
وكنا نذهب إلى المركز الثقافي الأمريكي بميدان قصر الدوبارة الذي يقع في أول منطقة جاردن سيتي، كنا نأخذ المجلات التي تبدو كدعاية لأمريكا في مجالات العمارة، والصناعة، والتجارة. وكانت المجلات ذات ورق فخم وملون ولامع، وكان الهدف منها دعاية لأمريكا عند الشباب، أما نحن فكنا نأخذ هذه المجلات والتي توزع مجانا؛ لنعطيها لبائع الكبدة والكرشة يستخدمها في لف المأكولات التي يبيعها، وكان يفضلها على ورق الجرائد التي ينشع منها الزيت، يزنها ليقدر ثمنها، ويعطينا ما نريد من مأكولات مقابل ثمن ورق المجلات، نأكل قبل الصعود إلى المنزل ؛ لأن الوالدة ترفض أن نأكل خارج المنزل وخاصة هؤلاء الباعة الذين كانت تظن أنهم يخلطون أحشاء القطط والكلاب بمأكولاتهم، وكنا لا نهتم ولا نسأل عن المصدر.
ولم نكن جوعى، وكانت ماهية الوالد تكفي لإطعام الأسرة الكبيرة على الرغم من قلتها، كنا نشتري الدقيق من السحار؛ أي البقال على ناصية الحارة «شكك»؛ أي نأخذ الدقيق وندفع آجلا، ويكتب السحار في كراسة عدد المرات وحساب كل مرة، ثم يعطيه الوالد حسابه في أول كل شهر. ثم لاحظت الوالدة يوما زيادة مرة لم تأخذها، فقد كانت نسبة المرات هي مرة كل أسبوع أي أربع مرات كل شهر، ورأينا هذا الشهر أن الكراسة بها ست مرات، فذهب والدي إلى السحار ليحيطه علما بالأمر، فاقتنع الرجل وقال: «علشان خاطرك يا عم حنفي.»
وكانت الوالدة تقوم بالعجين في الصباح الباكر في الماجور، تأخذ العجين وترفعه وتخفضه عدة مرات حتى يصبح كالمطاط بعد أن تضع فيه الخميرة، وتترك العجين داخل الماجور حتى يصعد وينتفخ ويصير كالقبة. فتعرف حينها أن العجين قد اختمر؛ فتطلب «الطوالي» من الفرن أي الطاولات الخشبية، فترش الوالدة بعض الدقيق على سطحها، ثم تقرص العجين إلى قطع متساوية، وتضغطه لكي تكون القطع رقيقة، ثم تضعه على سطح الطوالي، وترص عليها الأرغفة بنظام، ويأتي صبي فران ليحملها على رأسه إلى الفرن لخبزها. حيث يدخله الفرن ويخرجه، حيث يرصه على أقفاص من الجريد لتوصيله إلينا، حيث نتناوله، وكان من حق صاحب الفرن أن يأخذ رغيفا من كل خبزة وهذا غير الأجرة. وكنت أقوم بعد الأرغفة التي يحصل عليها الفران كل يوم آخر النهار، فكنت أجد أنه يتناول الخبز هو وأسرته مجانا.
وكانت والدتي تقوم بعمل قراقيش وتضعها في «صاجات» حيث يأخذها صبي الفران أيضا، وبعد خروجه من الفرن يأخذ صاحب الفرن من كل صاج قرقوشة بالإضافة إلى أجره، ومرة أخطأت الوالدة في عدد القراقيش في كل صاج، وظنت أن صاحب الفرن أخذ أكثر مما يستحق؛ فأرسلتني إليه لكي أبلغه، ففتح درج المكتب الذي يجلس عليه، ورأيت فيه عددا قليلا من القراقيش بدلا من النقود تساوي ثمنه، ودفع به على الأرض، كي يقول لصبيه عدوا معه؛ فأحرجت، وأحرجت والدتي، خاصة أن صاحب الفرن كان جارا لنا، يسكن في الطابق الأعلى، وكان ابنه صديقا لي، وبناته صديقات لأخواتي.
كنا نلبس الطربوش كالعادة في هذا الزمان، فنحن أفندية «صغار»، وعندما لا نجد كرة نلعب بها، كنا نلعب بالطربوش، نقذفه بأرجلنا ككرة قدم فيهترئ، وينكسر الخوص الذي بداخله، ونعود إلى المنزل خائفين، وكان الوالدان لا يستطيعان أن يشتريا طربوشا جديدا. فكانوا يأخذون القديم إلى دكان «مكوى» الطرابيش ليصححه قدر الإمكان، وينذرني الوالدان بأن هذه آخر مرة يقومون بكي الطربوش الذي كان يكلفهم أموالا. فكنت أمتنع عن اللعب به حتى لا أدخل المدرسة بغير طربوش كما هددوني بذلك.
ولما كثرت علينا المصاريف خاصة ونحن في المدرسة أو في الجامعة كانت والدتي تذهب إلى بني سويف حيث تغمزها جدتي ببعض المال. وتحزن خالتي لأن جدتي تفضل أمي عليها وتعطيها أكثر منها. كانت جدتي تقول لها: «أختك صاحبة عيال ولكن أنت لا تحتاجين.» وعلى مدى أربع سنوات، خاصة ونحن في الجامعة، كانت والدتي تذهب كل عام إلى بني سويف، كي تبيع منزلا من منازلها بمبلغ أربعمائة جنيه. وتأتي بالأموال كي نشتري البدلة والحذاء والحقيبة المدرسية الجديدة. كما كنا نطلي منزلنا من الداخل بالجير، ونشتري ما نحتاج إليه والذي لم نكن نستطيع الحصول عليه بمرتب الوالد القليل.
وبعد أن باعت والدتي منازلها كلها، طلبت جدتي من «خالتي أم عبد الله» أن تبيع منازلها وتعطي ثمنها لوالدتي لأنها أكثر احتياجا، وبالرغم من أن اسم خالتي «أم عبد الله» كانت عادة في الريف قديما، يطلقون اللقب على السيدة التي لم تتزوج ولم تنجب حتى لا تحزن وتشعر بالدونية تجاه الأم الولود.
وكانت خالتي تبيع منزلا كل عام وتعطي ثمنه لوالدتي، ولما توفيت جدتي وباعت خالتي منازلها إلا منزل جدتي عاشت فيه أولا بمفردها والمصاغ في يدها، خشينا عليها من الاعتداء والسرقة، وطلبنا منها أن تعيش معنا في القاهرة، مع أختها - والدتي - وفي حماية زوج أختها، ووسطنا. فرفضت في البداية ولكنها بعد ذلك وافقت، وأتت إلى القاهرة، وعاشت معنا في نفس المنزل في غرفة خاصة نخدمها، ونعتني بها ونسليها، فإذا غضبت منا يوما قالت: «ياللي بيعتوني بيوتي». وكان والدي يمزح معها، ويخطف طبق طعامها، وكانت هي تبصق في الطبق حتى لا يستطيع أحد أن يأكل منه بعدها.
ولما توفيت دفنت في مقبرة العائلة التي كان اشتراها والدي في منطقة البساتين وكانت خالتي أول من دخلها.
وكانت خالتي دائما ما تتهم بأنها تفضلني على أخي، وأنها تعطيني، سرا، بعض المال ولا تعطيه هو. ولما عاتبها والدي ووالدتي قالت: «أتيت للقاهرة لأكون بجوار أختي التي أوشكت على الولادة، ولما تأخرت عدت إلى بني سويف وبمجرد أن دخلت إلى المنزل وجدت خبرا؛ تعالي بسرعة أختك بتولد؛ فركبت القطار من جديد وعدت إلى القاهرة.» وكانت بجوار أمي وهي تلدني، لذلك سموني «حسن». فكانت خالتي تشعر دائما بأنني ولدها وأن لا ولد لها غيري.
فكانت والدتي حين تشعر بضيق ذات اليد وليس هناك إمكانية الذهاب إلى بني سويف، وكان لها خال والدتها، تاجر جلود في «الصنادقية» وهو شارع متفرع من آخر شارع المعز لدين الله الفاطمي، بالقرب من جامع ابن طولون؛ كانت ترسلني إليه لنقترض منه بعض الجنيهات لا أظنها كانت تزيد عن الاثنين أو الثلاثة جنيهات، فكنت أذهب إليه في محله وهو جالس ينتظر الزبائن من تجار الأحذية والصناعات الجلدية الأخرى. وكانت شخصيته جادة أقرب إلى العبوس منه إلى الابتسام، وكنت أسأله ما كلفتني به الوالدة، فكان يدخل يده في جيبه ويعطيني ما أطلب، ولما تكرر الاقتراض منه مع أننا كنا نرجع ما اقترضناه في ظرف شهر على الأكثر عندما يستلم والدي مرتبه؛ كان يعطيني ويقول لي أو في نفسه «دي فلوس ناس» أي رأس المال الذي يتاجر به حيث يبيع الجلود وبثمنها يشتري أخرى جديدة، والفرق بين البيع والشراء كان ضئيلا يكفيه بالكاد هو وأسرته، وكانت له بنتان جميلتان على «وش جواز».
وكانت والدتي لا تقترض أبدا من الجيران؛ حفاظا على كرامتها وكرامتنا. مع أنهم كانوا ميسوري الحال. ومع ذلك كان لدينا مصروف يومي وهو أجرة الأتوبيس للجامعة ذهابا وإيابا، وكان المبنى الثاني للكلية الذي به قسم التاريخ الآن وقسم اللغة الإنجليزية، كان بوفيه للطلاب، والذي كان ثمن الوجبات زهيدا فيه، الوجبة بسبعة قروش ونصف، وتسمى «وجبة العميد». والمشروب كان بقرش واحد، وبعد تحول هذا المبنى إلى قاعات للدرس لقسمي اللغة الإنجليزية والتاريخ، تحول البوفيه إلى عربات للمأكولات والمشروبات حول مباني الكلية وطرقاتها.
ولما كانت الوالدة تذهب إلى بني سويف كي تزور جدتي وخالتي، وكانت شقيقاتي يدرسن بمدارس المعلمات، وكان والدي يعمل في الجيش، كان أخي الكبير يقوم بدوره في رعايتنا وأثناء سفر أمي.
وفى يوم من الأيام ملأ أخي صفيحة الماء إلى آخرها، وقام بوضعها على وابور الجاز لاستعمالها في الغسيل، ولما بدأت المياه بالصفيحة في الغليان، رفعها من على النار، فانبعجت الصفيحة لرقة حوافها وسخونة المياه؛ فانسكب الماء المغلي على ساعده، أسرعنا به إلى الصيدلية، فأعطوه علاجا بالزيت، وربطوها له، وأدركت مسئولية الأخ الكبير أو الأخت الكبيرة، وهي مسئولية صعبة وشاقة تصل لدرجة التضحية بالنفس في سبيل رعاية الأشقاء.
وفى يوم طلب مني أستاذي أحمد فؤاد الأهواني أن أقابل عبد الفتاح الديدي لمساعدتي في السفر، والذي عاد من فرنسا بعد عشر سنوات دون أن يحصل على شهادة الدكتوراه، وهو يعمل الآن مديرا لتحرير مجلة «المجلة» التي كان يرأسها الأديب الكبير يحيى حقي. وكان مقرها ملاصقا لسور قصر عابدين من ناحية باب اللوق، فكتب لي خطابا أقدم به نفسي إلى مديرة المكتب الطلابي في السفارة المصرية في باريس «مدام راتمباك». ولما وصلت باريس قدمت الخطاب لها وفتحته وعرفت المطلوب وهو مساعدتي، طأطأت رأسها إلى الأرض، وفهمت أنها لن تستطيع مساعدتي؛ فقد قطعت العلاقات بين مصر وفرنسا وبداية الاستعداد للعدوان على مصر أكتوبر 1956م، أي بعد وصولي إلى باريس بأقل من شهرين.
وحين غادرت إلى فرنسا عام 1956م وهو عام التخرج بدأ الفقر يظهر بشدة، من أين لي بتذكرة الباخرة إلى فرنسا لاستكمال الدراسة؟ وكيف سأعيش هناك بدون منحة دراسية لا من مصر ولا من فرنسا؟ ومع ذلك أخذت الباخرة وكان ثمن البطاقة عشرة جنيهات فوق السطح ودون غرفة نوم، وكانت لي توصية أن أنام في غرفة الطعام بعد فرش ملاءة على إحدى أرائكها. وأخذت معي حقيبة بها عدد من الأرغفة الجافة وعلبة جبن أصفر كانت توزع مجانا من المعونة الأمريكية. وكانت الرحلة من ميناء الإسكندرية إلى مارسيليا تستغرق ستة أيام. وكانت الباخرة تتوقف ليلة واحدة في ميناء بيريه بجوار أثينا، وكان السؤال: وما العمل في كيفية الذهاب من مارسيليا إلى باريس؟
وعلى ظهر الباخرة تعرفت يوما على سيدة فرنسية، ولما رأت طيبة الوجه بادية على ملامحي، وسلامة القلب، وإخبارها بمشكلتي؛ تعاطفت معي وأقرضتني مائة فرنك لأشتري تذكرة القطار من مارسيليا إلى باريس على أن أردها إليها بعد الوصول، وأعطتني عنوانها في باريس، ولما وصلت إلى باريس وجدت رجلا طويل القامة حسن الهندام واقفا على المحطة وقال لي: «أتريد غرفة يا أستاذ؟» قلت له: نعم. فقال أنا عندي غرفة بشقتي، وصحبني إليها. كانت غرفة صغيرة بها مكتب وسرير وكنت لا أطلب أكثر من ذلك، وقال لي إيجارها في الليلة عشرة فرنكات، فوافقت. وظللت بملابسي أستخرج الأوراق التي سأكتب فيها خطة البحث الذي سأقدمه للأساتذة للموافقة عليه لنيل درجة الدكتوراه ووجدت الباب ينفتح ويأتي الرجل وبيده طبقا من شوربة الخضار الساخنة يقدمها لي؛ فشكرته وكانت خير جزاء لي بعد مغادرتي الباخرة والقطار. إلا أنني لم أقض فيها غير ليلة واحدة؛ لأنني لا أملك المال فذهبت في الصباح التالي إلى السفارة المصرية، ذهبت إلى السفارة المصرية لأسكن مع البواب الذي أخبرني بأن هذا لا يجوز؛ لأن السفارة مبنى دبلوماسي؛ لا يجوز لأحد أن يسكن فيه إلا موظفوه، وطلب أن أذهب لمنزل السفير المجاور حيث ذهبت إليه ولكني وجدته مغلقا بالكامل لا أحد فيه. حيث كان ذلك بسبب تأميم قناة السويس في يوليو 1956م وسحب السفير المصري وقطع العلاقات مع فرنسا، فذهبت إلى مسجد باريس لكي أقضي به ليلتي طبقا للعادات القديمة، ولكن إمام المسجد اعترض وأخبرني بأن هذا لا يجوز؛ لأن المسجد له تصريح خاص بأسماء موظفيه. وسلمني الإمام لأحد الجزائريين لكي يعتني بي. أخذني الجزائري وكان وجهه مملوءا بحب الشباب، وصحبني إلى الفندق الذي يقيم فيه في الحي السادس عشر شمال باريس كي أنام معه في غرفته؛ فذهبت وكانت الغرفة بها ستة جزائريين آخرين ينامون متعامدين، ثلاثة يمينا وثلاثة يسارا. وكان في وسط الغرفة مدفأة من الفحم. قضيت فيها ما يقرب من شهر، وكان صاحب المقهى تحت غرفتي في الفندق ينظر إلي صباحا ومساء حين أغادر وأعود دون أن يستنفع مني بشيء. فشربت فنجان قهوة في الصباح التالي وأنا لا أملك ثمنه إلا بصعوبة؛ وأذهب إلى منزل الخدمات الطلابية في الجامعة والذي لديه كشف بأسماء الغرف الخالية، وهي على أنواع: غرفة مجانية في مقابل إعطاء دروس لابن صاحب الشقة ومساعدته في المذاكرة، وكانت الغرفة فوق السطح مخصصة للشغالات، وغرفة أخرى إيجارها قليل لكرم صاحب الشقة أو لضيقها أو لبعدها من الجامعة. وكنا كطلبة نذهب منذ الصباح الباكر حتى نكون أول الواقفين في الطابور لنحظى بما نريد من الغرف، وبطبيعة الحال كنت أبحث عن الغرفة المجانية؛ فأخذت مرة عنوان غرفة وذهبت لمقابلة صاحب الشقة الذي يملكها، فلما رأى هيئتي وأنني أجنبي اعتذر، وقال لي صراحة: «شكلك سيضايق ابني.»
وفى مرة أخرى ذهبت لمكان آخر أبحث عن غرفة في مقابل إعطاء دروس لطفلهم الصغير، ولما رآني صاحب الشقة اعتذر أيضا دون إبداء السبب؛ فقررت أن أختار غرفة بأجر زهيد وهو النوع الثاني من الغرف التي يؤجرها أصحابها، وكانت قريبة من الجامعة، فقبل صاحبها أن يؤجرها لي، وكانت غرفة في السطح، فسررت. وبعد عدة أيام ذهبت للغرفة كعادتي فوجدتها مغلقة ومفتاحها لا يفتح وورقة على الباب تقول: «أغراضك التي في الغرفة أخذناها، وحجزنا لك غرفة في فندق قريب.» فذهبت لصاحب الشقة وسألته: «لماذا فعل ذلك؟ فقال: بأن أخاه كان موظفا في شركة قناة السويس وبعد تأميمها أخرجوه بحقيبة ملابسه من مصر وعاد إلى فرنسا.» وسألني: «هل تقبل أن أقبل بمصري يسكن في غرفة سطحي وأخي مطرود من مصر؟»
وبينما أنا في الطريق للذهاب من السفارة المصرية إلى مسجد باريس، قابلني شرطي أمن وطلب مني أوراقي الثبوتية إذ كان يبدو علي الإرهاق والتعب والبهدلة، فلما أعطيته جواز سفري وثبتت له صحة ما فيه وتحقق من شخصيتي قال لي مقارنا وجهى بالصورة التي في جواز السفر: «وجهك نحيف، ألا تأكل؟» فأجبت: «عن قريب.» قال ذلك لأني نحفت كثيرا خلال تلك الفترة القصيرة.
وذهبت إلى الجامعة في اليوم التالي إلى مكتب الخدمات الطلابية؛ كي أجد غرفة زهيدة الثمن حتى لو كانت بعيدة عن الجامعة؛ فوجدت عنوان غرفة كانت بعيدة عن الجامعة في الحي السادس عشر وهو حي «الأغنياء». وبدلا من أن تكون في السطح كانت في الطابق الأرضي. وبجوارها مخزن فحم تستعمله العمارة للتدفئة، وكانت الغرفة ليس بها نوافذ، بها فقط سرير ومكتب، وكانت الحوائط دافئة، فقبلتها ومكثت فيها حوالي سنة وأنا أكتب وأقرأ وأدرس فيها متمتعا بالدفء والسكون. وفي نفس الوقت كنت قد قدمت طلبا للمدينة الجامعية؛ كي أحصل على غرفة بأحد منازلها؛ فوجدت غرفة مزدوجة في منزل الولايات المتحدة الأمريكية مع طالب أمريكي شاب. والمنزل يطل على الشارع الرئيسي حول طريق باريس الرئيسي، تمر به الناقلات الضخمة ليل نهار، وأمام محطة مترو المدينة الجامعية. مكثت فيها سنة أيضا، وأنا لا أستطيع النوم ليلا من ضجيج الطريق وهدير عربات النقل الثقيل، وسألت الأمريكي: «كيف تنام في هذه الضجة؟» فقال إن منزله في شيكاغو فوق محطة قطار حيث اعتاد على الضجيج.
وكان هناك منزل للطلبة المصريين داخل المدينة ولكنه يسمى منزل الطلبة الأرمن عندما كان نوبار باشا وزيرا للتعليم، فرفض الطلب. قدمت طلبا إلى المنزل الألماني لأني أدرس الفلسفة الألمانية «الظاهريات» وأتكلم الألمانية وأريد أن أزيد فيها بالتحدث مع الطلبة الألمان، فوافق مدير المنزل؛ وانتقلت إلى غرفة مفردة حديثة، حوائطها من الزجاج الشفاف، تدخل منه الشمس، وفي الصباح يصير سريري أريكة أفتحها، وفي المساء أفرد الأريكة فتصير سريرا أنام عليه. وعشت في هذا المنزل ثلاث سنوات إذ يحق للطالب أن يسكن ويقيم في المدينة الجامعية لمدة أربع سنوات .
بعدها انتقلت إلى منزل الطلبة الرياضيين في بور رويال في غرفة مزدوجة مع أحد الطلاب المصريين الذين يدرسون الحقوق، والذي أصبح الآن أستاذا بجامعة عين شمس ومحاميا مشهورا. ووضعنا ستارا لقسمة الغرفة إلى اثنين. مكثت في هذا المنزل عامين، وتجاوزت المدة المقررة؛ فبحثت عن غرفة أخرى تكون قريبة من الجامعة في منطقة «دانفير روشيرو». وفي الميدان تمثال الأسد الكبير كالذي على واجهة كوبري قصر النيل، والذي بني في عصر الخديوي إسماعيل؛ فالنحات واحد، وكانت غرفتي فوق السطح ودورة المياه خارجها، وكان فيها المكتب والسرير، وصممت لها رفوفا من الحديد لكي أرتب كتبي، وما زال اسمي حتى الآن موجودا على اللوحة الخارجية للعمارة، قضيت فيها السنة الأخيرة من وجودي في باريس وقبل العودة إلى القاهرة.
وبعد العودة من فرنسا عشت مع الوالد والوالدة والشقيقة الصغرى من 1966-1970م حيث كان دخل الأسرة حينها معاش الوالد الذي يبلغ أربعة جنيهات في ذلك الوقت، وعلى عمل شقيقتي في البنك حيث يبلغ عشرة جنيهات، وبمساعدة أخي الأكبر بحوالي خمسة عشر جنيها.
لم يكن لي دخل؛ لأنني لم أعين بعد في الجامعة، وحدث ذلك بعد عام كامل؛ فاضطررت أن أقترض مبلغ مائة جنيه من صديق لي أستاذ في دار العلوم كان يدرس في إسبانيا وتعرفت إليه في باريس حيث زارني. وأعدتها إليه بعد عامين، واضطررت أن أكتب عدة مقالات في المجلات الثقافية التي كانت تصدر في ذلك العصر؛ مجلة الفكر المعاصر، المجلة، الكاتب، والطليعة.
وكان دخلي من مقال المجلة الأولى اثني عشر جنيها، ومن الثانية عشرة جنيهات، ومن الثالثة ستة جنيهات، ومن الرابعة أربعة جنيهات. وكان دخلي الشهري ما يعادل مرتبي لو كنت عينت بالجامعة.
وخشي علي أحد الأساتذة أن أتحول إلى صحفي وأترك الجامعة كما حدث لأحد مشاهير الصحافة؛ فبددت خشيته بأن ذلك النشاط مؤقت حتى أستطيع أن أعيش، فقرر أن يعينني بالجامعة بلا إعلان، وكانت العادة الإعلان في الصحافة عن المنصب فيتقدم إليه الكثيرون، ثم تختار الجامعة الأفضل، ولكن الإدارة الجامعية رفضت؛ لأن ذلك ضد القانون. لم تكن هناك درجة خالية بالقسم، ولا بد من نقلي لدرجة خالية من قسم آخر، ثم موافقة مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة، ثم وزير المالية، وقد تأخذ تلك الموافقات عاما بأكمله، والآن يتم نقل درجة من قسم لآخر بموافقة مجلس الكلية فقط دون هذا الطريق الإداري الطويل.
وقد جمعت هذه المقالات فيما بعد في جزأين من كتاب «قضايا معاصرة»؛ الجزء الأول، في فكرنا العربي المعاصر، والثاني، في الفكر الغربي المعاصر.
وطلبت من أخي أن يوقف إعانته للوالدين بعد تعييني بالجامعة وأنني سوف أتكفل بجهاز شقيقتي الصغرى بعد أن تكفل هو بتجهيز شقيقاتي الثلاث الأكبر منها.
كان مرتبي ثلاثين جنيها، أعطي نصفها لوالدي ووالدتي؛ لأنني أقيم معهما، والنصف الآخر قسط لجهاز شقيقتي الصغرى، وكنت أعيش من دخلي الآخر من كتابة المقالات، وظللت على ذلك الحال حوالي أربع سنوات من 1966-1970م.
وبمجرد انتهاء القسط الأخير لجهاز شقيقتي الصغرى، سمع أهل خطيبتي بوجود شقة للإيجار في شارع الحجاز بمصر الجديدة، تطل على الميدان؛ فذهبت وأجرتها حيث كان أجرها زهيدا؛ أحد عشر جنيها في الشهر. ولما علم صاحب الشقة أن العروسين شابان في أول حياتهما لم يطلب «خلو رجل» بل ترك لنا أسبوعين مجانا إذا ما احتاجت الشقة إلى طلاء جديد أو إعداد، وكانت شقة واسعة جميلة.
في يوم استدعاني مالك العمارة وطلب النصح فرحبت بذلك، عرض علي أن أخاه قد قتل غيلة في شبرا البلد وأن عائلته تطالبه بالثأر والقصاص، بأن يقتل قاتل أخيه وإلا كان جبانا. وسألني: «فما العمل؟» نصحته بألا يفعل ذلك؛ فهناك قانون يأخذ حق القتيل بمحاكمة القاتل، والحكم عليه بالسجن المؤبد على الأقل. فاتهمته أسرته وأهل قريته بالجبن والخوف، وكان محاصرا بين رأي أهل القرية فيه والنصيحة التي قدمتها له واتبعها . فمات كمدا بعد شهرين، فحفظت للرجل جميله، وعندما تركت الشقة بعد ربع قرن من إقامتي فيها وكانت الخلوات قد زادت بعشرات الآلاف رفضت أن أستلم أي خلو من عائلته تقديرا له وعرفانا بجميله.
وعندما تعرفت على زوجتي الحبيبة أردت أن أتقدم لأهلها لخطبتها والزواج منها، كنت مطالبا بالشبكة والمهر، وأنا لا أملك شيئا؛ فترجمت كتابا ل «اسبينوزا»، «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وراجعه صديقي فؤاد زكريا، ثم ذهبت إلى الهيئة العامة للكتاب حيث قابلني رئيسها محمود الشنيطي وأبلغته أن أجر هذا الكتاب هو مهر زواجي، وكان يعرف زوجتي من الجامعة الأمريكية حيث كانت تعمل أمينة لمكتبة الخدمة العامة، وكان هو المشرف على المكتبة، ورجوته أن يعطيني الأجر بسرعة قدر الإمكان؛ فأعطاني أربعمائة جنيه قبل إصدار الكتاب، وقدمته كله مهرا لخطيبتي، أما الشبكة وكانت دبلتين من الذهب الأصفر المقلد وكان ثمنها ثلاثة جنيهات، وأقمنا حفلا بسيطا في منزلها، حضره أساتذة قسم اللغة العربية حيث تخرجت، وحضره أهلي بالطبع، وتعرفوا على خطيبتي لأول مرة، وبعد الحفل كان علي أن آخذ خطيبتي للسهر في مكان ما لدعوتها للعشاء، ولم يكن في جيبي مليم واحد؛ فأخذت من زوج شقيقتي دكتور العظام ما معه، وكانت خمسة جنيهات لم أردها حتى الآن. وسهرنا أنا وخطيبتي ليلتها في كازينو بارزيانا في أول شارع الهرم، وكان عشاء راقصا.
وكان علينا أن نعد الجهاز استعدادا للزواج بهذا المبلغ الضئيل الذي معنا؛ فاشترينا «أنتريه» من شارع النزهة بحوالي مائة جنيه، وصالونا من شارع رمسيس بحوالي مائة جنيه أخرى، وغرفة نوم بحوالي مائتي جنيه من شارع محمد محمود أمام الجامعة الأمريكية وسط البلد، وأصر صاحب المحل على أن ثمنها مائتا وعشرون جنيها. وظلت المفاوضات لمدة شهر تقريبا حتى استطعنا شراءها بمبلغ مائتي وعشرة جنيهات. وتزوجنا دون غرفة طعام، وظلت الغرفة فارغة لمدة عام كامل، حتى استطعنا تدبير مبلغ بسيط يعادل المهر تقريبا. وكانت زوجتي الحبيبة في فترة راحتها من عملها بالجامعة الأمريكية تسير في شارع سليمان باشا وتنظر في واجهات محلات الأثاث حتى وجدت غرفة طعام جميلة مذهبة بمبلغ ثلاثمائة وخمسين جنيها. فدخلت وحاولت المفاوضة والفصال وخفض الثمن، ولكن صاحب المحل رفض، فأخذناها، فاكتمل جهاز المنزل.
وفى ليلة الزفاف الذي عقد بنادي التوفيقية بمدينة الأوقاف، وكان لأساتذة جامعة القاهرة حق الاشتراك في النادي بقيمة خمسة جنيهات سنويا. اشترى لنا يومها أخي «تورتة» متعددة الطوابق، وكان يدرس لابنة الفنانة مها صبري؛ فجاءت لتهنئته والغناء في فرحي كمجاملة منها لأخي، وكان الفنان المصري محمد العزبي زميلا لنا في مدرسة خليل أغا الثانوية. وكان يعرفنا جيدا ونعرفه، قابلته مرة مصادفة، وأبلغته بحفل زفافي؛ فأصر على أن يغني في حفل زفافي، وأتى وكان بجيبي خمسة جنيهات. وتساءلت: «هل أعطيها له فيصبح جيبي فارغا؟ أم أعطيه ثلاثة جنيهات، وأستبقى جنيهين؟» ففضلت الحل الثاني، ولم يعترض هو.
وبعد انتهاء حفل الزفاف حاوطني عمال النادي لأخذ البقشيش؛ فأعطيتهم الجنيهين المتبقيين، ودخلت منزلي بعد العرس مباشرة وجيبي فارغ تماما.
وصاحبنا مصور ليأخذ لنا صورا تذكارية، وهي الصور التقليدية التي يحمل فيها العريس عروسه بين ذراعيه. كان المصور نفسه هدية أرسلها صديق زوجتي والذي كان يعمل بالهيئة العامة للكتاب، ورفض المصور أن يأخذ أي إكرامية مع أني لم أكن أملك مالا أعطيه له، فكانت «عزومة مراكبية».
وفى صبيحة اليوم التالي أتى الأهل من العروسين لمجاملتنا، وأعطونا «النقطة». وكانت كثيرة بما سمح لنا أن نعيش شهر العسل منها، وعشت عامنا الأول من الزواج بأقل دخل ممكن، بضعة جنيهات في الأسبوع، طعامنا ومواصلاتنا وحليب طفلنا، وكنت أساهم في مصاريف الوالد والوالدة، كما كنت أفعل قبل الزواج، وكانت زوجتي الحبيبة تساهم هي أيضا في مصاريف أهلها، فقد توفي والدها ولم يبق لها إلا أمها وشقيقتها الوحيدة وأطفال شقيقتها، حيث كانت هي من تقوم بالصرف عليهم.
وكان هذا العام أصعب عام في حياتنا ولكننا كنا سعداء؛ فالحب يملأ القلب، والطموح يملأ العقل، والمستقبل واعد وموعود.
وظل الفقر السعيد يلازمنا خاصة بعد إنجاب طفلنا الأول، وكانت الجامعة تقدم لنا بطاقات للعلاج، تساهم الجامعة بالنصيب الأكبر منها ، فكان الطبيب يشرف على زوجتي الحبيبة، ويتابع حملها مرة كل شهر، وكانت عيادته بميدان التحرير، ولكنه قام بتوليدها بمستشفى الدقي، ورزقنا بطفلنا الأول في مارس 1971م. وجاءتني دعوة من جامعة تمبل بفيلادلفيا ولاية بنسلفانيا لأكون أستاذا زائرا هناك للفلسفة الإسلامية مع إسماعيل الفاروقي والذي انتقل إليها من جامعة سيراكيوز. وأبلغني رئيس الجامعة بأنه لا بد من قبول الدعوة والاختفاء بعيدا عن مصر؛ لأن محاضراتي مسجلة لدى الشرطة في قسم الدقي القريب من الجامعة، خاصة بعد النكسة والهزيمة في 1967م. وهو لا يستطيع أن يحميني إذا ما أنقضت علي أجهزة الأمن؛ فشكرته، وقبلت الدعوة.
أرسلت لي الجامعة بطاقة السفر، واقترضت لشراء بطاقة سفر لزوجتي الحبيبة من زوج أختي الكبيرة، أما ابني فكان ما يزال طفلا صغيرا.
ووجدت الصديق إسماعيل ينتظرني في مطار فيلادلفيا، ويأخذني إلى سكن الطلاب في مجمع يورك تاون، ثم انتقلت بعدها بعدة أشهر لمجمع الأساتذة بجواره في «كونى هول» حيث أقمت في الطابق الثاني، وكانت شقة واسعة بها غرفتان للنوم، وصالة متسعة، حوائطها زجاجية شفافة تطل على الفناء والحديقة أمامي، وكانت الأرضية خشبية. كان طفلي يضرب عليها بما يستطيع من أوان معدنية، فاشتكى الجيران من الضجة.
ولم يتوقف الفقر السعيد إلا بعد رجوعنا من الولايات المتحدة الأمريكية بعد أربع سنوات كاملة حيث كونت رصيدا يسمح بشراء سيارة، وكانت ماركة «نصر» بأربعة آلاف جنيه.
الفصل الثاني
المواهب الثلاث
لم أكتشف مواهبي في الكتاب؛ «كتاب الشيخ سيد» ولا في المدرسة الأولية؛ مدرسة سليمان جاويش، ولا في المدرسة الابتدائية؛ مدرسة السلحدار، بل اكتشفت مواهبي في المدرسة الثانوية؛ مدرسة خليل أغا في فرق النشاط المدرسي.
وفي كتاب الشيخ سيد، كنا نحفظ القرآن، نحضر للشيخ طبق سلطة كل يوم أو مبلغ قرش واحد ندفعه له، وكنت أتساءل: «كيف يمكن حفظ القرآن في هذه السن الصغيرة؟ وما الفائدة من حفظ شيء لا نفهمه؟ ولماذا نعاقب من الشيخ بالضرب بالعصا إذا ما نسينا؟»
وكان الشيخ يجلس على الأرض مربعا أي واضعا ساقا فوق الأخرى، كنا نرتدي الجلاليب مقلدين إياه في جلسته، لا يستطيع أحد منا أن يأتي متأخرا وإلا ضربه الشيخ بالعصا.
وكانت الأمهات سعيدات بإرسال أطفالهن إلى الكتاب حتى يتفرغن لشئون المنزل.
وفي المدرسة الأولية كنا نلعب في فناء المدرسة ، وفي الفسحة كنا نخرج ونقف على باب المدرسة لشراء «السميط» وهو خبز يعجن على شكل حلقة مستديرة ينثر عليها السمسم، وكان ثمنها نصف قرش، وكان البائع يجلس على الأرض يضع صاج «السميط» أمامه، ويفرد جلبابه أمامه؛ ليضع الأطفال القروش عليه، كان الزحام عليه شديدا، وكان اسمه «صبحي». فيأخذ الطالب «السميط» بيسراه ويدفع نصف القرش بيمناه. وتقع في حجره، ولم يكن معي نصف قرش فكنت آخذ السميطة وأقول له: «السميط أهو يا صبحي.» وكان لا يعرف كيف يسيطر على الزحام فلا يرد، ولا ينتبه، ولا يطالبني بالنصف قرش، فكنت آخذه وآكله أثناء الفسحة ولكنني كنت أعرف أنني أعمل عملا غير صحيح، فكنت بعد أن آكل السميط في الفسحة أشعر بالألم، ويتجهم وجهي، وليس لي الرغبة في اللعب.
وفي المدرسة الابتدائية كنا نلعب كثيرا لكبر واتساع فناء المدرسة المحاط بالأحجار والتماثيل التي تتساقط من سور صلاح الدين، وكان يتسع للجري واللعب والاختباء وراء العواميد المهدمة.
بدأت بالفرق الرياضية، القسم المخصوص، وهي مجرد ألعاب سويدية لتحريك وتسخين عضلات الجسد، ثم «العقلة والمتوازيين» لتقوية المهارة الجسدية، حيث نتشعلق في العقلة ونلتف حولها، والوقوف على اليدين في المتوازيين، وتغيير الوضع لتقوية عضلات الذراعين، ولعبت كرة السلة قليلا، ولم تستهوني كرة القدم، ثم انضممت لفرقة الرسم بالأقلام السوداء والملونة. وذات مرة جمعنا مدرس الرسم وطلب منا رسم فكرة لغلاف كتيب عن الصحة المدرسية؛ فأسرعت بالاقتراح لرسم ممرضة، ترتدي الأبيض وتحمل إبرة محقن كبيرة، وهي تسير على ساق واحدة وترفع الأخرى. أعجب المدرس بالفكرة ونفذها مباشرة. وكانت الألوان بأبيض وأسود وأحمر.
ومع ذلك تركت فرقة الرسم إلى فرقة الموسيقى، ولم تكن هناك آلات موسيقية إلا البيانو والأكورديون والكمان والطبلة، وكلها ملك للمدرسة. أعجبني الكمان وتمرنت عليه بمساعدة مدرس الموسيقى. أعجبني الكمان إذ كان يصدر منه لحنا غنائيا متصلا، حادا وغليظا، وكان له رنين عاطفي رومانسي. أما البيانو فكان متقطع اللحن، وقد يتميز البيانو عن الكمان بأن أصواته مضبوطة في التون والنصف تون. في حين أن الكمان أصواته غير مضبوطة؛ لأنها تصدر عند تثبيت الأصابع فوق الوتر في مكان مخصص وإلا صدر الصوت نشازا. فرجعت إلى المنزل وأنا في حيرة بين الرسم والموسيقى، ولكني جمعت بينهما في رسم الشخصيات الموسيقية، فكنت آخذ صورة صغيرة لكبار الموسيقيين، وأقسمها مربعات صغيرة لا تتجاوز الملليمتر. ثم آتي بلوحة كبيرة وأقسمها بدورها إلى مربعات، فيكبر المربع الصغير الأول إلى سنتيمتر أو اثنين طبقا لحجم اللوحة البيضاء، وأرسم مربعا مربعا فتخرج الصورة مكبرة طبق الأصل، وهو ما تفعله أجهزة التصوير حاليا، وتلك كانت طريقتي في الرسم. وكنت أيضا أرسم باستخدام الفحم الأسود، وكنت أجلس ساعات طوال على المنضدة، والوالد ينظر إلى ما أفعل. رسمت شخصيات عالمية: بيتهوفن أشعث الشعر، وشوبرت بهندامه الأنيق، وشوبان بوجهه المتألم، ثم حافظ إبراهيم شاعر النيل، وأحمد شوقي أمير الشعراء. وعلقت هذه اللوحات على جدران غرفتي، حيث كنت أقطن فيها مع أخي. ولم أدر ماذا أفعل بها عند مغادرتي إلى فرنسا؟ خشيت عليها، وأنزلتها، ولففتها جيدا ووضعتها على سطح الجمالون فوق مخازن السحار. ولا أدري أين هي الآن؟ هل طارت في الهواء أم أتلفها المطر؟
أما عزف الموسيقى فيحتاج إلى شراء آلة الكمان التي كنت أحبها، وكانت أسرتي لا تملك الثمن، ومهما أضربت عن الطعام أو اعتصمت في المنزل في زاوية لا أتحرك بالساعات الطوال إلا أنني لم أستطع الحصول عليها. وكانوا يطلقون علي اسم «غاندي» لأنه كان معروفا بإضرابه عن الطعام حتى الموت لإجبار بريطانيا على الانسحاب من الهند. فنالت الهند استقلالها، ولم أنل أنا الكمان.
وكان والدي يصاحبني معه في الحفلات الموسيقية التي تدعى لها الفرقة الموسيقية بأكملها، وذلك كان في الحفلة الختامية لمدرسة الجيزويت الثانوية في أول شارع رمسيس من ناحية محطة مصر. لم أكن أفهم شيئا من خطب الترحيب والكلمات الرسمية للناظر والمدرسين والطلبة الأوائل. وما إن ترتفع الآلات النحاسية والتي كانت تمثل جوهر الفرقة بموسيقاها، ويرتفع معها والدي ب «الترمبون» وأسمع الأصوات الموسيقية وهي تصدح بأنغام الفرح بتخرج الطلاب في الفرقة النهائية حتى تنفرج أساريري وأرى الأضواء تنعكس على آلات النفخ النحاسية فيزداد فرحي بالموسيقى، وتتألق مواهبي الموسيقية، وأقول في نفسي ليتني أكبر، وأصبح موسيقيا مثل هؤلاء الموسيقيين! وبينما أنا أتأمل هذا الفرح أجد طبقا من الطعام المزخرف بالألوان قد وضع على فخذي من جرسون المدرسة مقدما إياه لي قبل الموسيقيين وهو يبتسم لهذا الصبي الذي لم يتجاوز عشر سنوات بصحبة الموسيقيين رغبة في سماع الموسيقى. وأشار إلي والدي وهو يعزف أن آكل؛ لأن الموسيقيين سيأكلون في فترة الاستراحة، فقد كنت في حيرة بين هذا الطعام الذي لم أر في جماله كما رأيت قبل اليوم، والاستماع إلى الموسيقى الفرحة التي أدخلت في قلبي السرور، وتمنيات المستقبل.
وظللت أفعل ذلك حتى الثانوية العامة. ودخلت مسابقة التوجيهية في الفلسفة، وكانت التوجيهية يومئذ إما علوم، وإما أدبي رياضة، وإما أدبي فلسفة. وكنت الأول على القطر المصري كله في مادة الفلسفة. ووضع اسمي على لوحة الشرف بجوار حجرة الناظر، وكانت الجائزة عشرين جنيها. ودعا ناظر المدرسة يومها الملك فاروق لحضور حفل توزيع الجوائز، وحضر الملك وأعطاني محفظة جلدية. فقدمتها لوالدي هدية حيث كان حاضرا للحفل، وقسمت العشرين جنيها أربعة أقسام: خمسة جنيهات لإصلاح أسناني، وخمسة لشقيقاتي البنات، وخمسة اشتريت بها ساعة، وكانت أول ساعة أشتريها وأرتديها، وخمسة اشتريت بها الكمان. وبدأت أعزف عليه في فرقة المدرسة. ثم دخلت معهد شفيق للموسيقى، والذي كان قريبا من سور قصر عابدين بباب الخلق.
وبعد الحصول على الشهادة الابتدائية، وبعد اكتشاف موهبة الرسم؛ رسم الشخصيات الشعرية والموسيقية، بدأت في رسم الخرائط؛ خرائط القارات الخمس وتكبيرها، وكنت أنظر للعلاقة بين البر والبحر، وأتأمل تداخل المياه في الأرض فتكون الأنهار والبحيرات، وكنت أتأمل موقع مصر بين القارات الثلاث؛ أفريقيا وآسيا وأوروبا. ولم تكن أمريكا اللاتينية قد برزت بعد إلى الوجود الثقافي كما هو الحال الآن، وكنت أندهش لاتساع قارة آسيا مقارنة بقارة أوروبا وصغرها جغرافيا مع أنها أنشط وأقوى حضاريا. وكنت أنظر إلى أفريقيا الممتدة جنوبا وأندهش من خط الاستواء الذي يقسم القارة لشمال وجنوب.
وكان زوج شقيقتي الكبرى يعمل بمصلحة المساحة، فكنت أذهب لهناك. كانت المصلحة قريبة من الجامعة، أستعين بخطاط المساحة للكتابة بالخط الثلث العريض اسم القارة على ورقة ألصقها على أسفل الخريطة التي قمت برسمها، وكأن سياحتي حول العالم فيما بعد بدأت بالسياحة على الورق وفي الخيال.
وتقدمت بطلب للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية، والذي كان يسمى حينئذ معهد فؤاد، وكان المعهد يتطلب الحضور يوميا ليس فقط لتعلم العزف، ولكن لدراسة العلوم الموسيقية الأخرى مثل: الصولفيج، وتاريخ الموسيقى إلى آخر المواد التي تدرس في المعهد. وكنت طالبا في كلية الآداب في قسم الفلسفة، فكيف أحضر وأوفق بين دراسة المعهد والكلية، وكيف أجمع بينهما؟ وبالرغم من أن أبي كان موسيقيا يعزف «الترمبون»، وكان علي إسماعيل قريب والدتي موسيقيا أيضا يعزف الكلارنيت في النوادي الليلية بعد أن ترك الجيش، فكان والدي يقول لي: «أتريد أن تصبح مثل علي إسماعيل عازفا للراقصات في الملاهي الليلية؟» فلم يشجعني على مواصلة دراسة الموسيقى، ولم يتبق لي إلا أن أواصل دراستي في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكنت الأول على الدفعة في كلية الآداب قسم الفلسفة طوال الأربع سنوات مدة دراستي الجامعية، وكنت أتوق لأن أصبح معيدا بالقسم ثم أستاذا بالكلية.
وتكررت لحظات الاختيار بين الموسيقى والفلسفة عندما وصلت إلى باريس، وسجلت بجامعة السوربون ومعهد الكونسرفتوار، كنت أحضر محاضرات الفلسفة صباحا في السوربون، وبعد الظهر أحضر دروس الموسيقى في الكونسرفتوار، وفي المساء أقرأ نصوص الفلسفة في نصفه الأول، وأعزف على الكمان الذي أحضرته معي من القاهرة في النصف الثاني. وظللت على ذلك سنتين، آكل مرة واحدة في اليوم بسعر مخفض في مطاعم الجامعة نظرا لقلة مواردي. وبعد أن علمت المشرفة الاجتماعية بمركز خدمات الطلاب حالتي، ومرة لم أستطع صعود السلم الصغير في المنزل الجامعي، وكنت أشعر بالإرهاق؛ فذهبت للعيادة الطبية التابعة للمدينة الجامعة، وكشفوا على صدري بالأشعة، فوجدوا بداية تجلط في الرئة اليمنى، وأخبرني الطبيب وقال لي لا بد أن أمكث في العيادة عدة أيام لاستكمال الفحوصات الطبية؛ ففعلت، ثم جاء الطبيب بطبيبة ما زالت أذكر اسمها «بون فونت» وسألتني كيف أعيش؟ فقلت: في الصباح في السوربون وبعد الظهر في الكونسرفتوار، وفي المساء أقرأ في النصف الأول وأعزف في النصف الثاني. وآكل مرة واحدة في اليوم.
ولم أكن أنا فقط الذي يشتري فيها الطالب دفاتر المطعم بأجور مخفضة. أستعمل واحدة ظهرا، وأبيع الثانية في المساء بسعر كامل، وإهانتي من أحد الطلاب الفرنسيين بقوله إنني تاجر جيد، ولكن كان مدير المطعم الفرنسي يفعل ذلك أيضا وهو ليس فقيرا؛ كان يأخذ تذكرة المطعم بالسعر الكامل وهو سبعة فرنكات ونصف، ويشبك التذكرة في عمود معدني رفيع يخرق التذكرة، ولا يقطعها، ثم يأخذ هذه التذاكر إلى المنزل قبل تسليمها إلى الجامعة ويرش مكان الخرم بالماء ثم يكويها فتعود صالحة للاستعمال مرة ثانية، ويبيعها للطلاب الفقراء مثلي بأجر مخفض؛ لأنه لم يدفع فيها شيئا، ويبيعها الطلاب الفقراء على باب الدخول للمطعم بثمن مخفض ويعطى الثمن لمدير المطعم بعد أن يضع عليها نسبته، ولم يتهمه أحد من الأجانب أو الفرنسيين بأنه تاجر جيد.
وكان مطعم كلية الطب مجاورا لمكتبة مدرسة اللغات الشرقية الحية التي كنت أقرأ فيها أحيانا، وكنت أتناول وجبة الغداء فيه، وبعد الغداء وقبل أن يغادر الطلاب المطعم وبعد غلق شبابيك الخدمة، وكان يوم أحد، يتبارى الطلاب والطالبات في رفع سلطانية الشوربة إلى أعلى وإسقاطها على الأرض، فإذا وقفت على قعرها ولم تنكسر صفق الطلبة وضحكوا إعجابا بالمباراة، أما إذا سقطت على جانبها فإنها سرعان ما تنكسر ويهلل الطلاب بالفشل وعدم المهارة، وكانت عاملات النظافة تنتظر لكي تلم قطع البلاستيك المتناثرة من أثر انكسار سلطانيات الشوربة، ويضحكن على الطلبة، ولا يهددن بنداء المدير بهذا التخريب القصدي كما نفعل في بلادنا، وكانت الطالبات يسقطنها بين أفخاذهن لضبط اتجاه الوقعة من القعر إلى الأرض، وكنت أهتم برؤية الفخذين أكثر من اهتمامي برؤية السلطانية وهي تقع سليمة أو منكسرة.
وفى فترة الغداء يخرج الطلبة والطالبات من المكتبة الوطنية يتناولون الغداء في أحد المطاعم الجامعية القريبة، ثم يذهب الجميع إلى المقاهي المتناثرة حول المكتبة. يشربون القهوة قبل العودة للدراسة أو القراءة في المكتبة، وكنت أرى من خلال زجاج واجهة المقهى، ومن الرصيف الطالب يحتضن الطالبة ولا ينظر أحد إليهما إلا أنا، فدخلت مرة أحد المقاهي كي أشرب القهوة، وكنت بمفردي، فجاءتني طالبة كانت تجلس بجواري، وحدثتني وقالت: «هاللو!» فكنت أخجل وأدعوها إلى فنجان من القهوة، فكانت تقترب مني أكثر وأكثر كما هو الحال في فيلم الخطايا. وكانت العادة أن يتقابلا في المساء بعد الانتهاء من القراءة وإغلاق المكتبة عند السادسة مساء. وكانت العادة أن أدعوها إلى العشاء في أي مقهى مجاور ونتحادث، ويشعر كل منا برغبة في الآخر، وكنت إذا دعوتها إلى شرب القهوة في الظهر فكيف لي أن أدعوها إلى العشاء مساء وأنا لا أملك من المال شيئا يذكر؟ فلم أذهب إلى المقهى في المساء وغادرت المكتبة مسرعا إلى الغرفة التي أسكن فيها على السطح وعيناي تدمعان؛ إما لفقري أو لطيبتي.
وكان الطلبة الأفارقة يتظاهرون بالمرض كي يأخذوا التذاكر المخفضة لدخول مطعم المرضى الذي لا توجد به عاملات للخدمة، بل يذهب الطلبة إلى المنصة ويخدمون أنفسهم بأنفسهم، ويشربون اللبن بدلا من الماء، ولا يتكلمون مع أحد، بل يستمرون في تناول الطعام حتى ساعة غلق المطعم، وكانوا يأكلون بنفس الطريقة التي يأكلون بها في أفريقيا، فضخمت وبدنت و«كرشت». وكان مدير المطعم لكثرة ترددنا عليه لا ينظر إلى بطاقاتنا وتذاكر الدخول ولا تذاكر الطعام، ويرحب بنا منحنيا مادا ذراعه إلى الأمام.
وكانوا قد أخبروني في العيادة أن رئتي اليمنى مصابة بالدرن وهي أول مرحلة في السل، ولا بد أن أمكث في العيادة الطبية عدة أشهر حتى أعالج من هذا المرض القاتل، عن طريق إدخال محاليل لازمة عن طريق الأوردة والشرايين؛ ففعلت . فقالوا لي بعد مدة إني أحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أشهر أخرى للعلاج حتى يختفي الدرن. فقلت: وماذا عن غرفتي بالمنزل الألماني؟ قالوا: ندفع نحن أجرتها. قلت: وماذا عن كتبي التي اشتريتها ولم أدفع ثمنها بعد وموجودة في المكتبة؟ قالوا: نشتريها لك؛ فشكرتهم على هذه التسهيلات. ومكثت في العيادة الطبية لمدة أربعة أشهر. كنت آكل أربع مرات في اليوم، وأذهب للنوم مبكرا. فتحسنت صحتي، بل وبدنت. وحين حان وقت الخروج أخبروني بأنني لن أستطيع أن أعود لأعيش بالأسلوب الذي مضى. وعلي أن أختار بين دراسة الفلسفة أو الموسيقى؛ لأنني لن أستطيع الجمع بينهما وإلا قضيت على نفسي بنفسي، وإن لم أفعل سيضطرون إلى إرسالي لمصحة الجامعة فوق جبال الألب؛ لأستنشق هواء الجبل النظيف، ولكني سوف أفقد الفلسفة والموسيقى معا. وكانت لحظة صعبة؛ لحظة الاختيار بين حبيبين، بين طفلين. ولكن أصر الأطباء على حسم قراري. وتوقيع شهادة أوافق فيها على شطب اسمي من الكونسرفتوار وأبقى في السوربون، أو أن أوقع شهادة شطب اسمي في السوربون وأبقى في الكونسرفتوار. تصورت نفسي مؤلفا موسيقيا مثل بيتهوفن وسيد درويش، أو عازف موسيقى في أوركسترا غربي أو شرقي. وتساءلت ماذا قدمت إلى العزف مع جماعة عازفين بألحان غيري؟ ثم تصورت نفسي مفكرا، أعطي للناس مناهج للتفكير وسبلا للحياة. وأني مؤثر في الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد، وأن أكون جيلا جديدا من المفكرين والباحثين يستطيعون إكمال الرسالة من بعدي، كما فعل الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين.
فاخترت الفلسفة وأنا أغنيها، وفضلت الفكر وأنا أصدح به، واخترت الثقافة وأنا ألحنها، واخترت الجامعة وأنا أعزف لها؛ تركت موهبة الرسم لصالح الموسيقى، ثم تركت الموسيقى لصالح الفلسفة، وما زلت حتى الآن عندما أسمع بيتهوفن أو سيد درويش تدمع عيناي تأثرا بفراق صديقين قديمين ما زالا يعيشان في الذاكرة.
جذبني إلى بيتهوفن إمكانية قراءة فلسفة موسيقاه والتي تقوم عليها سيمفونياته التسع؛ فالسيمفونيتان الأولى والثانية كانتا أقرب إلى موزار. ولم تظهر شخصية بيتهوفن إلا في السيمفونية الثالثة؛ سيمفونية «البطولة»، وكان قد أهداها إلى نابليون. ولما كان قد وجد أنه نصب نفسه إمبراطورا على فرنسا بعد الثورة الفرنسية فلم يعد هناك فرق بينه وبين لويس السادس عشر الذي طارت رقبته تحت المقصلة.
وكانت الحركة الثالثة في هذه السيمفونية تمثل بطلا يعيش بين جنوده؛ وهو ما جعل بعض النقاد العرب يقولون إن محمد عبد الوهاب قد قلدها في إحدى أغنياته.
وبعد أن استراح بيتهوفن في السيمفونية الرابعة، عاد وانتفض في السيمفونية الخامسة «القدر»؛ فافتتاح السيمفونية في الحركة الأولى هي دقات القدر. ويقال إن محمد عبد الوهاب قلدها أيضا في افتتاح أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات».
وبعد أن استراح بيتهوفين في السيمفونية السادسة، ألف السابعة يغني فيها للريف وجماله لدرجة أنها سميت سيمفونية الريف «الباستورال». وبعد أن استراح بيتهوفين في السيمفونية الثامنة، ألف التاسعة عن «الفرح». وختمها بأنشودة الفرح للشاعر «شيلر».
فسيمفونيات بيتهوفن مؤلفات فلسفية، وبالمثل يقال على فلسفة هيجل التي كانت أشبه بسيمفونيات بيتهوفن وقد كانا متعاصرين. فكتاب «ظاهريات الروح» سيمفونية الوعي الإنساني الذي يتطور من الحس إلى العقل إلى القلب إلى الروح المطلق.
وأظن أنني قد أحسنت الاختيار؛ فمشروع «التراث والتجديد» الفلسفي يملأ الآفاق في مصر، والوطن العربي، والعالم الإسلامي، بل وفي الغرب والشرق على السواء. تمت ترجمة أجزاء منه إلى كثير من اللغات خاصة التركية، والفارسية، والماليزية، والإندونيسية. وكتبت الدراسات عنه، وألفت الكتب حوله، واختير موضوعا لكثير من الرسائل الجامعية، وأشعر بالراحة النفسية عندما أسمع عنه وهو موضوع للمناقشة بين العلماء خاصة. وقد كتبته على ثلاثة مستويات؛ المستوى العلمي للمتخصصين، والمستوى الثقافي للمثقفين، والمستوى السياسي للجماهير.
وقد يكون أثره الآن محدودا، ولكن سيكون له أبلغ الأثر في المستقبل وعلى مجرى التاريخ، فإذا كان تاريخ الحضارة الإسلامية في مرحلتها الأولى يؤرخ بمقدمة ابن خلدون وهو يصف نشأة الحضارة الإسلامية وتطورها وانهيارها. فإن تاريخ الحضارة الإسلامية في مرحلتها الثانية يؤرخ بمشروع «التراث والتجديد»، بداية بعصر النهضة والإصلاح الديني، ثم بالثورات العسكرية، ثم بالثورات الشعبية. ومن يدري متى تكون ثورة المجتمع المدني؟
وكتاب «علم المنطق» لهيجل وتقسيماته الثلاثية تعبير عن الجدل مثل: «الوجود والماهية والصيرورة» أشبه بسيمفونية الصراع بين الخير والشر وتحولهما للمحبة والديمومة، وهكذا فعل في باقي مؤلفاته.
وكما جعل بيتهوفن الشعر موسيقى الكلمة ، فقد كان صديقا لجوته، كذلك جعل هيجل الموسيقى أرفع أنواع الشعر، وجعل الأوبرا أرفع أنواع الفنون كلها بعد أن جعل الفنون السمعية أرقى من الفنون البصرية.
كنت عندما أسمع «نشيد الفرح» في آخر السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وتكاد تصل متعتي للسماء. لم أكن أعرف أن هذا السمو والاستمتاع والرقي بسبب الموسيقى، أم الشعر أم الفلسفة؟ فلقد عزفت الفنون الثلاثة الفرح. وهو موضوع يجمع بين الموسيقى والشعر في الفلسفة. وكذلك فعل فاجنر في أوبريتاته التي تجمع بين الموسيقى والشعر والفلسفة في «تريستان وإيزولدا». وكما فعل فيردي في «أوبرا عايدة» في مارش «البطولة». وراداميس عائدا منتصرا.
أما الموسيقى الكلاسيكية عند باخ فتشبه فلسفة توما الأكويني في «الخلاصة اللاهوتية». وكما فعل بيزيه في أوبرا «كارمن» عن الحب والتضحية؛ فالموسيقى شعر، والشعر موسيقى. ومعجزة القرآن الكريم في الجمع بين الموسيقى والشعر والفلسفة.
وعندما استعملت الأوتار كآلات إيقاعية ولم تعد تغنى الألحان المتصلة مثل «تقديس الربيع» لسترافنسكي تقطعت الفلسفة في «التفكيكية» في الفلسفة المعاصرة، ولم تعد الفلسفة لحنا غنائيا طويلا كما هو عند ديكارت في منهجه، وشيلينج في الوحدة بين الروح والطبيعة، وفشته في خطابه إلى الأمة الألمانية.
فيمكن قراءة الموسيقى كفلسفة مثل: موسيقى باخ كفلسفة مدرسية، وموسيقى بيتهوفن كالفلسفة الرومانسية، وبوليرو رافيل كفلسفة ما بعد الحداثة التي تفكك كل شيء.
الفصل الثالث
الحب العذري
وصلت إلى مرحلة البلوغ وأنا في المدرسة الثانوية، لا أذكر في الصف الثاني أم الثالث. وعندما وصلت إلى السنة الخامسة «التوجيهية» جلست في المنزل؛ لأستعد لامتحان الثانوية العامة بعد أن بدأ الحضور يتناقص داخل حجرات الدراسة والفصول لنفس السبب، ولكي أستعد أيضا لامتحان المسابقة في الفلسفة والذي كان يقام كل عام. وكانت مكافأته بالإضافة إلى العشرين جنيها، الدخول للجامعة مجانا، فقد كانت مجانية طه حسين في التعليم العام، ثم عممتها الثورة في 1952م إلى التعليم الجامعي؛ فدخلت الجامعة مجانا لثلاثة أسباب: الأول؛ حصولي على الثانوية العامة بدرجة 77,5٪. والثاني؛ حصولي على المرتبة الأولى في امتحان المسابقة العامة في الفلسفة. والثالث؛ قرار مجانية التعليم العالي بعد الثورة.
وكنت أمكث في المنزل ساعات طويلة بمفردي؛ فأخواتي البنات كن يذهبن إلى المدارس، وشقيقي الأكبر في الجامعة، وأبي في عمله؛ موسيقى الجيش، وأمي تزور أمها وأختها في بني سويف.
وكان لجارتنا ابنة أراها من الشباك الملاصق، كانت بيضاء، جميلة، مبتسمة، نشطة. كلها حياة. وكانت تمازحني، وهي صفات كنت أحبها. فكنا نتكلم من خلال النوافذ المفتوحة على الحارة دون أن نشعر بأن أهالي الحارة يراقبوننا وفي مقدمتهم الفران الذي كان يسكن في الطابق العلوي. يرانا وهو جالس أمام الفرن، ويتطلع إلينا، وكان هناك نافذة خاصة في أعلى الحائط المشترك بين شقتنا وشقتها، فكنت أحضر كرسيا أصعد عليه؛ لأجلس على حافة النافذة. وهي تجلس على الحافة الأخرى نتناجى. ولم أكن أشعر أن الصاعد أو النازل على سلم المنزل يرانا؛ فأصبحنا حديث المنزل والحارة. فأول حب عذري كان حب بنت الجيران، كما هو الحال في الأفلام المصرية. لا تفكير عندي في زواج ولا صداقة إنما هو اكتشاف الحديث ومتعته مع الجنس الآخر.
ومرة تشجعت وخرجنا معا إلى ميدان العتبة، أنا أفندي يرتدي البدلة وهي فتاة بالملاية اللف، ذهبنا إلى محل تصوير، الذي أخذ لنا صورة معا. وعدنا إلى باب الشعرية. فكان هذا أقصى طموح لنا. ونحن عائدان كانت تنظر إلى الأرض وأنا أكلمها دون أن أراها. وسمعت أحد المارة من أولاد البلد يقول مشاكسا: «مش كدا يا واد» فقلت في نفسي: وماذا فعلت؟ وبماذا أجرمت؟
فعلم الوالد بالحبيب الصغير؛ فنهرني وقال: «إنني أخاف على أخوتك البنات منك!» ولم أفهم ماذا يعني بقوله! ولكنه خاصمني، وأنا شعرت بالخجل.
كان أبوها جزارا يقلي الكبدة في مدخل درب الشرفا، الناحية الأخرى من شارع البنهاوي. فكانت الحبيبة تدق الثوم في فناء المنزل وتغلي الكبدة ويأخذها الصبي من البيت إلى المحل .
وجاءها عريس ذات يوم فقبلت به عائلتها، ويوم الفراق عندما غادرت إلى منزل زوجها كانت تغني: «على عيني فايتاك». وكان الجيران يقولون: «كفاية دق بالهون بكرة عريسك يدقك بالهون.» ولم أفهم كل ذلك ؛ لأن الحزن والشقاء كانا يخيمان علي، وما زلت أذكرها حتى الآن بأنها أول حب عذري عشته بعد مرحلة البلوغ. وأتساءل: أين هي الآن؟ هل ما زالت شابة أم أصبحت عجوزا؟ هل هي أم فقط أم أصبحت جدة أيضا؟ وقد بدأ هذا الحب العذري عام 1952م وكان عمري وقتها سبعة عشر عاما. وانقضى حوالي سبعون عاما وأنا ما زلت أذكرها؛ لأنها هي التي عرفتني بجمال المرأة، وبعد أن غادرت إلى منزل زوجها كنت أرى وجهها في كل امرأة حولي من الجيران.
وكان في المنزل المقابل امرأة صغيرة الحجم، ولكنها ضاحكة، عيناها تبرقان، وابتسامتها جذابة. فكنت أنظر إليها من خلال الشباك، وأشعر كأنها تقول: لا تحزن على فراق حبيبتك؛ فالنساء كثيرات، وأنا واحدة منهن. كان الوصول إليها يقتضي عبور العطفة للناحية الأخرى، وهذا ما لا أستطيعه احتراما لزوجها، فكنا نكتفي بالنظرات دون الكلمات؛ لأن الكلام كان يقتضي منا رفع الصوت.
1
وأنا صغير قبل أن أنام كنت أسمع والدي يقول لوالدتي قومي أطفئي الأنوار، فكانت تفهم ما يريد. ولم تكن هناك أنوار أصلا كي تطفئها. وكان يقوم وراءها في الغرفة الصماء بلا نوافذ، ويدخل الغرفة وكان هناك «ماجوران» ومقلوبان على الوجه نضع فراشا على قاعدته. ويبدو أنهما كانا يفعلان شيئا ما، كنت أشعر بذلك. وبعد مدة قصيرة أسمع صوت صنبور المياه يتدفق للاغتسال. حيث كانت شقتنا تتكون من صالة وأمامها الغرفة المصمتة، ثم يليها الغرفة التي تطل على السطح ويسارها الغرفة المطلة على الشارع.
وكانت هناك امرأة أخرى مطلقة تسكن في أعلى المنزل، جميلة ذات أنوثة فياضة، جسمها بض أبيض، تخرج في الصباح، وتعود في المساء؛ فقد كانت تعمل لتعول نفسها وأسرتها. وكان ابن الفران أكثر جرأة مني. ينتظرها في الصباح وهي ذاهبة لعملها تحت بير السلم، أو عند عودتها من العمل. ينتظرها تحت بير السلم كي يقبلها. وأنا أيضا معجب بها ولا أعرف كيف أحيطها علما بإعجابي. فوقفت أراقبها من النافذة وهي ذاهبة لعملها، فصببت عليها كوبا من الماء. فرفعت رأسها إلى أعلى تتعجب من هذا الحبيب الساذج، ثم وقفت على ساق واحدة لكي تمسح الماء من على الساق الأخرى. ولم أجرؤ بعد ذلك على فعل أي شيء تجاهها، سمعتها مرة وهي تقول في حفل زفاف شقيقها، وكانت واقفة على السلم «على سنجة عشرة» قائلة: «اللي يقولي تعالي دلوقتي مش هاقوله لا.» فرحت بهذه الكلمات، ولكني كنت لا أجرؤ أن أقول تعالي دلوقتي. فأين ومتى وماذا أفعل معها؟ كل ذلك حرك في ذهني حاجات المرأة، وخيبة الرجل. ومرة ثالثة كانت هناك امرأة أرملة تسكن فوقنا، وجاءت عندنا لتأخذ شيئا من السطوح، فوقفت جانبها لتصعد على الكرسي ومنه إلى السطح، فكادت أن تقع، فأمسكتها. وكانت هذه أول مرة أشعر بصدر امرأة بالرغم من أنها كانت ترتدي جلبابا أسودا فضفاضا.
وفي الجامعة في السنة الأولى التي كانت تضم أقسام علم النفس والفلسفة والاجتماع معا، وحتى السنة الثانية، ولا تفترق الأقسام إلا في السنتين الأخيرتين؛ الثالثة والرابعة. ففي السنة الأولى رأيت طالبة لها نفس المواصفات التي أحببتها في بنت الجيران؛ الجمال والرشاقة مع بعض السمنة، والوجه الصبوح، والصدر البارز. كنت أجلس في الصف الأول من المدرج الكبير، وكانت هي تجلس في الصفوف البعيدة الخلفية. كانت فلسطينية اللهجة، وكان يأتيها شاب من كلية الحقوق ليصحبها، وكنت لا أدري إن كان حبيبها أو خطيبها أو قريبها أو صديقها أو جارها. لم تحن الظروف كي أبادر وأكلمها مطلقا، وعرفت فيما بعد أنها مسيحية، وكان العقاد في ذلك الوقت قد نشر «عبقرية المسيح»، فاشتريت نسخة، وأهديتها لها واضعا إياها على مكان جلوسها، وبعد وقت قصير رأيت النسخة قد انتقلت إلى مكان جلوسي والإهداء منتزع من الصفحة الأولى. فحزنت، وقلت لنفسي: «حتى العلاقات الثقافية هي لا تريدها!»
وكان لها ابنة عم أجمل منها بابتسامتها الساحرة، وصدرها البارز. وكان أستاذ علم الاجتماع يغازلها «من تحت لتحت». وكانت ترد عليه بدلال وخفة دم. وأتساءل: «فلماذا حبيبتي قاسية القلب هكذا؟» وكنت بعد ذلك في عمان بما يزيد على خمسين عاما. وعلمت صديقتي الأردنية بأن حبيبتي كانت وما زالت حبيبتي أيضا أيام الدراسة. فاتصلت بها وجاءت ونحن في المقهى أو في الفندق لا أذكر. ولم تسلم علي ولا كلمتني، وكان معها ذلك الشاب الذي كان يقابلها ويصحبها أيام الدراسة، وفكرت ربما كان زوجها! وحزنت أكثر لأن نصف قرن لم يغيروا طبعها. وغادرت دون أن تنظر في وجهي. وأنا أتعجب من قدرة «ذكريات» على تحريك العواطف، وهي سعادة كبيرة عندما يلتقي شخصان بعد نصف قرن على مرور أيام الدراسة، ولا أعرف كيف لا يحن أحدهما للآخر! صورتها ما زالت في ذهني، وخيالها ما زال في ذاكرتي، لم يمحها النسيان.
وأثناء البحث عن غرفة على التبادل أي مجانية في مقابل مساعدة ابن صاحب المنزل في أداء واجباته المدرسية. وكانت لا توجد أي غرفة عند سؤال مكتب الخدمات الطلابية «الكوبار»، بل غرفة أخرى تقع في وسط الحي اللاتيني في «سان جيرمان» وكانت ذات أجر زهيد، حوالي مائة فرنك شهريا. فذهبت لمقابلة صاحب الغرفة فقابلتني طالبة فرنسية في غاية الجمال، وأخبرتني أنها المسئولة عن تأجير هذه الغرفة ولا شأن لصاحبها بها والذي كان يسكن في الشقة المجاورة. وكنت أرى باريس من شرفتي من أعلى، والسوربون والبانثيون «مقبرة العظماء» وحديقة لوكسمبورج، وكنت أرى الجمال الفرنسي مجسدا أمامي وبجواري. وكان المبنى الذي أقيم به يقع بجوار مبنى كلية الطب ومدرسة اللغات الشرقية الحية، والتي كنت أستخدم مكتبتها للدراسة. وعندما رأيت الطالبة الفرنسية عقد لساني لجمالها ولم أستطع التفوه بكلمة واحدة وأقرر هل آخذ الغرفة أم لا. ولم أدر حينها السبب في عقدة لساني، هل الجمال الباهر الذي رأيته من شرفة المنزل لباريس أم الجمال الباهر للطالبة الفرنسية بجواري، أم لقلة المال وتوفير مبلغ المائة فرنك شهريا اللازم لإيجار الغرفة؟ ولما لاحظت الطالبة الفرنسية صمتي وحيرتي، مسكت يدي وقالت : «لا تحزن سآتي لرؤيتك مرة كل أسبوع.» فزاد ارتباكي من أين آتى إليها بالعشاء؟ وفي أي مطعم أدعوها بالحي اللاتيني حيث كانت تكثر المطاعم؟ وماذا أرتدي ليلتها وملابسي ليست بالأناقة المطلوبة لمثل هذه المناسبة؟ ومن أين لي بالنبيذ الأحمر لنتناوله عند العودة معا؟ وهموم أخرى غيرها. ولما طال ترددي في أخذ قرار بالنسبة لتأجير الغرفة نزلنا، وسار كل منا في سبيله. أنا الريفي المصري الساذج، وهي الفتاة الفرنسية المتحضرة.
وفي فرنسا استمر الحب العذري في السنوات الأربع الأولى. في الغرفة المقابلة التي تطل على الشارع كانت تسكن فتاة أسمع صوتها في المساء. ولما كنت أعزف على كماني في المساء، فتحت الباب وقالت: «الوقت متأخر يا أستاذ، اخفض صوت الآلة.» فوضعت «السوردين» على الكمان كي أخفض صوت الأوتار.
وبعدها بأيام كنت أسمع صوت ضحكتها مع صديقاتها على الأستاذ المجاور والذي لا هم له إلا الدراسة والعزف على الكمان.
وفي يوم بعد أن وصلت إلى محطة المترو وجدت سيدة تدخل البوابة ضاحكة وهي «تخرم» بطاقة الصعود للمترو. ثم قالت بعد أن تعرفت علي: «أنت جاري؟» قلت: «نعم.» وقلت لها: «وأنت جارتي؟» قالت: «نعم.» ثم دعتني للقائها مساء. كنت خائفا طيلة اليوم. أفكر وأنا في الجامعة بالحي اللاتيني، ماذا أقول لها مساء عند اللقاء، وأين أقابلها؟ في غرفتي التي لا يراها أحد؟ أم في غرفتها التي تطل على الشارع؟ أم في الطرقة التي بيننا فيرانا الطالع والنازل باتجاه السلم أو المصعد الكهربائي؟
وحين عدت إلى غرفتي لم أجد صوتا من غرفتها. فرحت بأن الموضوع قد تم حله، وفهمت على الفور أنها لم تكن موجودة. وفي صباح اليوم التالي قابلتها عند مدخل المترو. فاعتذرت لي عن غيابها بالأمس، وعادت تطلب اللقاء مجددا اليوم مساء.
كانت ضاحكة بشوشة حية، تسعد من يصاحبها، ومع ذلك كنت مهموما بالفلسفة في الصباح، والموسيقى بعد الظهر، والقراءة والعزف في المساء. ولم أعرف في أي وقت أدعوها؛ فصمت، وعرفت هي أني ليس لي «مزاج» لمعرفتها؛ فتحسرت عندما قابلتها في اليوم الذي يليه عند بوابة المترو، حيث كانت تعمل، ولم تنظر لي، ولم تضحك، ولم تكلمني؛ فخجلت من نفسي، ولم أدر هل ما فعلت بالابتعاد عنها كان صحيحا أم الأفضل كان الاقتراب منها ومعرفتها؟ فالمعرفة لا تأتي فقط من الكتب، ولكن من تجارب الحياة.
ومرة وأنا آخذ القطار كل يوم وأجلس في العربة الأخيرة لكي أكون قريبا من الباب استعدادا لتغيير القطار إلى آخر، هذا الفن من الركوب في مكان معين من العربة الأولى أو الوسطى أو الأخيرة كي يكون النزول منها قريبا من الباب الذي يؤدي إلى القطار الآخر. وكانت هناك فتاة فرنسية بيضاء، ولكنها قصيرة، تركب القطار في العربة الأخيرة مثلي، وتنزل قريبا من بوابة التغيير مثلي، وبعد عدة أيام نظرت لي وضحكت، وبادلتها النظرات الخجولة، لا أعرف كيف أبدأ، كانت العبارات على لساني كي أقول: «أنت تأخذين القطار في نفس الموعد مثلي، وتركبين العربة الأخيرة مثلي، وتغيرين القطار إلى آخر من نفس البوابة مثلي.» لكن لساني لم يتحرك، ولم أقل شيئا، وتوالت الأيام بنفس التجربة، كل يوم حتى غابت عني، وغبت عنها.
وفي فرنسا وأنا في منزل «الولايات المتحدة الأمريكية» بالمدينة الجامعية، التقيت بطالبة في حجرة الدراسة بالمنزل. كانت جميلة للغاية، مبتسمة مع بعض الجدية. تنظر في الكتاب أمامها، وربما عقلها شارد. تفكر في هذا الطالب الذي يجلس في الطاولة بجوارها، ولا يفرقهما إلا الممر الضيق والذي يقسم حجرة الدراسة إلى قسمين، وأنا أنظر لها، وهي تنظر لي ولكني لا أقوى على الكلام، وكان يكفيني أن أتأمل جمالها الإنساني. وعندما تقوم وتخرج من الغرفة إلى المطعم ألاحظ رشاقة حركاتها وجسمها الرشيق، وكان من السهل أن أصاحبها إلى المطعم، ولكني لم أفعل؛ لأنني لم أتعود على هذه الطريقة التي في ظاهرها صداقة وفي باطنها ما بعد الصداقة.
وفي يوم من الأيام رأيت طالبا مغربيا طويلا عريضا يأتي إليها في غرفة الدراسة، ويصحبها إلى المطعم الجامعي، كان يأتيها باستمرار وكل يوم يسأل عنها في مكتب الاستقبال؛ فتنزل إليه. حزنت لأنني لم أستطع المبادرة قبل أن يظهر، كنت أكتفي بالنظر إلى الجمال وكأنني «نجيب الريحاني» في فيلم «غزل البنات» وهو ينظر لليلى مراد مستمعا لصوت عبد الوهاب: «وحب الروح مالوش آخر لكن حب الجسد فاني».
ولما انتقلت إلى البيت الألماني شعرت بفتاة نشطة حية ضاحكة، وهي نفس المواصفات التي كانت موجودة في حبي العذري، الأول والثاني والثالث. وبالرغم من سمارها وقصرها، تجرأت وكلمتها بالألمانية؛ فاستجابت، وكلمها ألماني آخر؛ فاستجابت، وخرجت مع ألماني ثالث. كانت تبحث عن زوج وليس عن صديق، وأنا لست مؤهلا لذلك، وكانت تبعث بالغيرة في نفس كل من يصاحبها وعندي أيضا. وظللت أعاني من هذا الحب العذري ثلاث سنوات، ثم عادت إلى ألمانيا. وبعد عدة سنوات لا أذكر سنتين أو ثلاث، عادت إلى باريس في زيارة، وعرفت مكاني حيث كنت أقيم في منزل الطلاب الرياضيين في «بول رويال»، وجاءت إلى غرفتي. كنت قد تغيرت في النظر إلى المرأة، وعرفت عيوب الحب العذري ووجعه؛ الذي استمر معي لأربع سنوات منذ 1956-1960م. كانت تنظر إلي محاولة إغرائي، كنت قد تغيرت ولم يعد للحب العذري عندي قيمة أو مكانته السابقة؛ فاستبدلته ليلتها بالحب ما بعد العذري.
رجعت بعدها لألمانيا، وظلت تراسلني، تظن أنني هذا الحبيب القديم الذي كان في البيت الألماني؛ فأرسلت لها رسالة بأنني لست الرجل الذي تريد، وليست هي المرأة التي أريد؛ فتعجبت في آخر رسالة لها من الحبيب الذي تغير وكانت تظن أنه ثابت على عواطفه الأولى، وهي لا تندم على اللبن المسكوب، وانتهت علاقتنا سواء في مرحلة الحب العذري أو ما بعده.
وظللت فارغا من الحب العذري على مدى ست سنوات منذ 1960-1966م. وعشت كما يعيش الطلاب الذين يودون قضاء وقت طيب في نهاية الأسبوع.
كان بجوار البيت الذي أسكن فيه بيت للطالبات المغتربات وفيه طالبات مصريات، عادت واحدة منهن إلى مصر؛ لتكمل رسالتها في الدكتوراه؛ لأنها لم تتحمل حياة الطالبات في فرنسا والتي كانت لا تستطيع أن تقضي عطلة نهاية الأسبوع بمفردها، وطالبة أخرى أرادت الصمود في باريس لتقضي نهاية الأسبوع في حجرتها، لا يكلمها أحد، ولا تكلم أحدا، لا ترجع إلى مصر، ولا تعيش كما تعيش الطالبات في فرنسا، وبعد عدة سنوات دخلت مستشفى الأمراض العقلية، يبدو أنه للكبت الذي عاشته، والاكتئاب الذي أصابها؛ فلا هي أكملت دراستها، ولا هي تمتعت بحياتها.
كان الحب ما بعد العذري شائعا وسط الطلاب والطالبات كنوع من استكمال الدراسة وتعلم الحياة، ولا حرج في تغيير الصديق لصديقته بعد انقضاء وقتهما معا، سواء قصر أم طال؛ فلقد قضيا وقتهما، واستكملا الدراسة، وتعلما الحياة، وزيادة في الخبرة، وتقوية الشخصية.
ولا حرج أن تترك الصديقة صديقها لنفس الأسباب، ولا يوجد اتهام بالخيانة، ولا تهديد بالقتل كما يحدث في الأفلام المصرية، ولا حرج عند العائلة أن تصطحب الفتاة صديقها إلى منزلها؛ ليقضي معها الليلة، ولا حرج أيضا أن يصطحب الصديق صديقته إلى منزله لتقضي الليلة معه؛ إذ تظن العائلتان أن الصداقة جادة، وتؤدي إلى الزواج، فلا زواج بدون صداقة قبله، وإن كانت الصداقة لا تؤدي للزواج.
ويقضي الصديقان نهاية الأسبوع معا، يسبحان في ربوع البلاد خلال الإجازات الطويلة؛ مثل عيد الميلاد، عيد الفصح، والإجازات الصيفية. والصداقة ليست فقط متعة، بل هي معرفة. ويختار الصديق أو الصديقة ما هو أنفع وأصلح لكليهما.
ازدادت معرفتي للغة الألمانية والقدرة على التحدث بها في البيت الألماني حيث أسكن داخل المدينة الجامعية ومع صديقاتي الألمانيات، وما أسهل التعرف على المرأة في المطعم الجامعي! فقارورة الماء مشتركة وكذلك سلة الخبز، فيختار الطالب مكانه بجوار طالبة، يقدم لها الماء أو الخبز بداية للتعارف.
فمنهن من تستجيب، ومنهن من تصرح مباشرة بأنها لا تحب الصداقة. فيلتزم الطالب بقرارها، غير أنه قد يحاول مرة أو مرات أخرى حتى تقبل الماء أو الخبز الذي يقدم لها وتستجيب للقهوة فيشربانها معا في مقهى المطعم حيث يعزمها عليها دافعا ثمنها الزهيد.
ويمكن التعرف على المرأة أيضا في المقاهي عندما تجلس المرأة بمفردها فيأتيها الرجل ليحييها ويستأذن للجلوس بجوارها، فتقبل ويتحادثان، أو ترفض فينسحب ويغادر إلى مائدة أخرى . فالمقهى في فرنسا جزء من الحياة الاجتماعية، كما كان المقهى في عصر نجيب الريحاني وسيد درويش في شارع عماد الدين. ولم تكن السينما مكانا أوليا للتعارف لاحترام المشاهدين والالتزام بعدم الكلام أثناء العرض. إنما يمكن التعارف أثناء الخروج أو الدخول أو أثناء قطع التذاكر أو حتى أثناء الاستراحة.
فكان يمكن كذلك التعارف في الحدائق العامة، خاصة حديقة لوكسمبورج في وسط الحي اللاتيني وحول النوافير «الفسقيات» التي يضع الأطفال فيها مراكبهم الورقية، فيساعد الشاب الطفل ويلاعبه وقصده ملاعبة الأم والتقرب إليها.
وقدم لي مرة مصري انتهى من دراسته وسيعود إلى الوطن، قدم لي صديقته الفرنسية والتي كانت تدرس الموسيقى؛ ففرحت لأننا سنتعاون معا على دراسة هذا الفن، وأين سيكون التعاون إلا في منزلي أو في منزلها. فجاءت إلى منزلي مرة لكي ندرس النوتة الموسيقية، وتأخر الوقت فقالت: «لقد تأخر الوقت، أحب أن أقضي الليلة هنا.» لم أفهم جيدا ماذا تعني! فاعتذرت وقلت لها «إن المترو ما يزال يعمل»؛ فخرجت محبطة.
وبعد وقت ليس بالطويل فهمت قصدها، وكنت أنا في طريقي للتغير من الحب العذري إلى الحب ما بعد العذري؛ فذهبت إليها لكي نكمل دروس الموسيقى، واعتذرت لها عما بدر مني عندما كانت عندي؛ ففرحت. وتركت الموسيقى، وتهيأت إلى غيرها. وكانت تلك المرة الأولى التي يتم فيها هذا التحول عندي.
وفى شهر أغسطس كانت المدينة الجامعة الرئيسية في «بولفار جاردان» تغلق لعدم وجود طلبة وطالبات في هذا الشهر. وهي قمة الإجازة الصيفية، ويرسل الطلبة الباقون إلى مدينة جامعية أخرى في جنوب باريس في الطريق إلى مطار «أورلى» الأول قبل بناء مطار «شارل ديجول» في شمال باريس. وكانت المدينة تسمى «أنطوني». ويعطى لكل طالب وطالبة غرفة بديلة عن غرفهم في المدينة الجامعة المغلقة، وكان جاري بالمصادفة أفريقيا طويلا ورفيعا. جاءته صديقته الفرنسية الطويلة البدينة في نهاية الأسبوع ولم تجده في الغرفة. وبعد أن نقرت على الباب عدة مرات ولم يفتح لها، نقرت على بابي؛ لتسأل عن صديقها الجار الأفريقي؛ فأخبرتها بأنه ربما ما زال في المطعم وأنه سوف يحضر حالا، وبدلا من أن أدعوها للجلوس في غرفتي انتظارا لصديقها تركتها واقفة على الباب وهي متململة حتى جاء جاري وشكرني على حسن الرعاية لصديقته ، وظللت أفكر هل هذا الشكر سخرية مني لأنني لم أدعها للانتظار عندي، وتركتها واقفة على باب غرفته؟ أم أنه شكر حقيقي؛ لأنني أخبرتها أنه سيأتي حالا، وجعلتها تنتظر حتى لا تتركه وحيدا في نهاية الأسبوع؟ وأنا على مكتبي أكتب الصياغة الأولى للرسالة. وحزنت على نفسي أنني في نهاية الأسبوع أعمل ولا أروح عن نفسي مثل جاري.
وفي المساء عندما أظلم الليل وجدت نافذة في المنزل المقابل للمنزل الذي أقيم فيه تطل منها فتاة برأسها، وكان على مكتبها مصباح. وكانت تعمل مثلي. فأطفأت مصباح غرفتي وأشعلته عدة مرات؛ فقامت هي بنفس الشيء، أطفأت مصباحها وأشعلته عدة مرات. وكان يمكن أن أشاور بيدي أن تأتي إلي في المدينة الجامعية والتي كان يسهل الوصول إليها عن طريق كوبري علوي فوق الطريق السريع. وظللت أقوم بهذه اللعبة إطفاء المصباح وإشعاله عدة مرات حتى ضجت وأنزلت ستار شباكها. كنت قد تعلقت بها دون أن أراها ودون أن تراني، واكتفيت بلعبة الأطفال.
وفي البيت الألماني تعرفت على صديقة أمريكية في المدينة الجامعية، وبما لدي من خبرة سابقة دعوتها إلى غرفتي لكي نتناول معا القهوة؛ فاستجابت، وبمجرد دخولها الغرفة وضعت يدي عليها، وتم المراد دون أن ألمسها ثانية؛ فاستغربت، وخرجت محبطة، شقية. وانتابني أنا أيضا الإحباط والخجل، كل ذلك كان بمثابة خبرة اكتسبتها؛ فلقد خرجت من بيئة مصرية لا تؤهل للتعليم، وعشت أربع سنوات في فرنسا، والبيئة المصرية ما زالت تحاصرني.
ويوم الجمعة مساء من كل أسبوع يكون هناك حفل راقص غنائي موسيقي نقيمه في بدروم المنزل الألماني، وبعد أن نرسم حوائطه الزجاجية بكل الألوان والصور من إبداع الطلبة والطالبات، وكانوا يشربون البيرة، ويكتبون ما يشربون في بطاقة يتم دفع الثمن آخر الشهر.
فهاجت في نفسي موهبة الرسم، وكنت أقوم بالرسم على الحوائط الزجاجية رسومات خيالية لنساء ضاحكات، فاتحات الأذرع، منكوشات الشعر، متهيآت للقاء. وكان الطلبة والطالبات معجبين بهذا الرسم الخيالي، يحفزهم على الانبساط والفرح، وكذلك مدير المنزل الألماني الدكتور الجامعي كان سعيدا بهذه الموهبة، وأثناء الرقص والشرب والغناء والصياح، كنت أجلس بجانب المائدة الصغيرة، وأنا أنظر إليهم. فشدتني طالبة وقالت لي: «لماذا أنت جالس هكذا؟ قم، تعال ارقص معي!» قلت: «لا أعرف كيفية الرقص.» قالت: «سأعلمك.» فقمت بين ذراعيها تتجه يمينا وأنا يسارا. فإذا اتجهت يسارا، اتجهت أنا يمينا؛ فتعجبت من هذا الريفي المثقف! لأن صورتي في المنزل كانت العاشق للندوات الثقافية والتي كنت أحرص على حضورها وتنظيمها؛ لأنني كنت الفيلسوف الوحيد في هذا المنزل. وكانت تناديني «يا ابني» حتى تشجعني كما تشجع الأم ابنها وتبتسم، وكانت هي التي تتبع خطواتي، وفي آخر الحفل تنتظر حتى تأتي مرحلة ما بعد الرقص، وإطفاء الأنوار، ولكنني وقفت ساهما لا أتحرك نفسيا؛ لأنني لم أقاوم من أخذ حبيبتي مني!
ويوم السبت مساء يجلس طالب أو طالبة في مدخل المنزل على مكتب الاستقبال، يغلق باب المنزل بعد العاشرة مساء. فإذا أتى طالب أو طالبة متأخرا يدفع غرامة تبلغ قيمتها فرنكا واحدا نظير أن يفتح له الباب، وكان دخل من يفتح الباب حوالي خمسة فرنكات في الليلة.
وكان الطلبة والطالبات يحبون الجلوس على مكتب الاستقبال خاصة نهاية الأسبوع؛ لأن المتأخرين كثيرون، أما وسط الأسبوع فلا يأتي أحد متأخرا؛ نظرا لحضور المحاضرات في الصباح المبكر والعمل بجدية. وينال جائزته فقط في نهاية الأسبوع.
وكنت من الذين يجلسون في نهاية الأسبوع على مكتب الاستقبال؛ كي يزيد دخلي واعتدت شرب «البيرة» في هذه الحفلات الراقصة دون أن أدون ما أشرب في البطاقة لضعف دخلي الشهري.
وكنت أعزف الكمان في الدور الأرضي، وفي الغرفة المجاورة كانت طالبة ألمانية تعزف «الهارب» وهي آلة مصرية قديمة، فتوقفنا عن العزف في نفس اللحظة، وخرجنا من الباب في نفس اللحظة في الطرقة، وتقابلنا وقالت لي: «لقد مللت من العزف، أريد أن أفعل شيئا آخر.» فأخذت أشرح لها أن الإنسان لا يمل من الموسيقى، وأنها إن استراحت دقائق تنشط إلى العزف من جديد. قالت: «ولكني أريد العودة إلى غرفتي، تعال معي؛ لنتحدث عن الموسيقى.» قلت لها معتذرا: «لكني سأستمر في العزف.» غادرت وهي غاضبة، ثم أدركت في نفس الوقت أن إجابتي برغبتي في استمرار العزف لم تكن موفقة، وحاولت أن أقابلها من جديد لكي أعتذر لها ولكن اللحظة المناسبة لم تأت، ويبدو أن العلاقة إن فات موعدها لا تعود من جديد؛ فالموسيقى لحظة فن قصيرة، أما القراءة فزمانها طويل. وكانت العادة في البيوت الجامعية أن تقام انتخابات للأسر الطلابية لتنظيم النشاط الثقافي والفني في المنزل، وفي إحدى السنوات انتخبني الطلاب رئيسا لإحدى هذه الأسر الثقافية الفنية. وكان من بين الطلاب طالب ألماني يدرس التمثيل الصامت مع أشهر ممثل صامت في فرنسا في ذلك الوقت «جولدي بارو». طلبت منه أن يشارك معنا بأمسية ثقافية يقوم فيها باستعراض لقطات وعرض لفن التمثيل الصامت، فقام بعرض «السجين». وكانت تحكي قصة سجين معتقل يحاول التحدث مع حوائط السجن والتعرف على ثغراتها لعله يجد مخرجا، وكان يمثل أنه يسير على قدمين متعبتين، يتلمس الجدران المصمتة لعله يجد فرجة يخرج منها فارا إلى الحرية.
وذات يوم زار رئيس جمهورية ألمانيا فرنسا وقابل ديجول في مهمة رسمية، فدعاه الدكتور الألماني مدير المنزل لزيارة البيت الألماني ومقابلة الطلاب، ولما كنت رئيس الاتحاد كان من واجبي أن ألقي خطابا بالألمانية ترحيبا بالرئيس، فاستعجب كيف يكون طالبا غير ألماني يلقي خطاب ترحيب لرئيس ألماني نيابة عن الطلاب الألمان في بيت ألمانيا الجامعي، وتعجب من قدرتي وإجادتي للغة الألمانية، فشرح لي رئيس البيت أنها قواعد الديمقراطية، يتعلمها الطلاب، وهي المساواة بين الطلاب الأجانب والألمان، لا فرق بينهم في بيت الطلبة الألماني. وتساءلت متى يزور الرئيس المصري فرنسا؟ ويزور بيت الطلبة المصريين الذي عرف باسم منزل الطلبة الأرمن، ويحاول استعادته لمصر؟
وتعرفت على فتاة ألمانية، لم تكن طالبة ولكنها كانت تعمل بإحدى المستشفيات كممرضة، ودعاها صديقها الألماني إلى الحفل الراقص. ويبدو أنه لم يكن مهتما بها كثيرا. فجلست بجواري، وتحدثنا بالألمانية والتي كنت أجيدها تماما في ذلك الوقت، واتفقنا على أن نتقابل بعد نهاية الحفل، في اليوم التالي وكانت هذه الفترة هي التي انتقلت فيها من المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر بعد انتهاء مدة الأربع سنوات القانونية، انتقلت إلى مسكن الطلبة الرياضيين في «بور رويال». وكان شرط بقائي الوحيد هناك أن أمارس السباحة، وكان حمام السباحة في الدور الرابع تحت الأرض.
وفي اليوم التالي كنت قد انتقلت بالفعل، فجاءت لزيارتي في المنزل الجديد، وأعجبت بلغتي الألمانية الواضحة السليمة. دعوتها إلى الغداء أكثر من مرة في مطعم الجامعة حتى اطمأنت لي تماما؛ فساعدتني في الانتقال من مرحلة الحب العذري إلى ما بعدها على مدى عدة سنوات؛ خمس سنوات أو أكثر.
ودعتني إلى زيارتها في منزلها في ألمانيا والتعرف على أسرتها والتي كانت مكونة من الأم والأخ. وكان أخوها صاحب مزرعة، كما كان يربي الخنازير التي تأكل «الردة» وهي قشور القمح المعجونة باللبن، وكان لون جلدها بين البياض والحمرة. فتعجبني وأتساءل: «ولم تحريمها؟» وسمعت «خنخنة» صوت الخنازير. وسألت في الصباح: «ما هذه الأصوات التي سمعتها ليلا وما سببها؟» فقيل: «إنهم اللصوص، يحاولون السرقة.» فقلت: «وأين الأخ للدفاع عن المزرعة؟» قيل: «إنهم قتلة، ولا يضيرهم قتل من يوقفهم، فمن الأفضل أن نتركهم يأخذوا خنزيرا أو اثنين على أن يقتلوا صاحب المزرعة.»
ثم جاءت يوما لتزورني في مصر بحجة الذهاب لزيارة الأقصر وأسوان. ودعوتها إلى الغداء في المنزل الذي أقطن فيه مع والدي ووالدتي وشقيقتي الصغرى والتي لم تكن تزوجت بعد. فلما وجدت الأسرة أنها «بنت حلال» سألتها والدتي: «لماذا لا تتزوجين ابني؟» فقالت: «اسألوه هو لماذا لا يتزوجني؟» فلم أجب؛ فلقد كان عندي مبدأ هو التعرف على أكبر قدر من الصديقات الأجنبيات ولكن الزواج من مصرية، فلو تزوج جميع الطلبة المبعوثين إلى الخارج من أجنبيات فلمن نترك بنات البلد المصريات؟ وقد يكون هناك استثناءات؛ فطه حسين تزوج من أجنبية تساعده على القراءة والكتابة.
وزارت صديقتي الألمانية الأقصر وأسوان، وصاحبتها إلى الإسكندرية. ورجعت إلى فرنسا وهي مبهورة بمصر وشعبها ورجالها، وظلت تراسلني كلما وجدت اسمي موجودا في الصحف الفرنسية لنشاطي الثقافي والسياسي في مصر، وكنت أرد على رسائلها باهتمام. وبعد عدة سنوات قد تزيد على العشر وأثناء زيارة لي لفرنسا، رأيتها وقد بدت عليها آثار الزمن، وظلت بلا صديق، بلا زواج، إخلاصا لصديقها المصري وإن لم يتزوجها؛ فدمعت عيناي.
ولما كانت غرفتي في بيت الطلبة الرياضيين مزدوجة؛ وضعت ستارة لتفصل بيني وبين زميلي المصري الذي يتقاسم معي الغرفة، وكان يذهب في نهاية كل أسبوع يزور صديقته الروسية، ويقضي العطلة معها. وفي يوم كان الوقت ليلا سمعت طرقا على الباب، فلما فتحت وجدت صديقته الفرنسية جاءت لتبحث عنه؛ فأخبرتها بغيابه. فطلبت أن تمضي الليلة معي في الغرفة مكانه حتى الصباح، وأزاحت الستارة التي تقسم الغرفة حتى أصبحنا في غرفة واحدة كبيرة. خلعت حذاءها، ثم استلقت على السرير، وأنا جالس على مكتبي أقرأ وأكتب. وبعد مدة سألتني: «متى تنتهي من المذاكرة؟» فأجبتها: «عندما أتعب.» فجاءت ناحيتي، وضمتني إلى صدرها. وقالت: «ألم تتعب بعد؟» فقلت: «أنت صديقة صديقي.» فأجابت: «كلاكما عندي سيان، من يدخل البهجة إلى حياتي يكون هو الصديق، الحاضر هو الصديق، والغائب لا صداقة ولا مكان له عندي.» فعشت لحظتها صراعا بين الوفاء لصديقي وبين الاستجابة لها، خاصة وأن صديقي كان عند صديقته الأخرى. فمكثت عندي حتى الصباح، وغادرت اليوم التالي وهي مبتهجة وسعيدة.
في يوم ما رأيت طالبة تقف عند باب منزل الطلبة الرياضيين، كانت سمراء البشرة، قصيرة الطول، وقليلة الحجم، ولكنها كانت ضاحكة، تتحرك يمينا ويسارا كانت تبحث عن شيء لا أراه. فسألتها: «عن أي شيء تبحثين؟» فقالت: «أبحث عن صديقي المغربي.» فقلت: «هل هناك موعد معه؟» قالت: «لا، ولكنه يسكن هنا.» فسألتها: «هل تعرفين اسمه؟» قالت: «لا.» فدعوتها إلى الصعود إلى غرفتي فهناك طلاب مغاربة كثر يقيمون في نفس الطابق؛ فصعدت، ودخلت معي الغرفة، وكان الطابق خاليا هادئا. وأعجبتني حيويتها وقلة حجمها، فسألتها : «من أين أنت؟» قالت: «من فنزويلا.» قلت: «نعم بلد النفط.»
طلبت أن تنتظر عندي حتى يأتي صديقها. ولكنه لم يأت، وطال الانتظار، واستلقت على السرير، وفي آخر عبارة سألتني: «هل أهون عليك أن أغادر الآن؟» فقلت: «لا بالطبع، أهلا وسهلا بك.» ثم غادرت في الصباح وهي مبتهجة وسعيدة «مبسوطة». وبقيت أنا أفكر في أمريكا اللاتينية، وقد كنت من أنصار العالم الثالث. ثم عدت إلى مصر، وعشت في البيئة التي تمنع حرية الفرد وصدقه مع نفسه ومجتمعه، وما زالت في ذهني ذكريات باريس. وتعرفت على طالبة ألمانية، كانت كبيرة الحجم، ريفية الطبع، تدرس الأدب الفرنسي. أتت إلى باريس في منحة لمدة سنة واحدة، كانت تعيش في منزل الطلبة الألماني والذي كنت قد غادرته، وكانت قادمة من مدينة تقع على الحدود الفرنسية الألمانية، تعيش بمفردها هي وأمها، وكانت تعود إلى ألمانيا مرة كل شهر أثناء دراستها بفرنسا؛ لتطمئن على أمها. وذات يوم دعتني لزيارة ألمانيا، لأتعرف على أمها، وجدتهما كما توقعت؛ فلاحتين ريفيتين طيبتين، يصعب على أي إنسان أن يتلاعب بهما أو يستغل علاقته بهما. وبسرعة اعتقدت أنني سوف أطور معها الحب إلى ما بعد العذري ثم إلى زواج دائم، ظنت أنني أفضل أن أعيش بألمانيا معها؛ فكتبت إليها أنني لا أستطيع أن أفارق مصر للأبد، وإذا كانت تريد الارتباط بي فعليها أن تأتي هي إلى مصر، وتعريفها بوالدي وإذا أعجبتهم فساعتها يمكن أن أرتبط بها. فردت على الرسالة غاضبة، وقالت: «أيها الساذج كيف تقول هذا؟» ولم أقل لها إنني قلت ذلك حتى أقضي على أي أمل لديها في الارتباط؛ بمعنى «أطفشها».
وتعرفت على صديقة شقيقتي الصغرى، وكانت تسعى للحصول على تأشيرة خروج، كانت تود العمل في الخارج، وأتعبها موظفو الأمن في المجمع، كل منهم له أسبابه الوظيفية والشخصية، وكان البعض يريد أن يصادقها، يدعوها للخروج معه، ثم يدعوها لمنزله. فكانت ترفض، وبالتالي كانوا يأجلون الموافقة على إصدار التأشيرة. وحاولت مرة أن أزورها في بيتها، قابلني البواب سائلا: «إلى أين يا أستاذ ؟» فأحرجت في الإجابة، ثم وجدتني أتأسف له بأنني أخطأت في عنوان المنزل ورقمه.
وكانت الجامعة في مصر هي المكان الطبيعي الذي يمكن أن أعثر فيه على شريكة للحياة وزوجة للمستقبل ، فقد كنت قد بلغت أوائل الثلاثينيات وهو عمر طويل للباحثين عن الزواج. وقد كانت الأقرب لي معيدة في أي قسم من أقسام الكلية، تعرف واجبات العلم وانشغال العلماء. وكان قسم الصحافة ما زال قسما بكلية الآداب قبل أن تشيد كلية الإعلام فينتقل إليها. وكانت أول دفعة تخرجت منه ثلاث فتيات مؤهلات للدكتوراه ليكن نواة لأساتذة بالقسم دون الاستعانة بأساتذة من أقسام التاريخ واللغة العربية أو كليات الحقوق والعلوم السياسية. تخرجت ثلاث معيدات وشددن انتباهي؛ إحداهن بجمالها، وبالرغم من صغر وقلة حجمها، كانت تسبح ذات يوم في حمام سباحة نادي التوفيقية كالسمكة الفضية عندما تعكس الشمس أشعتها عليها، ولما رأت الإعجاب في عيني أخبرتني أنها متزوجة من ضابط وتفكر في الانفصال عنه، كان ما زال لي ترسبات وتراكمات شرقية، منها أن زوجة المستقبل لا بد أن تكون عذراء، فلم أستطع التقدم لهذه المعيدة التي تنوي طلب الطلاق من زوجها.
كان أحد المعيدين يحبها، وفي ليلة ليلاء سهرنا ثلاثتنا في منطقة الأزهر والحسين. اشترينا لها عروسة المولد النبوي، فضمتها على صدرها، وذهبنا بعدها إلى منزل المعيد، فرقصت لنا حتى الصباح. لم تستمر العلاقة بينهما طويلا؛ لأن المعيد هاجر إلى الخارج. وما زال مهاجرا لم يعد ولم يسمع أحد عنه خبرا، وربما غادر هذه الدنيا. وتركت أثرا رومانسيا في قلبي ما زال حتى الآن عندما تراني أو أراها، أو تتصل بي هاتفيا، أو أتصل أنا بها في إحدى المناسبات. تزوجت مرتين بعد ذلك، وهي الآن جدة لها أحفاد.
وكانت هناك معيدة أخرى جميلة ولكنها منطوية على نفسها عكس المعيدة السابقة؛ فخشيت منها؛ فأنا لا أريد فقط ربة منزل، ولكني أريد رفيقة عمر وشريكة درب، وأنا منفتح على العالم، فلا بد أن تكون هي الأخرى منفتحة على العالم.
كانت رقيقة، منخفضة الصوت، وأنا أريد زوجة قادرة على الدخول في المناقشات والحوار الذي يحتاج إلى بعض الصلابة والقدرة على المحاورة والمواجهة. ومع ذلك ظلت تثير في العواطف الرومانسية الأولى.
وكانت هناك المعيدة الثالثة، ذات شعر أسود، وذات قامة تميل إلى الطول، وكانت ذات بشرة سمراء. لم تبتسم مطلقا، لم أرها تداعب أحدا، أو تمازح الآخر من الزملاء؛ فانقبض قلبي منها، وأنا الضحاك المهزار، المازح، المداعب، صاحب النكات. كانت تنظر إلى الأرض. وأنا الناظر إلى السماء.
تعرفت على عميد دار العلوم الذي يقع بحي المنيرة، وتقول الرواية إن له ابنتان؛ الأولى شقية، مرحة، حية، جذابة؛ والثانية أكثر هدوءا واستقرارا ورزانة. وكأنني بين عائشة وخديجة في رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ. لم أرهما، ولكن هكذا كانت تقول رواية أحد الأصدقاء بدار العلوم. وكيف أحب الغائب؟ وكيف يحب القلب ما لا يراه؟ تساءلت وفكرت مهما كانت مسافة القرب والبعد، ومهما قيل كما في الأغنية الشعبية: «القريب منك بعيد، والبعيد عنك قريب» لنجاة، تظل حرارة اللقاء غائبة.
وفي مرة أخرى كنت أصحب أستاذا في التصوف الإسلامي كما كان يفعل أحد الأساتذة من قبل، من بيته إلى الكلية، وكنت أقدر له أنه لم يعطني درجة سيئة في البحث المفروض على قسم الامتياز بالسنة الرابعة، والذي كان موضوعه «المعرفة والسعادة عند الغزالي» وكنت في ذلك الوقت ضد الغزالي؛ فالمعرفة عندي عقلية وليست تذوقية، والسعادة عندي في التمرد وليست في الرضا. ورفضت المقامات والأحوال عند الغزالي. فجاء الأستاذ بمقص وجعلني أقص هذه الخاتمة وأبقي على العرض فقط؛ فخرجت غاضبا، وأغلقت خلفي الباب بعنف.
وكانت له ابنة تقف بين غرفة الاستقبال وغرفة المعيشة، رأيتها عدة مرات، لم تكن جميلة ولا بيضاء، بل كانت قصيرة سمراء، فلم تدخل قلبي، ولا أثرت في وجداني، وفي أحد الأيام قابلتها في المجلس الأعلى للثقافة، ويبدو أنها كانت تعمل هناك، فسلمت علي وقالت: «ألا تذكرني؟» قلت: «لا.» قالت: «أنا ابنة الأستاذ الجامعي.» فرحبت بها، يبدو أن الذكريات لا تكون إلا نابعة من القلب.
وعندما كنت أذهب إلى العطوف لأنادي على صديقي وأصحبه إلى معهد شفيق الموسيقي لتعلم العزف على الكمان، كنت أنادي عليه باسمه من أسفل المبنى؛ فكانت شقيقته ترد علي من فوق.
وبعد عودتي من فرنسا اكتشفت أنها لم تتزوج بعد، وحينما كنت أزور صديقي أصعد إلى شقته، كانت تأتي للسلام علي، كانت قصيرة وممتلئة القوام، ولكن كانت بيضاء البشرة. لم يكن في ذهني الارتباط في هذا الوقت، ولكنني كنت مشغولا بالاستقرار في مصر وتعييني بالجامعة، وتوفير مبلغ من المال أستطيع به أن أكون لوازم الزواج.
ومرة أخرى ذهبت لزيارة صديقي الإخواني والمخلص للجماعة أيما إخلاص، كنت قد سمعت أنه قد تم إلقاء القبض عليه ثم الإفراج عنه. فذهبت لزيارته في منزله بالقرب من قصر عابدين، وكان دكانه أسفل المنزل، كنت أنادي على صديقي من تحت، كانت تنزل شقيقته، كانت جميلة بيضاء، وكأن جسمها قطع من البلور. كانت تصر أن أصعد، وتجذبني لأعلى مرحبة بي، كنت أقاوم وأضع يدي على سور السلم وأمسك به، فكانت تحزن لأنني لم أكن أود الصعود، كانت تريد أن تجلس معي وتعرفني على عائلتها، بالإضافة إلى الأب الذي كنت أراه يقوم بعمله في الدكان، كنت أود أن أستجيب ولكن ظل المعوق كما هو، لا مال ولا عمل ولا سكن لكي أفكر في الارتباط. كنت مهموما بالبحث عن عمل وانتظار قرار التعيين بالجامعة، وكنت مهموما بمحنة الوطن بعد هزيمة 1967م. أحمل هم الفكر والوطن من ناحية والحب والجمال من ناحية أخرى. وهي هموم أتمنى أن أشاركها مع زوجة المستقبل؛ نحمل العناء المشترك معا، فلم السرعة في الاختيار؟
ومرة كنت في محاضرة عامة بها حضور كثر من المشايخ وعلماء الأزهر، وأنا خارج من باب القاعة رأيت شيخا كنت أعرفه من قبل يمثل الجانب اليساري من الفكر الإسلامي للعلماء. ففرحت لرؤيته وكانت معه ابنته، وكانت متوسطة الجمال على وجهها مساحيق لتزيد من جمالها. وهو لا يعبأ بنظرة زملائه المشايخ إليه، فقد كان من المتحررين من نقد المحافظين له، كان ينتظر أن تأتي مني مبادرة تخص ابنته وأنا من التقدميين مثله، كان عقلي وقلبي ما زال في المحاضرة التي ألقيتها للتو. لم أكن أستطيع التفكير في موضوع آخر.
وكانت هناك معيدة بقسم اللغة الفرنسية على قسط متوسط من الجمال، وقامة ممشوقة، متوسطة بين النحافة والبدانة، قدمها لي أحد أصدقائي بقسم اللغة العربية شفهية، وكان والدها من الطبقة العليا، لم تتح لي الظروف لمقابلتها على نحو طبيعي حتى أستطيع التعرف عليها، ولكننا تقابلنا في فناء الكلية، نظرت إليها وهي تبتعد، وبادلتني النظرات بعد أن ابتعدت، والتقت النظرتان، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وكانت هناك زميلة دراسة بقسم اللغة الفرنسية أقرب إلى السمار، ذات شعر أسود فاحم، أقرب إلى القصر منها إلى الطول، ومن النحافة منها إلى البدانة، عرفتها في باريس أثناء الدراسة، وعادت إلى القاهرة قبلي. أتاني مرة زميل مصري يسأل عنها؛ فأخذته إليها في منزل الطالبات المجاور لمنزلي ولا أعرف لماذا كان يسأل عنها، وهل تزوجها أم لا! ولكنها انتقلت إلى رحمة الله بعد أن أصبحت أستاذة بالقسم الذي تنتمي إليه.
وفي يوم وأنا جالس يرافقني أعز أصدقائي في قسم اللغة العربية جاءت فتاة نحيلة بيضاء تسأل عن شيء ثم غادرت، ولكن صورتها انطبعت في ذهني؛ فأخبرني صديقي بعد أن سألته عنها، قال: «إنها فتاة تدرس بالدراسات العليا، وتعد رسالة الماجستير.» ورأيتها مرة أخرى تدخل المدرج الكبير بالكلية لحضور مناقشة رسالة لأحد الأصدقاء، فتأكد انطباعي الأول، كانت رسالتها عن «يعقوب صنوع»، وكان في بعض مسرحياته بعض العبارات الفرنسية، فسألت مشرف رسالتها عن أحد يساعدها في ترجمة هذه العبارات، فأخبرها أن هناك شابا عائدا من فرنسا مؤخرا يستطيع أن يساعدها، فاتصلت بي. وتواعدنا في مكتبة الكلية، وتلاقينا عدة مرات، وأنا أترجم لها العبارات الفرنسية. كانت تجلس بجواري وأرى وجهها من الجانب الأيسر، وكان يجذبني ظل العيون الأزرق فوق جفنيها.
وفكرت كيف أبدأ هذا المشوار الطويل؟ فطلبت من أحد الأصدقاء في قسم اللغة العربية، والذي كنا حضرنا مناقشة رسالته للدكتوراه من قبل، أن يصحبني لبيتها كي يعرفني على أهلها ؛ ولأنني خجول لن أذهب بمفردي. وجاءت معه زوجته، ولم أكن أعرف أي هدية أحضرها لها في أول زيارة. ولما كانت نحيفة ظننت أنها تحتاج إلى غذاء، فذهبت إلى شارع التوفيقية. واشتريت من الفرارجي بطة، وتساءلت بيني وبين نفسي: ما قيمة «بطة» فهي يشتريها كل الناس؟ بطتي لا بد أن تكون مميزة، فطلبت من البائع أن أشترى لها شريطا أحمر، نربطه حول رقبتها على شكل «فيونكة». فأرسل البائع صبيه إلى المكتبة المجاورة ليشتري شريطا أحمر كما طلبت. ولما طلبت من الصبي أن يلف الشريط حول رقبة البطة على شكل «فيونكة» رفض الصبي، فلطمه البائع على وجهه وقال له: «وأنت مالك، الزبون عاوز كده.» وطلبت من البائع أن يضع البطة في حقيبة صغيرة من الورق المقوى. وكانت تطل البطة برأسها خارجها.
وركبنا أنا وصديقي وزوجته من ميدان التحرير، ووصلنا إلى ميدان الحجاز حيث تسكن الحبيبة، ولما دخلنا ووضعنا الحقيبة الورقية على الأرض نطت البطة خارجها وهي «تكاكي». فزعت أم حبيبتي؛ فشرحت لها أنها هديتي. وتعرفت على أخت حبيبتي وأولادها الثلاثة، وكانت الحبيبة قد مهدت لأسرتها من قبل عن سبب الزيارة، ثم دعتني والدتها بعد ذلك إلى الغداء، وكانت البطة التي أحضرتها، وذهبت وأنا خجول لأنني كنت أتناول الطعام في منزل لم أتعود عليه، ومع عائلة تعرفت عليها لأول مرة.
وقبل إتمام الخطبة، دخلت صديقتي المستشفى لإجراء عملية جراحية وكنت خجولا كالعادة، اصطحبت معي أخي والذي كان أستاذا لها في قسم اللغة العربية وزوجته المذيعة التليفزيونية لزيارتها في المستشفى وتهنئتها بنجاح العملية وتمنيت لها الشفاء العاجل؛ فعرفت هذه المرة أن من ينوي طلب يدها إنه شخص جاد، وكانت تبتسم، وعرفت جديتي في الارتباط بها، وبعد تلك الزيارة بدأت إجراءات الإعداد للخطوبة.
وكانت على موعد لرحلة إلى مرسى مطروح مع الكلية أو بيوت الشباب لا أذكر! أرسلت إليها رسالة أعبر فيها عن أشواقي وتمنياتي بالعودة السريعة، وما زالت تحتفظ بهذه الرسالة حتى اليوم، وأحضرت معها من هذه الرحلة هدية صغيرة لي؛ كأسا من البلاستيك الملون الأخضر المحاط بزخارف صفراء توضع فيه الورود، وما زالت لدينا حتى الآن محتفظين بها للذكرى، ودون أن نتنبأ أنه سيخلد في هذه الذكريات.
وبينما أنا أتعرف على زوجتي الحبيبة وعرفت بعد صحبة قصيرة أترجم لها بعض العبارات الفرنسية الواردة في مسرح يعقوب صنوع؛ موضوع رسالتها للماجستير، دعوتها إلى حضور حفل أوبرا عايدة الذي كانت تقيمه الفرقة المصرية للموسيقى والأوبرا تحت سفح الهرم الأكبر، وكان الجو صيفيا مريحا، وبعد الانتهاء من غناء راداماس وعايدة عند القبر بعد الحكم على قائد الجيش المصري لوقوعه في حب عايدة ابنة إمبراطور الحبشة المهزوم بعد الحكم عليه بالإعدام، قابلنا عند خروجنا الدكتور الأهواني، أستاذ الأدب العربي بقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، وهو أيضا خارج من نفس المسرح المكشوف، حياني وسألني: «هل هذه خطيبتك؟» وكان يعلم أنني رجعت من فرنسا حديثا ولم أتزوج بعد. فاحترت ماذا أقول! خطيبتي! ونحن لسنا مخطوبين بعد، زوجتي! ونحن لم نتزوج بعد، صديقتي! والصداقة بين الفتاة والرجل غير مستحبة في المجتمع المصري دون غطاء شرعي. فقلت: «صديقتي» خوفا من أن أقول خطيبتي قبل الأوان فتحزن من هذا التسرع في الإعلان عن علاقة ما زلنا لم نصل إليها، ويبدو أن الدكتور عبد العزيز الأهواني شعر بنفس الحرج، هل يبارك لنا قبل الأوان؟ فلم يرد وحيانا، وغادرنا. ونحن في طريق العودة ويبدو أننا من جمال الأوبرا واستمتاعنا بها، تأثرنا، فمسكت بيدها ووضعت هي رأسها على كتفي ورآنا سائق التاكسي في المرآة العاكسة فأدار لنا بوجهه وقال: «أنا لا أحب هذه الأشياء في سيارتي.» فأصبنا بالخجل، وفي نفس الوقت شعرنا بالحزن؛ لأننا لم نكن نفعل شيئا مريبا، وأن الحب البريء في هذا المجتمع ما زال حراما بلغة الثقافة الشعبية. ولو أن الحبيب كان عربيا ذا عقال والحبيبة كانت مأجورة من الشارع لما قال ما قاله وانتظر المقابل «البقشيش»، بل واقترح عليهما فندقا في شارع الهرم وهو يعمل دليلا لهما.
وبدأت أنا وحبيبتي نستعد للخطوبة ونحن لا نملك المال لشراء دبلتين من الذهب وأسورة من الذهب أيضا أو الألماس كشبكة لها؛ فأرشدنا أحد الأصدقاء بأن هناك نوعا من الدبل من الذهب الأصفر «الفالصو» يبلغ ثمنها ثلاثة جنيهات؛ ففرحنا، وقمنا بشرائها، وذهبنا نحتفل بشراء الدبل في مقهى أعلى بناية أمام سينما ريفولي. جلسنا نتناجى ونحن نلبس الدبل. وكنا نخشى من النادل أن يغضب من تصرفاتنا؛ فالحب عندنا مكروه في العلن، محبوب في السر.
وحددنا موعد الخطوبة، ودعونا أساتذة قسم اللغة العربية، وأهلي بطبيعة الحال، وكانت ليلة ما زلت أذكرها لبساطتها وصدقها، وسعادة الجميع بالخطيبين، كان ذلك في أكتوبر سنة 1969م. وأثناء تعرفي على زوجتي الحبيبة ومقابلتها في نادي التوفيقية لمدة أسبوع للغداء هناك، كانت والدتي تعد الطعام لي ولوالدي في المنزل، فلما تعددت مرات خروجي وقت الظهر ولا أحد يأكل ما تطبخ قالت لي مرة وأنا خارج: «ولاد الناس يا أبو علي!» ظانة أنني ألعب بالبنات؛ فقلت لها: «لا يا نينة، هذه المرة جادة.» وبعد الخطبة كنت أذهب إلى الجامعة الأمريكية لإحضار خطيبتي معي للغداء في منزلنا مع الوالد والوالدة، ولما تكررت الزيارات لمدة ستة أشهر ونحن نعد بيت الزوجية فاجأني والدي مرة وأنا خارج مع خطيبتي لتوصيلها قال والدي المحافظ: «البنات على الذواق.» وكما عند الصوفية «من تذوق عرف.»
وكنت أذهب لزيارتها يوميا بعدما أنتهي من الكتابة عند التاسعة مساء، فأصل إليها التاسعة والنصف، فكانت والدتي تحتج أيضا ضاحكة: «يا أبو علي حد يزور خطيبته بعد التاسعة والنصف مساء؟» فأقول لها: «يا نينة، أنا عندي شغل لحد تسعة مساء ولا أستطيع التفريط في ذلك.» وهو ما كنت أقوله لخطيبتي عند بداية التعرف عليها بأنها ستكون زوجتي الثانية، والعلم زوجتي الأولى. ومن على ناصية الطريق الذي تمر به الحافلة من العباسية إلى ميدان الحجاز حيث تسكن خطيبتي، كنت أشتري قطعا من الجبن الرومي وأقفز إلى الحافلة، وكانت شبه فارغة، وكان شارع الحجاز شبه فارغ أيضا حيث تسكن خطيبتي في آخره بالقرب من ميدان الحجاز، فكنت أخجل وأنا أطرق الباب وأوقظ النائمين، والدتها وأختها وأولادها، فتفتح لي وتدخلني وهي بنصف ابتسامة، ولا أدري مبتسمة لأنني أتيت، ونصف مبتسمة لأنني تأخرت؟ فماذا سيقول الناس عنها إذا هم رأوني أجلس معها وهي تتناول طعام العشاء وتستخرج لباب الخبز الرقيق أصلا من الرغيف الشامي وأنا أتأمل هذا الوجه الجميل. وأسرع بالخروج لألحق بآخر مترو من ميدان الحجاز إلى العباسية حيث كنت أقطن قريبا منه، وكنت أجد أهلي نياما وأنا أستلقي وأنام بمجرد الدخول للمنزل ولكي أستيقظ مبكرا إما للكتابة أو الذهاب إلى الجامعة في اليوم التالي.
وقبل الزواج وإعداد المسكن، أوصاني بعض الأصدقاء بالذهاب إلى حارة لا أذكر اسمها وربما تكون «الصنادقية» المتفرعة من حي الأزهر وشوارعه التي تشتهر بصناعة الأثاث من خشب «الأرابيسك». فذهبت إلى هناك ورأيت بالفعل محلات الأثاث ومجموعة من الدواليب والكراسي والشبابيك من الأرابيسك دون أن أجد مكتبا واحدا بهذا الأسلوب العربي. ورأيت محلا يجلس على بابه صاحبه فسألني وهو ينظر إلي: «هل تبحث عن شيء معين؟» قلت: «أريد مكتبا وكرسيا من الأرابيسك.» فقال: «أصنعه لك ويكون جاهزا في ظرف شهر، وتكون تكلفته ألفي جنيه، تدفع النصف عربونا، والباقي عند التسليم.» فرحبت بالعرض وأعطيته ما اتفقنا عليه. ثم مر شهر ولم يتصل بي صاحب المحل، فذهبت إليه متسائلا عن المكتب. فأجاب: «في التشطيب يا أستاذ ينقصه فقط الأدراج والمقابض والأقفال، فهي غالية الثمن، وصرفت العربون كله في الخشب والعمل عليه.» وكان من أفضل أنواع الخشب «الماهوجني». وطلب أن أدفع باقي المبلغ حتى يشتري باقي التجهيزات، فأعطيته الألف الثانية وطلب شهرا آخرا. وبعد أن مر الشهر الثاني ذهبت إليه فلم أجد شيئا. فسألته من جديد: «أين المكتب؟» فقال: «في التشطيب يا أستاذ، نحن نشتري مستلزماته الآن.» ففرحت. وبعد مرور أسبوعين آخرين ذهبت إليه فقال: «ما زال.» فعرفت أنه نصاب أخذ ثمن المكتب ولم يسلم العمل. فذهبت إلى قسم شرطة الأزبكية وقصصت على الضابط ما حدث. فاستعجب وقال: «لا تخف سآتي معك لهذا الرجل النصاب.» ففرحت لأن شعار «الشرطة في خدمة الشعب» يتحقق أمامي بالفعل، ودخلنا الحارة. فقام جميع أصحاب المحلات من النجارين يحيونه قائلين: «اتفضل يا بيه، اتفضل يا باشا.» وهو يبادل التحية بأحسن منها، وبعد أن طفنا بالحارة ووصلنا عند النجار النصاب وعد بتسليم المكتب في ظرف أسبوع. فشكرته، ولم يأت هذا الأسبوع إلى الآن، فتركت الأمر وليس عندي وقت للذهاب للمرة الرابعة للسؤال عن المكتب، وقلت لنفسي إنه سيلقى عقابه في الدنيا قبل أي مكان آخر.
ونصحني بعد ذلك صديق بالذهاب إلى دمياط والتي تشتهر بصناعة الأثاث وفيها أكبر المصانع والمحلات، فذهبت بصحبة أستاذ من جامعة المنصورة، فدهشت لهذا الإتقان في الصناعات الخشبية، وتعرفت على شاب. وعرف مني ماذا أريد، ووعدني بإنجاز العمل، المكتب وأربعة وعشرين كرسيا ومنضدة اجتماعات من الأرابيسك، وهو لا يريد عربونا أو مقدما وأن كل ذلك سيكون جاهزا في ظرف شهر، وبالفعل ذهبت إليه مع الصديق من جامعة المنصورة ووجدت ما أطلب جاهزا على أكمل وجه ودون أن أدفع قرشا واحدا كعربون. ففرحت هذه المرة وأحضر لي عربة لنقل الأثاث إلى القاهرة، وأتى معي لتركيب طاولة الاجتماعات والتي بلغ طولها ما يقرب من الخمسة أمتار وعرضها مترين، والكراسي الأربعة والعشرين، ومكتبي في الغرفة المجاورة. وضعتهم في بدروم المنزل الذي بنيته وكان كل مساحة البدروم مخصصة للمكتب والمكتبة والكتب. ودفعت للرجل الثمن دون مناقشته في التكلفة والأسعار، يكفي حسن أخلاقه والتزامه وجودة ما صنع.
وبعد أن جهزنا المسكن، ونصف الجهاز بما كان لدي من مبلغ معقول كمهر، حددنا موعد الزفاف في 30 أبريل 1970م. وأدركت أن الزوجة تجمع بين الحب العذري وما بعده، بعد أن كانا منفصلين منطقيا بالنسبة لي. فالحب العذري لا ينتهي بالزواج، والزواج لا يبدأ بالحب العذري. الأول شعور إنساني رقيق، وعاطفة إنسانية جميلة، أقرب إلى الفن والشعر، نهايته في بدايته، وبدايته في نهايته. أما ما بعد الحب العذري، فإنه قضاء وقت، وانبساطة مؤقتة، لا يبدأ بالحب العذري، ولا ينتهي به.
أما الزواج فإنه يبدأ بالحب العذري، وينتهي بالزواج.
فالحب العذري مقدمة، والزواج نتيجة.
فالحب حرارة، والزواج تدفئة.
الحب نداء، والزواج تلبية.
فالحب صوت، والزواج صدى.
وطوال الحياة المشتركة تنشأ عاطفة ثالثة أقوى من الحب وما بعده، بل وأقوى من الزواج نفسه. وهي العشرة أو المعاشرة، أي الحياة المشتركة والتعاطف المتبادل والسير يدا بيد لمواجهة الصعاب. فالمراحل التالية للحب قد ينقصها الاطمئنان. أما المرحلة الأخيرة أي العشرة فتقوم على الاطمئنان المطلق. فلا خوف من الانفصال أو الحزن أو الزعل أو الملل. فقد أصبحت العشرة هنا جزءا من التاريخ، ومن الذكريات المدونة كاللوح المحفوظ.
ولا يعني ذلك انغلاق القلب انغلاقا مطلقا؛ فهذا يميت الحب في كل مراحله، ويغلق الباب دون أن يترك مواربا حتى يتجدد الهواء. ويظل القلب نابضا بتغييرات الحياة؛ فالحب في مرحلته الأخيرة أي العشرة تترك القلب مواربا للشعور بتجدد الحياة والجمال المتغير المتعدد، والماء النقي. وبإغلاق القلب تماما بدعوى أن الإخلاص يميته، ويمل القلب الآخر منه، وإلا فلماذا كانت الغيرة تعيد شباب الحب؟
فالماضي المعلوم أفضل من المستقبل المجهول، وإذا كان الحب مغامرة في البداية فإنه استقرار في النهاية. فإذا تحول، تحول الاستقرار في النهاية إلى مغامرة جديدة في البداية، فقد يخسر الحبيب البداية والنهاية معا.
وبلغة السياسة المصرية فإن العشرة تكون 99,9٪ من العاطفة الإنسانية والباقي إذا بقي شيء للرياح الجديدة التي قد تهب على القلب دون أن يكون لها أي مخاطر على العشرة.
فالبرتقالة ليست خطرا على شجرة راسخة من البرتقال، وحبة العنب ليست خطرا على عنقود العنب.
وقد حدث أنه في مرحلة ما بعد الحب العذري أن قلبي قد انفتح بما بقي من حرية فيه نحو فنانة ومخرجة مسرحية ومناقشة سياسية. قامت بإخراج مسرحية لها في المسافر خانة في حي الأزهر. لم يكن لديها المال لدفع أجور الممثلين، ولم تأخذ من وزارة الثقافة شيئا. إلا أنهم تركوا لها استخدام المسافر خانة مجانا، فكنت أعجب بنشاطها وإصرارها وفنها وتعاون الممثلين والممثلات معها، والاعتماد على الجيل الجديد باستثناء بعض المغنين الكبار، وفي مقابل ذلك وقفت أمام المسافر خانة لتنظيم الدخول بأجور زهيدة لا تكفي لطعام العشاء للمخرجة الفنانة، فوضعت لها بعضا من المال في صندوق بطاقات الدخول ليساعدها في عملها، وظللت أفعل ذلك كل ليلة طيلة شهر رمضان والزوجة الحبيبة تتساءل عن هذا النشاط اليومي الليلي ؛ فأخبرها بما يحدث. وبدا الحزن على وجهها وهي تحمل طفلنا الثاني بجمالها وصدق وفائها للأسرة؛ فانتابني الندم على إهمال الكثير من أجل القليل، وكانت زوجتي الحبيبة حاملا في ذلك الوقت. فصاحبتها إلى المستشفى، ومكثنا عدة أيام حتى يحين موعد الولادة. وكنت في صراع بين البقاء معها وبجوارها أو الذهاب إلى المسافر خانة كالعادة؛ لأنظم الدخول وأطرب بالغناء، وأستمتع بجمال الفنانة والمخرجة المسرحية، وأستعرض في ذهني كل ما قيل عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة لقاسم أمين وغيره. بعد ذلك انطفأ الحب الرومانسي عندما شعرت أنه تحول إلى استغلال مقصود يوم دعتني لمشاركتها العشاء مع ضيوفها الأجانب في المعادي على ضفاف النيل. وتركتني أدفع ثمن العشاء وأنا ما زلت محدود الدخل، كانت ترفض زيارتي لها في شقتها الجديدة حيث كانت تعيش في المعادي. فانتهت هذه الفترة القصيرة الرومانسية، خاصة بعد أن دعتني مرة لإيصالها في الصباح الباكر إلى محطة القطار في شارع رمسيس. أحسست باستغلالها لي وأن الريح التي هبت علي من جهتها لم تكن نقية؛ فانغلق قلبي وربما ينفتح أمام ريح أخرى بمرور الزمن.
وأنا جالس بالقسم في مصر كان باب مكتبي مفتوحا، رأيت طالبة كانت شقراء تمر أمام باب غرفة مكتبي، ذهابا وإيابا. تنظر لي وتبتسم، دعوتها إلى مكتبي، عرفت منها أنها طالبة بالسنة الرابعة، وكان مكتبي نفسه هو الغرفة التي كنت أدرس فيها فلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر. فسألتها إن كانت تريد شيئا أشرحه لها. قالت: «لا.» فسألتها من جديد: «ألا يوجد شيء غامض من المادتين المقررتين أوضحه لك؟» قالت مرة أخرى: «لا.» وهي تضحك؛ فدعوت لها بالتوفيق والنجاح.
وكانت كلما رأتني أركب سيارتي مغادرا القسم، أسرعت فاتحة باب السيارة بجواري وتدخل وفي يدها قطعة شوكولاتة وزجاجة مياه غازية، فأشكرها. وأنا خارج من بوابة الجامعة وهي تركب بجواري في يوم، قلت لها : «أنا في طريقي إلى مدينة نصر.» فتقول هي ذاهبة إلى اتجاه آخر إلى شارع الملك فيصل بالهرم؛ فسألتها إن كانت تريدني أن أوصلها؟ رفضت بحجة أن المشوار طويل والمكان بعيد. وتكرر منها ذلك عدة مرات. وكنت قد اشتريت شقة بمنازل هيئة التدريس بجامعة القاهرة، تقع خلف الجامعة على مسافة قريبة منها، كي أستقبل فيها طلابي، فلم يكن بالقسم حجرات خاصة للأساتذة، وبالفعل استقبلت فيها الطلبة والطالبات، وكنا نترك باب الشقة مفتوحا حتى لا يظن أحد أن في الأمر شيئا.
ولما تخرجت الطالبة وأنهت السنة التمهيدية وهي ما زالت تلاحقني، دعوتها مع غيرها إلى مكتبي الجديد في شقة الجامعة، فرفضت ظانة بي ظن السوء، وبعد أن اتفقنا على موضوع وخطة رسالة الماجستير، وكان الكتاب المطلوب باللغة الفرنسية ومترجما إلى اللغة الإنجليزية. والترجمة ليست موجودة في مصر، وفي إحدى رحلاتي إلى الخارج اشتريت لها الترجمة الإنجليزية في ثلاثة أجزاء، وأعطيتهم لها هدية مقابل قطع الشوكولاتة وزجاجات المياه الغازية التي كانت تحضرها لي تقريبا كل يوم أحضر فيه للجامعة.
كما أحضرت لي حلويات شرقية إلى معرض الكتاب الدولي حيث كنت أشارك هناك بندوة، وكانت هيئتها تبدو على «سنجة عشرة» في لباسها وهيئتها، فنهرتها بأنه يكفي ما أحضرته من قبل.
كانت رسالتها مكتوبة باللغة العربية ومجرد شروح على النص الإنجليزي دون منهج أو موضوع أو تقسيم للرسالة، أو إشكال بها أو نتيجة، ويبدو أن أحد المعيدين أو الأساتذة الشبان قد قام بكتابتها لها مقابل مبلغ من المال، وربما مكاتب تصوير وترجمة المستندات المنتشرة بمنطقة «بين السرايات» خلف الجامعة هي التي أعدت هذا الشرح مقابل الكثير من المال.
وكنت قد لاحظت منذ البداية درجة التصاقها بي المستمرة؛ فأعطيتها صورا لي تحتوي على رحلاتي لإندونيسيا مع الطلاب، وكانت مكدسة بأدراج مكتبي بلا نظام، ابتعت «ألبومين» لجمع الصور لها وترتيبهما. أخذت الحقيبة التي وضعت بها الصور والألبومين، وبعد مدة سألتها وهي تغادر سيارتي: «هل انتهيت من ترتيب الصور؟» وبدلا من أن ترد نظرت إلي وسألتني: «متى تأتي لمقابلة والدي؟ وانتظرت شهرين.» لم أفهم السؤال حينها، ولذلك لم أجب عنه وغادرت إلى منزلي وأنا أفكر في سؤالها، وبعد عدة أيام فهمت ماذا تقصد، جاء أخوها لكي يتعرف علي بالجامعة، كان يضع في حقيبة سيارته كرتونة مملوءة بالمانجو لا أذكر عددها، كانت هدية لي لأنهم لديهم مزرعة مانجو، فترددت في قبولها، فأصر، فأخذت المانجو ونقلتها إلى سيارتي، وشكرتهما. وعرفت فيما بعد أنهما أعضاء في الاتحاد الاشتراكي في مناصب كبيرة.
بعد ذلك لم أبادر بشيء تجاهها، وبعد مدة كنت حريصا على استرداد صوري منها؛ فطلبت من زوجتي الاتصال بهم وطلب الصور، ردت والدتها بأنها ربما فقدتها فهي لا تجدها، ثم اتصلت مرة أخرى وقالت بأنها تحتفظ بها في أمان ولن ترجعها لي إلا بمقابل مادي نظير مصاريف ابنتها طالبة الدراسات العليا بالجامعة، كانت زوجتي على وشك إهانتها، ولكنها لم تفعل، وانتهى الأمر عند ذلك الحد والصور العزيزة علي ما زالت عندها، وما زلت أرجو أن تعيدها لي لأضمها إلى مكتبتي التي أنوي تحويلها إلى متحف باسمي.
وفي يوم من الأيام تعرفت على أستاذة شابة بكلية الإعلام، كانت بيضاء البشرة، ترتسم على وجهها ابتسامة رقيقة. وكانت قصيرة الطول، دعوتها إلى زيارتي بمكتبي في كلية الآداب، أتت متأخرة عن الموعد، وهي تسير ببطء شديد، فلم أستطع الحديث معها.
وقابلتها مرة ثانية في الساحل الشمالي حيث كنا نصطاف في قرية «جامعة القاهرة» حول حمام السباحة، عرفتها، وعرفتني، وجلسنا، كنت مبتلا وتساقط الماء على هاتفي النقال؛ فأسرعت في نقل الأرقام. وكانت تدور في دائرة سريعة نظرا لتعطل الهاتف، وبعد أن غادرت ذهبت إلى متخصص لكي يحاول إصلاحه، قال إن هاتفي لم يعد صالحا للعمل بسبب المياه؛ فحزنت عليه أكثر من حزني على ضياع رقمها وبالتالي فراقها، كانت مجرد ريح خفيفة وليست ريحا عاتية، كان لقاء عابرا وليس علاقة دائمة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية أثناء وجود زوجتي الحبيبة، حيث عادت مع طفلنا الأول لتوصله للقاهرة وتتركه هناك مع والدتها نظرا لأنها كانت تود دراسة الماجستير في الجامعة التي أعمل بها، وكنت في ذلك الوقت أقيم في الشقة بمفردي لمدة شهرين تقريبا، التقيت بأصدقائنا في الجامعة عدة مرات كي يخففوا من وحدتي، ودعتني إحدى السيدات الموظفات بالجامعة إلى منزلها في وسط المدينة كي أرى فيلاديلفيا من أعلى نقطة فيها. كانت سيدة كبيرة في السن، تكبرني بحوالي خمسة عشر عاما. وتقترب من سن المعاش، وكان معها صديقها الأمريكي الذي لا يبدو عليه أي علامات للثقافة والمعرفة. وبعد أن غادر دعتني إلى الجلوس بجوارها لكي نتمكن من النظر من النافذة معا، عرفت معها إحدى لحظات الحب غير العذري، ولكنني فضلت الحب العذري؛ لأنه أحر من الجمر، في حين أن الحب ما بعد العذري بالنسبة لي بارد ثقيل.
وفي المغرب بعد أن عادت زوجتي الحبيبة إلى مصر في زيارة لرؤية الأهل، كانت بعض المغربيات سهلة المنال، أراهن في المنازل إذ كن يعملن كخادمات، وإما في الطريق إذ يتهادين، أو حتى أستاذات شابات في الجامعة. يكفي أن تناديها فتستجيب وتأتي. وكان معي صديق مصري يعرف النساء هناك جيدا، كان متزوجا من مغربية. وكانت النساء المغربيات يمثلن روح التحرر، ربما من بقايا الأندلس، أو من آثار الاحتلال الفرنسي، أو من استقلالهن الفكري عن السلطات الدينية القوية مثل عندنا في مصر.
وفي اليابان كانت المرأة اليابانية تتشوق لمعرفة الأجنبي، ولكن لمرة واحدة، ولا تعرفه بعد ذلك، ولا تسمي هذا خيانة لزوجها. تعرفه في الحياة العامة، في القطار، أو في مكان العمل، أو في المحال العامة.
والمرأة اليابانية صغيرة الحجم، قصيرة - على عكس المرأة الغربية - تميل إلى الصمت، لا تحب الكلام والثرثرة، لا تعرف اللغات الأجنبية بدقة، وقد يكون لها سكن خاص، حتى لو كانت متزوجة، طيبة القلب منهن هي التي تستمر في علاقتها بالأجنبي لمدة طويلة؛ فيصبح جزءا من حياتها، تضحي من أجله بكل شيء، ولو أصابها منه مكروه تعاملت معه وحلته بمفردها. وهي كريمة، وفية، مخلصة، تدمع عيناها حين الفراق. تظل تراسله ربما حن إليها وعاد، وتستمر في المراسلة لعدة سنوات حتى تقل الرسائل، فتتحول الصداقة إلى ذكريات.
الفصل الرابع
القضاء والمحاكمات
كانت أول محاكمة في الجامعة وأنا في السنة الرابعة، كنت أدرس اللغة الألمانية كلغة إضافية؛ لأنني كنت في قسم الامتياز. كنت أحضر دروس اللغة الألمانية في قسم التاريخ؛ لأنه لا يوجد قسم للغة الألمانية في الدراسات العليا في قسم الفلسفة.
وفى آخر العام وجدت ورقة الامتحان في اللغة الألمانية مع قسم الآثار فاعترضت. وقلت: «إنني أدرس اللغة الألمانية في قسم التاريخ!» وكانت نصوص الامتحان المطلوب ترجمتها غريبة تماما بألفاظها عما درست في قسم التاريخ. فقال لي المراقب يوم الامتحان وكان ضابطا من الحرس: «اكتب طلبا للعميد تشرح ما حدث فيه.» فبدأت بكتابة الطلب بجملة «أخي الفاضل عميد كلية الآداب ...» فانزعج ضابط الحرس وصرخ: «هل العميد أخوك الفاضل؟ ولماذا لا تكتب السيد العميد؟» فقلت: «لا سيد إلا الله.» وقال الرسول: «وأنا شهيد على أن العباد إخوة.» وكان الضابط قبطيا فانزعج أكثر وأكثر وقال: «أنت قليل الأدب!» فقمت محتجا وكان بيدي الريشة التي أكتب بها. ويبدو أنها احتكت بذراعه العاري حيث كنا في الصيف، فجرحت سن الريشة ذراعه، ولكن الحبر كان أكثر؛ فأخذني الضابط إلى العميد. ولما رأى العميد ذلك حولني إلى التحقيق، فشهد الضابط علي بالتهمة، وشهد رئيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية بأنني على حق في طلب تغيير ورقة الامتحان، بدليل أنه ساعدني في ترجمة النص الغريب لصعوبته. وحولني عميد الكلية للمحاكمة. فكونت الجامعة لجنة المحاكمة طبقا للقانون من خمسة أساتذة من كلية الحقوق الذين يعرفون القانون، وحددوا لي موعدا للجلوس في مجلس الجامعة للمحاكمة. وسألوني: هل قلت للعميد «الأخ الفاضل»؟ قلت: «نعم». وكررت حديث الرسول: «وأنا شهيد على أن العباد إخوة». فقالوا: «هل العميد أخوك؟» قلت: «نعم هو أخي، ولا فرق بين العميد والكناس إلا في أداء الواجب، فإن لم يؤد العميد واجبه وأدى الكناس واجبه، فالكناس أفضل.» فنظر الأساتذة بعضهم إلى بعض، وقالوا: «هل ستعيش طوال حياتك تنادي الناس بالإخوة بصرف النظر عن درجاتهم؟» قلت: «نعم، سأظل أفعل ذلك طيلة حياتي.» وعرفت بعد ذلك أن الرسول قد قال: «لا تسيدوني» أي لا تقولوا سيدنا محمد، ومن ثم فأنا لم أخطئ في رفضي وصف العميد ب «السيد». فأصدروا قرارا ببراءتي من تهمة قلة الأدب. وكانت هذه أول محاكمة لي في الجامعة، وكانت صدق العدالة. وكان بالإمكان حرماني من الحصول على ليسانس الآداب سنة أو سنتين.
وكان وقوفي أمام المحكمة مرة ثانية في باريس عندما أخذ صاحب المنزل حاجياتي من غرفتي التي كنت أجرتها منه فوق السطح. فتح الباب عنوة وأخذ الحاجيات، وحجز لي ليلة في غرفة بفندق، وكان ذلك بسبب طرد أخيه الموظف بشركة قناة السويس من مصر بعد تأميم الشركة. ولما ذهبت إلى الجامعة في مركز الخدمات الطلابية لأخبرهم بذلك، نصحوني بأن أقاضيه في قصر العدالة بالحي؛ فذهبت إلى هناك، ودفعت رسوم القضية وكانت أربعة فرنكات؛ كل ما أملكه حينها. فاستدعته المحكمة، ووقفت أمام القاضي أشرح له ما حدث، أما صاحب المنزل فكان خجولا، ولم يقل شيئا؛ لأنه يعلم أن ما فعله ضد القانون. وأعطاني القاضي ورقة زرقاء بها الحكم لكي أقاضي صاحب المنزل بالمحكمة العليا، ويبدو أن هذا الحكم كان ابتدائيا يتبعه آخر نهائي، وكان الحكم أن أعود إلى غرفتي فوق السطح ما دمت أدفع الإيجار بانتظام. وأخذني صاحب المنزل جانبا وقال: «سنرفع الأمر إلى المحكمة النهائية، وتأخذ حقك، وتعود إلى غرفة السطح لا شك في ذلك.» والأمر يتطلب محاميين يدافعان أمام القضاء، ويتطلب رسوما أخرى للقضية. ففكرت من أين آتي بالمال اللازم، ومصاريف القضية، وأجر المحامي المرتفع؟ وكنت قد حصلت على غرفة أخرى عن طريق مركز الخدمات الطلابية بالجامعة. كما شعرت بأن صاحب المنزل ربما يكون قد ارتكب خطأ قانونيا في حقي، ولكنه معذور نفسيا لطرد أخيه من مصر بحقيبة ملابسه، ومعذور مصري يسكن في غرفة السطح التابعة لمنزله. فهو على حق من الناحية النفسية. أما أنا فكنت على حق من الناحية القانونية؛ لأنه داهم غرفتي في غيابي، وقدرت الحالة النفسية التي هو عليها، وتعاطفت معه إنسانيا وهو واقف مطأطئ الرأس معترفا بخطئه، هل أحمله خطأ فوق خطأ؟ الخطأ القانوني والخطأ النفسي؟ يكفيني نصرة الحكم الابتدائي لصالحي، واسترداد كرامتي. وكيف أشغل نفسي بالمرحلة الثانية من القضاء، حتى وإن كانت في صفي، وأنا ليس لي مال أدفعه للمحامي، وليس عندي وقت للانشغال بشيء خارج العلم، وهي الرسالة التي أتيت من أجلها؟ فسلمت على صاحب المنزل، وشرحت له أن تأميم القناة حق لمصر، وأن الملاحين الذين يرشدون البواخر خرجوا من تلقاء أنفسهم لتعطيل الملاحة، وإثبات أن مصر غير قادرة على إدارتها، وضرورة عودة هؤلاء الأجانب حينها، وأبلغته أن المرشدين المصريين واليونانيين قادرون على تنظيم الملاحة في القناة وإرشاد السفن ذهابا وإيابا، من بورسعيد إلى السويس، ومن السويس إلى بورسعيد، ورجوت له الخير والسلام.
والمحاكمة الثالثة كانت في محكمة باب الخلق عندما رفع وزير الأوقاف قضية بمصادرة كتابي الأول «التراث والتجديد»، ومجلة «اليسار الإسلامي». فاستدعاني القاضي في يوم معلوم. ودخلت المحكمة لأول مرة وهي أمام دار الكتب المصرية ومتحف الفن الإسلامي الذي كنت دائم التردد عليهما، والذي كان يجلس في المقهى المجاور لها شعراء مصر العظام مثل «حافظ إبراهيم». وقفت أمام القاضي وهو يسألني: «لماذا كتبت هذين الكتابين؟» فشرحت له أنني أريد إعادة بناء العلوم الإسلامية القديمة طبقا لظروف العصر الحديث ومطالبه. أما «مجلة اليسار الإسلامي» فتعبر عن نفس الهم ولكن على المستوى الشعبي؛ كيف يمكن تحقيق التقدم والحرية الفردية والجماعية، وتحرير الشعوب من نير الاستعمار والاستغلال، وتحقيق الوحدة الوطنية والقومية، وإنجاز مشاريع التنمية الاقتصادية، والاعتماد على الذات، وعلى قوة الجماهير؟ ثم سأل القاضي محامي الحكومة: «وأنت ماذا تريد؟» فلم يقل شيئا، فسأله القاضي مرة أخرى: «لماذا تريد مصادرة هذين الكتابين؟» قال: «إن الحكومة كلفتني بذلك.» فأصدر القاضي حكما ببراءتي، والإفراج عن الكتابين المصادرين؛ فشكرت القاضي، وخرجت وأنا مستريح الضمير. وأدركت أن كتابا صغيرا أو مجلة قادران على إقلاق الحكومة، والتي لديها كل أساليب ومقادير السلطة؛ من شرطة، وجيش، وأنا لا أملك شيئا. وقد طبعت المجلة على نفقتي الخاصة .
وما زالت حيثيات الحكم عندي سأنشرها يوما؛ ليعرف الناس أن القضاء في مصر عادل وليس تابعا للحكومة بالضرورة.
والمحاكمة الرابعة كانت باليمن بعد أن انتشرت أفكاري وفلسفتي هناك، وحاضرت بجامعته، وتأثر بي الطلاب، وانقسموا بين يسار مجدد ويمين محافظ، دعاني أحد مشايخهم إلى منزله للحوار والنقاش فذهبت، ووجدت حلقة متسعة وفي وسطها «مداعة» وهي الشيشة عندنا، بها خرطوم طويل يلف حول الجالسين، يتبادلون الأدوار في شد الأنفاس منها، وأمام كل منهم قدر من القات يمضغونه. وسألني الشيخ الكبير: «سمعنا عنك في مصر والآن في اليمن، فماذا تقول؟» فشرحت لهم «التراث والتجديد» وكيف أنني أريد أن أعيد بناء العلوم القديمة، وأنقلها من عصر الانتصار إلى عصر الانكسار الذي نعيشه، فما المانع أن أربط الله بالأرض من أجل فلسطين؟ وفي القرآن
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ،
رب السموات والأرض . فمن يأخذ أرضي كمن يأخذ نصف إلهي. وقد فعل اليهود ذلك من قبل عندما ربطوا بين الله والشعب والأرض والمدينة المقدسة وهيكل سليمان. فلا يستطيع اليهودي أن يعيش إلا في أرض الميعاد. وإن مات خارجها يضع حفنة من ترابها تحت رأسه حتى يشعر بأنه مات في فلسطين. وسموا ذلك «لاهوت الأرض». ويقولون عند المسلمين فالله في كل مكان وليس في فلسطين. ويستعملون آية
فأينما تولوا فثم وجه الله
فماذا أفعل باعتباري عالما إسلاميا يتقطع قلبه لاحتلال فلسطين؟ وماذا أفعل وقد امتلأت المعتقلات والسجون بالمعارضين السياسيين، وعانوا من كل أنواع التعذيب؟ ألا يجوز لي أن أستعمل الشهادة وهي أول ركن من أركان الإسلام «أشهد الا إله إلا الله»؟ وأشهد على ما يحدث في عصري من ألوان القهر والظلم والاستبداد؟ وأفسر «لا إله إلا الله» بأنها فعل من أفعال الشعور: الأول، فعل نفي للآلهة الكذبة في «لا إله»، والثاني فعل إثبات للإله الحق «إلا الله». فلو حذفنا أداة النفي وأداة الاستثناء لبقي «إله الله» وهو تحصيل حاصل لأنه تكرار لنفس اللفظ، وإن زادت أداة التعريف في إحداها.
ولماذا لا أستعمل الله لبعث المسلمين على التقدم طبقا لآية
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ؟ ولماذا لا أستعمل القرآن لإثبات العدالة الاجتماعية بدلا من الفرق الشاسع بين الأغنياء والفقراء
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ،
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ؟ ولماذا لا أربط الله بالناس وبالشعب وبالجمهور وهو
برب الناس * ملك الناس * إله الناس ؟ ولماذا لا أحول العلوم النقلية الخمسة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، إلى علوم نقلية عقلية؟ أحكم فيها العقل وهي العلوم المستبعدة من أقسام الفلسفة بالجامعات المصرية، والأكثر تأثيرا في المساجد والمعاهد والجامعات الدينية.
لماذا لا أبرز أسباب النزول بأنها لها أولوية الواقع على الفكر، والناسخ على المنسوخ، وأنهما يدلان على أولوية المتحول على الثابت؟ ولماذا لا أقوم بنقد المتن كما قام القدماء بنقد السند في علم الحديث؟ فقد يكون السند صحيحا والمتن غير صحيح، وقد يكون السند غير صحيح والمتن صحيحا. ولماذا لا يفسر القرآن تفسيرا موضوعيا يجمع كل الآيات حول موضوع واحد يهمنا مثل الظلم، والفساد، والفقر بدلا من الشرح الطولي، من الفاتحة حتى الناس؟
وكيف تتحول السيرة إلى تعظيم للرسول وطلب للقوت والمساعدة والشفاعة منه؟ كما هو الحال في الأدعية الصوفية «أغثنا يا رسول الله، أعنا يا رسول الله»؟ فالرسول صاحب رسالة للناس، وليس إلهيا بشخصه.
وكيف يظل الفقه في إطاره الاجتماعي القديم؛ يتناول قضايا الرق والسبايا والأنفال وهي غنائم الحرب، والحدود مثل: الصلب والرجم والجلد وقطع اليد وتعدد الزوجات؟
فنظر الجالسون بعضهم إلى بعض يتعجبون من هذه الحقائق، والتساؤلات التي قدمتها ووضعتها أمامهم، وهم لا يستطيعون رفضها أو الإجابة عليها بالإثبات أو النفي. وبعد أن شكروني غادرت، وفي اليوم التالي رأيت حكما قد صدر علي بالتكفير والخروج عن إجماع علماء الأمة المسلمين، والحكم علي بالردة، والمطالبة بالقصاص بإمضاء علماء اليمن. وجاءت عربة مصفحة تأخذني من الفندق إلى الجامعة وتعيدني إلى الفندق؛ خوفا على حياتي ولحمايتي، وكان يمكن أن يناقشني علماء اليمن، ويدخلوا معي في الحوار، لولا أنهم آثروا، وعقدوا النية مسبقا على تكفيري . وكانوا يريدون أن يسمعوا فقط حيثيات الحكم. وغادرت اليمن وأنا حزين على مستوى العلماء وعدم صدقهم وعدم صراحتهم معي، سواء في بداية الجلسة أو نهايتها، وأنهم كانوا يبحثون عن عبارات التكفير والاتهام وليس النقاش والحوار لمعرفة الحقيقة وقبولها حتى مع اختلاف الآراء.
وكانت المحاكمة الخامسة في المغرب، عندما دعاني حزب الاتحاد الاشتراكي لإلقاء محاضرة عن «نظام الحكم في الإسلام». وعقدت المحاضرة في نزل فاس، وكانت القاعة كبيرة ممتلئة عن آخرها بالحضور، وكانت شهرتي عند الأشقاء المغاربة تملأ الآفاق. أديت المحاضرة بما يعرفه عني كل الناس؛ قلت: «أما نظام الحكم في الإسلام فهو ليس ملكيا ولا سلطانيا ولا إمارة ولا وراثة بل هو حكم شعبي جمهوري، من اختيار الناس، وهو حكم دستوري يقيد سلطة الملك، ويؤكد على سلطة الشعب.» واستعملت الآية المعروفة
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة
فقام أحد الأساتذة وخرج مسرعا ليبلغ السلطات الأمنية بما قلت، وبعد المحاضرة ألقت الشرطة القبض علي، وأخذوني إلى القسم، وتم استجوابي: «هل تقصد ملكا بعينه؟» قلت: «لا.» فقالوا: «فلماذا قلت لا يجوز تقبيل رأسه أو وجنتيه أو قدميه أو حافر حصانه؟» وكنت قد رأيت ذلك في تعامل القبائل مع الملك. قلت لهم: «بأن عمر بن الخطاب في رحلته للقدس تبختر الحصان تحته فترجل مسرعا وابتعد عن الحصان قائلا: غلبتني الزهوة فأردت أن أذل نفسي.» فسألوا: «ألا تقبل يدي والديك أو قدميهما؟» فأجبت: «لا؛ فذلك استعباد وخضوع لا يجب أن يكون.»
وانتظرت بعدها مدة طويلة محجوزا بالقسم، وأسرتي تبحث عني في كل مكان، والأساتذة المصريون الزملاء يبحثون عني طوال الليل، حتى جاء الأمر الملكي ليس فقط بإخراجي من القسم ولكن بإخراجي من البلاد كلها في ظرف أربع وعشرين ساعة؛ فهرع أحد أصدقائي الفلاسفة إلى ممثل الجامعة في القصر وأبلغه أن ذلك سيكون فضيحة كبرى، من نتائجها سوء العلاقات بين مصر والمغرب، وأنني مفكر كبير لا يجوز التعامل معه بهذه الطريقة؛ فأصدر الملك قرارا جديدا بتأجيل الطرد حتى آخر يونيو عند انتهاء الدراسة لأولادي بالمدارس، وقد اتهم الملك الأساتذة المشرقيين بأنهم السبب في اندلاع المظاهرات شمال المغرب في «الحسيمة والناضور» بأفكارهم الاشتراكية. فعاد أصدقائي المغاربة إلى ممثل الجامعة في القصر، وقالوا له بأن طردي سيكون خسارة للفكر الفلسفي. ورجوه بإلغاء قرار الطرد، ورجوعي للتدريس بالجامعة، فطلب مني الملك الاعتذار؛ فأبلغته عن طريق الوسائط «أعتذر عن ماذا؟ هذا هو نظام الحكم في الإسلام، نظام شوري لا يجوز فيه تأليه السلطان.» ولم أعتذر. وظل قرار الطرد خارج البلاد قائما، ثم طلبوا من زوجتي الاستقالة من وظيفتها الجامعية حيث كانت تدرس اللغة الإنجليزية، وقبل المغادرة كتبت مقالا في جريدة «أنوال» المغربية بعنوان «أتيت المغرب طائعا، وأتركه مكرها». وأرسلت أولادي الثلاثة بالطائرة إلى القاهرة. وأخذت كتبي معي في السيارة وتوجهت إلى شمال المغرب إلى طنجة كي أعبر جبل طارق ثم أكمل لجنوب إسبانيا وفرنسا وشمال إيطاليا، زرت بلجراد عاصمة يوغسلافيا.
وفي بلجراد طلبوا مني أن أدفع ليلة الفندق بالدولار، وقلت لهم: «لماذا لا أدفع بالعملة المحلية؟» قالوا: «تلك هي القاعدة للأجانب.» قلت: «أنا مصري وهل أعتبر أجنبيا في يوغسلافيا؟ وماذا عن العالم الثالث وعالم عدم الانحياز وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟» فأصروا على الدفع بالدولار، وأصررت على الدفع بالعملة المحلية أو أن يأخذوني إلى قسم الشرطة، أو إلى محافظ المدينة، ولما رأوا جديتي وعدم تنازلي تركوني أدفع بالعملة المحلية؛ لأن المصري في يوغسلافيا ليس أجنبيا.
ثم وصلت أثينا، وفي أثينا وجدنا احمرارا في الأفق؛ فسألت: «ما هذا؟» فقالوا: «حرائق الغابات.» وبعد مدة قصيرة اندلعت النار، وانتشرت في الغابات ومخيمات السياح؛ فأعطونا جوازات السفر وقالوا: «اذهبوا إلى فندق آخر بعيدا عن النيران.» وذهبنا إلى فندق آخر. تكررت المأساة؛ يريدون أن أدفع بالدولار وأنا أرفض وأريد أن أدفع بالعملة المحلية لأنني مصري من أبناء العالم الثالث؛ فاستغرب موظف الاستقبال فأخبروه أنني لن أدفع إلا بالعملة المحلية؛ فأخذوها مني على مضض. وفي اليوم الثالث سرنا لاستكمال الرحلة إلى ميناء بيريه ومنها إلى الإسكندرية.
وهناك أخذت الباخرة تحمل سيارتي إلى الإسكندرية؛ فوجدت والدي وأخي بانتظاري، وأقمنا ليلة بالإسكندرية عند أقرباء لنا في حي المغاربة، وفي اليوم الثاني قمنا بفتح صناديق الكتب في الجمرك، فحزن موظف الجمارك لأن محتويات الصناديق مجرد كتب لا تساوي شيئا في نظره، قمنا بعد ذلك بالإفراج عن سيارتي من رصيف الميناء، وفوجئنا بسرقة المرآة الجانبية ومساحات الزجاج الأمامي؛ فاحتججنا أمام موظف الجمارك الذي قال: «احمدوا الله أن السيارة لم تسرق أصلا.» فدفعنا الجمرك، وحملنا صناديق الكتب في عربة النقل، ووصلنا القاهرة، استقبلنا أولادي بحب وشوق.
وكانت المحاكمة السادسة في مصر عندما فصل رئيس الدولة أكثر من سبعين أستاذا جامعيا، ومثلهم من الصحفيين ومن كبار الشخصيات؛ وذلك لمعارضتهم معاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام مع إسرائيل. بعدها قدمنا اتهاما للرئيس بأنه خرق حقوقنا الجامعية والإنسانية بقرار الفصل لأسباب سياسية، وأن نصيبي العمل في وزارة الشئون الاجتماعية. وكانت القضية جماعية رفعها جميع المفصولين في مجلس الدولة. وترافع عنا أحد أساتذة كلية الحقوق المفصولين، وسمعت القاضي يقول: «ما مطالبكم؟» ويجيب المحامي: «العودة إلى وظائفنا.» فأصدر القاضي حكما بالعودة إلى وظائفنا.
وكان قد تم اغتيال الرئيس بعد قرارات سبتمبر التي تم فيها الفصل بشهر واحد، وعندما علم خليفته أننا رفعنا قضية في مجلس الدولة أصدر قرارا قبلها بعودة نصف المفصولين فقط إلى وظائفهم (الذين تم إثبات وطنيتهم). ولم أكن واحدا منهم بالطبع، ورفض الجميع العودة إلى وظائفهم حتى يصدر حكم مجلس الدولة، وبالفعل صدر الحكم بعودتنا جميعا وبأن الرئيس المغتال قد خرق قانون الجامعة والدستور؛ ففي الجامعات مجالس تأديب ولجان محاكمات جامعية، تقوم بهذا الدور وليس السلطة السياسية؛ فعدت إلى الجامعة وردوا لي ما خصم من مرتبي وأنا موظف في الوزارة. جلست بعدها في المنزل سنة منذ الفصل من الجامعة وحتى الرجوع إليها، أكتب كتابي «مقدمة في علم الاستغراب».
لم تتم محاكمتي كعضو في جماعة الإخوان المسلمين أو في الحزب الشيوعي المصري أو في الجماعات الإسلامية المتشددة، بل كمفكر له مؤلفات معروفة ومشهورة ومؤثرة في الثقافة المصرية والعربية والإسلامية. وهذا يدل على قصر نظر السلطات التنفيذية باتهام كل من خالفها بتهم سياسية لا أساس لها من الصحة؛ فالمعارضة السياسية جزء من النظام. في المعارضة اليوم وفي السلطة غدا ، والسلطة قد تبقى اليوم وفي المعارضة غدا. كما هو الحال في جميع الدول الديمقراطية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، والمحافظين والعمال في بريطانيا.
وفي محاكمتين قام المحامي بالنيابة عني في الوقوف مدافعا عن حقي في ساحة القضاء؛ الأولى عندما رأيت إعلانا في الأهرام في صفحة الإعلانات عن بيع قطعة أرض حوالي خمسمائة متر في مدينة نصر. فاتصلت بصاحبة الإعلان، واتضح أنها مفتشة في وزارة التربية والتعليم، وقد كانت قطعة الأرض ملكا للوزارة والتي كانت قد قسمتها على المفتشين، كان ثمن المتر حسب الإعلان مائة وثمانين جنيها، وبحضور محام عند توقيع عقد البيع وبعد اطلاعه على أوراق ملكية الأرض للمفتشة عرف أن ثمنها كان ستين جنيها للمتر أي إنها ستكسب ثلاثة أضعاف عند البيع لي، وقد كانت منطقة مدينة نصر في ذلك الوقت في تسعينيات القرن الماضي لا يسكنها أحد تقريبا، مجرد صحراء ورمال، وأثناء إعداد الأوراق لتوقيع العقد النهائي طمعت المفتشة، وأرادت البيع بحوالي ستمائة جنيه للمتر؛ أي ثلاثة أضعاف الثمن المعلن، وبالتالي تكسب تسعة أضعاف الثمن مرة واحدة، رفضت هذا الاستغلال. وكانت الأسعار ترتفع تدريجيا حتى وصل سعر المتر ثلاثة أضعاف السعر المعلن، وأثناء محاولات المحامي إقناع السيدة بأن هذا لا يجوز قانونا فالاتفاق بين البائع والمشتري طبقا لإعلان الصحيفة؛ فرفضت. واضطر المحامي أن يقيم عليها دعوى بما حدث، وحكم القاضي لصالحنا؛ فأخذت المفتشة المبلغ المتفق عليه أولا، ووضعت المبلغ في حجرها تحاول أن تعد الأوراق المالية رزمة رزمة؛ فقلت لها إن هذا سيستغرق طيلة اليوم؛ فقد كان المبلغ حوالي مائة ألف جنيه، وطلبت أن تعطيني رقم حسابها لكي يتم تحويل المبلغ من بنك إلى بنك، فرفضت. وكانت السعادة تبدو عليها وهي تعد رزم الأوراق المالية وبجوارها أختها التي فتحت هي الأخرى رزمة وبدأت تعد. ومع ذلك أقامت المفتشة دعوى ضدي بأنني لم أذهب إلى ميدان محطة مصر حيث يوجد عقار أدفع لها مبلغا آخر ثمن إشغال الرصيف بمخلفات البناء؛ فأقام عليها المحامي دعوى أخرى لعدم توقيع العقد النهائي؛ لأنني لم أدفع ثمن رفع مخلفات البناء، وكسبنا القضية بعد دفعنا المطلوب للحي؛ وبالتالي لم يعد أمامها حيلة إلا التوقيع النهائي على عقد البيع.
والقضية الثانية، كانت عندما تأخرت الموافقة على الرسم الهندسي الخاص بالبناء من مجلس الحي، وكان المقاول على علم بهذه القوانين وقال إن كل ما يتم بناؤه تحت مستوى الأرض لا يحتاج إلى ترخيص مثل الأساسات؛ فبدأ في بناء الأساسات والأعمدة القائمة عليها، ولما حضر مهندس الحي ومساعده للتأكد من أن الأساسات قد تم بناؤها تحت سطح الأرض ورأى الأعمدة وقد ارتفعت عن سطح الأرض فكتب في أوراقه عدم الموافقة؛ للحصول على رخصة البناء. وبينما كنت أشاهد مهندس الحي والتفتيش وكتابة الملاحظات، سألني مساعد المهندس عن دورة المياه، وكانت العمارة على الصف الآخر قد بنيت بالفعل، فأشرت عليه أن يدخل الحمام بمدخل العمارة، فدخل وخرج بسرعة وهو يغلق أزرار البنطلون ويشاور أن أتبعه، فلم أفهم ماذا يريد؟ فكرر الإشارة، ولم أفهم أيضا، وكرر الإشارة للمرة الثالثة كما فعل حسن يوسف لنادية لطفي حتى تتبعه لكي يتفق معها على زواجها من أخيه عبد الحليم حافظ في فيلم «الخطايا». فهمت ذلك فيما بعد، ويبدو أن الإشارة كانت تعني تعال إلى العمارة المقابلة لكي أقول لك ماذا يكلفك أن تعطيني ومهندس الحي حتى نوافق على إعطاء الرخصة؟ وفهمت أنه يعني الرشوة. وكنت في ذلك الوقت مثاليا حازما، وأخلاقيا ضد هذا الفساد، فرفضت؛ فأصدر قراره بعدم الموافقة، وأيده المهندس المساعد بحجة أني بدأت في البناء وإقامة الدور الأرضي دون انتظار الترخيص؛ فرفع المحامي الخاص بي دعوة قضائية ضد الحي بأنه يجوز رفع الأعمدة وبدء البناء ما دام لم تقم أرضية للدور الأرضي بعد، وكسبت القضية. وظلت مفتشة التربية والتعليم تبحث في كل الدفاتر والقوانين عن وسيلة لإيقاف البناء، خاصة بعد أن ارتفع ثمن المتر خمسين مرة في فترة قليلة وتصورت أنها تستطيع مضاعفة السعر مرات أخرى كي تصبح مليونيرة هي وأختها. ولما رأت أن البناء يرتفع طابقا فوق طابق وأن محاولاتها لإيقاف البناء مرتين لم تنجح استسلمت. وعلمنا بعدها أنها قد توفيت، والبناء ما زال يرتفع، فلا هي رضيت ولا أرضت الشاري. وكان بإمكانها أن تأخذ المبلغ المتفق عليه؛ فالعقد شريعة المتعاقدين، وتعيش سلطانة زمانها.
وبعد أن أتممت بناء المنزل والذي كان تصريحه بسبعة طوابق، بنيت منها خمسة فقط، طلب مني المقاول أن أبني طابقين آخرين ثم يشتري مني هذين الطابقين، وبالتالي يكون البناء قد تم دون تكاليف تذكر؛ فرفضت. وقلت إن المبنى كله لي ولأولادي، أنا أحتاج لطابقين؛ طابق كامل منهم لمكتبتي، وطابق لزوجتي التي كانت تريد أن تؤسس به مركزا للنقد السينمائي ومكانا للمكتبة السينمائية، ثم ثلاثة طوابق لأبنائي الثلاثة. فلا أحتاج أكثر من ذلك. فقال لي: «ولكن الهواء ملكك فلماذا ترفض الهواء؟ وسأتكلف أنا بناء الطابقين فلن يكلفك ذلك شيئا بل ستكسب من بيع هذين الطابقين لي.» فشرحت له أن القضية ليست مكسبا أو خسارة ولكنها قضية البحث عن الخصوصية والراحة لي ولزوجتي ولأولادي. ولما فشل في إقناعي تآمر مع شركة اتصالات لكي نبني برجا طويلا فوق سطح المنزل بإيجار قدره سبعين ألف جنيه شهريا في محاولة لإقناعي بالبيع. فتصورت أن منزلي تحول لشركة وأنني سوف أحرم من الجلوس في سطح المنزل والاستمتاع بالشمس الدافئة في الشتاء؛ لأنه سوف يكون تحت رحمة برج الاتصالات، وبأن المنزل سيصبح مليئا بالغرباء الصاعدين والنازلين من السطح والذين يعملون على هذا البرج؛ فشعرت بالقشعريرة، والمقاول اتهمني بالغباء، وأنا أتأمل في أنني حاولت البناء في هذه الحياة وسأترك كل شيء يوما ما، وتساءلت: «وكيف تم بناء هذه الأبراج العالية بجواري وفي الميدان والكل سعيد، السكان والمقاول والمهندس والدولة؟»
والآن أسمع عن قوانين تسجيل العقارات والضرائب العقارية الجديد وقد أخاطر بدفع الآلاف ثمنا لهدوء وخصوصية منزلي ولكي أتفرغ للتأليف، ومكان أوسع لمكتبتي التي بلغ حجمها «ستين ألف كتاب» أضعت بينهم وفيهم عمري وقد بلغت السابعة والثمانين عاما. والدولة تريد أن تأخذ كل ما في جيوب المواطنين، لا فرق بين غني وفقير ، بين من يعيش على الوطن، ومن يعيش لأجله.
الفصل الخامس
الاضطهاد العلمي
عرفت الاضطهاد العلمي من قراءة تاريخ الفكر الإنساني، فقد تم اضطهاد أفلاطون عند كتابة كتابه «الجمهورية». وتم اضطهاد إخناتون لقوله بالتوحيد. وما أكثر من اضطهد من رجال الفكر الإسلامي مثل ابن رشد، ومن الفقهاء ابن حنبل وابن تيمية، ومن الصوفية الحلاج والسهروردي إلى حد الإعدام! وقد استمر الاضطهاد في العصر الوسيط للمعارضين للعقائد الكنسية، والمفكرين الأحرار حتى الإصلاح الديني. واضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لمارتن لوثر، ولكل المحتجين ضدها «البروتستانت». واستمر الاضطهاد في القرن السابع عشر عند اسبينوزا الذي حاولت يد الإثم اغتياله، وكوبرنيكس الذي أثبت دوران الأرض حول الشمس وليس دوران الشمس حول الأرض بسجنه، وفي فكرنا الحديث أعدم عبد القادر عودة وسيد قطب، وتوفي شهدي عطية من التعذيب في السجن، كما أعدم خميس والبقلي في أول الثورة المصرية عام 1952م خوفا من ثورة العمال.
وكان أول اضطهاد لي وأنا طالب بالجامعة في قسم الفلسفة وبالسنة الرابعة، كنت أؤدي امتحانا آخر العام في ثلاث مواد، ترتيبي الأول في السنوات الثلاث الماضية. وكنت مرشحا لأكون معيدا، كنت معروفا بالحرية الفطرية، ومناقشاتي للأساتذة، وبالاعتراض على بعض آرائهم. ففي مادة علم النفس الصناعي، وكانت تقوم على اختيار أفضل العمال من حيث القدرات البدنية والعقلية، وهو ما تحتاجه الصناعة المدنية والعسكرية. ولم تكن الإلكترونيات قد ظهرت بعد، وكان المقرر كتابا باللغة الإنجليزية في علم النفس الصناعي، كنت لا أحتمل هذا العلم؛ لأنه مرتبط بالنظم الرأسمالية في المجتمعات الصناعية، يعتمد على قياس القدرات ونحن في مجتمع زراعي لا يفيد معه هذا العلم في كثير أو في قليل. وكنت أدعو إلى ممارسة علم شعوري كما فعل برجسون وهوسرل فيما بعد. كنت أهاجم علم النفس الصناعي، وأدافع عن أنواع أخرى من علم النفس وعلى رأسها وفي مقدمتها علوم النفس الشعورية ، الاجتماعية، والأدبية، والسياسية، والثقافية.
وكانت تعرف ورقتي وإجابتي في الامتحان، ويتم تمييزها بسهولة؛ لأن باقي الطلبة يكررون ما يقوله الأستاذ، ولما كان مجتمعنا لا يعتاد بعد على الرأي والرأي الآخر، فكان يعامل الرأي الآخر على أنه تشويه للرأي السائد؛ فأعطاني أستاذ المادة اثني عشرة درجة من عشرين أي مقبول. وفي المادة الثانية؛ الفلسفة المعاصرة كان الأستاذ يعطي درسا عن محمد عبده. وكنا ننبهه أن الفلسفة المعاصرة تعني بالغرب وليس بالفكر الإسلامي المعاصر، ولكنه كان معجبا بمحمد عبده وكأنه المفكر الأول في العالم، لا يمكن نقده بشيء. وكنت أنا من دعاة الأفغاني أستاذ محمد عبده والذي كان يدعو إلى الثورة على الخديوي والدفاع عن مصالح الشعب. وهو مفكر الثورة العرابية، واستأنف فكره عبد الله النديم كما هو الذي جعل عرابي يقف في قصر عابدين أمام الخديوي توفيق قائلا: «إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا؛ فوالله لا نستعبد بعد اليوم.» وهو الذي دعا إلى أن الأرض لمن يفلحها وقال: «أيها الفلاح عجبت كيف تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك؟»
ونفي عرابي إلى جزيرة سيلان لمدة ثلاثين عاما، أما محمد عبده فقد أرسل إلى جمعية المقاصد الإسلامية أستاذا بها في بيروت لمدة ثلاث سنوات، وكان الأفغاني يمسك بتلابيبه ويقول له: «والله إنك لمثبط.»
لم يكن محمد عبده مثلي الأعلى في الفلسفة، وكان يعتبر في «رسالة التوحيد» أن العقل في حاجة إلى وصي وأن هذا الوصي هو النبي، وأنا كنت من أنصار العقل دون أي وصاية عليه، كانت مواقفي من محمد عبده معروفة في قاعة الدرس، وكنت أكتب على السبورة قبل أن يدخل الأستاذ «أحب محمد عبده ولكن حبي للحق أعظم.» فكان الأستاذ يغضب في نفسه، خاصة وأن العبارة تحويل لعبارة أرسطو في أفلاطون والتي يستشهد بها الجميع على رفض التبعية وإمكانية النقد؛ نقد التلميذ للأستاذ. وكانت العبارة هي: «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم.» وحصلت فيها أيضا على اثنتي عشرة درجة، أي مقبول.
والمادة الثالثة هي علم الجمال الذي دخل حديثا في القسم، ولا يوجد متخصص فيه، درسها أستاذ الفلسفة الإسلامية؛ فالجمال عنده كان جمال الأشياء في الرسم والتصوير والطباعة على الأقمشة والسجاجيد، دون الموسيقى والشعر، كان ينحاز إلى الفنون البصرية ضد الفنون السمعية. وكان السؤال في الامتحان آخر العام: «لو أردت أن تشتري ربطة عنق فما هي مقاييس الجمال التي تحدد لك الاختيار؟» فأجبت: إن الجمال ليس في الأشياء فقط، بل في الأصوات أيضا، ليس في الفنون البصرية كالنحت والتصوير فقط، ولكن في الفنون السمعية أيضا كالشعر والموسيقى. وقرأت مثل ذلك عند هيجل في تصنيف الفنون وفي عصر بيتهوفن وجوته. فأعطاني أيضا اثنتي عشرة درجة أي مقبول. ولما كان من المفروض أن أحصل على الأقل على ست عشرة درجة في كل مادة فقد نقصتني أربع درجات في كل مادة أي اثنتي عشرة درجة كاملة. ففقدت الامتياز وكان ترتيبي الثاني في الدفعة بعد أن كنت الأول في السنوات الثلاث السابقة.
ومرة سألني رئيس القسم وأستاذ علم النفس الصناعي وكان قبطيا: «أين تريد أن تكون يا حسن بعد التخرج؟» فأجبته بتلقائية تامة: «أريد أن أصوغ منهجا عاما للمسلمين يوقظهم وينقلهم من مرحلة إلى أخرى، من النهضة الأولى إلى النهضة الثانية. أريد أن أكون مثل الأفغاني في إيقاظه للمسلمين، وإحداثه ثورة سياسية واجتماعية.» فأطرق برأسه وقال: «نعم.» ولسانه لا يعبر عما في قلبه.
وبعد هذا الاضطهاد العلمي والفلسفي والمحاكمة الجامعية سافرت إلى فرنسا، وتركت حلم المعيد وأستاذ الجامعة ورائي؛ ما دمت في مصر فلن أحصل على شيء.
وكان الاضطهاد الثاني بعد عودتي من فرنسا وتعييني مدرسا في قسم الفلسفة، وأثناء ترقيتي إلى أستاذ مساعد. كان حكم لجنة الترقيات بأن أترقى، وكان القانون يومئذ ينص على موافقة القسم على قرار اللجنة، ثم موافقة مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة. ولما كنت معروفا بنشاطي السياسي وتعاوني مع الأسر التقدمية في الجامعة مثل «أسرة مصر» المعروفة باتجاهاتها الماركسية، صدرت تعليمات من أجهزة الأمن داخل الكلية بتعطيل قرار الترقية، وكان بالقسم أستاذ واحد يمثل القسم ويوافق على قرارات اللجنة، فلم يوافق رئيس القسم، وذهب القرار إلى مجلس الكلية، فلم يوافق مجلس الكلية، وذهب القرار إلى مجلس الجامعة، فاستغرب المجلس من قرار اللجنة العلمية بالترقية والقرارات الإدارية بالقسم والكلية رافضة، وهو لا يجوز؛ فالقرار الأول والأخير يكون للجنة العلمية. أما قرار القسم ومجلس الكلية فهي مجرد قرارات إدارية؛ فأرجع مجلس الجامعة إلى مجلس الكلية القرار لإعادة النظر فيه، وأرجع مجلس الكلية الموضوع إلى لجنة الترقية؛ فأعادته لجنة الترقية إلى الكلية بأن لا تغيير في موقفها فالأستاذ، والذي هو أنا، يستحق الترقية إلى أستاذ مساعد عن جدارة. في هذه الأثناء تغير العميد، وأصبح نائبا لرئيس الجامعة، ورفض من جديد رئيس القسم القرار بالترقية، ورفض مجلس الكلية من جديد قرار اللجنة العلمية. وذهب الموضوع إلى مجلس الجامعة الذي يتكون من جميع عمداء الكليات وكانوا أكثر من عشرين عميدا، فقام العميد السابق، والذي أصبح نائبا لرئيس الجامعة، بالمطالبة برفض قرار اللجنة العلمية، كما قام عميدا كليتي الهندسة والعلوم بمهاجمة قرار اللجنة العلمية بالترقية؛ فالترقية ليست فقط علمية ولكنها أيضا أخلاقية، وهم يعتبرون أخلاقي لا تتفق مع قيم الجامعة؛ فأنا مشاغب سياسي، ومعارض في قاعات الدرس، وذو حضور قوي في الجمعيات الطلابية، كما أني معارض للنظام السياسي؛ فأصر رئيس الجامعة أن هذه الاعتراضات ليست من شأن الجامعة، وأن المحك في الترقية هو العلم فقط، واللجنة العلمية قد قررت ترقيتي بالفعل. وطلب التصويت على الموضوع، فكان جميع العمداء في صف الترقية إلا هؤلاء الثلاثة الذين بدءوا بنقدي.
وكانت أصوات العمداء الموافقين أكثر من عشرين صوتا، وذهبت إلى رئاسة الجامعة لكي أعرف الخبر، فقال لي السكرتير وهو خارج من الاجتماع بأنه قد تمت الموافقة على الترقية والحمد لله؛ ففرحت، وعلمت أن الاضطهاد السياسي قصير الأمد، وأن الغيرة العلمية لا تؤدي إلى شيء، وأن التبعية للنظام السياسي عار على الجامعة؛ لأن استقلال الجامعة هو أحد مكوناتها وضمان حريتها.
وكان الاضطهاد الثالث في ترقيتي من أستاذ مساعد إلى أستاذ، والذي حكمت اللجنة به عن استحقاق وجدارة، ولكن مجلس القسم والكلية رفضا لأنني مشاغب سياسي ومعارض لكامب ديفيد ولاتفاقية السلام والتطبيع مع إسرائيل، وأشترك في مظاهرات مع الطلبة وأساتذة جامعيين معارضين من اليسار الوطني والجماعات الإسلامية.
أعادت اللجنة التقرير بالموافقة مرة ثانية إلى مجلس الكلية، وأخفى العميد التقرير عدة أشهر بدعوى أنه لم يستلمه أو ربما استلمه وضاع وسط أوراقه وملفات مكتبه، فذهبت إلى مكتب البريد وعرفت هناك أن العميد استلم التقرير بل ووقع عليه بالاستلام أيضا، فأخبرته بذلك، فقال: «إذن هو ضائع في مكتبي». وظل يبحث في الأظرف والملفات حتى وجده. ولم يكن هناك بعد ذلك حيلة لهم إلا بالموافقة ولكن يكفي التعطيل حتى يسبقني آخرون في الترقية فيصبحون رؤساء للقسم.
ولما كان توزيع الدروس على الفرق الأربعة بيد القسم وبموافقة مجلس الكلية فقد تدخلت أجهزة الأمن من جديد لإعطائي أقل عدد من المحاضرات؛ ساعتين أسبوعيا، في غير مواد فلسفية حتى لا أثير أذهان الطلاب وذلك مثل اللغة العربية. لم أوافق على ذلك وتوقفت عن الذهاب إلى الجامعة، وقررت استغلال الوقت في الكتابة والتأليف.
وكان الاضطهاد الرابع قبل حصولي على جائزة الدولة التقديرية، فلم يرشحني القسم إليها بل رشحني قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ونلتها بالرغم من عدم موافقة قسم الفلسفة والذي أنتمي إليه. في سنة أخرى رشح القسم أحد أعضائه فلم ينل إلا صوتا واحدا في مجلس الكلية، ورشح أستاذا آخر في سنة أخرى، لم ينل إلا صوتين، بينما نال ترشيحي أنا جميع أصوات مجلس الكلية؛ فحصلت على جائزة الدولة التقديرية، وتكرر نفس الشيء قبل حصولي على «جائزة النيل الكبرى» والتي حصل على مثلها «نجيب محفوظ». لم يرشحني القسم بل رشحتني الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، كما رشحني أتيليه الإسكندرية للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. ونلت الجائزة بفضل هيئتين من خارج القسم، وأعطيت جميع عمال الكلية لكل فرد منهم خمسين جنيها، وزعتهم سكرتيرة القسم عليهم.
وفي الأعوام السابقة عندما شعرت أن الكلية انخفض صوتها في الأبحاث العلمية المشتركة والندوات والمؤتمرات المختلفة وضعت وديعة بمبلغ مليون جنيه مني للكلية لاستخدام عائدها السنوي لإقامة مؤتمرات وأبحاث علمية للأقسام منفردة أو مجتمعة، ولمساعدة الطلاب في طبع رسائلهم، ولم يتقدم أحد حتى الآن باستثناء الجمعية الفلسفية المصرية بعد عناء ومفاوضات مع العميد على ضرورة دفع نفقات دار الضيافة والعلاقات العامة من هذا العائد.
وكان هناك اضطهاد ضدي خالص، برفض التعيين في الكلية خشية أن تمتد أفكاري عن الحرية للشعوب واستقلال الجامعة، وأنه ستحدث ثورات شعبية وحركات طلابية تنادي بهذين المطلبين، وكانا نفس المطلبين اللذين طالبت بهما عبد الناصر في مؤتمر المبعوثين بالإسكندرية في أغسطس 1966م. وضعتني أجهزة الأمن على القائمة السوداء بسببهما. كانت من ضرورات التعيين بالجامعة موافقة أجهزة الأمن التي لم توافق. وكان أخي مدرسا بقسم اللغة العربية وضابطا احتياطيا بالجيش يستدعى ساعة الضرورة. وكان ضابط الأمن المسئول عن الموافقة أو عدم الموافقة على تعيين المعيدين أو المدرسين القادمين من الخارج، فأقنعه أخي بأنني لست مشاغبا وأن مناقشتي لعبد الناصر كانت مفتوحة أمام الجميع، ورد عليها عبد الناصر وناقشتها الصحافة المصرية؛ فوضعي في القائمة السوداء خطأ أمني؛ فاقتنع ضابط الأمن ووافق على تعييني بكلية الآداب بجامعة القاهرة.
ومرة أخرى جاءتني دعوة من قسم الفلسفة في روما في يناير 1967م لحضور مؤتمر دولي عن فلسفة الدين بعنوان «البراءة والخطيئة». وكتبت بحثا بالفرنسية بعنوان «أسطورة الخطيئة وواقع البراءة». ولما كان السفر إلى الخارج يتطلب موافقة الأمن، رفض الأمن لأن اسمي مدرج على القائمة السوداء؛ فأرسلت برقية إلى عبد الناصر بذلك الرفض، فرد خلال أربع وعشرين ساعة بالموافقة على السفر، وكان قد بعث خطاب الموافقة بالدراجة البخارية.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أدرك خطورة أجهزة الأمن، وقد تم إبعاد رئيسها بعد هزيمة 1967م. بعد ذلك ألغي قرار «الورقة الصفراء» التي كانت ضرورية عند سفر أي أستاذ جامعي للخارج خشية أن يقول أي شيء ضد مصر؛ لأنها طلب غير دستوري.
الفصل السادس
الدين والسياسة
ارتبط الدين بالسياسة في مصر منذ عصر النهضة والإصلاح الديني؛ فقد كتب الطهطاوي «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» وهي سيرة للرسول، وفي نفس الوقت كتب «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» وهو كتاب عن النهضة في مصر، كما كتب محمد عبده «رسالة التوحيد» في الدين ، و«الثورة العرابية» في السياسة. وكتب طه حسين في الدين كتاب «على هامش السيرة» و«الفتنة الكبرى (عثمان)» و«مرآة الإسلام» و«الفتنة الكبرى (علي وبنوه)». كما كتب في السياسة: «المعذبون في الأرض» و«مستقبل الثقافة في مصر». وكتب العقاد في الدين «العبقريات» و«سعد زغلول» في التراجم. كما كتب في السياسة كتاب عن المقارنة بين الإسلام والشيوعية؛ فالدين والسياسة توأمان أو وجهان لعملة واحدة.
وبدأ الرسول ينشر التوحيد وتغيير البنية الاجتماعية للمجتمع العربي. وانتهى بالقضاء على إمبراطوريتي الفرس والروم، وخلق إمبراطورية جديدة من الأندلس غربا حتى الصين شرقا.
وبداية علاقتي بالدين وأنا طفل، كنت أقف مع الأسرة في شرفة في آخر منزل درب البزازرة المطلة على شارع العباسية لرؤية «المحمل». وكان يوم المحمل عيدا وطنيا وعطلة سنوية. والمحمل كسوة الكعبة التي تصنع في مصر في منطقة الخيامية، وفي أجمل نقوش وألوان، وكانت تحمل فوق صندوق كبير على ظهر جمل، يتهادى بها من منطقة الخيامية حتى السويس، ثم تأخذه باخرة إلى جدة، ويأخذه جمل آخر من جدة إلى مكة لتغطى الكعبة بكسوة جديدة بدلا من القديمة، التي ترجع إلى مصر إلى حي الخيامية مرة أخرى، فتقص إلى قطع صغيرة تباع للمصريين لجلب البركة والتبرك بها. وكانت الهتافات عندما يمر الجمل: «اللهم صل على النبي». وكانت موسيقى الجيش تعزف أمامه طيلة الطريق من القاهرة وحتى ميناء السويس، وكانت الكسوة تصنع في مصر على نفقة الدولة المصرية وتنقل إلى مكة.
نشأت متدينا، أصلي مع الوالد في المساجد، خاصة في شهر رمضان. وذات يوم ونحن نصلي جنبا إلى جنب ونسجد، قام والدي بعد السجود واقفا، وأنا ظللت ساجدا؛ دفعني أبي بقدمه كي أقوم فلم أقم، ظن أنني قد أغمي علي، فسلم وخرج من الصلاة لكي يساعدني على الوقوف، وأنا لم أكن مريضا ولا بي أي عائق للقيام بعد السجود ولكنه كان لعب أطفال.
كنت أصوم رمضان مع باقي الأسرة، ولكن بين الحين والآخر وأثناء نهار رمضان عندما يشتد العطش كنت أشرب دون أن أقول، وفي المدرسة الثانوية كانت هناك أربعة تيارات أو أربع حركات سياسية للتلاميذ وهم في سن الصبا: الأول الوفد، ولكنا كنا نعتبره حزبا إقطاعيا بالرغم من وطينته. والثاني مصر الفتاة، وكان حزبا وطنيا ولكنه كان لا يتوانى عن استعمال العنف. والثالث الحزب الماركسي، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني «حدتو». وكان أقل التيارات تعرضا للشبهات. وكان الرابع الإخوان المسلمون أكثر التيارات انتشارا وأقلهم نقدا.
وبالرغم من أننا كنا نخرج ونحن في المدارس الابتدائية لنشارك في مظاهرات الجامعة، لكننا لم نكن نعرف لماذا نشارك؟ كنا نعرف فقط أننا نتظاهر ضد الإنجليز، وأحيانا كنا نخرج بالقوة مع المدرسة، أساتذة ونظارا لكي نذهب إلى قصر عابدين في عيد ميلاد الملك ونغني له.
1
كنا نخرج من الفصول إلى فناء المدرسة، ونحن نهتف بهذه الشعارات، ثم نخرج إذا ما سمعنا أصوات تلاميذ مدرسة فاروق وفؤاد الأول اللتين كانتا تقعان في شارع الجيش (العباسية سابقا).
كانت الفكرة الشائعة أن مدرسة فؤاد هي الأشجع، يخرج تلاميذها أولا. ويذهبون إلى مدرسة فاروق في الجانب الآخر من الشارع؛ فيخرج تلاميذها معهم، ثم يأتون إلى مدرسة خليل أغا الأقل شجاعة في المبادرة بالخروج.
وكنا نسير في الشارع فيخرج معنا تلاميذ مدرسة باب الشعرية، ونسير حتى العتبة، ونأخذ الترام بعد أن يغير اتجاهه بفضل تغيير «السنجة». والذهاب إلى الجامعة كي نشارك في المظاهرات التي تعم البلاد ونحن صغار.
كنا نركب الترام والبعض يقف على سطحه يحمل الأعلام، وهو يحركها يمينا ويسارا محييا الناس.
كان ذلك في الأربعينيات أيام الحركة الوطنية المصرية، و«لجنة الطلبة والعمال» عام 1946م. وفي يوم عند خروج طلبة الجامعة في مظاهرة ضد الاحتلال البريطاني، والهتاف من أجل الحرية والاستقلال، فتحت الشرطة كوبري عباس أثناء عبور الطلبة حتى لا يصلوا إلى الجانب الآخر ويزداد عدد المتظاهرين، فغرق البعض، وأصيب البعض الآخر، وقبض على فريق ثالث. وهو ما صورته «لطيفة الزيات» في روايتها «الباب المفتوح» التي تحولت إلى فيلم فيما بعد.
في عام 1951م وعندما كنت أبدأ بالقراءة للمودودي وجدته يتكلم بالطريقة التي أريدها وأنا ما زلت خاوي الوفاض، ورأيت علال الفاسي، وسمعت محاضراته باللهجة المغربية.
وبدأت أقرأ سيد قطب نفسه في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«التصوير الفني في القرآن»، و«مشاهد القيامة في القرآن»، و«الصراع بين الرأسمالية والإسلام»، و«خصائص التصور الإسلامي ومقدماته»، و«المستقبل لهذا الدين». ولم يكن «معالم في الطريق» قد ظهر بعد. تأثرت بمواقفه الاشتراكية والأدبية، وبحثت عن باقي كتبه، فقرأت «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه». ووجدت رسالة صغيرة له كتبت في الثلاثينيات بتقديم مهدي علام عميد آداب الإسكندرية، بعنوان «الإسلام حركة إبداعية في الخير والحياة» أثرت في هذه الرسالة كثيرا ومنها الفكر والإبداع الفني وأنا كنت أتجه نحو الفلسفة والموسيقى، وشعرت أن سيد قطب هو الأديب والمفكر الاشتراكي، وأن مكانه ليس في هذه الجماعة، بحثوا عن أمير جديد للجماعة فلم يجدوا أحدا حتى عثروا على سيد قطب أخيرا عام 1951م. وكانت كتاباته الإسلامية والأدبية معروفة، فقبل أعضاء الجماعة على مضض، وعندما قامت الثورة المصرية في 1952م كانوا يبحثون أيضا عن أمين للدعوة والفكر في هيئة التحرير، واقترح جمال عبد الناصر اسم سيد قطب لكتابه عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، فرفض لأنه كان قد قبل منصب أمير الدعوة والفكر بالجماعة.
وفي صيف 1952م قامت الثورة المصرية، وفي نفس الوقت أو قبلها بقليل انضممت إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكنت أزورهم في شعبة باب الشعرية، وكنت أذهب إلى ميدان الحلمية حيث المركز الرئيسي للجماعة، وأسمع المحاضرات، وأشتري الكتيبات، وهناك قابلت سيد قطب لأول مرة، وأخبرته أنني أريد القيام بتأليف منهاج إسلامي عام يحقق للمسلمين نهضتهم، فسألني: «هل قرأت المودودي؟» قلت: «لا.» قال: «اقرأ المودودي أولا.» وكانت كتيباته مترجمة في سوريا، ومعروضة للبيع بجوار المركز العام للإخوان المسلمين فاشتريتها وقرأتها بحماس.
وبعد أن قامت ثورة 23 يوليو 1952م وفرحنا بها، وبقانون الإصلاح الزراعي، أردنا زيارة الريف وأن نرى بأنفسنا فرح الفلاح بهذا القانون. قررت أنا وثلاثة من الأصدقاء أن نذهب في زيارة من القاهرة إلى الإسكندرية نمر بالريف سيرا على الأقدام ، والحديث مع الفلاحين، والاطلاع على دور هيئة التحرير والذي كان أول تنظيم سياسي بعد قيام الثورة.
قضينا أول ليلة وصلنا فيها إلى بنها، والثانية في طنطا، والثالثة في كفر الزيات، والرابعة كنا قد وصلنا الإسكندرية، كنا نضع حقيبة ملابسنا فوق ظهورنا كما يفعل الرحالة، وفي كل مدينة كنا نصل إليها كنا نجد مبنى هيئة التحرير مغلقا، ولم يكن هناك ما يدل عليه سواء يافطة معلقة فوق أحد البنايات أو على بابها، ووجدنا نفس الشيء في طنطا، مجرد يافطات معلقة بطابق أول من مبنى مغلق النوافذ، ولا أحد هناك، فزاد استعجابنا، ولما وصلنا إلى كفر الزيات كنا قد تعبنا، وسألنا عن هيئة التحرير فأرشدونا إلى صاحب مصنع زيت، فأخبرناه أننا من قادة هيئة التحرير ونريد زيارة مقر الهيئات لنطمئن على أنشطتها، فأسرع صاحب المصنع بالترحيب بنا، وطلب إحضار غداء لنا، وكانت أطباق مشويات من الكفتة والكباب حتى نكتب عنه تقريرا جيدا لمركز الهيئة بالقاهرة وبأن فرع مكتب الهيئة بكفر الزيات نشط وأن الأعضاء يذهبون ويأتون ويترددون عليه، وأنهم متأثرون بعمل الهيئة، وموالون للثورة. وأدركنا مدى الكذب والنفاق الذي تعيشه الهيئة ورؤساء فروعها، ووصلنا الإسكندرية. ووجدنا أن رئيس الفرع هو شوقي عبد الناصر شقيق الرئيس، وغضب منا؛ لأننا لم نخبره من قبل بزيارتنا حتى يستعد لها.
وقضينا الليلة في شرفة البورصة والتي علقت عليها لافتة بعنوان: «هيئة التحرير»، والتي تمت فيها فيما بعد محاولة لاغتيال عبد الناصر في عام 1954م. وعدنا بالقطار إلى القاهرة وقد عرفنا أن شيئا لم يحدث ولم يتغير، ولا وجود ولا عمل لهيئة التحرير، ولا تأثير للثورة وقوانينها على الريف المصري.
وفي حرم الجامعة كانت المظاهرات لجماعة الإخوان هي الأقوى تنادي برئاسة محمد نجيب للجمهورية، وكان محمد نجيب قد أتى، وألقى خطبة بالقاعة الكبرى بجامعة القاهرة، وبجواره ضابط واضعا ذراعه فوق الأخرى. كان صامتا لا يتكلم، خالعا القبعة العسكرية، وبعد أن تكلم نجيب عن الديمقراطية والثورة وأنه لا تعارض بينهما؛ فالديمقراطية بلا ثورة تشتت في وقت تحتاج الأمة فيه إلى حسم، والثورة بلا ديمقراطية طغيان واستبداد.
وكان قد أعلن أن الثورة المصرية ما هي إلا البداية لتكوين ثورات بالأمة الإسلامية جميعها، والتي يجب أن تتوحد في جامعة إسلامية واحدة. فضجت القاعة بتصفيق حاد، والضابط بجواره صامت ولا يتكلم.
وكانت الجماعة تسيطر على الحرم الجامعي، ولأول مرة أسمع قادتها يخطبون، مثل حسن دوح، وكنا نجلس في حلقات طلابية في وسط حرم الجامعة للاستذكار، ويمر علينا قادة الجماعة، ويلقون السلام.
وفي يوم ما جاء نواب صفوي من إيران بعد ثورة «مصدق». ودخل بعربته إلى حرم الجامعة، فتابعه الحرس الجامعي، وقلب عربته، فاشتعلت بالنيران، فقد بدأت الجماعة تأخذ موقف المعارضة من الثورة، وقد دخل نواب صفوي إلى حرم الجامعة دعما للجماعة.
وظل الخلاف بين الثورة والجماعة على مستوى القيادة، وعندما طلب المرشد العام للجماعة ألا يصدر أي قرار من الثورة بدون موافقة الجماعة عليه أولا، رفض عبد الناصر وكان من مجموعة الضباط الأحرار.
وازداد التوتر بين مجلس قيادة الثورة والجماعة حين أزيح الضباط الإخوان من تنظيم الضباط الأحرار، ثم أزيح نجيب من رئاسة الجمهورية.
وتفجر الخلاف حين عقد عبد الناصر معاهدة الجلاء مع بريطانيا في مارس 1954م والتي كانت تنص على انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس والتل الكبير، وتعود إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى». وهي عبارة في الفكر السياسي تعني عودة الاحتلال.
قامت المظاهرات من الجامعة بسبب ذلك تنادي بسقوط المعاهدة، ووزعت الجماعة نقدا مكتوبا لبنود المعاهدة.
وشاركت في هذه المظاهرة، ليس حبا في الجماعة، ولكن خوفا من عودة الاحتلال.
وأطلقت النيران على المظاهرة، وكنا فوق كوبري الجامعة، فقتل طالبان على الفور، كان عبد الناصر وزيرا للداخلية، وهو الذي أمر بإطلاق النار؛ فتفرقت المظاهرة، ثم تجمعت في ميدان عابدين مرة أخرى، ورفع عبد القادر عودة قميصي الطالبين المخضبين بالدماء قائلا: «انظروا ماذا فعلوا؟» جرى باقي الطلاب إلى ميدان التحرير، حيث مركز الحركة الوطنية؛ فاختبأ بعضهم بفندق سميراميس المجاور للميدان، وكنت أنا منهم، وظل الجو متوترا بين الجماعة وعبد الناصر حتى يوليو 1954م. وأثناء إلقاء عبد الناصر خطبته من شرفة مبنى بورصة الإسكندرية في ميناء المنشية انطلقت عليه رصاصات من الجمهور في محاولة لاغتياله، لم تصبه، وأكمل عبد الناصر خطبته قائلا: «فليقتلوني ولكني لن أتخلى عن الثورة.» وقبض على الشاب الذي أطلق الرصاص، وكان من الإخوان من شعبة إمبابة، كما قبض على زملائه الخمسة، الذين دبروا هذه المحاولة، فقدموا للمحاكمة، وأعدموا، كما أعدم عبد القادر عودة. لم يصدر مكتب الإرشاد قرارا بالاغتيال، ولكن الفكرة كانت تدور في الأذهان؛ فأخذت شعبة إمبابة القرار والقيام بالتنفيذ دون أن يصدر لها الأمر بذلك.
وحلت الجماعة كما حلت باقي الأحزاب في مصر من قبل، ولم تبق إلا هيئة التحرير، حزب الثورة، ولم تجد قادة ولا جماهير لها، بل كانت مجرد اسم يملأ به فراغ الأحزاب والجماعات.
كان نجيب محبوبا في القلوب لدفاعه عن الديمقراطية، وكان عبد الناصر مكروها لطغيانه واستبداده، حتى أتى تأميم قناة السويس في يوليو 1956م فتحول إلى بطل قومي، ونسي الناس نجيب وهو في الإقامة الجبرية.
وبدأ العدوان الثلاثي على مصر في أغسطس 1956م. وكنت قد غادرت إلى فرنسا في نفس الشهر، وكنت أبكي وأنا أزور متحف اللوفر وبه قسم كبير عن مصر الفرعونية. واجتمع الطلاب في السفارة المصرية مطالبين بالعودة إلى مصر للدفاع عنها، فأخبرهم السفير أن في مصر رجالا يستطيعون الدفاع عنها، أما الطلاب فمهمتهم استكمال دراستهم ليخدموا مصر بعد عودتهم.
وأثناء دخولي لأحد المطاعم الجامعية في فرنسا، سمعت شابا يتكلم العربية بلهجة غير مصرية، ففرحت بلقاء عربي، وسألته من أين هو؟ قال: «من السعودية.» ولما كنت في ذلك الوقت ناصريا إلى أقصى درجة ومؤيدا لعبد الناصر في قرار إرسال الجيش للدفاع عن الثورة في اليمن ضد الإمام الذي كانت تساعده السعودية خشية من انتشار الثورة والوصول للسعودية، قلت للشاب السعودي: «إن شاء الله تقوم الثورة في السعودية وتلحق بالثورة العربية.» لم يعجبه الكلام ونظر غاضبا وقال : «ولماذا؟» ثم انبرى بالدفاع عن النظام الملكي في السعودية. فعرفت أن الناس على أديان ملوكهم، وأن خطئي هو التصور أن العرب كلهم ثوريون، وأن الجمهورية هو النظام القادم الأفضل. ولم أكن أعلم أن الخيال شيء، وأن الواقع شيء آخر.
هنا تحول الدين عندي إلى سياسة، وتحولت عواطفي من الانتساب إلى الجماعة إلى الانتساب لمجموعة الضباط الأحرار، فقد كان الوطن عندي أغلى من الدين، ومصر الوطنية عندي أعز من الوحدة الإسلامية العامة. ومع ذلك كان صوت عبد الباسط عبد الصمد يرن في أذني جامعا بين الدين والموسيقى، وكنت أذهب إلى صديق سوري يعيش في شمال باريس لأسمع قراءة عبد الباسط عبد الصمد عنده، والذي سماه ملك المغرب «قيثارة السماء». كنت أذهب إليه كل سبت في السادسة مساء، وكنت أيضا أذهب إلى مسجد باريس كل ظهر جمعة لأداء صلاة الجماعة. ورأيت بداية الخلاف بين مجموعة البشير الإبراهيمي ومجموعة هيئة التحرير برئاسة فرحات عباس.
كانت عندي سجادة صلاة أحضرتها معي من مصر، أفترشها وأصلي بين الحين والآخر، وكنت أذهب إلى المطعم الجامعي الخاص بالطلبة المسلمين في شارع سان ميشيل كل جمعة بعد الصلاة لأكل «الكسكسي» بالخضار واللحم، كان الطلبة المسلمون يقودون تقريبا كل يوم المظاهرات ضد العدوان الفرنسي على الجزائر، ويطالبون باستقلالها، وكانوا يقومون مع باقي الطلبة بمظاهرات ضد الغزو الأمريكي على فيتنام.
في عام 1965م قامت مظاهرات ضد انقلاب بومدين في الجزائر ضد ابن بيللا الزعيم الوطني ورمز الحرية والاستقلال.
وفي مظاهرات الحي اللاتيني تعرفت على «علي شريعتي» المفكر الثوري الإيراني الذي كان يدرس «دكتوراه الجامعة» وليس «دكتوراه الدولة». الأولى معترف بها من الجامعة فقط دون الدولة، وهي أشبه بالماجستير، ومخصصة للطلبة الإيرانيين، والثانية معترف بها من الجامعة والدولة، ومخصصة لباقي الطلاب؛ ومنهم الطلبة المصريون. وكانت تتطلب إجراء رسالتين: رسالة رئيسية، ورسالة أخرى تكميلية. تناقشان معا في نفس اليوم، وبينهما استراحة قصيرة. ولجنة المناقشة مكونة من خمسة أساتذة.
وبدأ الدين يتوارى أكثر من أجل السياسة حتى رفعت السجادة من على الأرض وعلقتها على الحائط وكأنها عمل فني.
وبعد أن أعيدت العلاقات السياسية بين مصر وفرنسا بعد انقطاعها بسبب العدوان الفرنسي على مصر بعد تأميم قناة السويس، جاء المشير عامر إلى باريس لمقابلة ديجول، وتهيئة جو الصداقة بين مصر وفرنسا، والحديث عن استقلال الجزائر والقضية الفلسطينية. دعاه السفير إلى السفارة المصرية ليرحب به الطلبة المصريون، ووضعت لافتات الترحيب على الحوائط بالألوان، واختار السفير بعض الطلبة لإلقاء خطب ترحيبية بالمشير، صححها بنفسه خشية أن يكون بها شيء معارض للنظام السياسي. دخلت السفارة، ووجدت اللافتات في أزهى الألوان، وصعدت الطابق الثاني مكان اللقاء، وكان المشير يجلس بجواره وزير الخارجية المصرية محمود فوزي والصحفي لطفي الخولي رئيس تحرير «مجلة الطليعة».
وما إن بدأ أول طالب بقراءة خطاب الترحيب حتى وقفت وأخذت منه مكبر الصوت قائلا: «أيها المشير كل هذه اللافتات التي تراها نفاق في نفاق، كتبها السفير، وعلقها، كلها وكل الخطب التي ستسمعها راجعها السفير بنفسه، أريدك أن تسمع ما يقوله الطلاب.» فأنزلت اللافتات، وبدأت أقول: «الطلبة يتساءلون عن الحريات في مصر، وعن الطبقة الجديدة التي نشأت في مجتمع اشتراكي من مديري البنوك، ورجال الأعمال، وضباط الجيش، والمحافظين. وخلقت طبقة بين الحاكم والمحكوم. وقد وعد الرئيس جمال عبد الناصر بألا يزيد الفرق بين الطبقات الاجتماعية أكثر من واحد إلى عشرة. والآن الفرق واحد إلى مائة.»
فقام الطلاب ورائي كل منهم يعبر عن مأساة النظام معه، منهم من قطعت منحته؛ لأنه إخواني أو ماركسي، ومنهم من لم يجدد جواز سفره؛ لأنه متهم من أجهزة الأمن، ومنهم من وضع في قوائم الممنوعين من السفر. وبعد حوالي نصف ساعة من انتقادي للنظام السياسي لم يعرف المشير ماذا يقول؛ فطلب من لطفي الخولي أن يرد. فقال: «إن الطلبة هنا في باريس مستريحون، يدرسون، ويطعمون بكل حرية، أما في مصر فهناك المعذبون والمعتقلون ومن ضحوا بأنفسهم من أجل النظام.» ومحمود فوزي يبتسم مسرورا من كلام الطلاب، وحزينا مما سمعه من دفاع عن النظام من أحد الماركسيين المصريين والذي أصبح عمدة للنظام.
وبعد أن انتهت المقابلة استدعاني السفير إلى مكتبه قائلا: «ماذا فعلت؟» قلت :«فعلت ما يمليه علي ضميري ضد النفاق.» قال: «ألا تخاف؟» قلت: «لا، ومم أخاف وقد عبرت عما في قلوب الجميع.» ومنذ ذلك الوقت كون الطلاب في باريس جماعة لدراسة الأحوال في مصر، وأقاموا ندوات أسبوعية تناقش هذه الأحوال؛ فأقيمت ندوات عن الطبقة الجديدة، التي أصبحت مفهوما شائعا، والفقر في مصر، ونقص الحريات في مصر. ولما عاد المشير أخبر عبد الناصر بما سمعه من الطلاب في باريس؛ فطلب عبد الناصر استدعاء ممثلي الطلاب في أوروبا كي يأتوه إلى مصر ومناقشتهم. وكان هذا بعام 1966م. فأعددنا في باريس ملفات عن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية في مصر، وأقام الطلبة انتخابات في جامعاتهم كي يختاروا من يأتي إلى باريس ومنها إلى القاهرة لمناقشة الرئيس. وكنت رئيسا للوفد المصري، وحضرنا إلى القاهرة في أغسطس سنة 1966م. والتقينا في مدرج كبير بجامعة الإسكندرية، وكنا نغني في الطائرة «لكي يا مصر السلامة»، و«اسلمي يا مصر». ناقشنا عبد الناصر يوميا لمدة أسبوع تقريبا، وكانت مهمتي أن أكتب ورقتين؛ واحدة في الحريات العامة، والثانية في استقلال الجامعات.
قدمنا الملف إلى عبد الناصر، وناقشناه علنا، وطلبنا الحريات لشعب مصر واستقلال الجامعات، وقام واحد بالتحدث عن الأحوال السياسية في مصر، وقام آخر بالتحدث عن الأحوال الاقتصادية، وثالث ورابع وخامس عن الأحوال الاجتماعية والثقافية. وحذرنا عبد الناصر من حالة وقوع معركة بين مصر وإسرائيل، فالخوف والخطر على مصر. وسألناه لماذا تم إعدام سيد قطب؟ وهو الأديب، الناقد، المفكر؟ فرد عبد الناصر على أسئلتنا ومنها: «إن مهمته توفير الخبز للشعب.» فرد عليه يوسف إدريس في اليوم التالي على صفحات «الأهرام» قائلا: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.»
وأخبرنا عبد الناصر بأنه قرأ ملفاتنا بجدية واهتمام، ودعانا إلى قصر الطاهرة لأخذ الصور التذكارية معه.
وعاد ممثلو الطلاب إلى باريس باستثنائي أنا؛ فقد كنت ناقشت رسالتي الدكتوراه قبل ذلك بشهرين.
وعدت بحقيبة ملابسي، وتركت مكتبتي في الغرفة، وسلمت مفتاحها إلى السفارة، وحادثت وزير التعليم العالي في الإسكندرية ذلك الوقت قائلا له: «تركت مكتبتي في باريس، فكيف أنقلها إلى مصر؟» فقال لي: «اطلب ذلك من عبد الناصر.» ففعلت مثلما قيل لي. فوافق عبد الناصر على نقلها من باريس إلى القاهرة على نفقة الدولة، وأرسل ما يفيد إلى السفارة بذلك؛ فكلف السفير شركة شحن لنقل مكتبتي، ووضعت الكتب في ثلاثة صناديق خشبية استلمتها في ميناء الإسكندرية، وبعد أن فتح موظف الجمارك صندوقا واحدا ووجد كتبا أغلق الصندوق ولم يطلب عليه جمركا؛ على الكتب بدعوى أنها لا تستحق الجمارك عليها.
كان والدي وأخي في انتظاري بالميناء، فشحنا صناديق الكتب بعربة نقل إلى منزلي بالقاهرة والذي كنت أشاركه مع والدي السكن به بالعباسية. وقمت وزوج شقيقتي الكبرى بتركيب رفوف خشبية، ودهنها، ووضع الكتب عليها. امتلأت حوائط الغرفة بالرفوف والكتب، وبها سرير ومكتب حتى لحظة الزواج بعد أربع سنوات، نقلتها إلى شقة الزوجية بميدان الحجاز بمصر الجديدة، ثم نقلتها بعد ربع قرن إلى بيتي العربي والذي شيدته على الطراز الأندلسي بمدينة نصر. وخصصت لها مساحة البدروم بالكامل مع جزء من الطابق الأول، صممت دواليب خاصة لها رفوف وأبواب زجاجية، ومن أسفل رفوف ودواليب من خشب لحفظ الكتب بها.
بلغ عددهم ستين دولابا، وبصعوبة صنفت كتبي فيها: الأجنبية الواردة من الخارج، والعربية التي اشتريتها من مصر، غرفة كاملة لنسخ مؤلفاتي، وأخرى لمجلاتي العلمية، وكان مكتبي في البدروم ليس له سقف؛ لأنه مفتوح على حجرة كبيرة على الطابق الذي يليه، بينهما سلم خشبي، ووسطهما فانوس عربي كبير مدلى من السقف، يكاد يلامس الأرض.
وتم إدخال المكتبة بالكامل على جهاز «الحاسب الآلي» في ستة أقسام؛ الأول: الفلسفة الغربية بمراحلها المختلفة: اليونانية، الرومانية، والمسيحية، واليهودية، والإصلاح الديني، وعصر النهضة. ثم العصر الحديث: السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، والعشرين. وقد أخذ القرن التاسع عشر أكبر مساحة.
والقسم الثاني: الفلسفة الإسلامية ابتداء من علم الكلام، والتصوف، وعلم أصول الفقه، ثم الفكر العربي الإسلامي المعاصر والذي ضم أربعة دواليب عن مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي . وقد أخذت إيران أوسع المساحات.
والقسم الثالث: فلسفة الدين ، عن الفلسفة المسيحية واليهودية والشرقية، والاستشراق، والفلسفة العامة، وعلم النفس، وفلسفة العلوم، وعلم الاجتماع، وعلم الجمال.
والقسم الرابع: العلوم السياسية والاقتصادية، ابتداء من النظريات العامة ثم مصر والوطن العربي والعالم الثالث؛ أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة الأمريكية. ثم علم التاريخ والجغرافيا، ثم خطب القادة العرب، ثم قسم عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
والقسم الخامس: النقد الأدبي، الشعر، والرواية، والقصة، والمسرح.
والسادس: المجلات العلمية بالعربية والإنجليزية.
أما القسم السابع والأخير: فيتكون من نسخ من مؤلفاتي العربية والإنجليزية والفرنسية، والدراسات التي صدرت عليها، والرسائل العلمية التي أشرفت عليها.
وبعد عام من عودتي من فرنسا وقعت هزيمة 1967م وهو ما كنا حذرنا عبد الناصر منه قبل عام في مؤتمر المبعوثين الأول بالإسكندرية.
وعدت من فرنسا وأنا مملوء بالحيوية الفكرية والنشاط العلمي والحماس للمستقبل والمساهمة في إعداد جيل جديد.
فلما وقعت الهزيمة وبشكل ساحق للجيش، خاصة الطيران وتدميره تقريبا بالكامل وهو على الأرض، قمنا بمظاهرات مارس 1968م لمحاكمة المسئولين عن الهزيمة، خاصة قادة الطيران الذين أغلقوا المدافع المضادة؛ لأن طائرة المشير كانت في الجو، وحاول بعض الصحفيين من كتاب السلطان تبرير مظاهرات مارس 1968م بأنها شبيهة بمظاهرات الطلاب في جميع أنحاء العالم التي كانت سائدة في نفس الوقت، ودون تحليل الظروف الخاصة لغضب الطلاب في مصر. وكتب أحمد بهاء الدين بيان 30 مارس الذي يعد بإصلاح الأمة وتحرير الأرض والتنمية وتذويب الفوارق بين الطبقات ورفع مستوى المعيشة وإطلاق الحريات، وتقريبا كل ما نادى به الطلبة في مؤتمر المبعوثين قبلها بعام واحد في الإسكندرية، وطالبوا عبد الناصر بتحقيقه وإلا كانت الهزيمة في أي صدام مع إسرائيل، وهو ما حدث بالفعل. وبينما كان عبد الناصر يقود معركة التحرير، بدأ بحرب الاستنزاف 1968-1969م والتي أرهقت إسرائيل، وعرفت أن الجيش المصري ما زال قادرا على المواجهة، ثم انتقل عبد الناصر إلى الرفيق الأعلى عام 1970م. وخلفه نائبه، واضطر تحت ضغط اعتصام الطلاب في ميدان التحرير وفي جامعة القاهرة عام 1972م؛ اضطر إلى دخول الحرب بكفاءة القادة المصريين، وعبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف، والاستيلاء على الضفة الشرقية للقناة وحتى وإن لم نصل إلى المضايق.
واضطرت إسرائيل إلى الدخول في مفاوضات الانسحاب من سيناء، حتى وإن تجادلت حول طابا، ثم الانصياع أخيرا إلى قرار التحكيم بالانسحاب منها.
كنت في الولايات المتحدة في جامعة تمبل بفيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، منذ 1971م إلى 1975م. فحزنت لاستئصال الناصريين من الدولة والجيش، استعدادا للانفتاح والقطاع الخاص، والتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي عام 1976م أنشئت المنابر لليمين واليسار والوسط، وكان حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي يمثل اليسار، وكان التصور لكمال الدين رفعت بإنشاء حزب يجمع كل القوى الوطنية: الناصريين، والقوميين، والليبراليين، والماركسيين، والإسلام المستنير؛ فدخلت الحزب عن الإسلام المستنير مع بعض الأساتذة مثل محمد أحمد خلف الله، وكان من مدرسة أمين الخولي بعد رسالته عن «الصورة الفنية في القرآن الكريم» والتي رفضتها الجامعة.
كان الإسلام المستنير ضعيفا داخل حزب التجمع، وكذلك كان الناصريون والقوميون والليبراليون. وكان الماركسيون هم الأكثر نشاطا وسلطة وقدرة على التجمع، ابتداء من رئيسه خالد محي الدين. وكنت من هيئة تحرير جريدة «الأهالي» التي أصدرها حزب التجمع. وذات مرة عندما أتت جماعة «البهرة» الإسلامية من الهند لزيارة السيدة زينب وتبرعت لجعل مقبض باب السيدة زينب من الذهب، وجعل نقطة الباء في «بسم الله الرحمن الرحيم» بالذهب الخالص أيضا. وكان رئيس الدولة يحب الصفقات؛ فكتبت مقالا في جريدة الأهالي بعنوان «ذهب المقصورة وجوع الفقراء». وكنت قد زرت حي «قلعة الكبش» وراء حي السيدة زينب، ورأيت فقره وبؤسه. وتساءلت: «أيهما أولى بالمساعدة، هذا الحي الفقير أم الذهب في مقبض باب مقصورة السيدة زينب؟» فغضب رئيس الحزب وقال: «لو كنت بداخل مصر لمنعت المقال من النشر، فمعظم أصوات هذا الحي تأتي للتجمع.» فاضطر للتخلي عن الحق في سبيل المصلحة.
وفي المرة الثانية عندما قامت الثورة الإسلامية بإيران بقيادة الخميني، نشر الحزب مقالا في جريدة الحائط «ضد الخميني وضد الثورة الدينية» لأن الحزب يعتقد أن الثورة يجب أن تكون «علمانية» أي ماركسية؛ فالدين يأتي بالتأخر، في حين أن الثورة تأتي بالتقدم. وهاجم الحزب ثورة مصدق عام 1953م التي أممت النفط، وهرب الشاه بعدها. وقد كان عبد الناصر يؤيد الثوار في إيران، وأعلن مصدق أنه تعلم الثورة من عبد الناصر، فكتبت مقالا بعنوان «دور الأحزاب التقدمية في البلاد النامية» وعن الدين والثورة، وطلبت مناقشة المقال رسميا في الحزب، فلم أتلق جوابا. فماذا أفعل؟ تركت الإخوان لأنهم عارضوا عبد الناصر البطل القومي، ونافسوه في الصراع على السلطة، ولم يتآلفوا معه خاصة بعد أن كتب سيد قطب 1949م «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«معركة الرأسمالية والإسلام». وكنت قد بدأت في الانعزال عن الجماعة منذ وجودي في شعبة باب الشعرية ومعي الكمان وأنا ذاهب إلى معهد الموسيقى أو عائد منه عندما قال لي أحد الإخوة: «يا أخ حسن ألا تعلم أن الموسيقى حرام؟» وكانت روحي في الموسيقى. وكان سيد درويش معبرا عن ثورة 1919م. وكان بيتهوفن معبرا عن الوحدة الألمانية والرومانسية الألمانية.
تركت «الإخوان» أولا ثم «التجمع» ثانيا. وبدأت أفكر في «اليسار الإسلامي» أي تحقيق أهداف اليسار في التقدم والتنمية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية عن طريق الإسلام باعتباره ثقافة شعبية وليس عن طريق الأيديولوجيات العلمانية التي لا يفهمها الشعب ولا تتعامل معها إلا النخبة المثقفة.
وكنت قد قرأت وأنا أستاذ بالولايات المتحدة الأمريكية عن «لاهوت الأرض» و«لاهوت التنمية» و«لاهوت التحرر» و«لاهوت الشعب» وأنا في مرحلة الإعداد لعلم الكلام الجديد ونقد نظرية الذات والصفات والأفعال الأشعرية، ومتجاوزا الأصول الخمسة عند المعتزلة والإمامية عند الشيعة.
فأصدرت مجلة «اليسار الإسلامي» على نفقتي الخاصة، صدر منها العدد الأول قبل أن تصادر، ثم تعبت من العمل الشعبي، فخصصت وقتي لمشروعي العلمي «التراث والتجديد». ومع ذلك انتشرت فكرة «اليسار الإسلامي» في تونس والمغرب غربا، وامتدت إلى ماليزيا وإندونيسيا شرقا، وما زال هو القادر على جمع الإسلاميين والعلمانيين والماركسيين في عمل سياسي واحد كما هو الحال عند الإسلاميين التقدميين في تونس وحزب النهضة والحكومة الحالية بعد ثورات الربيع العربي 2011م التي تجمع بين اليمين واليسار .
وظللت أنشط سياسيا ضد الانقلاب على الناصرية بعد وفاة الزعيم. وشاركت في انتفاضة يناير 1977م التي حملت الجماهير الشعبية فيها صور عبد الناصر من الإسكندرية إلى أسوان مطالبين بالخبز بعد رفع الحكومة الأسعار، بالرغم من تسمية رئيس الدولة لها «انتفاضة حرامية»؛ لأنها فتحت المجمعات الاستهلاكية، ووزعت ما فيها على الفقراء، وهدمت كل الإعلانات عن الفنادق الكبرى والعطور الغالية والملابس الجاهزة واحتياجات الطبقة الغنية، وأبقت على إعلانات المستشفيات والمدارس والنوادي الشعبية.
واستمرت كتاباتي عن الدين والثورة، الدين وسيلة، والثورة غاية. وجمعت في ثمانية أجزاء بعنوان «الدين والثورة في مصر 1952-1981». وكتبت عن «لاهوت التحرير» عند كاميلو توريز في أمريكا اللاتينية. وأصدرت كتابا عن الأفغاني لنفس السبب.
وبعد نشري كتاب «الحكومة الإسلامية» للخميني صنفتني الحركة الإسلامية بأنني شيوعي متخف، وصنفتني الحركة التقدمية بأنني إسلامي متخف، وصنفتني أجهزة الأمن بأنني إخواني شيوعي.
وعارضت اتفاقية كامب ديفيد وزيارة الرئيس لإسرائيل، عارضت اتفاقية السلام قبل أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وكان نصيبي الفصل من الجامعة بعد قرارات سبتمبر الشهيرة 1981م، وتحويلي إلى وزارة الشئون الاجتماعية كموظف بها، ثم جلست في المنزل مدة عام كتبت فيه «مقدمة في علم الاستغراب». وما زلت أقوم بدوري في المعارضة السياسية بالقلم دون استعمال أي وسيلة من وسائل العنف، ودون المعارضة السياسية في الإعلام تجنبا للإثارة الصحفية.
وكنت أناقش رؤساء الدولة في المعرض الدولي للكتاب بالقاهرة، قبل أن ينعزلوا خوفا من دور المثقفين في المعارضة السياسية العلنية. وكانوا يحضرون مع مثقفي السلطان ويجلسون في حجرة مغلقة ليتم تصوير الجلسة إعلاميا كدليل على حركة الفكر والانفتاح السياسي والثقافي بين الرئيس وجمهور المثقفين.
كانت الدولة قد وضعت حول منزلي حراسة ليل نهار بعد أن اكتشفت إصرار الجماعات الإسلامية المتشددة على اغتيالي لأنني كافر في نظرهم، وضبطوا ثلاثة أعضاء منها حول منزلي يتفقدون المكان والزمان المناسب لتنفيذ خططهم ضدي، وكتبت مقالا ضد التوريث معتمدا على تحليل لفظ «إرث» في القرآن الكريم، وأنه لا يفيد أي ميراث سياسي، بل فقط ميراث النبوة؛ فرفعت الحراسة عني عقابا لي بسبب كتابتي لهذا المقال، وقد كان ابن الرئيس يستعد لوراثة أبيه في حكم مصر.
وبعد ثورة الربيع العربي في مصر عام 2011م تم افتتاح المركز العام للإخوان المسلمين فوق هضبة المقطم، وحضر كثير من الزعماء السياسيين مثل عمرو موسى وغيرهم، وفوجئت بأغاني وأناشيد الفترة الناصرية تذاع على الهواء بمكبرات الصوت مثل نشيد «وطني الأكبر»، و«الله أكبر». ففرحت بأن الوئام قد عاد بين أقوى تنظيم شعبي إسلامي في مصر وبين السلطة الثورية الجديدة، وكان الشعار على واجهة المبنى «المصحف والسيفان المتقاطعان» فحزنت لأن هذا الشعار لم يتغير منذ تأسيس الجماعة عام 1948م. وطالما اقترحت أن يكون الشعار «كتابا وقلمين»، الكتاب أي العلم والقلمان أي تعدد الآراء. وحزنت لأن الإخوان أبعدوا المرشح الإخواني المستقل عبد المنعم أبو الفتوح بعد أن رفعوا شعار «مشاركة لا مغالبة»، ثم فرحت أنهم أصبحوا جزءا من الحركة الوطنية. ومع ذلك سار الإخوان ورجعوا لوضعهم الأول وهو الحكم الانفرادي بعد نجاح مرشحهم لرئاسة الجمهورية.
ثم دعيت في إحدى إفطارات رمضان بعد الثورة وقبل الانتخابات الأولى، وبعد الإفطار ألقى كبيرهم خطبة لم يذكر فيها التوريث الذي كان على قدم وساق. فسألته: «أين موضوع التوريث؟» فقال لي: «اسكت يا حسن.» وكان قد تعرف علي عندما كنت عضوا في جماعة الإخوان في شعبة باب الشعرية عند مرحلة الانتقال من الثانوية العامة إلى الجامعة، وسألت نفسي: «هل تم اتفاق بين الرئيس المتطلع للرئاسة بعد أبيه والإخوان على تدعيمه من قبل الإخوان؟» فحزنت لدخول الإخوان في صفقة سياسية لا يرضاها الشعب.
وفي لقاء مع الرئيس الإخواني وبعد نجاحه في الانتخابات في القصر الجمهوري سأل عني وكنت أعرفه من قبل والتقيته في جلسات الحوار الديني وعلاقتها بالغرب فوقفت. فخاطبني قائلا: «يقولون عنك إنك شيوعي.» فأجبت: «وماذا كان أبو ذر الغفاري؟» فأجاب أحد الحاضرين من الفنانين: «كان شيوعي.» فضحك المثقفون والفنانون المدعوون للحوار معه. فقلت له: أنا مثل الأفغاني مفجر الثورة العرابية، وصاحب الكلمة التي ألقاها أحمد عرابي في وجه الخديوي توفيق في قصر عابدين «إن الله خلقنا أحرارا ، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا. والله لا نستعبد بعد اليوم.» وهو الذي كرر عبارة ابن حزم «الأرض لمن يفلحها». وهو القائل: «عجبت لك أيها الفلاح! تشق الأرض بفأسك، ولا تشق قلب ظالمك.» وقالت إحدى الفنانات: «ألا تقدمون لنا شيئا نأكله؟» فحزنت. فالنقاش الفكري مع رئيس الدولة أولى من ضياع الوقت في تناول الطعام.
وفي الصدام بين الإخوان والدولة بعد ذلك، وخوف الدولة من سيطرة الإخوان على القطاعين؛ الصناعي والتجاري، أغلقت مصانع الشريف الإخواني وغيره من مشايخ أصحاب رءوس الأموال الإخوانيين بعد أن استطاعوا تجميع رءوس الأموال من مصر وإغراء المصريين بكسب نسب عالية من عائد المشاريع تصل إلى عشرين في المائة، وأغلقت محال التجارة والبقالة الإخوانية بعد أن كانت قد اشتهرت بين الناس باستثناء محلات «نور على نور»؛ محل التجارة الكبير وفروعه المختلفة. كما أغلقت المستشفيات والعيادات الإخوانية الملحقة بالمساجد، والمدارس التعليمية لحل مشكلة تكديس الفصول، وبعد أن نجح الإخوان في إقامة دروس تقوية جماعية رخيصة الثمن بدلا من الدروس الخصوصية الباهظة التكاليف، وانتهيت إلى النتيجة القائلة: «يا ليت الإخوان ركزوا على الخدمات الاجتماعية للشعب، واستحوذوا على قلوب الناس، وحلوا مشكلاتهم بدلا من الاصطدام بالسلطة العسكرية.» فالسلطة في العقول وليست في القصور.
كنت أود أن أبقى عضوا في جماعة الإخوان، أكون تيارا يساريا فيها، ولكن الجماعة كانت محافظة أشد المحافظة، ولا تقبل فيها حتى الليبراليين، لا ترضى عن أي معارضة لمكتب الإرشاد.
وجاءني مرة خطاب من حزب شيوعي يطلبون مني رئاسة هذا الحزب، فلم أرد؛ لأنني لست حزبيا، ولست شيوعيا، وأوجه كل طاقاتي إلى تربية جيل جديد في الجامعة يعرف كيف يفكر، ويبحث، ويؤلف بين التيارات المتناقضة لصالح الوطن. وهو الأتون الذي تنصهر فيه كل الأيديولوجيات؛ إسلامية كانت أم ماركسية، سلفية كانت أم علمانية، محافظة كانت أم تقدمية.
الفصل السابع
العلم والعالم
منذ اكتشاف المواهب الثلاث وأنا في المدرسة الثانوية، ثم سفري إلى فرنسا تراجعت موهبة الرسم وبقيت موهبتا الفلسفة والموسيقى، أي العلم والفن، وكنت أشعر وأنا بالجامعة أن هناك أفكارا في رأسي يجب متابعتها ومعرفتها وتحويلها إلى علم دقيق، وكانت تأتيني في الأحلام؛ لذلك كنت أضع قلما وورقة بجواري لأكتب الحلم لعله يفيدني في يوم من الأيام وأنا أستكمل الدارسة في الجامعة وما بعدها، وكانت أهم الألفاظ المتكررة: الفكر، الواقع، الوعي، والشعور، العواطف والانفعالات، الدنيا والآخرة، الله والعالم، الخير والشر، الجبر والاختيار، اليأس والأمل. وملأت العديد من الأوراق بتواريخها حتى امتلأت حقيبة بأكملها عند السفر إلى فرنسا. وبالفعل أخذتها معي، خاصة وأن ليس عندي ملابس أو كتب باستثناء كتب السنة الخمسة التي وفرها لي أخي، والقرآن الكريم بطبيعة الحال.
وفي باريس كنت أنتقل بها من منزل لآخر حتى استقر بي المقام في المنزل الألماني بالمدينة الجامعية، وضعتها في غرفة الحقائب. ولما بدأت في كتابة خطة الرسالة بعنوان «المنهاج الإسلامي العام»، وكانت الخريطة تتكون من جانبين: جانب ساكن وآخر متحرك؛ الساكن يتضمن التصور والنظام، والمتحرك يتضمن الطاقة والحركة، قدمت لخطة الرسالة بحديث عن الحركات الإصلاحية وربما أكون أحد ممثليها، بل وخاتمها. قدمتها للأستاذ هنري لاوست أحد المستشرقين المعروفين بتخصصه في الحركات الإصلاحية منذ ابن تيمية، فأعجب من هذه الخطة وقال: الجزء الأول منها الذي يتكلم عن الحركة الإصلاحية جيد بالرغم مما ينقصه من بعض ممثليها، أما القسم الثاني، وهو فلسفتي الخاصة عن التصور والنظام والطاقة والحركة، فهو أقرب إلى الفلسفة العامة ولا يدخل في نطاق الاستشراق الذي يدخل فيه الجزء الأول.
فذهبت إلى أحد الفلاسفة وهو «بول ريكور» وقدمت له الخطة وقرأها بعناية قائلا: «الجزء التاريخي الأول معلومات مفيدة لمن لا يعرف الحركة الإصلاحية، والجزء الثاني أقرب إلى برجسون، فلماذا لا تدرس برجسون وتعرف فلسفته في هذه الموضوعات الأربعة وتطورها وتنتهي إلى فلسفتك الخاصة؟» وقرأها مستشرق آخر وهو عميد المستشرقين في باريس وهو لويس ماسينيون وقال: «هل درست علم أصول الفقه؟» قلت: «لا.» قال: «إن وضع منهاج إسلامي عام جدير بالاهتمام، فلماذا لا تربط ذلك المنهاج المقترح بمناهج علم أصول الفقه وتطوره حتى تنتهي إلى منهجك الخاص؟ ألم ينبه مصطفى عبد الرازق إلى أهمية علم أصول الفقه بأنه أهم العلوم الإسلامية؟ فلماذا لا تأتي عندي كل يوم وتقرأ في علم أصول الفقه؟» وأنزل لي كتاب «المستصفى في أصول الفقه» للغزالي من مكتبته الخاصة، و«المقاصد في أصول الشريعة» للشاطبي، طلب أن أقدم إليه كل يوم صباحا من التاسعة حتى الثانية عشر، وكان اكتشافا بالنسبة لي.
ولما كنت قد اتصلت بأستاذ آخر في مدرسة الدراسات العليا التطبيقية في السوربون، وكان متخصصا في الإسماعيلية والتأويل الباطني، قرأ خطتي الأولى عن الطاقة والحركة، قال لي: «لماذا لا تدرس التأويل عند الإسماعيلية؛ فهم أقرب إلى تحليل الشعور كما تفعل؟» وكانت هذه المدرسة تعطي العلم للعلم مثل الكوليج دي فرانس دون شهادات أو درجات علمية.
واحترت بين الموقفين؛ الأستاذ الأول الذي يريدني أن أدرس علم أصول الفقه وأطوره كي أقترب منه ويقترب مني، والموقف الثاني الأستاذ الذي طلب دراسة التأويل عند الإسماعيلية أو الباطنية؟ فمقولاتي عن الطاقة والحركة والتصور والشعور أقرب إلى التأويل الباطني.
وظللت في حيرة من الأمر، أعجبني تحليل علم أصول الفقه للنص، والمصلحة العامة، وطرق الاستدلال، والتعليل. وأعجبني في نفس الوقت التأويل الباطني وتحليل الشعور وتحويل النص إلى تجربة حية كما تفعل الظاهريات «الفينومينولوجيا». وكان الأستاذ كوربان قد ترجم أجزاء من كتاب «الوجود والزمان» لهيدجر تلميذ هوسرل مؤسس الظاهريات.
وقرأ خطتي الأولى فيلسوف ظاهرياتي ومن اليسار المسيحي وهو بول ريكور مع مونييه، وقال لي: «يبدو أنك ظاهرياتي بالطبيعة؛ لأن منهجك يقوم على تحليل الوعي والبحث عن الدلالات، فلماذا لا تدرس الظاهريات وتؤولها كما تشاء وتطبقها على الظاهرة الدينية؟» وظللت حائرا. فكل النصائح أشعر بجديتها وإمكان اتباعها. ولكن أين لي بالمستشرق الفيلسوف وليس المؤرخ؟ وأين لي بالفيلسوف المستشرق دون الفيلسوف الخالص؟
وقال لي أحد الأساتذة الذي قرأ الخطة لا يشرف عليك إلا فيلسوف مستشرق، أو مستشرق فيلسوف وهو ما لا وجود له إلا عند رينان والذي كان مستشرقا هيجليا، وهيجليا مستشرقا، وكان السؤال: وأين لي برينان الآن وقد توفي في القرن الماضي؟
وأخيرا سجلت الرسالة الأولى عن «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» مع مستشرق متخصص في الفقه وأصوله، وسجلت الرسالة الثانية عن الظاهريات وتطبيقها على الظاهرة الدينية بعنوان «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل، دراسة في المنهج الظاهرياتي وتطبيقه على الظاهرة الدينية». وكنت قد اقترحت قبل ذلك عنوان «الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركيجارد». ثم لم يعجبني العنوان، خاصة بعد أن سجلته في الدراسات العليا بالجامعة وفضلت العنوان الأول «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل».
وقد استفدت كثيرا من محاضرات أستاذ في تاريخ الفلسفة وهو جان جيتون أشبه بعثمان أمين في مصر، يحاضر في تاريخ الفلسفة مع التحليل الشعوري مثل برجسون. ومتخصص في المسيحية أي الكاثوليكية وفلسفة الدين، واعتقل في الحرب العالمية الثانية منذ بدايتها. ولما عرف الحكم النازي أنه فيلسوف قدموه إلى هيدجر تلميذ هوسرل في جامعة فرايبورج في الغابة السوداء، وكتب دون مراجع وهو في المعتقل اثني عشر جزءا سماها «الفكر الحديث والكاثوليكية». وهو يعيد بناء العقائد المسيحية بناء حديثا طبقا للفلسفة المعاصرة. وكانت رسالته في الدكتوراه عن «الزمان والخلود عند القديس أوغسطين».
وكان بعد محاضراته العامة يجلس في مكتب صغير ملحق بالقاعة الكبيرة مع طلبة الدكتوراه لمدة ساعة، يتحدث فيها الطلاب وهو يراجعهم. فكنت أستمع إلى محاضراته العامة في القاعة الكبرى، وأحضر في المكتب الصغير الملحق بجواره مع طلاب الدراسات العليا، ومرة طلب مني أن أتكلم عن برجسون بجانبه على المنصة أمام الطلاب؛ فقمت وشرحت برجسون في إطار تاريخ الفلسفة الغربية نهاية به وبداية بديكارت والتقاء بالعقلانية والتجريبية عند هيجل؛ فأعجب بتلك الرؤية العامة التي تضع الجزء في الكل وهو ما قمت به بعد ذلك عند العودة إلى مصر في «مقدمة في علم الاستغراب».
ومن حبي وإعجابي ببرجسون مثل هذا الأستاذ؛ ألفت كتابا عن برجسون بالعربية بعد عودتي إلى مصر. لم يلتفت إليه أحد لأنه ليس كتابا مقررا على الطلاب.
وأولت خطتي الأولى عن الطاقة والحركة من خلال كتاب برجسون «الطاقة الروحية» وعن التصور والنظام في كتابه «منبعا الأخلاق والدين».
وقد تكون هذه الذكريات تعبيرا عن كتابه «المادة والذاكرة». وقد يكون تحليلي للشعور من آثار رسالته للدكتوراه «المعطيات البديهية للوجدان». وقد تكون أفكاري عن الحركة مثل كتاب «الفكر والمحرك». وأخيرا قد تكون عزلتي عن أجهزة الإعلام أثرا مما فعل برجسون الذي كان لا يخاطب الإعلام أو يعطي حديثا صحفيا خشية من أن يأخذ الناس كلامه الإعلامي ولا يقرءون كتبه.
وقبل المناقشة، أحسست بعيوب الرسالتين وأوجه النقص فيهما وبالرغبة في إعادة كتابتهما، وقد يحتاج ذلك إلى عشر سنوات أخرى، وصممت على المناقشة بالحالة الراهنة للرسالتين، وبعد العودة إلى مصر أقوم بإعادة كتابتهما بطريقة أفضل. فليس في حياتي عشر سنوات أخرى أقضيها بالخارج، وأنا أريد العودة إلى وطني، وتأسيس جماعة علمية في الجامعة، تنقل الرسالة إلى جيل آخر، كما أنقل رسالتي إليهم الآن، وكما أخذت الرسالة من أساتذتي في مصر لأنقلها إلى جيلي هذا.
وكان لي صديق هو رشدي راشد، خرج معي من مصر إلى فرنسا في نفس العام، اهتم بفلسفة العلم ثم بفلسفة الرياضيات، وأصبح باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا. تجادلنا أنا وهو؛ أريد الرجوع إلى مصر ولو نصف عالم وأكمل النصف الآخر في وطني، كي أبدأ الزرع وأرى الحصاد في حياتي، وهو يرى ألا يعود إلى مصر قبل أن يكون عالما كاملا وليس نصف عالم. قلت له: «قد يستغرق ذلك العمر كله كي يكون الإنسان عالما كاملا، والعلم لا نهاية له، في حين أن العمر له نهاية، فلنبدأ الزرع معا حتى يأتي الحصاد.» وأصر على البقاء في فرنسا. وما زال فيها، وأصبح من كبار العلماء في تاريخ الرياضيات، وحاول أن يقيم معهدا لتاريخ العلوم في مكتبة الإسكندرية في إدارتها السابقة، ولكن شيئا لم يتم؛ فالسفينة لا تسير دون ربان، ونحن الآن في نهاية العمر وقد تجاوزنا الثمانين، ولا أدري إذا كان سيرجع يوما أم سيبقى حصاده في فرنسا والعالم.
وبعد العودة إلى مصر أعطيت درسا في الفلسفة المسيحية للسنة الثانية. وكان لا يريدها أحد من الزملاء، وهو العام الذي صدرت لي فيه نماذج من الفلسفة المسيحية «المعلم لأورسطين»، «أومن كي أعقل» لأنسيلم، «الوجود والماهية» ل «توما الأكويني». وصدر في الإسكندرية بمساعدة علي سامي النشار، وكان أهم شيء في الدرس هو قراءة النصوص ومعرفة اتجاهات الفلسفة المسيحية وفلسفة الدين بوجه عام. وعندما أرادوا دفع مكافأتي آخر العام طلبوا موافقة جهة العمل، وأنا لا أعمل! وطلبوا مفردات المرتب، وأنا لا مرتب لي، لم يعرفوا كيفية تحديد مكافأة العام. وأخيرا أعطوني مكافأة المدرس عندما تم التعيين مدرسا بالكلية.
وفي العام الذي يليه درست علم الكلام للسنة الثانية مع الفلسفة المسيحية والفلسفة الحديثة للسنة الثالثة، مركزا على اسبينوزا للسنة الثالثة، وفلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر للسنة الرابعة. وهما مادتان جديدتان في القسم، أدخلتهما لإكمال مواد السنة الرابعة، واستمر الأمر كذلك منذ سنة 1967-1971م وهو عام السفر لأمريكا أستاذا زائرا.
وأنا في مصر قبل سفري الأخير أحسست بالغيرة والحسد من هذا الأستاذ الشاب الجديد الذي يستطيع تدريس عدة مواد في تخصصات متعددة. وكنت أملأ الدرس بربط الفكر بالوطن بعد الهزيمة، فعرفت محاضراتي. وكان يأتي الطلاب لسماعها من كليات الحقوق والتجارة والعلوم والهندسة الذين أصبحوا فيما بعد أساتذة وعمداء ورؤساء جامعات.
وفي أمريكا عبرت عن مواقفي الفكرية الوطنية في علم الكلام الجديد الذي يربط الله بالأرض والحرية والناس؛ فأتاني طلاب كثيرون؛ مسلمون أمريكيون، أفارقة، يستمعون إلى هذا الإسلام الجديد. وكنت أقوم بنفس الشيء خارج الجامعة عندما أدعى إلى ندوات أو مؤتمرات علمية؛ فانزعج المحافظون واعتبروني علمانيا ملحدا، بل وكافرا، في حين اعتبرني الطلبة المسلمون الأمريكيون الأفارقة أنني مسلم وطني أدافع عن مصالح المسلمين. كانت جامعة تمبل على حافة الحي الأمريكي الأفريقي، وعرف الطلبة المسلمون الأمريكيون الأفارقة مكاني، وكان منهم أنصار «الإسلام الأسود» و«القوة السوداء». وعرفوا أن العنف ليس هو الطريق الوحيد لنيل الحقوق، بل يمكن ذلك عن طريق الحوار والجدل والبرهان. ونشأ أنصار مالكولم إكس الذي خرج عن جماعة «الإسلام الأسود» ينادي بحقوق المسلمين الأمريكيين الأفارقة مثلي، فكثر أنصاره عندي. وعقدت حوارا بين هذه الجماعات الثلاث في مركز النشاط الطلابي للجامعة، وحدث التفاهم واللقاء، وغابت شبهات العلمانية والكفر والإلحاد، وعرفوا أن الإسلام قوة في ذاته بالعقل الصريح دون استعمال القوة والعنف.
كنت أصلي معهم في مساجدهم، وكانوا يصلون معنا في مركز الخدمات الطلابية، وحين جاءت ساعة الفراق والعودة إلى مصر عام 1975م صاحبوني إلى المطار بعرباتهم وهم يبكون.
وكان زميلي في الجامعة؛ الفلسطيني إسماعيل الفاروقية - محافظ يافا سابقا - يشجعهم على التيار المحافظ، والذي يعطي الأولوية للدين على السياسة، وللعبادات على المعاملات، فقل أنصاره؛ لأنه لا يتحدث بلغة العصر، ولا يحقق مطالب المسلمين الأفارقة السود في المساواة بالمسيحيين البيض، والعدالة الاجتماعية، والحصول على العمل والسكن الملائم، وسمعت فيما بعد، بعد عشر سنوات تقريبا أنه قد تم اغتياله هو وزوجته الأمريكية على يد مسلم أسود كان يعتبره لا يتكلم في الإسلام الحقيقي، واختبأت ابنته في الدولاب، وفيما بعد تم اغتيال ابنه بعد انضمامه إلى الجيش، وقد كان الذي اغتاله أمريكي الجنسية تفرض عليه الجندية. حزنت كثيرا عليه وعلى إخلاصه للإسلام، ولخدمة المسلمين. حتى ولو كان بطريقته الخاصة المحافظة كما يفعل علماء الأزهر عندنا، وكان من تواضعه يحضر محاضراتي في الجامعة، ويتأثر بها، ويتغير بينه وبين نفسه.
وفي ندوة عامة بوسط المدينة سمعني أتكلم يوما وعرف أن الإسلام التقدمي ليس به أي شبهات كما يقال عنه، فاحتضنني وقال للحاضرين: «أرأيتم كيف يكون المفكر المسلم الحق؟»
وبعد عودتي إلى مصر بدأت التدريس من جديد في علم الكلام للسنة الثانية، والفلسفة الحديثة للسنة الثالثة، وفلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر للسنة الرابعة.
وكان القسم قد هدأت حرارته بالرغم من نصر أكتوبر 1973م، وعبور القناة، وتحطيم خط بارليف المنيع، لم يشجع أحدا «تطوير فكره»، الربط بين العلم والوطن كما كنت أفعل؛ فدبت روح الفلسفة من جديد في القسم بعودتي، وربما تحولت الغيرة والحسد إلى كراهية وحقد البعض، فما كان أجدرهم أن يستمروا في الكتاب المقرر دون أن يراني الطلاب ويروا إمكانية وجود اكتشاف طريق ثان؛ «هموم الفكر والوطن»!
وجاء الانقلاب على الناصرية في عام 1974م والتحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية؛ فالرأسمالية لم تعد جريمة، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التحالف مع الاتحاد السوفيتي إلى التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومن القومية العربية إلى القطرية الانعزالية، ولو أن أزمة الحرية في النظامين الناصري وما بعده ظلت قائمة.
خرج الإسلاميون من السجون والمعتقلات لإزاحة الناصريين والماركسيين بعيدا عن جهاز الدولة والحياة العامة، واشتركت في مظاهرات يناير 1977م ضد غلاء الأسعار، ثم عارضت اتفاقية كامب ديفيد في 1978م، ومعاهدة السلام مع إسرائيل في 1979م. وأصبح نشاطي العلمي مقرونا بالنشاط السياسي، ولما حان الوقت للتقدم بالترقية من أستاذ مساعد إلى أستاذ في هذا الجو المشحون، وافقت اللجنة العامة للترقية على ترقيتي وعادت الألاعيب الإدارية في معارضة الترقية من القسم ومجلس الكلية ومجلس الجامعة تبعا لتوجيهات أجهزة الأمن. ومع ذلك عندما عاد تقرير الترقية إلى اللجنة العامة المختصة بالترقيات ثم أعادته بدورها إلى الكلية من جديد، عارض القسم ومجلس الكلية للمرة الثانية الترقية لأنني من المشاغبين، وذهب التقرير إلى مجلس الجامعة اللجنة العامة للترقيات، فقررت أن ترقيني لأنى أستحق الترقية بجدارة. وكانت المجالس الإدارية ترفض لأنني من المشاغبين بجدارة؛ فاستدعاني رئيس الجامعة وأخبرني أنه لا يجب أن يخرج هذا الموضوع إلى الصحافة والإعلام وإلى الرأي العام قائلا: «ستمر الأمور بسلام، وأخشى إن ثارت زوبعة إعلامية أن يؤثر ذلك في ترقيات الأساتذة التقدميين الذين حانت ترقياتهم بعدك.» فسمعت الكلام، وطلب رئيس الجامعة من جديد التصويت على ترقيتي. فرقيت بالإجماع، فقد بدأ الأساتذة يتضجرون من تفريط النظام السياسي القائم، الذي عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل قبل أن تنسحب من الأراضي المحتلة.
وبعد أن فصلت من الجامعة بعد قرارات سبتمبر عام 1981م وعدت إلى الجامعة من جديد في أبريل عام 1982م، أردت الاستراحة قليلا من العمل في مصر، فتأتني دعوة من المغرب كي أكون أستاذا زائرا هناك بفضل صديقي حبيب الشارونية الذي كان يدرس بالجامعة أستاذا زائرا ويريد العودة إلى مصر.
فذهبت إلى المغرب مصاحبا زوجتي الحبيبة وأولادي الثلاثة، ودخلوا المدارس هناك ، وأعطيت لهم دروسا خاصة في الفرنسية. مكثت سنتين حتى أصدر الملك قرارات بمغادرتي البلاد نظرا لأنني أشرت في محاضرة إلى النظام السياسي في الإسلام وآية:
قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون .
فأرسلت أولادي الثلاثة بالطائرة إلى مصر، ورجعت أنا وزوجتي برا عبر جبل طارق وجنوب إسبانيا وجنوب فرنسا وشمال إيطاليا ويوغسلافيا حتى أثينا بسيارتي الخاصة، ثم بحرا من أثينا إلى الإسكندرية.
وقبل أن أستلم عملي بقسم الفلسفة بكلية الآداب، جاءتني دعوة لأكون أستاذا زائرا بجامعة طوكيو باليابان؛ فذهبت لأكون أستاذا زائرا، فذهبت وزوجتي وأولادي، وسكنا بمنزل الجامعة، وعملت زوجتي أستاذا بقسم اللغة العربية بالجامعة.
وكنت لأول مرة أدرس لطلبة يابانيين الذين كانوا يسمعون ولا يتكلمون، يأخذون ولا يعطون، رأسهم في الأرض، ولا ينظرون إلى الأستاذ، وكانوا يكتبون ولا يعرف الأستاذ ماذا يكتبون؟ كلامه أم نقد لكلامه؟ كنت أود أن أسمع آراءهم فيما أقول في مادة الفلسفة بين الشرق والغرب والتي كنت أدرسها لهم، ولم أسمع شيئا. وكأنني أغني وأرد على نفسي، فلما اشتكيت إلى رئيس القسم الياباني ما يحدث في قاعة الدرس ضحك، وقال: «هذه عادة اليابانيين، يأخذون منك ما يستطيعون، وإذا كانت لهم آراء أو تعليقات أو نقد أو اقتراحات فإنهم لا يبلغونها لك بل لرؤسائهم في الشركات التي يعملون بها؛ فولاؤهم لهذه الشركات التي يضعون شاراتها على صدرهم تعبيرا عن ولائهم؛ فالفائدة لهم، وليست لك.» فحزنت بأن يتحول العلم إلى تجارة، والولاء للجامعة إلى ولاء للشركة، ولم أستطع البقاء طويلا في هذا الجو التجاري، فجاءتني دعوة إلى أن أكون مشرفا على الأبحاث الإنسانية في جامعة الأمم المتحدة في طوكيو ما دمت هناك. وهي جامعة أنشأها يوتاند من بورما في آسيا لتنشيط البحث العلمي في القارات الثلاث؛ أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، تشجيعا للبحث في العالم الثالث بدلا من أن يتركز في العالم الأول؛ أوروبا وأمريكا . فقبلت الدعوة، وقرأت أبحاث الجامعة في العلوم الإنسانية، وكان لها عدة مشروعات عن الثقافة والإبداع في أمريكا اللاتينية، يديرها د. أنور عبد الملك؛ المصري الذي ترك البلاد في 1958م خوفا من اضطهاد الشيوعيين في مصر، وكان هناك مشروع آخر «المستقبلات العربية البديلة» يديرها إسماعيل صبري عبد الله وأبو سيف يوسف في مصر، ومشروع ثالث بعنوان «التطور اللامتكافئ» يديره رمسيس نجيب من داكار عاصمة السنغال.
وكانت ثلاثة أبحاث منفصلة عن بعضها البعض؛ فاقترحت على نائب رئيس الجامعة «موشي كوجي» الذي كان يشرف عليها، الربط بينهما لمعرفة ما إذا كانت هناك رؤية واحدة تجمع بين القارات الثلاث أم رؤى متعددة؟ ففرح بالاقتراح وطلب مني تنفيذه؛ فقمت بإجراء دراسة على المشاريع الثلاثة وما الذي يجمع بينها، وتبين فيم تتفق كرؤية عامة، وفيم تختلف كرؤى خاصة، ونشرتها في كتابي باللغة الإنجليزية «الحوار الديني والثورة».
كانت هناك مشكلة رئيسية في الجامعة حاولت أن أساعد في حلها، وهي لمن القيادة في الجامعة، للعلماء أم للإداريين؟ وكانت بعض قرارات العلماء يوقفها الإداريون، فلم يشعر العلماء بأنهم في جامعة حرة. ولما كان الإداريون بيدهم المال فكانوا هم الذين يسيطرون على نشاط الجامعة طبقا لتكاليف المشاريع المادية. وظلت المشكلة قائمة حتى غادرت طوكيو عام 1987م.
وكان رئيس الجامعة في عهدي إندونيسيا، يهمه المنصب والرمز أكثر مما يهمه حل المشكلات بين العلماء والإداريين، فقد كان هو القادر على الجمع بينهما ولكنه لم يفعل شيئا.
وبعد سنتين عدت إلى القاهرة لأستمر في إلقاء المحاضرات في مواد فلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر، واستمر ذلك إلى ما بعد سن المعاش حتى عام 1995م. واستمررت في الدراسات العليا بالإشراف على حلقات البحث حول علم الكلام والفكر العربي المعاصر وفلسفة التاريخ. وأشرفت على رسائل كثيرة في الماجستير والدكتوراه، حتى بدأت أضعف جسديا. كان الطلبة والعمال يحملون الكرسي المتحرك إلى قاعة الدرس أو مجلس الكلية، ولما ضعف نظري وأصبحت شبه ضرير، توقفت عن الذهاب إلى الكلية، وكان الطلبة الذين يريدون أن أشرف على رسائلهم يأتون منزلي ، أقرأ خططهم، وأصححها لهم قبل عرضها على مجلس القسم ثم لجنة الدراسات العليا ثم موافقة مجلس الكلية ووكيل الجامعة للدراسات العليا.
وكنت أساهم في مناقشات الرسائل في الجامعة، وفي جامعات أخرى حتى يستعد الجيل الجديد للعمل والكفاح كما فعلت، ولم أتوان عن الحضور والمشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية داخل مصر وخارجها، والتعرف على زملائي الفلاسفة في الجامعات الأخرى، وتقديم عدة أوراق بحثية أجمعها فيما بعد في كتب لي، ومن تأليفي، واستمررت في ذلك أكثر من عشرين عاما حتى ضعف جسدي وأصبحت ضريرا، فامتنعت عن الحركة قدر استطاعتي، يكفيني ما قدمت، وبعد الإصرار أن أقدم من الحين إلى الآخر تسجيلات بصوتي وصورتي في افتتاحيات المؤتمرات عبر «الفيديو كونفرنس» أوافق على ذلك.
ولما أحسست أن الجامعة مشغولة بالمحاضرات والدرجات والامتحانات والشهادات أكثر من العلم لذاته، أسست الجمعية الفلسفية المصرية وأشهرتها سنة 1976م. وكانت المحاولة الأولى من منصور فهمي باشا عام 1944م، وتوقفت أثناء الحرب، ثم عادت بعد ذلك في الستينيات برئاسة علي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع والفلسفة. نشرت الجمعية عدة مؤلفات لمحمود قاسم وعثمان أمين وعلي عبد الواحد وافي وعثمان نجاتي وغيرهم في مكتبة الأنجلو المصرية. ثم توقف نشاط الجمعية. ولما حاولت إحياءها ذهبت إلى محمود قاسم رئيس قسم الفلسفة وعميد كلية دار العلوم فقال لي: «إن الزمن قد تغير.» فذهبت إلى عبد الرحمن بدوي رئيس قسم الفلسفة بجامعة عين شمس فقال لي: «لماذا جمعية فلسفية تضم أساتذة الفلسفة في مصر؟ أنا بمفردي جمعية ولا أحتاج إلى جمعية بجواري أعمل من خلالها!»
وذهبت إلى إبراهيم بيومي مدكور رئيس مجمع اللغة العربية والفيلسوف، فقال لي: «اذهب إلى سليمان حزين رئيس الجمعية الجغرافية الملكية فهو خير من يعينك فيما أنت فيه.»
فذهبت إليه في الجمعية بمدخل شارع قصر العيني بميدان التحرير، بجوار المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر، قال سليمان حزين لي: «سأقول لك كلمة واحدة، ضعها حلقة في أذنك، الجمعيات العلمية في مصر لا تقوم إلا على أكتاف رجل واحد، وكما تراني في الجمعية الجغرافية الملكية، فلولا أنا لما قامت.» فحزنت. وذهبت بعدها إلى عثمان أمين لكي أطلب منه رئاسة الجمعية وكانت الثورة قد قامت في 1952م، فقال ضاحكا: «هل يمكن إقامة جمعيات علمية في مصر في هذا العصر؟» فأصررت على إقامتها، وفعلا قمت بذلك وأسستها في عام 1976م وجعلت إبراهيم بيومي مدكور رئيسا لها.
لم يكن لي مقر إلا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، وهو دولاب صغير في المقر يحفظ فيه الملفات، وكنا نضع لافتة «الجمعية الفلسفية المصرية» على باب الدولاب، وكنا نقوم بنشاط الجمعية في الكلية بإلقاء المحاضرات في المدرج الكبير، وكان دخلنا من اشتراكات الأعضاء لا يزيد على الأربعين جنيها، نصعها في دفتر توفير بالبريد وكان قيمة الاشتراك خمسة جنيهات.
وفى إحدى المرات استدعاني عميد الكلية وقال: «لا يجوز أن يكون مقر الجمعية داخل كلية الآداب، وتمارس نشاطها داخل أسوار الجامعة؛ لأن كلية الآداب مؤسسة حكومية في حين أن الجمعية مؤسسة أهلية مدنية لا يجوز أن تعمل من خلال مباني الحكومة.» وطلب أن أبحث عن مقر آخر.
هذا كان مجرد عذر لإخراج الجمعية ووقف نشاطها؛ لأن جميع الجمعيات الأخرى كان لها نشاط داخل أسوار الجامعة مثل: جامعات فيينا، وأكسفورد، وكمبريدج، وفرايبورج. وكان السبب الحقيقي لطلب العميد هو نشاطي السياسي في مناهضة الانقلاب على الناصرية ومعارضة اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل.
فأخذت أبحث عن مقر قريب من الجامعة حتى وجدت شقة في مساكن هيئة التدريس وراء الجامعة، كان يعرضها صاحبها للبيع، وكان أستاذا بكلية الهندسة، كان ثمنها تسعين ألف جنيه. وكان كل ما لدينا في صندوق البريد حوالي مائة جنيه، طلبنا من صاحب الشقة أن يقسط لنا المبلغ على ثلاثة أشهر كل شهر ثلاثين ألفا؛ فقبل الأستاذ، وكان رئيس الجمعية في ذلك الوقت الدكتور زقزوق قد أصبح وزيرا للأوقاف؛ فعرض الأمر على وزير الثقافة، فطمأنه بأنه مستعد أن يعطي الجمعية ثلاثين ألفا سنويا؛ فاعترض أمين صندوق الجمعية على أن نصرف التسعين ألفا في شراء شقة ونترك الصندوق شبه فارغ. فقلنا: وما العمل؟ وليس لدينا مقر، وإن لم نحصل سريعا عليه تعرضنا لإلغاء الجمعية من قبل وزارة الشئون الاجتماعية ، وأن قانون الجمعيات يشترط أن يكون لكل جمعية مقر؛ فأصر أمين الصندوق على رأيه، وقلنا له إننا لا نستطيع أن نكون في الشارع بلا مقر، فقدم استقالته لأنه لا يتحمل وزر صرف كل ميزانية الجمعية في بند واحد هو شراء شقة لكي تكون مقرا للجمعية.
كانت الشقة مكونة من ثلاث غرف بمنافعها؛ المطبخ والحمام. ففتحنا غرفتين بهدم الحائط بينهما؛ فأصبحت قاعة كبيرة للمحاضرات، وجعلنا الغرفة الثالثة لإدارة الجمعية التي بها الآلات الحاسبة، والدفاتر، والملفات والرسائل الإلكترونية، وغير ذلك من أوراق الجمعية.
صممت لها دواليب للكتب برفوف وأبواب زجاجية من أعلى وأخرى صغيرة من الخشب من أسفل، وضعنا فيها الكتب الخاصة بالجمعية والتي كانت تصلنا كهبة من الأساتذة، وصممت لها منضدة واسعة وكراسي عربية، ومنصة يجلس عليها المحاضرون لإلقاء المحاضرات، وكذلك ابتعت جهاز تكبير للصوت بسماعات ضخمة، ركبنا مرواح للسقف، وزدنا عدد المصابيح الكهربائية، ثم ركبنا لافتة كبيرة علقناها على مدخل المبنى، ذات إضاءة قوية، تسقط عليها مكتوب: «الجمعية الفلسفية المصرية، اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية».
وبعد عشر سنوات تقريبا من الاستقرار فكرت في جمع جميع الجمعيات الفلسفية العربية بكل الأقطار العربية في اتحاد واحد يكون نشاطه على الأقل مؤتمرا سنويا في الجمعية الفلسفية المصرية، وكانت هناك جمعيات فلسفية في المغرب، وموريتانيا، وتونس، والأردن، ولبنان، واليمن والسودان. ثم تكونت الجمعية الفلسفية الجزائرية فيما بعد، بعد حضور عدد كبير من أساتذة الفلسفة الجزائريين المؤتمر السنوي في مصر. ورجوت عمرو موسى أمين الجامعة العربية وقتها أن يعطينا عشر بطاقات للسفر لرؤساء الجمعيات لحضور المؤتمر بمصر؛ ففعل. واجتمعنا لأول مرة في مصر، وكما هي العادة اختلفنا على من هو الرئيس؟ ومن هو نائب الرئيس؟ ومن هو السكرتير العام؟ ومن هو أمين الصندوق؟ ومن هم مجلس الإدارة؟ اختلفنا على الشكليات دون المضمون.
وفى السنة التالية انتقل عمرو موسى إلى مكان آخر، ولم نستطع إرسال بطاقات السفر لرؤساء الجمعيات الفلسفية العربية ولم يأت أحد، ثم نام الاتحاد، ونشطت الجمعية الفلسفية المصرية، وكان يحضر أعضاء من الجمعيات الفلسفية من الدول العربية التي ذكرتها سابقا، وكان الأكثر حضورا أعضاء الجمعية الفلسفية الجزائرية، وكان جميع العرب يلتقون في مصر. ولعلنا نستطيع في القريب العاجل أن ننشط اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية من جديد، حتى يجتمع العرب على شيء بدلا من الاقتتال بين بعضهم والبعض في معظم الأقطار العربية الآن مثل سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا.
وأصبح للجمعية الفلسفية المصرية مجلة تصدر كل عام، ومجلد يحوي أعمال المؤتمر السنوي في ديسمبر من كل عام، كما تم إقرار الجلسات نصف السنوية لمناقشة أهم الكتب التي صدرت أثناء العام، وما زالت الجمعية تقيم ندوات شهرية كل ثاني أحد من كل شهر، ولقد تبرعت لها بجزء من عائد الجوائز التي حصلت عليها؛ جائزة الدولة التقديرية، وجائزة النيل الكبرى. حتى بلغت ودائع الجمعية ربع مليون جنيه. نعيش على عائدها الشهري، وندفع مرتبات موظفيها، وتكاليف خدماتها والاتصالات. وفي المؤتمر السنوي نعتمد على عائد الوديعة التي وضعتها باسم النشاط العلمي لكلية الآداب بمبلغ مليون جنيه.
وكان لي صديق مستشار ثقافي في وزارة الخارجية السويدية، متخصص في الفكر العربي المعاصر، عرفني من خلال مؤلفاتي قبل أن يعرفني شخصيا، ولما علم أنني أدير الجمعية الفلسفية المصرية بالقاهرة كمركز للتفلسف في مصر والوطن العربي، دعاني لإكمال النقاش الفلسفي لمدة يومين بالمعهد السويدي بالإسكندرية، وكان لقاء ناجحا للغاية، خاصة بالنسبة للمدعوين العرب والذين كان يضايقهم بعد رحلات طويلة قضاء ثلاثة أيام فقط في القاهرة.
ولما انتهت مدة عمل الصديق السويدي غادر إلى السويد، وأتى غيره وكانت امرأة سويدية متزوجة من عراقي وتعرف بعض العربية، واستمرت اللقاءات الفلسفية بالمعهد لمدة ثلاث سنوات هي مدة إقامتها بمصر، ثم جاء ثالث مع كلبه، يهمه قضاء آخر سنتين له بالخارجية السويدية قبل أن يحال إلى المعاش، وكان لا شأن له بالثقافة، وهمه إدخال السعادة على قلب الكلب وسياحته في مصر، قضي سنتين مديرا للمعهد دون أن يفعل شيئا إلا رعاية صحة الكلب كما عرض في فيلم «غزل البنات» والموظف الخاص لرعاية كلب الباشا حين ظنه نجيب الريحاني أنه الباشا. وبدأ اهتمام السويد بمعهدها يقل لعدم اهتمام مديري المركز بعملهم. فقررت إغلاقه واقتصاد تكاليفه ومرتبات موظفيه المصريين، فقررت مصر وضعه الصوري والفعلي تحت سلطة مكتبة الإسكندرية والتي اعتذرت عن استضافة الجمعية الفلسفية المصرية؛ نظرا لارتفاع تكاليف إقامة الأعضاء؛ حيث كانوا أكثر من ثلاثين عضوا، في حين كانت المكتبة تستضيف المئات من الشباب والمثقفين في موضوعات تقررها السلطة السياسية في مصر، فقد فقدت مكتبة الإسكندرية استقلالها الفكري في عهد إدارتها الجديدة بعد الإدارة القديمة.
وبعد أن كبرت في السن وضعفت صحتي وأصبحت شبه ضرير أرجو للجمعية أن تستمر من بعدي بمجلس إدارة جديد ورئيسها المتعافي في خدمتها. كانت معظم المؤتمرات الثانوية تقام في مبنى جامعة القاهرة، والقليل منها بجامعات الإسكندرية وبني سويف وقناة السويس والمنيا؛ من أجل تنشيط أقسام الفلسفة في هذه الجامعات. وتظل المؤتمرات السنوية تقام في جامعة القاهرة؛ نظرا لأن ودائع الجمعية في كلية الآداب والتي لا تصرف إلا في النشاط العلمي الخاص بها.
أما علاقتي بالعالم، فمنذ صغرى وأنا أحاول اكتشاف ما حولي في الحارة والدرب والعطفة؛ أدور حول العطفة حيث كان آخرها من جهة اليمين ميدانا مسدودا، وآخرها من جهة اليسار من بعيد يبدو ميدانا آخر مفتوحا على نهاية الطريق.
كانت البيوت الداخلية المطلة على الدرب في ألوان واجهاتها نظيفة، وراقية بسكانها، أما مدخل العطفة الذي كان به الفرن، والفران جالسا على مكتبه، تأتيه عربة القمامة يوميا لتمده بما يحتاجه لإشعال الفرن وتسوية الخبز.
وكان الفتوات يجلسون على باب المنازل تتصاعد أصواتهم بلا حدود، وكأنهم يستعدون لمنافسة على المصارعة، وأحيانا يخرجون من درب الشرفا لمصارعة فتوات الحسينية أو العطوف، ويرجعون إلى الدرب مضرجين بالدماء وهم يتوعدون الخصوم بالنيل منهم قريبا، ينادون بالانتصار عليهم. وأحيانا أخرى يأتي فتوات الحسينية أو العطوف للهجوم على الدرب فيتصدى لهم الفتوات فيقع من يقع، وأنا أشاهد ذلك من النافذة وأتساءل: لماذا ما يحدث؟ هل هم أعداء أم أصدقاء؟ وكنت أسير في شارع المعز لدين الله والذي يخرج من باب الفتوح متجها لسوق الليمون والزيتون حتى أصل الجمالية والصاغة وشارع الأزهر، وأرى سور صلاح الدين وهو يمتد حول القاهرة القديمة بأبراجه للدفاع عنها، وأحيانا أسير إلى باب النصر المجاور لباب الفتوح، وكان أقل ازدحاما، وتظهر بعده المقابر، وعلى يساره معامل صناعة حلوى المولد النبوي؛ العرائس والأحصنة الملونة. ويمتد شارع الحسينية المزدحم حتى ميدان عبده باشا.
فلما كبرنا قليلا ذهبنا إلى ميدان الظاهر، ودخلنا جامع الظاهر بيبرس حيث الآثار الإسلامية المتناثرة حوله، فإذا ما سرنا في شارع الفجالة وجدنا ميدانا به قصر المرعشلى المهجور، وكنا نتساءل: لماذا لا يستخدم هذا القصر الأثري المملوكي كمتحف يزوره الناس؟
وأول مرة أزور فيها الإسكندرية وأنا طالب في الثانوي لاستقبال النحاس باشا على رصيف الميناء، ثم أعود للقاهرة في نفس اليوم، وكان القطار مجانا لأننا طلبة ثوار، ورأيت أمواج البحر وهي تصعد إلى السماء، وينطبق عليها عند الأفق البعيد. وكنت أعود لأزور قصر النحاس باشا في ميدان الدوبارة أهنئه بسلامة الوصول، ويبدو أنه تضايق من كثرة الوفود التي تأتي مهنئة، فسمعته مرة يقول من شرفة القصر: «ارجعوا إلى بيوتكم.» فحزنت؛ لأنه كان بطلا شعبيا بالنسبة لي يقف ضد الإنجليز.
وفى المرة الثانية لاكتشافي مصر، كانت رحلة مدرسية قيمة الاشتراك بها خمسون قرشا، ذهبت لزيارة الأقصر وأسوان، وزيارة معابدها الفرعونية. حضرنا عروض الصوت والضوء، وأعجبنا بهذه الآثار القديمة والمعابد والأعمدة التي شيدها المصريون القدماء.
وكان هناك زيارات قصيرة لا تزيد على فصل دراسي واحد لكل من جامعات فرانكفورت وبريمن في ألمانيا، والخرطوم في السودان، وكيب تاون في جنوب أفريقيا.
كنت أعرف الشخصية الألمانية، وازدادت معرفتي بعد هذه الزيارات بالشخصية السودانية وطرقها الصوفية، أما في جنوب أفريقيا فقد تعلمت الرقص الأفريقي الإيقاعي؛ يرقصون فرحا بالتحرر الوطني، ويصدرون أصواتا أثناء الرقص تخيف الرجل الأبيض، وكان معي زملاء أفريقيون من أصول هندية أو ماليزية، وكانوا من أنصار «لاهوت التحرير» مثل: عبد الله موسى، وعبد القادر الطيب، والحاج عمر، وفريد إسحاق. وكان ينظر إليهم على أنهم مسلمون يغردون خارج السرب، يتفقون معهم في الغاية، وهي تحرر جنوب أفريقيا من الحكم العنصري، ويختلفون في الوسيلة مع أغلبية المسلمين الأمريكيين الأفارقة؛ يختلفون لأن الزملاء ينتسبون إلى اليسار الإسلامي بينما تنتسب الغالبية الأمريكية الأفريقية لليمين الإسلامي وهم أنصار «القوة السوداء» و«المسلمون السود» والذين لا يتورعون عن ممارسة العنف. يركز الفريق الأول على النضال السياسي، بينما يركز الفريق الثاني على الهوية الإسلامية، يركز الفريق الأول على المعاملات، بينما يركز الفريق الثاني على العبادات؛ فالعبادات تعطى الهوية الإسلامية. غادر عبد الله موسى جنوب أفريقيا، بعد محاولة الاعتداء عليه، إلى الولايات المتحدة الأمريكية بينما بقي الآخرون، والحاج عمر يركز على العبادات فهو إمام مسجد. أما عبد القادر الطيب وفريد إسحاق فهما مثقفان مستنيران، كان الفكر الإسلامي لديهما له الأولوية على العبادات.
وقد زرت في مدة أقل لحضور مؤتمرات كثيرا من الجامعات في ألمانيا مثل: دوسلدورف وبون وكولونيا وهامبورج وهايدلبرج ومالبورج. كما زرت جامعات أوروبية أخرى لفترة قصيرة في كامبريدج وأكسفورد ووارسو وقرطبة وفيينا وموسكو.
وقد كون هانز كينج جماعة للحوار الديني برئاسة رئيس جمهورية ألمانيا السابق هيلمولت شميت، وكنت عضوا فيها، وجاءت الجماعة إلى مصر لعرض نشاطها على الرئيس المصري، فلما وجدت الرئاسة اسمي ضمن المجموعة شطبت اسمي من الدعوة للعشاء مع أعضاء المجموعة، فلما سألوهم عني، ولماذا لا أحضر معهم، لا أدري بماذا أجابوا!
وعندما زرت وارسو، أقام رئيس جمهورية بولندا حفل عشاء للوفد الذي كنت عضوا فيه لمشاركة الحوار الديني كموضوع للندوة، وألقى الرئيس البولندي خطاب ترحيب باللغة الإنجليزية. وطلب مني أن أرد عليه بخطاب شكر، فقمت واقفا وألقيت خطاب الشكر، وبإعجابي بأهل السياسة عندما يصبحون من أهل الثقافة طبقا لمبدأ «الفيلسوف الملك» أو «الملك الفيلسوف» عند أفلاطون في الفلسفة اليونانية، والفارابي في الفلسفة الإسلامية.
وأحيانا أجد بعض تلاميذي وقد أصبحوا يعملون كملحقين ثقافيين في السفارات المصرية بالخارج، فيخاطبون سفراء بلادهم ويعلمونهم بوجودي في بلادهم؛ فيدعونني لإلقاء محاضرة بالقاعة الكبرى لسفاراتهم. حدث ذلك في فنلندا وكندا وأستراليا؛ فأجد التقدير خارج وطني ولا أجده في وطني لأن «زمار الحي لا يطرب».
وفى العالم الإسلامي زرت جامعات إسطنبول وأنقرة، وطهران وقم، وكوالالمبور في ماليزيا، وجاكارتا في إندونيسيا، وفي أواسط آسيا زرت طشقند في أوزبكستان، وباكو في طاجكستان، وسمرقند، وغيرها من الجامعات في أواسط آسيا، وفي الهند زرت جامعات بومباي ونيودلهي وحيدر آباد.
وزرت إندونيسيا عدة مرات، آخرها عندما كان عبد الرحمن وحيد رئيس جمعية نهضة العلماء رئيسا للجمهورية. فدعاني إلى القصر مع رجالات الدولة، وألقى محاضرة عن أفكاري واتجاهي الإصلاحي، فكان الرجال ينظرون إلى ويبتسمون تقديرا لدوري وامتنانا لما قاله رئيسهم في حقي، وقد كان طالبا عندي في مصر، يستمع ويدرس محاضراتي قبل انتقاله إلى بغداد.
وفى كوالالمبور تعرفت على جماعة «آليران» وهي أشبه باليسار الإسلامي والذي أسسته في مصر. كما تعرفت هناك على «قاسم أحمد» المفكر الإصلاحي والذي كتب «العودة إلى القرآن». كما تعرفت على «سيد حسين علي» المفكر الماركسي الماليزي الذي أراد أن يطور الحركة الإسلامية من الإصلاح إلى الثورة، وكما حاولت أنا في مصر. كما تعرفت على «أنور إبراهيم» الزعيم الطلابي وزميل «محمد محاضر» الذي أصبح رئيس وزراء ماليزيا ووضع برنامج «عشرين عشرين» للتنمية الماليزية.
وفى زيارتي لتركيا تعرفت على جماعة «ريح الشرق» التي كانت ترى رسالة تركيا تمتد شرقا في آسيا بعد رفض الاتحاد الأوروبي عضويتها فشعرت تركيا بالإهانة، وقد كانت إمبراطورية قديما تسيطر على شرق أوروبا، ووصلت حتى أبواب فيينا. وكان من أعضاء هذه الجماعة الحكومة الحالية برئاسة «أردوغان» و«داود أوغلو» الذي كان وزيرا للخارجية. ولما قدموا إلى مصر لمقابلة الرئيس وضعوا اسمي مع من سيلتقي الوفد بهم، وحضور العشاء الذي سيقام على شرفهم، وكان وزير الخارجية قد زارني سابقا في مصر للتعرف على أفكاري الإصلاحية، وكان يعرفني جيدا فطلب أن يجلس بجواري على مائدة العشاء، وعندما جاء الرئيس وبطانته من حوله أخذوني إلى مائدة أخرى صغيرة بصحبة الموظفين الصغار في السفارة التركية؛ فغضب «داود أوغلو» وترك مائدة الشرف وجاء بجواري على المائدة الصغيرة، وأدركت بعد مثل هذه الحوادث بأنه لا كرامة لنبي في وطنه، وأن الخارج يحترمني ويعرفني ويقدرني أكثر من أبناء وطني؛ فحزنت لذلك. وقد كان باستطاعتي بسهولة أن أكون هنا من بطانة السلطان ذوي النفوذ ولكني لا أفعل ذلك؛ فأنا لست من علماء بلاط السلطان ولا من بطانته.
وفي زيارتي السريعة لطهران وكان ذلك بعد الثورة الإسلامية قابلت الخميني في منزله في «قم». وجلست معه على الأرض مربعا ساقي. كنت أتكلم عن الإسلام والثورة، وكان هو ينصت، ولا يتكلم. طلبت أن أنشر كتاب «الحكومة الإسلامية» في مصر فأعطاني الكتاب مترجما إلى اللغة العربية وكذلك كتاب «جهاد النفس، أو الجهاد الأكبر». سألته عن حقوق النشر، قال: «لا حقوق، انشر الكتاب على أوسع نطاق ويكفيني هذا حقا لي.» وتعرفت في «قم» على الإمام «تسخيري» الذي أنشأ مجلة «تقريب» للحوار والتقارب بين السنة والشيعة. وقابلت الإمام أحمد بن الخميني، والإمام طالقاني، والإمام طباطبائي، والإمام جلبيجائي. وحضرت بعض ندوات الحوزات العلمية، وتعرفت على «عبد الجبار الرفاعي» الفيلسوف العراقي الهارب من حكم صدام والذي بدأ في نشر مجلة «قضايا إسلامية معاصرة» وأعطيته حديثا بعنوان «قم تسأل والقاهرة تجيب» مما أغضب علماء الشيعة عندهم. فكيف من يسأل هي «قم» والقاهرة هي التي تجيب؟ فهم يرون «قم» مدينة العلم ولديها المعرفة، فالأصح هو «القاهرة تسأل وقم تجيب». فالقاهرة لديها السؤال، وقم لديها الإجابة. وزرت مدينتي «مشهد» و«تبريز»، ورأيت الآثار الإسلامية.
وفي سنغافورة تعرفت على زين العابدين رئيس الجامعة الإسلامية في سنغافورة بوجهه الصبوح وعقله المستنير، فحسدته على شخصه وصفاته وقيادته للمسلمين في الجزيرة.
أما في الوطن العربي فقد أعطيت فصولا دراسية كاملة في جامعة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى معظم الجامعات العربية لفترات قصيرة في المملكة العربية السعودية، وتطوان والرباط والدار البيضاء بالمغرب، ونواكشوط في موريتانيا، والجزائر، وتونس، وصفاقس بتونس، وليبيا، واليمن، وعمان، والكويت، وقطر، والبحرين، وبغداد ، وعمان، ودمشق، وبيروت. وكان أكثر الطلاب وعيا بالثقافة العربية الطالب المغربي.
وفى ليبيا جلست مع القذافي في خيمته عدة مرات عندما كان يستضيف المؤتمرات القومية وأعضاءها من المثقفين العرب، ولم أكن أحب الكلام والمشاركة في هذه الجلسات؛ لأنه كان يستعلي ويستكبر على المثقفين معتبرا نفسه نبيا لهذا العصر.
وفي بغداد قابلت الرئيس صدام حسين في الاحتفال بمرور سنتين على وفاة ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العراقي، وفي هذه الفترة كان في صراع علني مع أمريكا قد بدأ وعلى أشده بالتراشق اللفظي بينه وبين «بوش». وكان صدام يمشي على المسرح متبخترا أيضا رافعا رأسه إلى أعلى في ثقة محييا جمهور الحاضرين. واقتربت مني أجهزة الإعلام لمعرفة رأيي في رئيسهم فرفضت التعليق لأنني لا أمدح ولا أذم الرؤساء العرب.
ودعاني الملك عبد الله مع بعض المثقفين المصريين الماركسيين لزيارة المملكة العربية السعودية وأداء فريضة الحج؛ فذهبت وأعطونا ملابس الإحرام وأقمنا في الخيام. ودعينا مرة للقصر للغداء، رأيت الخراف واقفة على الموائد بكاملها؛ فخفت من المشهد أكثر مما استمتعت به؛ فقد كان مشهد الخراف واقفة مشوية مهيبا.
وفى زيارتي للملكة العربية السعودية لم يطلب مني الملك الكلام، ولم يتكلم هو كذلك، بل كان الأمر مجرد أداء واجب، وكانت المحاضرات التي ألقيناها في جامعة الملك عبد العزيز في مكة، وزرنا المدينة المنورة وقبر النبي، ومنازل الصحابة. وكان الحجاج يطوفون حول الكعبة في مكة ويتقاتلون للمس الحجر السود. يومها لم أستطع الطواف ولا السعي ولا الصعود إلى جبل عرفات لكبر سني، ورأيت الناس يقذفون الحجارة الصغيرة ويرجمون بها؛ فأدركت أهمية ما قاله الصوفية بأن هذه كلها ما هي إلا مشاهد رمزية للحج القلبي الخالص. وتمنيت لو أن هذه الملايين ذهبت إلى القدس، وطافت بالمسجد الأقصى. كما أدركت أهمية خطاب العيد في الفضاء وليس في مسجد مغلق لشرح وضع المسلمين اليوم. ورأيت عمال النظافة وهم يسحبون الشباشب والقباقيب والصنادل والأحذية من على الأرض كي يضعوها في صناديق القمامة، وتساءلت: فإذا خرج المصلون فأين سيجدون أحذيتهم؟ وكان الحجاج الأفارقة والأسيويون أكثر من الحجاج العرب، كلها كانت مشاهد للرؤية حتى لو لم تكن شعائر للحج.
وفى المملكة الهاشمية الأردنية، زرت عمان ورأيت الملك عبد الله عدة مرات، وكان يكرم أعضاء مؤسسة «آل البيت» للفكر الإسلامي، وأنا عضو بها؛ المرة الأولى بمناسبة الدعوة على الغداء والسلام على أعضاء المؤسسة، والثانية لمجرد المقابلة فانتهزتها فرصة لأقول له: «متى تتم الوحدة العربية؟» فقال: «عن قريب إن شاء الله.»
وفى زيارتي للبنان دعاني رئيس الجمهورية ووفدا نسائيا مشتركا، وقد كنت عضوا في هذا الوفد، للحديث عن حقوق المرأة، وشرحت معظم نساء الوفد آراءهن في هذه الحقوق، وكانت تطالب بحقوق أوسع؛ فرد الرئيس بأنه موافق تماما على ما سمع من آراء مهمة، وقال: «إن المهم هو قبول المجتمعات بأكملها لهذه الحقوق وإلا انقسم المجتمع إلى طوائف.»
وفى البحرين، كان معظم الثوار من الشيعة ضد الحكم السني العربي. فكنت في حيرة بين خيارين: أن أكون ثوريا؛ لأن الثورة هي خياري الأول حتى لو كنت أمارس الثورة مع الأغلبية الشيعية. والثاني أن أكون رجعيا عربيا أحافظ على العروبة وأضحي بالثورة. وكان من الصعب خلق تيار ثوري في الحكم العروبي؛ لأنهم أهل السلطة والمال. كما كان من الصعب أن أكون ثوريا عربيا مع الجماعة الشيعية؛ فالولاء في الجماعة للتشيع أولا ثم للثورة ثانيا، وكان ولائي للثورة أولا والعروبة ثانيا. وبعد أن كنت صديقا للثوريين الشيعة في البحرين وزرتهم بعد ذلك للمرة الثانية ترددوا في استقبالي لأنهم لم يريدوا خلق تيار ثوري عروبي يزاحم التيار الثوري الشيعي. ولما كانت العروبة تقوم على السلطة وأموال النفط فإنها كانت تخشى من الثورة باسم العروبة. وكان الشيعة الثوريون يريدون الثورة في البحرين خاصة؛ لأنهم الأغلبية ويكونون امتدادا للثورة الإيرانية، وبالتالي تضيع العروبة. والأمل في المستقبل في وطنية البحرينيين في الجمع بين الثورة والعروبة بدلا من الخيارين السابقين، الثورة مع التشيع أو الرجعية مع العروبة.
وفى مرة ثالثة وأنا أركب الباخرة مغادرا الإسكندرية إلى فرنسا، بعد أن قضيت يومين في حي المغاربة عند جامع الشيخ بالإسكندرية حيث يعيش أقرباء لوالدتي ووالدي. وهو أخ جدي الحاج حسنين، توقفت الباخرة في ميناء بيريه بجوار أثينا. نزلنا لمدة يوم واحد؛ فقد كان البحارة من اليونان، يحتاجون ليلة لقضائها مع أهليهم. زرت يومها الأكروبلوس الذي كنت قد قرأت عنه، ومعبد ديلفي. وزرت أثينا والميدان الكبير الذي به قصور الحكومة، ووجدت حيا مصريا بأثينا. وكانوا يتكلمون العربية على المقاهي وكأنني في الإسكندرية. ويقابل هذا الحي المصري الحي اليوناني بالإسكندرية؛ فالأجنبي في الأفلام المصرية يوناني مثل شخصية الخواجة بيجو، يتكلم العربية بلهجة يونانية، وفرحت لهذا التقارب بين مصر واليونان منذ أقدم العصور حتى الآن؛ فالإسكندر الأكبر في مصر يبني الإسكندرية، وأفلاطون يتعلم في جامعة منف بالشرقية.
وغادرت الباخرة بعد يوم وليلة عبر مضيق «مسيينا» وجزيرة مالطة التي أتى منها جوهر الصقلي إلى مصر، ووصلنا مارسيليا بعد ستة أيام قضيناها في البحر، وأخذت القطار إلى باريس، ورأيت الحي اللاتيني، والبانثيون، وشارع سان ميشيل، وجامعة السوربون، وكوليدج دي فرانس، وحديقة لوكسمبورج، وكاتدرائية نوتردام، وكان الحمام أمامها يلقي له الفرنسيون والأجانب بالبذور والطعام.
وزرت متحف اللوفر، وسرت في شارع الشانزليزية حتى قوس النصر، فعلت كل ذلك وأنا أبكي؛ لأن العدوان الثلاثي على مصر كان قد بدأ بعد تأميم عبد الناصر لقناة السويس، وقلت لعلي أرى باريس لأول وآخر مرة قبل العودة إلى مصر، وقد وصلت لتوي إليها، ورأيت الكنيسة المعلقة في شمال باريس، وزرت شارع القديس أونوريه وعلى جانبيه السيدات واقفات أمام أبواب منازلهن، أو مطلات من النوافذ والشرفات، ينادين على الرجال، وكنت في مرحلة انتمائي للإخوان المسلمين، ورأيت المكتبة الوطنية، والمقاهي المتناثرة أمامها، والملاهي الليلية في آخر الشارع، والطاحونة الحمراء «مولان روج» التي تقف على واجهة الملهى. ولم أستطع السياحة خارج باريس، لمشاهدة قصور الملوك أو عبر رجوعي لفرنسا إلا مع صديقتي الألمانية التي كان لديها سيارة صغيرة تبلغ قوتها حصانين، كنا نسيح في فرنسا في الصيف شرقا إلى جبال الألب، لتسلقها حتى القمة وركوب التلفريك كي نرى الجبال من أعلى، ونحن ننتقل من قمة جبل إلى قمة أخرى، ورأيت مدن تولوز ومونبيلييه، وسرنا على الساحل الجنوبي لفرنسا فرأينا طولون، وكان، ومارسيليا، وليون ، وكالييه في الشمال، وكنا نقتسم المصاريف مناصفة.
وزرت انجلترا ولندن وأكسفورد وكمبريدج. وركبت القطار الذي يسير أسفل بحر المانش من دوفر إلى كالييه لكي أعرف إلى أي حد وصلت التكنولوجيا الغربية، وكنت أخشى من ثقل ضغط مياه بحر المانش على سقف النفق فينهار، فأغرق، لكني خرجت سالما.
وكان عندي دراجة اشتريتها من ألمانيا، ركبت القطار حتى سالزبورج وهي المدينة التي كان يتصارع عليها كل من فرنسا وألمانيا، وهي الآن تابعة لفرنسا. كنت آخذ الدراجة، وأنزلها من القطار، أسير بها في جميع ربوع ألمانيا بحثا عن منازل الشعراء والموسيقيين والفلاسفة. تجولت بها من دوسولدورف في كولونيا وبون على نهر الراين حتى فرايبورج في الجنوب. وقطعت كل جنوب ألمانيا ووسطها حتى وصلت فرانكفورت وهايدلبرج ومالبورج، وصعدت إلى هامبورج في الشمال، وأردت الذهاب إلى برلين، وكانت مقسمة إلى قسمين؛ شرقية وغربية، فتركت الدراجة في آخر مدينة في ألمانيا الغربية. وقمت برحلة مستخدما طريقة الأوتوستوب لبرلين الغربية، وكانت معظم الآثار في برلين الشرقية؛ المتحف والآثار المصرية القديمة، ومتحف دالم في برلين الغربية لرؤية تمثال رأس نفرتيتي آية الجمال. كنت أسكن في منازل الشباب وكانت على قمم الجبال، كان الصعود إليها بالدراجة صعبا، والنزول سهلا. وفي البيت حيث نسكن كنت أرى شبابا من كل أنحاء العالم، وكان الطعام زهيد الثمن، وكانت الأسرة مزدوجة ونظيفة.
وعبرت إلى برلين الشرقية عبر شارع فريدريش، ورأيت شارع ستالين الطويل العريض، والمنازل كلها في طول واحد وشكل واحد متشابهة، واشتريت كتب الفلسفة. وكان المارك الألماني الغربي يساوي ستة ماركات شرقية، فكانت الكتب رخيصة. وأستعمل طريقة الأتوستوب رجوعا إلى دراجتي التي كنت أركنها عند الحاجز بين ألمانيا الشرقية والغربية، واضعا كتبي خلفي في ربطتها.
وكنت أعود إلى ستراسبورج في وسط ألمانيا، وآخذ القطار عائدا إلى باريس، وكنا نأكل ما يفيض من الموائد في بيوت الشباب، حيث كان بعض الطلبة لا يحبون البيض المسلوق، أو اللانشون، أو الجبن، أو الخبز؛ فكنا نأكل كل ذلك وما يفيض نأخذه في حقيبة نأكله ساعة الغداء ، عشنا تقريبا بلا مصاريف وبلا تكاليف في ألمانيا إلا أجرة ليلة الشباب كل نهاية أسبوع، وكانت لا تزيد على مارك واحد.
وبعد عودتي إلى مصر كان انشغالي بعد هزيمة 1967م بكيفية درء الاحتلال ورفع إهانة الهزيمة؛ فكان همي في الكتابة عن الأنا والآخر الذي جمع فيما بعد في جزأين «قضايا معاصرة».
وذهبت إلى مرسى مطروح في رحلة مع الجامعة، ورأيت ساحل عجيبة وغيرها من السواحل، وأعجبت بالمناظر الطبيعية والجبال المتناثرة بطول الساحل، وسمعت أن الجيش استولى على ساحل عجيبة لإقامة استراحات خاصة به، وكان لجامعة القاهرة استراحة صغيرة، تطل مبانيها على البحر مباشرة، وكنا نسبح في المياه الضحلة أمام الاستراحة.
وكنت أسمع عن الواحات الخارجة والداخلة وسيوة في علم الجغرافيا، ولم أكن أتصور كيف تكون بقع خضراء في مساحات واسعة صفراء جرداء هي الصحراء الغربية! ولما أعلنت الكلية عن رحلة إلى واحة سيوة انضممنا إليها فرحين، أخذنا القطار من القاهرة إلى أسيوط، ثم أخذنا الحافلة إلى واحة سيوة. رأيت شجرات نخيل باسقات، والجو مريح، والمنظر بديع، ودخلنا مصنع تغليف البلح، ورأينا هناك فتيات بدويات يغلفن البلح في علب كرتونية صغيرة باليد، وربما الآن دخلت الآلة، كن واقفات ولسن جالسات، والبلح أكوام وأكوام يملأ المناضد أمامهن، وكان معنا في الرحلة نصر حامد أبو زيد. وكنا نغني الأغاني الشعبية البدوية وغيرها.
كان أولادي ينقدونني بأنني لا أروح عنهم في نهاية الأسبوع، ولا أصاحبهم في التنزه بالحدائق والمتنزهات مثلما يفعل الوالدان مع باقي الصبية من سنهم، فكنت آخذهم لأريهم آثار مصر في القاهرة القديمة: الأزهر والحسين، والقلعة، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، وجامعي السلطان حسن والرفاعي، وليعلموا آثار مصر وتاريخها؛ فالنزهة في العلم، والتنزه في التاريخ، ولم يعترضوا بل استحسنوا ما نفعل في نهاية الأسبوع.
وفى الولايات المتحدة الأمريكية وأنا أستاذ زائر بجامعة تمبل في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، وبعد أن أرسلنا طفلنا الأول إلى مصر خوفا عليه من الرحلات الطويلة المتكررة، كان هناك دفتر للسفر في حافلة جرايهاوند، كان بها عشر ورقات وثمنها تسعة وتسعون دولارا، نستخدمها في أي وقت وأي مكان في ربوع القارة الأمريكية، وكان هناك نظام في مركز الخدمات الطلابية بالجامعة بأن نبلغه بخط السير، ويعرفنا بدوره على عائلات أمريكية نقضي عندهم الليلة، نتعرف عليهم، ويتعرفون علينا، تحقيقا لمبدأ التضامن بين الشعوب. أعطينا أنا وزوجتي لمركز الخدمات خطة السير والسفر من الشرق إلى الغرب، وأسماء المدن التي سنتوقف فيها، وأعطونا دفترا به عناوين وأسماء العائلات التي سنقيم معها، وبالفعل كنا ننزل من الحافلة في المدينة المعلومة، فنجد العائلة الأمريكية في انتظارنا ومعهم أولادهم، يرحبون بنا، ويلعب أطفالهم معنا. ويصطحبوننا إلى منزلهم للعشاء والإقامة ليلة واحدة أو أكثر إذا رغبنا، وفي صباح اليوم التالي نزور المدينة بالسيارة وهم معنا، ثم نصل إلى الحافلة، نستقلها إلى المدينة التالية، فنجد أسرة أمريكية أخرى في انتظارنا. ويتكرر الموقف حتى وصلنا إلى لوس أنجلوس في كاليفورنيا، وكانت بعض الهدايا التي أحضرناها من مصر مثل التماثيل الفرعونية الصغيرة لرمسيس أو أخناتون أو أبي الهول والأهرامات، أو كتابا عن مصر الفرعونية، كنا نترك عادة ذكرى واحدة منها عند الأسرة التي نقيم معها؛ فكانوا يزدادون إعجابا بنا.
ذهبنا من لوس أنجلوس لسان فرانسيسكو، وعدنا إلى فيلادلفيا من طريق آخر غير الطريق الأول، وقد استغرقت الرحلة شهرا، وكنا قد استهلكنا خلاله جميع دفاتر السفر بالحافلة.
وفي الصيف الذي يليه سافرنا بنفس النظام من الشرق إلى الجنوب، من بنسلفانيا إلى فلوريدا مارين بأهم المدن، وصلنا إلى المكسيك، ورأينا المدينة المشهورة، وعدنا إلى فيلادلفيا من طريق آخر، واستغرقت الرحلة شهرا كاملا ذهابا وإيابا.
وفي الصيف الذي يليه قمنا بالسفر من الشرق إلى أقصى الشمال الغربي، من فيلادلفيا إلى سياتل، وعدنا من طريق كندا لنرى شلالات نياجرا في تورينتو، وتعلمنا كثيرا خلال هذه الرحلات، وتعرفنا على كثير من العائلات الأمريكية، ولمسنا عن قرب تلك الشخصيات وكرمها ومحبتها للطبيعة ، وكان ذلك بالنسبة لنا غير فكرتنا عن السياسة الأمريكية المحتلة العنصرية، ورأينا الفرق بين الأمريكي البسيط الكريم الضاحك وبين أمريكا الكريهة الاستعمارية العدوانية.
ومنذ ذلك الوقت قررت أن أكتب كتاب «أمريكا، الأسطورة والحقيقة»، وهو ما تم بالفعل وصدر عام 2020م. وكنت من قبل وأنا في جامعة تمبل اشتريت معظم الكتب عن أمريكا الموجودة بقسم المكتبة، والذي كان باسم دراسات أمريكية. وعن طريق موسوعة الكتب المطبوعة في باب الدراسات الأمريكية، والتي كنت أطلبها من المكتبة على أنها كتب دراسية حتى أحصل على تخفيض يعادل عشرين بالمائة من ثمن الكتاب، وكذلك اشتريت كتبي عن العالم الثالث: أفريقيا وآسيا، أمريكا اللاتينية استعدادا لإصدار كتاب بنفس الاسم عن الفكر الوطني في هذه القارات الثلاث وهو ما حدث بالفعل، وصدر في 2021م.
وفى المغرب كان معي أولادي الثلاثة، تجولنا في ربوعها إلى الشمال حتى طنجة، وإلى الجنوب حتى العيون، وشاهدنا جمال الطبيعة في المغرب، وطيبة شعبها وحبه للمصريين، ونحن في الطريق إلى الجنوب وقع علينا حجر كبير من أعلى جبل، كان بعمل جندي مغربي، وقع الحجر تحت السيارة؛ فأبطلها. أتت حافلة لجر السيارة إلى الورشة لإصلاحها، خاف الجندي وأخذنا إلى منزله لتناول الغداء، وأصر قائد الفرقة أن يتم إصلاح السيارة على نفقة الجيش المغربي، بالرغم من التأمين عليها، كانت سيارتي جديدة ماركة «سيات» وهي النسخة الإسبانية من «فيات» الإيطالية.
وفى رحلة أخرى مع الأولاد، عبرنا جبل طارق بالسيارة، حيث شحناها على سطح الباخرة ومنه شاهدنا الأندلس ومدنه الثلاث؛ غرناطة وإشبيلية وقرطبة، وشاهدنا قصر الحمراء بغرناطة، ومسجد قرطبة، ومئذنة إشبيلية «الخيرالدا». وذهبنا إلى طليطلة، ومدينة الزهراء بجوارها. وكانت تقع قبل مدريد بسبعين كيلومترا فقط، وذهبنا إلى مدريد، ورأينا شوارعها الفسيحة وأبنيتها الشاهقة، والمعمار الذي يجمع بين الشرق والغرب.
ومرة دعيت إلى مؤتمر بتونس؛ فقررنا الذهاب بالسيارة، قطعنا شمال المغرب حتى وصلنا وجدة، ودخلنا الجزائر حتى تلمسان، وعبرنا المغرب كله من الغرب إلى الشرق عبر مدينة الأصنام، وكان الطريق ممهدا.
وفى الحدود بين المغرب والجزائر وقفنا طويلا ؛ فقد كانت العلاقات بين البلدين شبه مقطوعة لخلاف بينهما على واحة تندوف في الجنوب، وبعد أن وصلنا إلى تونس وانتهى المؤتمر، أردت العودة إلى المغرب عن طريق الساحل، وكان طريقا جبليا فخافت زوجتي، وأرادت أن نسلك نفس الطريق الذي جئنا منه؛ لأنه آمن، فحزنت لعدم اكتشاف الطريق الساحلي على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وفى اليابان لم يكن لدينا سيارة، وكنا نسمع عن هيروشيما ونجازاكي بعد إلقاء القنبلة الذرية وتدميرهما بالكامل، وقتل ما يقرب من سبعين ألف ياباني في هيروشيما وحدها، أخذنا الطائرة إلى هيروشيما، كانت قد بنيت من جديد مع استبقاء جزء منها مدمرا للذكرى، ثم أخذنا القطار السريع إلى نجازاكي، ورأينا نفس الشيء مدينة حديثة باستثناء جزء مدمر صغير من أثر القنبلة الذرية.
وفى طوكيو زرنا المدينة وحدائقها الحديثة، وزرنا قصر الإمبراطور، وزرنا ميناءها، ورأينا كباريها، وضواحيها. وأعجبنا بمنازل اليابان التقليدية الصغيرة وعلى أسطحها مرايات براقة لتوليد الطاقة الكهربائية من الشمس. وزرنا المعابد البوذية، رأينا كيف يشعلون الشموع حول تماثيل بوذا. وعجبنا من هذا التناقض بين اليابان الحديثة المتقدمة في العلم والصناعة، واليابان التقليدية في السحر والخرافة، وزرت أحد المعابد البوذية، فسجدت زوجة الراهب على الأرض تحية لي، وكادت أن تقبل قدمي؛ فانزعجت. وأدركت الصلة بين الدين والطاعة، بين الإيمان والخضوع، وكان هذا شائعا في الشركات وأماكن العمل في اليابان، حيث سلطة الرئيس على العاملين، وتبعية العاملين للرئيس، ورأيت الألوان الزاهية للباس المرأة اليابانية وهي تذهب إلى المعبد وكأنه قطعة من الألوان المتحركة، أساسها أبيض ونقوشها بالأحمر والأخضر والأزرق والأصفر، ألوان الطبيعة.
ورأيت الرقص الياباني الإيقاعي، والمصارعة اليابانية الحرة، وفي نفس الوقت كانت الفرق الموسيقية تعزف موسيقى بيتهوفين والسيمفونيات الألمانية.
الفصل الثامن
التأليف والمؤلفات
المقدمة
وأنا طالب في باريس اقترح علي أستاذي المشرف على رسالتي الأولى «برنشفيج» أن ننشر كتاب «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري، وهو مخطوط وجدته البعثة المصرية إلى اليمن بعد الثورة عام 1962م. فوافقت. واشترك معنا طالب تونسي كان يعد رسالة أخرى تحت إشراف نفس الأستاذ. كان اسم الطالب بكير، وبعد أن قطعنا شوطا في الإعداد لنشر المخطوط علمنا أن الأستاذ حميد الله كان بصدد نشر نفس المخطوط، وهو أستاذ مسلم هندي كان يدرس في جامعة حيدر آباد بوسط الهند، وعندما قسمت الهند بين المسلمين في الشمال في باكستان والهنود في الجنوب، وكان المسلمون متمركزين في الجنوب في حيدر آباد أيضا في وسط الهند، حول الجامعة العثمانية، أرادوا الانضمام إلى الشمال حيث الأغلبية المسلمة رفض نهرو، وانقض على الجنوب، واستولى عليه؛ فأصبح جزءا من الهند، كان حميد الله أحد أفراد المقاومة الإسلامية، فهرب إلى باريس، وأصبح باحثا في المركز الوطني للبحوث العلمية، وتزوج فرنسية هناك، تنازل لنا الأستاذ برنشفيج عن إعداد المخطوط، وبقيت أنا والطالب التونسي نعمل مع حميد الله، ونشر الكتاب في المركز القومي للبحوث الفرنسية وفي جامعة دمشق، وأعيد نشره تحت أسماء أخرى دون أخذ موافقتنا، وكان الناشر دار التراث ببيروت.
وكنت أبحث عن منهاج إسلامي عام كموضوع للدكتوراه في فرنسا، وبعد أن تحول إلى ثلاثة موضوعات: الأول، «مناهج التفسير في علم أصول الفقه»، والثاني، «تأويل الظاهريات»، والثالث، «ظاهريات التأويل». طبعت الرسالة الأولى طبقا لقانون جديد قد صدر في الجامعة بضرورة طبع الرسالة الأولى وليست فقط كتابتها على الآلة الكاتبة؛ فلم يكن الحاسب الآلي قد تم اختراعه بعد، وكانت الحكومة الفرنسية تتكفل بطبع الرسالة الأولى للطالب الفرنسي، أما الطالب الأجنبي فعلى حكومته أن تقوم بذلك؛ فأرسلت رسالتي الأولى مكتوبة على الآلة الكاتبة إلى «المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية»، وكان رئيس المجلس هو يوسف السباعي والذي أصدر قرارا بطبع رسالتي على نفقة المجلس، وتولى زوج شقيقتي الكبرى بنقل مائة نسخة مطبوعة إلى باريس، لأقوم بإرسالها للجامعة في فرنسا، ولولا كرم يوسف السباعي العلمي، وجهد أسرتي وزوج شقيقتي الكبرى لما طبعت الرسالة، ولا استطعت مناقشتها للحصول على الدكتوراه.
وبعد العودة إلى مصر بعد طباعة الرسالة باللغة الفرنسية، قمت بترجمة رسالتي الثانية إلى العربية بنفسي والتي كانت تتكون من جزأين: «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل، الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية».
وبعد الانتهاء من الرسالتين. وطبعت الأولى في القاهرة، تنفيذا للقانون الجديد، وطبعت الثانية على الآلة الكاتبة، فلم يكن الحاسب الآلي قد أخترع بعد. كانت الرسالة الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» كما أشار علي «ماسينون». وتحت إشراف «برنشفيج». وكانت الثانية بعنوان «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل، الحالة الراهنة على المنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين». وكانت الرسالة من جزأين. وسمعت أنه قبل المناقشة اختلف الأساتذة الخمسة، وهي لجنة المناقشة على مناقشة الرسالة الثانية التي كانت من جزأين، والاكتفاء بمناقشة جزء واحد هو «تأويل الظاهريات» وتحت إشراف «بول ريكير»؛ فاعترض «جان جيتون» على استبعاد الجزء الثاني من الرسالة الثانية «ظاهريات التأويل» والتي كان يشعر أنها أقرب إليه ومن فكره وهو صاحب «الفكر الحديث والكاثوليكية» والذي قدمني إلى البابا «بولس السادس» لحضور القسم الرابع للمؤتمر الفاتيكاني الثاني. وقد لازمته عشر سنوات أستمع إليه وإلى محاضراته الخاصة والعامة وحلقات بحثه حتى تعلمت منه الفلسفة وتاريخ الفلسفة، وكان هو الكاثوليكي الوحيد الذي دعي إلى مؤتمر الفاتيكان، و«أوسكار كولمان» البروتستانتي الوحيد الذي دعي لنفس المؤتمر. وكنت أنا المسلم الوحيد الذي دعي إلى المؤتمر نفسه. وأخيرا تم الاتفاق على أن يقوم «بول ريكير» بمناقشة الجزء الأول من الرسالة الثانية «تأويل الظاهريات»، و«جان جيتون» الجزء الثاني من الرسالة الثانية «ظاهريات التأويل»، ويناقش «برنشفيج» و«لاوست» الرسالة الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه»، ويدير الجلسة «جاندياك». وكانت مناقشة الرسالة الأولى استشراقية خالصة أي تاريخية. ومناقشة الجزء الأول من الرسالة الثانية علمية صرفة لمدى فهمي «للظاهريات». أما مناقشة «جان جيتون» للجزء الثاني من الرسالة الثانية فكانت حماسية قلبية روحية تبين حسن فهمي لتاريخ الأديان، والمقابلة بين اليهودية والمسيحية. وأعطيت درجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى. وأعلم رئيس الجلسة أن هذه الرسالة هي المرة الوحيدة التي يتقدم فيها الطالب بثلاثة رسائل بدلا من اثنتين لنيل درجة دكتوراه الدولة. وبعد المناقشة أقام لنا مركز «بيشيليو» في وسط ميدان السوربون حفلا ابتهاجا بهذا النجاح الباهر. وقدمت فيه المشروبات عدة ساعات بحضور الأساتذة والطلاب المصريين والفرنسيين. تم ذلك في 16 يونيو 1966م. ولأول مرة لمدة شهر في يوليو كنت أسير في الحي اللاتيني خفيف الوزن بعد أن نزل عن كاهلي هم الرسالة وكأنني سائح يزور باريس لأول مرة، خاصة وأن موعد المغادرة للقاهرة بالطائرة التي سيرسلها المشير عامر لأخذ ممثلي الطلبة في أوروبا ستصل في شهر أغسطس لمناقشة الرئيس عبد الناصر عن أحوال البلاد في مؤتمر المبعوثين الأول.
وأثناء انتظار وصول كتبي من فرنسا بعد قرار عبد الناصر في مؤتمر المبعوثين في أغسطس عام 1966م بنقل مكتبتي على نفقة الدولة، كتبت «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم». وكان هذا تقريبا مقدمة رسالتي الأولى «مناهج التفسير، محاولة في علم أصول الفقه». وطبع طبعة صغيرة، بحروف دقيقة في المركز العربي للطباعة والنشر والذي أسسه محمود الشنيطي في منزله بدعم عدد من الأساتذة المصريين وأنا منهم.
وطبع الكتاب أكثر من مرة في عدة دور نشر أخرى، بعلمي أو دون علمي. وكان يسمى «مانيفستو حسن حنفي» تشبيها لمانيفستو كارل ماركس، ونظرا لأنني كنت أدرس الفلسفة المسيحية فقد ترجمت نصوصا رئيسية في الفلسفة المسيحية تحت عنوان «نماذج من الفلسفة المسيحية». وتحتها عنوان فرعى «المعلم» للقديس أوغسطين، و«أؤمن لكي أعقل» للقديس أنسيلم، و«الوجود والماهية» لتوما الأكويني.
ولما كنت مقدما على مشروع الزواج وليس لي مال للشبكة والمهر وتأجير السكن. ترجمت كتاب اسبينوزا «رسالة اللاهوت والسياسة» الذي طبع عدة مرات، ونشر في الهيئة العامة للكتاب مقابل أربعمائة جنيه، وقد هزني الكتاب هزا عندما قرأته وأنا في باريس، ونويت أن أترجمه فور عودتي إلى مصر كي يعلم الناس أنه لا استثناء في المنهج العقلي الديكارتي لموضوعات لا يطبق فيها مثل الدين والسياسة.
كما قمت بكتابة وتجميع عدة مقالات فلسفية في عدة مجلات ثقافية في ذلك العصر مثل: «الفكر المعاصر»، «المجلة»، «الكاتب»، «الطليعة» في جزأين: الأول «في فكرنا العربي المعاصر»، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر» الأول في الأنا، والثاني في الآخر.
وبمناسبة زيارة جان بول سارتر إلى مصر بعد هزيمة 1967م كي يعرف أين الحقيقة في الصراع العربي الإسرائيلي، ترجمت «تعالي الأنا موجود». وطبعته في دار الثقافة الحديثة، وكنت قد رأيته في باريس وهو يلقي محاضرة عامة في قاعة «موبيرمو تيواليتيه» التي استغرقت ثلاث ساعات، وكان معي كتاب مارتن لوثر الذي يضم نداءاته التسع والتسعين. ذهبت إليه بعد المحاضرة عند المنصة، وقلت له: «هل تسمح أن توقع لي على هذا الكتاب؟» فظن أنه أحد كتبه ولما وجده لمارتن لوثر قال لي: «وهل تقرأ مارتن لوثر؟»، قلت له «نعم!» فاستغرب، وظهر الاستغراب على وجهه، وتعلمت أننا ننتمي لحضارتين مختلفتين: الأولى الغربية وهي في مرحلتها الأخيرة، والثانية الإسلامية وهي ما زالت في بدايتها الثانية، «عصر الإصلاح الديني»، هو في نهاية حضارة، وأنا في بدايتها.
وبعد عودتي من أمريكا عام 1975م ترجمت كتاب «تربية الجنس البشري» للفيلسوف الألماني «ليسنج» وقد أعجبت بهذا الكتاب الصغير المقسم لفقرات صغيرة مرقمة أشد العجب وأنا أقرؤه في باريس، وصممت أن أترجمه إلى اللغة العربية بعد العودة. وهو كتاب في فلسفة التاريخ، يقسم تطور البشرية إلى ثلاث مراحل: الأولى الطفولة وهي اليهودية التي تقوم على الثواب والعقاب، والثانية: الصبا أو المراهقة وهي المسيحية التي تقوم على المحبة والتسامح والسلام، والثالثة: مرحلة الرجولة والتي تعتمد على العقل وحرية الإرادة، وهي فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر في فرنسا وألمانيا. وفسرت المرحلة الثالثة بأنها مرحلة الإسلام أي قبل التنوير باثني عشر قرنا؛ فالإسلام دين يعتمد على العقل وعلى حرية الاختيار والمسئولية الشخصية. ومهدت للكتاب بمقدمة طويلة في فلسفات التاريخ عند هردر، وفيكو، وتورجو، وكوندرسيه، وهيجل، وروسو. وذلك ليكون نصا رئيسيا في فلسفة التاريخ، ويفيد السنة الرابعة، ونشرته أيضا في دار الثقافة الجديدة.
وكتبت عدة مقالات في جريدة الجمهورية كل أسبوع في برواز خاص بي. وجمعتها مع عدة مقالات أخرى في «الدين والثورة في مصر 1952-1981» في ثمانية أجزاء، وهو كتاب شعبي كما يوحي بذلك عنوانه، مكتوب للعامة ؛ الجزء الأول: الدين والتحرر الوطني، والجزء الثاني: الدين والتحرر الثقافي، والجزء الثالث: الدين والتنمية القومية، والجزء الرابع: الدين والوحدة القومية، والجزء الخامس: الحركات الإسلامية المعاصرة، والجزء السادس: الأصولية الإسلامية، والجزء السابع: اليمين واليسار في الفكر الديني، والجزء الثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية. نشرتها عند مكتبة مدبولي بميدان طلعت حرب.
وبين فصلي من الجامعة في قرارات سبتمبر 1981م وعودتي إليها بقرار من مجلس الدولة في أبريل 1982م قررت الاستراحة قليلا حتى أتفرغ لإنجاز مشروع «التراث والتجديد».
وكان الجزء الأول عن علم أصول الدين، أو علم الكلام باسم «من العقيدة إلى الثورة» يقع في خمسة أجزاء: الجزء الأول: المقدمات النظرية. والجزء الثاني: التوحيد. والجزء الثالث: العدل. والجزء الرابع: الأخرويات. والجزء الخامس: النبوة والإمامة.
وكنت أطبعهم على ورق الجرائد الأصفر الخفيف الوزن، الرخيص الثمن حتى يكون الكتاب على مستوى دخل القراء الفقراء، وكنت أتنازل عن حقوقي المادية كمؤلف، بل كنت أشتري الورق من تجار الورق في منطقة العتبة ثم يرجع لي الناشر ثمنه من مبيعات الكتاب، والذي بدأت الكتابة فيه وأنا في طريقي للمغرب، واستغرق خمس سنوات لإتمامه. ثم بدأت بعده تأليف كتاب «من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة في تسعة أجزاء. واستعملت منهج تحليل المضمون في كل النصوص الفلسفية القديمة؛ لكي أعرف مدى صحة أن علوم الحكمة هي شروح للفلسفة اليونانية وبالتالي لم يبدع المسلمون شيئا، كما يقول بعض المستشرقين وأتباعهم من العرب، أم أن بها إبداعا أصيلا وإن أتى في وقت متأخر؟
فكان الجزء الأول: عن الترجمة عن اليونانية وكيف كانت تتم تعريبا أولا ثم نقلا ثانيا؛ التعريب مثل قاطيغورياس، والنقل هي المقولات. والثاني: التعليق، أي التعليق على الكلمة وليس فقط ترجمتها. والثالث: الشروح، وكان شرحا للكلمة بعبارة طويلة. وتعتبر هذه الأجزاء الثلاثة الأولى أقرب إلى النقل. وبعد ذلك بدأ «التأليف» في الجزء الرابع، عندما يكون الوافد أكثر من الموروث، وفي الجزء الخامس: التأليف أيضا ولكن عندما يكون الموروث أكثر من الوافد. وفي الجزء السادس: عندما يتساوى الوافد والموروث . وتعتبر هذه الأجزاء المتوسطة بين النقل والإبداع، ثم يأتي «الإبداع» عندما يختفي الوارث والموروث كلية. ويعتمد الإبداع على العقل الخالص وهي «المرحلة السادسة». ثم الجزء السابع والثامن والتاسع؛ الجزء السابع: في العلوم الرياضية والطبيعية التي يختفي فيها الوافد والموروث معا. والجزء الثامن: في الموضوعات الإسلامية الخالصة وليست فقط المنطق والطبيعيات والإلهيات. وهي العلوم الوافدة. والجزء التاسع والأخير: في علوم تعتمد على العقل البديهي أو التجربة الطبيعية أو العلوم الإنسانية. وذلك مثل، مقدمة ابن خلدون التي تؤسس علما جديدا وهو علم التاريخ الاجتماعي، أو علم الاجتماع التاريخي.
ثم بدأت إعادة بناء علم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع» في جزأين، ويقوم بإعادة التفكير في علم أصول اللغة القديم منذ «الرسالة» للشافعي حتى «الموافقات» للشاطبي، وما بعده بقليل. وهو أفضل علم أبدعه القدماء وليس له أصول لا يونانية رومانية ولا مسيحية ويهودية. به ثلاث قضايا: الأولى، مصادر الأحكام ومن أين تأتي الأحكام الشرعية؟ وهي أربعة مصادر: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاجتهاد. فهذا الترتيب القديم يعطي الأولوية للنص على الواقع. فإذا كانت لدي مشكلة مثل صعوبة المواصلات في القاهرة فكيف أجد لها حكما؟ هل أذهب إلى الكتاب؟ فإن لم أجد فإلى السنة؟ فإن لم أجد فإلى الإجماع؟ هل أجمع المحافظون أو مديرو المرور مثلا؟ هل أسألهم كيف يحلون مشكلة المواصلات في القاهرة؟ هل بعمل كباري؟ أو بناء تجمعات جديدة حول القاهرة، أو عاصمة إدارية جديدة لنقل الحكومة إليها؟ أم أجتهد، رأيي كما تفعل المدن الكبرى مثل طوكيو والمكسيك؟ وذلك يتم عند قياس مساحات الشوارع والطرقات، ومعرفة عدد السيارات الخاصة، والناقلات العامة كي أعرف مقدار ما تتحمله الشوارع والطرقات من عدد السيارات، فإذا زاد العدد عن قدرة الطرق على استيعابها تنشأ الأزمة؛ فالحل يأتي من تحليل الواقع وليس من فهم النص، وبالتالي ينقلب الترتيب القديم وتصبح مصادر الأحكام من الاجتهاد أولا، فإن استعصى علينا أجمع أهل الخبرة العالمية الذين حلوا قضية الازدحام في المدن الكبرى، فإن لم أجد حلا عندهم أستطيع أن أقرأ النصوص عن تخطيط المدن القديمة وكيف كانت عربات الكارو التي تجرها الأحصنة تسير جنبا إلى جنب مع الناس. فالأولوية للواقع على النص.
والقضية الثانية: هي قضية اللغة؛ فالنص لغة أو قول أو خطاب متشابه. فيه حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤول، محكم ومتشابه، مجمل ومبين، عام وخاص، فإذا اعتمدت على النص اللغوي احترت أي الجانبين آخذ؟ الحقيقة أم المجاز؟ الظاهر أما المؤول؟ إلى آخر الاشتباه في اللغة.
كما أن في اللغة لحن الخطاب، وفحوى الخطاب،
1
وهو ما لا يدرك بالمعاجم والقواميس.
والقضية الثالثة وهي الأهم: هي قضية المقاصد والأحكام؛ فالشريعة الإسلامية وضعت ابتداء للحفاظ على المقاصد الخمسة: (1) الحياة. (2) العقل. (3) الحق [الدين]. (4) العرض [الكرامة]. (5) المال والثروة الوطنية.
أما الأحكام فهي خمسة وهي أحكام التكليف، الأحكام التي تلزم الإنسان على الفعل أو عدم الفعل وهي: (1) الواجب. (2) المحظور (الحرام). (3) المندوب. (4) المكروه. (5) والحلال.
فأفعال الإنسان بين قطبين: أوله الواجب ونهايته المحظور؛ افعل ولا تفعل «مثلا افعل الخير ولا تفعل الشر». وما بينهما المندوب والمكروه، فالمندوب «افعل أفضل مما لا تفعل» والأمر متروك لك للاختيار، والمكروه «لا تفعل أفضل مما تفعل» والأمر متروك لك للاختيار. والأهم من ذلك الحكم الأوسط وهو الحلال، وهي الأفعال الطبيعية، ولا يجوز السؤال عن حكمها، كما يحدث الآن في دار الإفتاء ولدى مشايخ قنوات الفضاء، وفي أكشاك الإفتاء على نواحي الشوارع ومحطات القطارات.
وكل محظور لسبب أو لعلة إذا امتنعت العلة غاب المحظور. وإذا حضرت العلة حضر المحظور؛ فالأحكام تدور مع العلة وجودا وعدما. حرمت الخمر لعلة السكر، فإذا أردت أن أعرف ما هو حكم شرب النبيذ؟ فإذا أدى النبيذ إلى السكر أخذ حكم الخمر، وإذا لم يؤد إلى السكر لا يأخذ حكم الخمر.
وكان سبب تحريم الخمر نزول الآية عندما رأى عمر بن الخطاب مسلما مخمورا ضرب مسلما آخر بفخذ حيوان، فشق رأس صاحبه؛ فأنزل الله الحكم بتحريم الخمر.
وكانت عائشة «تنبذ» للرسول ليلة عرسه أي تجهز له النبيذ، وهو عصير العنب الذي ترك عدة أيام حتى يخمر.
وكانت الأفعال تؤتي طبقا لأحكام التكليف الخمسة ومع ذلك هناك أحكام أخرى خمسة سماها القدماء أحكام الوضع؛ العزيمة: أي عندما يأتي المسلم فعله عزيمة وقدرة. والرخصة: وهي عندما يفعل المسلم شيئا محظورا فيكون رخصة له؛ أي ضرورة مثل شرب الخمر للعلاج، أو أكل لحم الخنزير في أوقات المجاعات. والصحة والبطلان: أي ليس من حق أحد أن يحكم على فعل يأتيه آخر بالصحة أو بالبطلان؛ فكل إنسان أدرى بما يفعل دون مزايدة من أحد. وبالتالي تكون أحكام الوضع الخمسة: السبب، وهو جلب المصلحة من الفعل. الشرط، وهو أن يكون قادرا على الفعل. المانع، وهو أن يكون مانع عن إتيان الفعل. العزيمة والرخصة، وهي مثل الصلاة وقوفا أو جلوسا، والصوم في رمضان أو الإفطار. الصحة والبطلان، أي الصلاة بوضوء أو بدون وضوء. وإنما الأعمال بالنيات وليست بالمظاهر؛ فالنية الصادقة يصدق الفعل بها؛ فالنية جوهر الفعل.
رابعا: تأتي ضرورة إعادة بناء علوم التصوف، وتوقفت علوم التصوف حتى «إحياء علوم الدين» للغزالي وهو أكثر الكتب مبيعا في إندونيسيا بعد كتب السنة الخمس، تريد من المسلم أن يترك البقاء في العالم إلى الفناء في الله. والسؤال: فحينئذ من يتولى أمور المسلمين في الدنيا؟ وهل الله يقوم بذلك بدلا عنهم؟ طريق الصوفية من «البقاء إلى الفناء» يبدأ بالزهد. وألغت طريق من «الفناء إلى البقاء». وهل يملك المسلم الآن شيئا يزهد فيه ودخله لا يكاد يكفي لقمة العيش؟ ودرجات السلم للصعود إلى أعلى كلها سلبية وتسمى المقامات والأحوال مثل: الخوف، الرضا، التوكل، الشكر، الصبر ... إلخ. فلماذا أخاف من السماء وعلى الأرض زوار الفجر ينتظرون على الباب كل يوم يأخذوننا للمعتقلات والسجون عقابا لكل من يتكلم.
2
وكيف أرضى والاحتلال ما زال في فلسطين والحروب الأهلية تمزق الأقطار العربية من أجل التكالب على السلطة؟ وكيف أرضى والبون شاسع بين الأغنياء والفقراء؟ والفساد في كل مكان باسم الإصلاح؟ وعلى من أتوكل؟ على الشرطة والجيش والأمن المركزي أو المخابرات العامة في الداخل أو الغرب في الخارج دون الاعتماد على نفسي؟ وكيف أشكر والصحافة تلهج ألسنتها بالشكر ليل نهار؛ حتى أصبح السلطان هو الرئيس والأب والوزير والأمير والغفير والأخ الكبير ممن يجب شكرهم؟! والصبر عجز مزدوج عن التفكير والفعل، ومخدر حتى لا يثور الناس لنيل حقوقهم.
3
فكل ما يحدث لي وللوطن إنما يحدث بقضاء الله وقدره ولا يجوز إلا الصبر عليه. فأنا لا أريد الخروج من العالم حتى لو كان فناء في الله بل البقاء على الأرض حتى لو كان الثمن باهظا أدى إلى الشهادة. وأخيرا تحول التصوف إلى فرق صوفية ترقص وتغني، تلبس الألوان وتحمل الأعمال، ويعين الرئيس شيخ مشايخ الطرق الصوفية حتى يكونوا بجانبه هم والمؤسسة الدينية بأكملها.
وقد احتاجت العلوم النقلية الخمسة إلى إعادة بناء كعلوم نقلية عقلية، وإدخال بعض العقلانية فيها، وهي العلوم الأكثر تداولا في المعاهد الدينية والكليات الأزهرية، يعتمد عليها خطباء المساجد، ومشايخ القنوات الفضائية، وهي: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. وقد تركت نقلية أي لا يعتمد فيها إلا على «قال الله» و«قال الرسول» دون تحكيم العقل لمدة خمسة عشر قرنا وحتى الآن. ولم يجرؤ أحد على تحويلها على الأقل إلى علوم نقلية عقلية، خاصة وأن الجميع يتساءل عنها. وما أسهل أن تستعمل هذه العلوم في حركة الإصلاح لما في بعضها من إمكانيات للتقدم! فعلوم القرآن مثلا لا تحتاج إلى السؤال عن مصدر القرآن من السماء أم من الأرض، وحي أم شعر؟ بل يكفي الاستعانة بما فيه لحل قضايا الفكر والمجتمع. فإن نجح كان من السماء، وإن لم ينجح كان من الأرض؛ فأسباب النزول تعني أن الأولوية للواقع على الفكر، للسؤال على الجواب. وقد كان الوحي مجموعة إجابات لمجموعة من الأسئلة. فكثير من آيات الأحكام تبدأ بفعل «ويسألونك» عن الخمر والميسر والأنفال والمحيض، فيأتي الجواب. وبالتالي يكون الفكر هو أجوبة عن أسئلة الواقع؛ عن الاحتلال، والاستبداد، والفساد، والتنمية، والفقر، والظلم، والتجزئة، والحروب الأهلية. فماذا تكون الإجابة وليست الأسئلة عن أكل البيض حلال أم حرام، واللحم المعقم «اللانشون»، والنبيذ والبيرة، والسلام باليد على المرأة، والحجاب والنقاب وغطاء الرأس، والاختلاط في الجامعة بين الجنسين، وعمل أكشاك للإفتاء على نواصي الشوارع، بل وإقامة دار للإفتاء وتعيين شيخ بعنوان «مفتي الديار المصرية» يجلس على مكتبه في «دار الإفتاء».
ويعني الناسخ والمنسوخ أن الأحكام تتغير بتغير الزمان، فلكل عصر أحكامه. فإذا ما ثبت الحكم وتغير العصر تجمد الدين، ولما كان الزمن يتغير فوجب تغيير الأحكام طبقا للزمن الجديد.
4
فالأولوية لتغير الزمن على ثبات الحكم، ويعني المكي والمدني، التصور والنظام؛ فالمكي يحتوي على المبادئ العامة للإسلام وتصور الحياة والكون. أما المدني فيعني تحول هذه المبادئ العامة إلى تشريعات اجتماعية يستفيد منها الناس، وتحافظ على مصالحهم، وهو ما عنيته في شبابي بتأسيس منهاج إسلامي عام يقوم على التصور والنظام، والقوة والحركة. كما يعني الاشتباه في اللغة، إمكانية تأويل الحقيقة إلى مجاز، والظاهر إلى مؤول، والمحكم إلى متشابه، والمبين إلى مجمل، والخاص إلى عام.
أما علوم الحديث فقد أبدع القدماء منهجا للسند يفرق بين التواتر والآحاد، بين اليقين والظني. والتواتر له شروط أربعة لكي يكون المتن صحيحا: (1) تعدد الرواة. (2) تساوي انتشار الرواية في الزمان، فلا تختفي في زمن وتكشف في زمن آخر. (3) استقلال الرواة بعضهم عن البعض منعا للتدليس. (4) والإخبار عن محسوس، فإذا نقص السند شرطا من هذه الشروط الأربعة يصبح آحادا. والسؤال هو: هل إذا صح السند صح المتن؟ فقد يكون السند صحيحا والمتن غير صحيح. وقد يكون المتن صحيحا والسند غير صحيح؛ لذلك لزم التحول من نقد السند إلى نقد المتن أيضا.
وعلوم التفسير التي تشرح القرآن، تشرح القرآن لغويا وكلاميا وفلسفيا وصوفيا وفقهيا وأصوليا دونما حاجة إلى ذلك الآن، فنحن لا نحتاج إلى التفاسير طوليا، من سورة الفاتحة حتى سورة الناس، فتقطع الموضوعات وتتكرر، ونحن في حاجة إلى تفسير موضوعي عرضي يجمع الآيات كلها حول موضوع واحد يهم المسلمين مثل: الفقر والغنى، الظلم والعدل، الإصلاح والإفساد، التقدم والتأخر، المحسوسات والغيبيات.
5
وعلوم السيرة حولت الرسول من مجرد رسول حامل للرسالة وتوصيلها إلى شبه آلهة، كما يظهر ذلك في الأدعية الصوفية: «أغثنا يا رسول الله»، «أعنا يا رسول الله». كما لو كان يقوم بالمعجزات التي لا تقل عن معجزات المسيح.
6
أما الفقه فما زال يكرر كتب الفقه القديمة، والأحكام المرتبطة مثل: الصلب، الرجم، الجلد، قطع اليد ثم الرجل، وقطع اليد اليسرى ثم القدم اليسرى، اليد اليمنى ثم القدم اليمنى. فماذا يبقى للإنسان إلا جثة ملقاة على قارعة الطريق لا فائدة منها يقذف الناس بالقروش المعدودة؟ وهذه الأحكام ضد حقوق الإنسان، امتلاك الإنسان لجسده، وكما هو في الفلسفة الوجودية المعاصرة، الإنسان هو الجسد وليس الروح.
ولما كانت الثقافة المعاصرة قد نشطت في العصر الحديث في القرون الأربعة الأخيرة، وضمت جميع الاتجاهات الفلسفية؛ العقلية، والتجريبية، والإنسانية، وكانت حضارتنا في طور الشروح والملخصات وبدايات الإصلاح والنهضة؛ انتقلت الحضارة من المركز إلى الأطراف، ومن الحضارة الغربية إلى الحضارة الإسلامية، وعن طريق الترجمة التي كثرت فيها الألفاظ المعربة، خاصة في علوم الاتصال الحديثة. فحدث مركب عظمة في الغرب، ومركب نقص في الشرق. وأصبح المثقف إن لم يحل في ثقافته إحالات من الثقافة الغربية، وإن لم يستعمل بعض الألفاظ المعربة مثل «أبستمولوجيا»، «أنطولوجيا»، «أنثربولوجيا» بدلا من «المعرفة»، و«الوجود»، و«الإنسانيات» فإنه لا يصبح مثقفا.
لذلك وجب إنشاء «علم الاستغراب» في مقابل «علم الاستشراق» حتى يتحول العربي الإسلامي الشرقي من موضوع للدراسة إلى ذات دارسة، ويتحول الغربي، الأوروبي والأمريكي، من ذات دارسة إلى موضوع للدراسة. فينخفض مركب العظمة في الغرب، ويرتفع مركب النقص في الشرق، ويتساويان، حينئذ يمكن الحوار بين الشرق والغرب.
وهنا فقط تكتمل حركة التحرر الوطني، من الاستقلال العسكري إلى الاستقلال الثقافي أيضا.
وصدر التفسير الموضوعي للقرآن الكريم لمعرفة العلاقة بين الفكر والواقع وليس كنظرية في التفسير فقط بل كنسق فلسفي مؤيد بالآيات القرآنية، يكون في مركزه الجسد، ثم نشأة الإدراك الحسي، ثم التفكير العقلي، ثم الإحساس بالزمن، ثم تحليل العواطف والانفعالات، والصلة بين الأنا والآخر، والفرد والمجتمع، والحاضر والمستقبل، والوعي والتاريخ. فهو كتاب فلسفي وإن كان عنوانه «التفسير» يصف الإنسان في العالم ومع الآخر.
وقد يصدر في العام القادم إذا ما كان الوعي ما زال يقظا، تفسير شعوري للقرآن الكريم، لاستخراج ما يختبره الوعي ويحسه تجاه بعض الآيات فتهزه، ثم تجمع هذه المشاعر في نسق لم يتم التفكير فيه بعد، مثلا
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا
فالآية تشير إلى فراغ الفؤاد وفراغ الشعور بعد أن ألقت أم موسى بطفلها في النهر، وهو ما سمي في علم الظاهريات: فراغ الشعور، وملء الشعور، ووضع الطفل «الشيء» وعدم إصدار حكم عليه بالوجود أو العدم.
ولما كان مشروع «التراث والتجديد» مشروعا علميا خالصا لا يقدر عليه إلا المتخصصون حولته إلى مستوى آخر وهو المستوى الثقافي الذي يستطيع من خلاله جميع المثقفين الاطلاع عليه، وذلك في مؤلفات مثل «قضايا معاصرة» جزءان: الأول في فكرنا العربي المعاصر، والثاني في الفكر الغربي المعاصر؛ لإبراز العلاقة بين الأنا والآخر.
ثم صدر «هموم الفكر والوطن» جزءان، لبيان أن العلم هو علم ثقافي حضاري بالضرورة، علم عملي يرتبط بهموم الفكر والوطن. ثم صدر «حصار الزمن» ثلاثة أجزاء، لوصف الثقافة العربية المحاصرة بين أضلاعها الثلاثة؛ الماضي، والحاضر، والمستقبل.
كما صدر أيضا «الواقع العربي المعاصر» استكمالا لقضايا معاصرة، كما صدر أيضا «الوحي والواقع» في دمشق، وكان في الأصل عدة مقالات في جريدة الوطن الكويتية من خلال الصفحة الثقافية بها قبل أن تتوقف.
ولما كانت طبقة المثقفين ما زالت محاصرة بين النخبة والجماهير كان لزاما علي تحويل مشروع «التراث والتجديد» العلمي من مستواه العلمي إلى المستوى الثقافي وتحويل المشروع الثقافي إلى مشروع سياسي للجماهير، حتى يكون أكثر تأثيرا في الحياة العامة طالما أنني لا أتحدث إلى الإعلام ليس خوفا بل اتقاء للإثارة. فصدر «الدين والثورة في مصر 1952-1981م» وهو تجميع لمقالات صحفية في جو هادئ لتنوير الجماهير وجعلها أكثر وعيا للمطالبة بحقوقها. وهو ثمانية أجزاء: «الدين والتحرر الوطني»، «الدين والتحرر الثقافي»، «الدين والتنمية القومية»، «الدين والوحدة العربية»، «الحركات الإسلامية المعاصرة» «الأصولية الإسلامية»، «اليمين واليسار في الفكر الديني»، «اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية».
كما صدر «جذور التسلط وآفاق الحرية» إجابة على سؤال: لماذا نحن لسنا أحرارا؟
كما صدر «من منهاتن إلى بغداد» عن الغزو الأمريكي للعراق، وصدر أيضا «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى 2011-2015». و«الثورة المصرية في أعوامها السادس والسابع والثامن».
وصدرت «ذكريات» الجزء الأول، تروي حياة المؤلف من طفولته حتى مرحلته الحالية. كما صدرت: «نظرية الدوائر الثلاث» عن العالم الثالث.
وأخيرا صدر «أمريكا، الأسطورة والحقيقة» لمحاولة تقليل الهجرة للولايات المتحدة الأمريكية لما فيها من طغيان، واستبداد، ورأسمالية، وعنصرية، وسيطرة أجهزة الأمن على الحياة العامة.
ويصدر الآن «الفكر الوطني في العالم الثالث» ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول: أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. والثاني، مصر والوطن العربي والعروبة والإسلام. والثالث، الإصلاح والنهضة، والصحوة الآسيوية، والثورة الإسلامية.
والآن يصدر هذا الجزء الثاني من «ذكريات» طبقا للموضوعات وليس لمراحل الحياة مثل: الفقر السعيد، اكتشاف المواهب، الحب العذري، القضاء والمحاكمات، الاضطهاد العلمي، الدين والسياسة، العلم والعالم، التأليف والمؤلفات، المساعدون والمساعدات، العواطف والانفعالات، ضعف الجسد، مشروعات المستقبل.
ومن المؤلفات المساعدة لمشروع «التراث والتجديد» في مستواه الثقافي، جمال الدين الأفغاني «فيلسوف الثورة» لإعجابي به منذ أن كنت في المدرسة الثانوية ثم في الجامعة المصرية، وعباراته التي ما زالت ترن في الآذان مثل عبارة أحمد لطفي السيد «مصر للمصريين.» والتي أصبحت شعارا للتحرر الوطني، ثم «إن الله خلقنا أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، والله لا نورث بعد اليوم.» وهي العبارة التي أطلقها أحمد عرابي أمام قصر عابدين عند مواجهة الخديوي توفيق، و«عجبت لك أيها الفلاح تشق الأرض بفأسك، ولا تشق قلب ظالمك» والتي تنادي بثورة الفلاحين ضد الإقطاع، و«الأرض لمن يفلحها» وهي العبارة التي أقامت عليها الثورة المصرية في يوليو 1952م قانون الإصلاح الزراعي. ومع ذلك أخطأ الأفغاني في الرد على الدهريين بهجومه على «الماترياليست»، «السوسياليست»، «الكومونيست». فقد كانت هذه الصورة لهذه المذاهب في القرن التاسع عشر. ولم يعرف الأفغاني أن المادية هي أساس الرأسمالية أيضا، وأن الاشتراكية في الإسلام، وأن الشيوعية نوع من الاشتراكية.
ومن الكتب الثقافية المساعدة «دراسات إسلامية» وبها محاولة للإجابة على ثلاثة أسئلة: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟ ولماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟ وعلم أصول الفقه.
وأيضا كتاب «دراسات فلسفية» يحتوي دراسات عن فلسفة السؤال، وماهية النص، و«ثورة الجماهير» عند أورتيجا، و«جوهر الدين» عند فيورباخ ، وغيرها من المقالات الفلسفية في الفلسفة الغربية.
كما صدر أيضا كتاب «فيشته، فيلسوف المقاومة». وقد كان إعجابي به منذ السنة الثالثة في قسم الفلسفة بآداب القاهرة. كان قد أصدر نداءات للأمة الألمانية لمقاومة غزو نابليون لألمانيا.
كما صدر «برجسون، فيلسوف الحياة»
7
إعجابا بفكره منذ كنت طالبا، ولنقده «علم النفس السيكوفيزيقي» في المعطيات البديهية للوجدان، ونقده التصور المادي للنفس في «المادة والذاكرة»، وتأثير «الطاقة الروحية» و«الفكر والمحرك» على المنهاج الإسلامي العام. وهي من نوع أفكاري الأولى والتي تتكون من جانبين؛ الثابت ويشمل التصور والنظام، والمتحرك ويشمل القوة والحركة.
وأخيرا كتب برجسون «منبعا الأخلاق والدين» مبينا أن هناك نوعين من الأخلاق والدين؛ الأول ثابت شكلي مظهري لا حياة فيه. والثاني جوهري مملوء بالحياة. وهو ما عبرت عنه بعد ذلك في كتابي «من العقيدة إلى الثورة»؛ فالعقيدة من النوع الأول، والثورة من النوع الثاني. وتدور معظم أعمال برجسون على هذا التصور «الثابت والمتحرك» مثل كتاب «الديمومة والمعية» في تحليل الزمان. فهناك فرق بين الديمومة عندما يتواصل فيها زمانان، والمعية عندما يتعاقب فيها زمانان. فالزمان إما متصل أو منفصل، المتصل هو الحياة، والمنفصل هو الموت.
كما كتب برجسون عن «الضحك» متسائلا: لماذا يضحك الإنسان؟ وكانت الإجابة عندما يتوقع الإنسان المتحرك فيفاجأ بالثابت، مثل مشاهدة إنسان يسير ثم ينزلق على الأرض كما هو الحال في الكوميديا على المسرح.
وقد أجريت حوارا بعنوان «حوار المشرق والمغرب» مع محمد عابد الجابري بناء على اقتراح قدمته جريدة اليوم السابع في باريس. فتبادلنا الرسائل في عدة موضوعات فكرية وفلسفية واجتماعية وسياسية. كان لها كبير الأثر على الجمهور، وجمعت الحوارات في كتاب صدر في المغرب وكانت له عدة طبعات في بيروت وعمان والقاهرة.
وتكرر الحوار بيني وبين أبي يعرب المرزوقي صاحب كتاب «إصلاح العقل» في تونس، لم يكن له نفس الشهرة التي نالها الحوار الأول؛ فالتقليد دائما له جذب أقل من الإبداع.
وكانت لي مقالات عديدة باللغة الإنجليزية. جمعت في كتابين وكل كتاب جزءان: الأول «الإسلام في العصر الحديث »، الجزء الأول «التراث والثورة والحضارة»؛ والثاني «الدين والأيديولوجيا والتنمية». والكتاب الثاني «الحضارات والمدنيات، في صراع أم في حوار؟» وقد صدر في جزأين: الأول ثقافة البحر الأبيض المتوسط. والثاني الإبداع الحضاري والحوار الديني.
وقد ترجمت هذه المؤلفات إلى العديد من اللغات الأجنبية مثل «التراث والتجديد» باللغة التركية وحوار «المشرق والمغرب» باللغتين الفرنسية والألمانية.
كما صدرت عدة دراسات عن المشروع بالعربية مثل: «حسن حنفي في عيد ميلاده الستين» يحتوي على عدة مقالات من الأساتذة المصريين والعرب تحت إشراف أحمد عبد الحليم.
وأيضا «كاهن الفلسفة» تحت إشراف قيس الجوادي مندوب العراق لدى الجامعة العربية.
كما صدر كتاب «حسن حنفي في عيد ميلاده الخامس والثمانين» تحت إشراف مصطفى النشار.
كما تم إصدار عدة رسائل عن فكري وفلسفتي بالعربية، رسائل ماجستير مقدمة من جامعة طنطا، وطبعت وصدرت الرسالة عن «التراث والتجديد عند حسن حنفي» في الجزائر وفي الأردن.
كما صدرت رسالة دكتوراه للأستاذ الهولندي مارين فان ديربوم في جامعة أمستردام الحرة بهولندا بعنوان «تحرير الإنسان عند حسن حنفي».
وباقي الإصدارات عن فكري وفلسفتي موجودة ويمكن الرجوع إليها على المكتبات الإلكترونية بشبكة الإنترنت.
الفصل التاسع
المساعدون والمساعدات
بدأت التأليف بمجرد عودتي من فرنسا عام 1966م. وكانت الطباعة الأولى يومئذ على الآلة الكاتبة. وبعد ذلك تأخذ المطبعة الكتاب وتجمعه يدويا بلصق الحروف المتفرقة بعضها بالبعض. وكانت كبيرة الحجم حتى يسهل التعامل معها، ثم تحولت الطباعة بعد ذلك إلى جمع الحروف بالرصاص في سطور تربط بحبل رفيع «الدوبارة». ويكون التصحيح بتغيير السطر كله وليست مجرد الكلمة. ثم بدأت الطباعة أخيرا عن طريق الحاسب الآلي «الكمبيوتر». وفي مرحلة الآلة الكاتبة كنت أذهب إلى مكتب لهذا الغرض في ميدان الجامع بمصر الجديدة. وكانت طباعة الصفحة بقيمة خمسة قروش ثم زادت إلى سبعة. ولما كنت لا أحسن استخدام الحاسب الآلي ولا أحب التعامل معه وكانت تكفيني الكتابة بخط اليد سواء كان الخط حسنا أم رديئا، مقروءا أم غير مقروء، صحيحا نحويا أم به أخطاء. وفي مكتبة «غريب» التي بدأت بطباعة الأجزاء الأولى لكتابي «من النقل إلى الإبداع» تعرفت على كاتبة تكتب على الحاسب الآلي بدار النشر، وطلبت منها أن تعمل ساعات إضافية عندي لتحويل خط اليد إلى طباعة على الحاسب الآلي وقبل أن أقدم ذلك إلى دار النشر.
وكانت تأتي وهي محجبة، وتطبع، وتساوم في ثمن الصفحة. ثم تقرأ القرآن بعدها، لم تدم في العمل معي كثيرا لإحساسي بأنها تظهر غير ما تبطن، وأن قراءة القرآن مجرد غطاء لنيل مكسب أكبر.
بعد ذلك تعرفت على موظف بشركة تعمل في مكان ليس بعيدا عني، كان يأتي بعد الظهر ليساعدني فيما كتبته لطباعته على الحاسب الآلي. وظل معي حتى الآن، حوالي تسعة عشر عاما، وهو نموذج للأمانة والكفاءة.
ولما كثرت مراسلاتي مع الخارج وتعبنا من كتابتها بخط اليد، اشتريت جهازا آخر لإرسال الرسائل الإلكترونية، وساعدني في إرسال هذه «الإيميلات».
ولما عرفت أنه يمكن عمل خط على الإنترنت وباسمي مباشر ترسل عن طريقه الرسائل والردود عليها مباشرة وأتلقى الرسائل من الخارج خلاله مباشرة. استعملت هذا النظام الجديد، ولما زاد وكبر حجم العمل عليه، تعرفت على عدد من الشباب للكتابة على الحاسب الآلي؛ تعرفت على اثنين ثم ثالث، وكانت مهمتهم بعد الطباعة على الحاسب الآلي أن يضعوا المكتبة بعناوين كتبها ونقلها على الحاسب الآلي حتى أحسن تبويبها وترقيم كتبها وسهولة التعامل معها. إذا أردت كتابا بعينه أجده بالرقم محفوظا دون البحث اليدوي.
ولما توسموا في الطيبة وحسن المعاشرة اقترضوا مني المال مقدما، فكانوا يأخذون أولا وقبل موعد الاستحقاق، وما زالوا يطلبون المال حتى كثرت ديونهم، وقل عملهم، وبدءوا في الاختفاء التدريجي وعدم الحضور.
وكان البعض يأتي لينفذ عمله الخاص على الجهاز عندي. ويستعمل شبكة الاتصال الدولي «الإنترنت» حتى زاد الاستهلاك. وحذرتني شركة الاتصالات بأنه لا بد من زيادة مبلغ الاشتراك طالما أن الاستهلاك يزيد وإلا انقطع الخط.
وفي شهر رمضان كانوا يأتون بعد الانتهاء من أعمالهم عصرا، يعملون لمدة ساعة ثم يؤذن المغرب بعدها؛ أحمل لهم «صواني طعام الإفطار» لأنني أحب أن أفطرهم. ثم بعد الإفطار يعملون ساعة واحدة ويغادرون بعدها، ولو أنه كان من الأولى أن يفطروا في منازلهم ثم يأتون عندي بعد الإفطار؛ لأن الليل ممتد في أمسيات رمضان وحتى موعد السحور؛ مما يسمح بإنجاز قدر أكبر من العمل.
وحضر طالب عندي، يدرس بقسم الدراسات العليا، ليساعدني في أعمال الطباعة، فأخبرتهم جميعا بأن التدخين في المكتبة ممنوع حتى لا يقع مكروه يؤدي إلى احتراق الكتب وأوراقي الكثيرة هناك. ومع ذلك كان لا يستجيب ويدخن ويقرأ ما يجده من كتب ولا يقدم إنتاجا مقابل ذلك.
تعبت كثيرا مع مثل هؤلاء المساعدين غير الملتزمين، وكنت أخشى أن أعطي مخطوطاتي لمكاتب الطباعة خارج مكتبي بالمنزل حتى لا تضيع لأي سبب من الأسباب.
ثم وفقت لوجود شاب، كان يعمل عندي فترات بعد الظهر، يطبع المخطوط على الحاسب الآلي. كان مثالا على الأمانة والكفاءة. ونظرا لارتباطه بأسرته، زوجته وأبنائه، بدأ يقلل أيام حضوره من ستة أيام إلى خمسة، ومن خمسة إلى أربعة، ومن أربعة إلى ثلاثة، ومن ثلاثة إلى اثنين. فتراكم العمل ثم اعتذر عن الحضور كلية.
ظللت عدة سنوات أطبع مؤلفاتي بمعاونة مساعدي الأول، والذي أكمل معي مدة أكثر من تسعة عشر عاما. أصبحنا صديقين أكثر من كوننا مؤلفا وموظفا. وبعد عدة سنوات عاد الأخير يطلب العمل معي من جديد بعد أن ازدادت عليه النفقات، وبعد انتقاله من مصر الجديدة في منزله الضيق إلى سكن أوسع في التجمع الخامس، فرحبت به من جديد خاصة وأنه يتمكن من قراءة ثم طباعة مخطوطي، ثم أصيب بالكورونا، وغاب عن العمل. وقد تماثل الآن للشفاء وعاد من جديد.
وفي المرحلة الأولى من تكوين الجمعية الفلسفية المصرية، كانت لي زميلة مساعدة من جامعة أخرى، أشرفت على رسالتها عن هيجل، وكانت تدير جميع الجوانب الإدارية والمالية للجمعية بمفردها دون مقر عندما كنا لا نزال نستخدم قسم الفلسفة بآداب القاهرة للالتقاء. ومقر الجمعية كان دولابا صغيرا في حجرة القسم، عليه لافتة «الجمعية الفلسفية المصرية»، به أوراق إشهار الجمعية، وفواتير الاشتراكات، وبعض المقالات استعدادا لنشرها في مجلة الجمعية. كانت مخلصة في عملها، ومتفانية فيه، وتحمل عني أعباء الإدارة.
ونشرنا الأعداد الخمسة الأولى لمجلة الجمعية. وفي يوم من الأيام وهي تجمع اشتراك أحد الأساتذة ضحك معها كما نفعل في مصر قائلا: «أنت تأخذين مالا كثيرا منا!» فحزنت بدلا من أن ترد على المزاح بمزحة أخرى، وجاءت لي، ورمت كل أوراق الجمعية، ومستحقات الجمعية في البريد، وغضبت غضبا شديدا، حاولت مرارا أن أشرح لها طبيعة «النكتة» المصرية، والمزاح البريء، وأن المقصود من مزحة الزميل ليس اتهامها بأي شيء. فقد كانت معروفة بالأمانة المطلقة، خاصة وأن قيمة اشتراك العضو في ذلك الوقت كانت خمسة جنيهات سنويا فقط، ولم يكن لدينا أي فائض من الأموال يستطيع أحد أن يستولي عليها. فقد كان كل ما في البريد أربعين جنيها فقط ولا غير. وكنا في حاجة إلى مال للاستمرار في إصدار مجلة الجمعية. حاولت إرضاءها بشتى الطرق نظرا لإخلاصها ووفائها وتفانيها للجمعية، وصعوبة العثور على بديل عنها أيضا. كانت تعمل مجانا تقديرا للفلسفة وللجمعية ولأستاذها. وكانت عابسة معظم الوقت، متشائمة من الدنيا ومن الحياة. حاولت مرة إدخال البهجة عليها، وهي امرأة وحيدة، سافر زوجها للعمل بالخليج ولجمع المال، تاركا إياها وابنتها تدبر أمورها بنفسها، وكان إخلاص الزوج لوظيفته في الخليج أكثر منه لزوجته وابنته في مصر، ومع ذلك لم ترجع للعمل في الجمعية. واستلم الوظيفة بعدها مهندس معماري لا صلة له بالفلسفة ولكنه كان راغبا في المساعدة. استلم الميزانية منها وأوراق الجمعية وإيصالاتها. وظل حلقة الاتصال بيني وبين الناشر والأعضاء بالمجلة. وكان يحضر الندوات الشهرية والمؤتمرات السنوية، يذهب إلى المطار لاصطحاب أعضاء الجمعية من الأساتذة الجزائريين إلى الفنادق أو إلى دار الضيافة بالجامعة. وبعد استقالته من أمانة الصندوق بسبب شرائنا مقرا للجمعية في مساكن هيئة التدريس خلف الجامعة، اختفى ولم يتصل ولم نره. وبعد مدة نشر كتابا عن دور العلم في عصر النهضة، وأعطاني نسخة من الكتاب، فعاتبته على ترك الجمعية، وطلبت منه العودة للعمل، ومساعدتنا في شئون الإدارة كما كان يفعل من قبل. فبدأ ينقد الجمعية، وقال إن شخصا واحدا يسيطر عليها، وهو كان يعنيني أنا بذلك. فطلبت منه أن يأتي، ويلقي محاضرة على الأعضاء، ويبين مهارته العلمية، ويحضر الجمعية العمومية، وقد ينتخب عضوا في مجلس إدارتها ثم رئيسا لها. فألقى المحاضرة، وكانت عادية بالنسبة لمستوى الأعضاء من أساتذة الفلسفة، وأقل من المتوسط في رأي المتخصصين في فلسفة العلم. بعدها غادر ولم يعد. ثم رأينا له مقالا في جريدة الأهرام، موقعا إياه باسمه وبأنه عضو في الجمعية الفلسفية المصرية لأنه يتشرف بنا ويريد أن يظهر بأنه عضو في الجمعيات العلمية المصرية. ومرة دعي إلى مؤتمر في الخليج من «مركز عزمي بشارة» العالم والمثقف الفلسطيني الذي هاجر من فلسطين، والذي رشح نفسه رئيسا لإسرائيل باعتباره مواطنا إسرائيليا له حق الترشح، ثم أخرجته إسرائيل وطردته؛ لأنه عضو بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتلك كانت مأساة عرب إسرائيل الذين يكونون خمس السكان. هم إسرائيليون جسدا، وفلسطينيون روحا. في الظاهر يتبعون لإسرائيل، وفي الباطن لفلسطين.
وجدنا أمين الصندوق السابق يجلس على مائدة الشرف مع مدير المركز والأعضاء وبعض المثقفين العرب على مائدة واحدة، ويستمع إلى كلام الآخرين، وينظر لمدير المركز ويبتسم وكأنه يقول: «أنا هنا، خذ بالك مني.» وكنت أجلس بالمائدة المجاورة، بعد أن دعاني رئيس المركز إلى الجلوس معه في مائدة الشرف، فرفضت لأنه من الأفضل أن أتعرف وأجلس بجوار المثقفين العرب الذين أراهم لأول مرة. كنت أريد أن أستمع لما عندهم، ويستمعون لما عندي. فعرفت أن هدف صديقنا المصري هو الرقي الاجتماعي والعلمي بالمنتديات الثقافية ليظهر أنه مثقف، ومؤلف، وليس فقط كمهندس معماري.
وبعد أن ضعف بصري وأنا في منتصف إنجاز كتابي الأخير «الفكر الوطني في العالم الثالث»، وعدم تمكني من القراءة، تعرفت على صديقة لابنتي، تسكن في منزل ابنتي التي سافرت لألمانيا لدراسة الدكتوراه. رأيتها لأول مرة وسمعت صوتها واتصلت بها فلم تستجب لندائي. وبعد مدة شاءت الظروف أن أراها ثانية، فعرضت عليها أن تساعدني في القراءة والكتابة لضعف نظري، وهي تسكن في نفس المنزل في الطابق الأول؛ فلن تضيع وقتا في المواصلات العامة. فرحبت. وبعد شهر تقريبا من العمل معي يبدو أنني رفعت صوتي عليها بغضب شديد، فقيل لي إنها غادرت دامعة العينين. اتصلت بها في اليوم التالي أعتذر لها عما بدر مني، ومع ذلك أخبرت زوجتي الحبيبة أنها لن تأتي مرة ثانية. طلبت من إدارة الجمعية الفلسفية أن تنشر إعلانا بحاجتي إلى مساعد أو مساعدة نظرا لضعف بصري؛ أتى أربعة، ثلاثة يؤدون العمل بلا أجر؛ لأنهم يكفيهم أنهم بجواري. وكان الوقت المتاح لديهم قليلا. وفضل موظف الجمعية الرابع خريج الأزهر أن يعمل عندي فترة من الصباح، وحتى الثانية ظهرا. اتفقنا أن يحضر. كان شاعرا أسمعني شعره، ثم اتصل في اليوم التالي بسكرتيرة الجمعية وأخبرها أنه موافق على المرتب وساعات العمل. وطلب أن تكون الإجازة الأسبوعية يومين، وهذا لا يناسبني، فماذا أفعل في اليومين؟ أحسست أنه تاجر لا يفكر كيف يكون العمل عند باحث ومفكر وفيلسوف وأستاذ، ولكنه يحسب كل شيء بحساب المكسب والخسارة.
وفي نفس الوقت اتصل مساعدي والمرافق لي بالجارة في محاولة لاسترجاعها، فوعدتني أنها ستأتي. انتظرت حتى فات وقت الصباح ولم تأت؛ فحزنت، حتى رآني ممرضي ومرافقي، طلب أن يترك له هذا الأمر. صعد إليها ليتحدث معها، وطلب منها كوبا من الشاي، وتحدثا؛ فأصبحت أكثر لينا، وعادت إلى العمل من جديد. وهي خريجة قسم علم النفس بآداب القاهرة، مثقفة، ضاحكة، وملتزمة بمواعيد العمل التزاما دقيقا. وفي أقل وقت كنا ننتج معا أكبر قدر من القراءة والكتابة. لديها هاتفها النقال الخاص وبه «الإنترنت» فإذا احتجنا إلى معلومة أو تاريخ أو قصيدة أو موضوع بحثنا عنه. ووفرت لي عناء البحث بين رفوف المكتبة، والبحث عما أريد. أرجو أن تكون الخاتمة، هي بالكتابة بخط اليد والمساعدين بالطباعة على الحاسب الآلي، حتى أنهي العمل على مؤلفاتي التي أقدمها للناس، إحساسا بالواجب، ومسئولية جيلي عما حدث للبلاد من انكماش وتقهقر.
وأول ناشر عرفته كان دار الكتب الجامعية بالإسكندرية التي نشرت لي «نماذج من الفلسفة المسيحية ». وكان قد قدمني لها على سامي النشار الأستاذ بقسم الفلسفة بآداب الإسكندرية بعد عودتي من فرنسا بعام واحد، وقبل أن أستلم عملي في قسم الفلسفة بآداب القاهرة، وطمعا في قبول التعيين بآداب الإسكندرية وأن أكون زميلا له، هو في تدريس الفلسفة الإسلامية، وأنا في تدريس الفلسفة المسيحية.
وكان عبد الرحمن بدوي قد فعل نفس الشيء وأعلن أن القسم بحاجة إلى مدرس في قسم الفلسفة بآداب عين شمس. فتقدم إليها اثنان، أنا وعزمي إسلام، ففضلني. وفي اليوم الأول شعرت أنني غريب في هذه الدار. فليس لي ذكريات فيها؛ فذهبت إلى بدوي قائلا: «إن الحوائط هنا لا تكلمني.» فاستعجب، وقال «وهل الحوائط تتكلم؟» قلت له: «نعم، لا أشعر بتعاطف مع المكان.» فاتهمني بأنني صبي صغير «عيل». وأخذ عزمي إسلام المتقدم الثاني للوظيفة. فضلت بعدها الانتظار عاما لأعين مدرسا في قسم الفلسفة بآداب القاهرة حيث نشأت وتعلمت واضطهدت وحوكمت. فأعطاني ناشر الإسكندرية مائة جنيه دون أن أطلب ودون أن أذهب إليه مقابل نشر كتابي.
أما «دار الثقافة الجديدة» التي نشرت لي بالقاهرة «تعالي الأنا موجود»، و«تربية الجنس البشري» فلم آخذ أي مكافآت منها لأنها كانت دارا تقدمية أي ماركسية ومرتبطة بحزب التجمع التقدمي الوحدوي والذي كنت عضوا فيه.
أما «الهيئة العامة للكتاب» فقد أعطتني أربعمائة جنيه نظير ترجمتي كتاب اسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» والتي كانت مهرا لزواجي.
وبعد ذلك تعبت كثيرا مع الناشرين. فقد طبعت لي «دار الفكر العربي» «قضايا معاصرة» جزأين. ولم آخذ أي حقوق. اكتفيت بسعادتي لنشر أول كتاب فلسفي من تأليفي وليس فقط من ترجمتي.
وبعد ذلك نشرت الأجزاء الأولى من كتابي «من النقل إلى الإبداع» في «مكتبة غريب». وأعطاني حقي في الكتاب، وكان لا يتعدى أيضا مئات قليلة من الجنيهات . وقبل أن يتوفى الأب المؤسس للمكتبة ويختلف الأبناء على الميراث، انقسموا إلى عدة دور نشر مستقلين أو بالتعاون مع السعودية. وانتهت علاقتي بهم، فقد بدأ جيل جديد من الناشرين التجار يظهر، ويتعامل مع الكتاب على أنه بضاعة وليس رسالة.
ونشرت لي «مكتبة الأنجلو المصرية» «دراسات فلسفية»، و«دراسات إسلامية»، و«هموم الفكر والوطن». وكانت سعادتي أيضا بنشر المؤلفات عن طريق مكتبة لها شهرتها في مصر وفي الخارج. ونشرت رسالتي بالفرنسية من «تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل»، جزءان «عن الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية». فسعدت برؤية رسالتي الفرنسية، وترجمتها العربية في الأسواق، واعتبرتها تأسيسا «للظاهريات العربية». ولم أطلب من صاحب المكتبة الأب أي حقوق، وعندما اتصلت بأحفاده كي أنشر عندهم أحد كتبي امتنعوا، بحجة أن الكتاب الآن في مصر يخسر، وهم لا يريدون المجازفة.
وطبع لي «مدبولي الأب» «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة أجزاء) و«الدين والثورة في مصر 1952-1981» في ثمانية أجزاء. وكنت أشتري له الورق الأصفر الرخيص من ميدان العتبة لطبع الكتابين. ولا أذكر إذا كان رد لي ثمن الورق أم لا؟ فكانت تكفيني سعادتي بطباعة كتبي ونشرها. وأعطيت له كتابي «مقدمة في علم الاستغراب»، فقال لي: أعطيك ثلاثة آلاف جنيه بشرط ألا تسأل على الكتاب بعد ذلك؛ سعرا أو طباعة أولى أو ثانية. وطلب أن أنسى الكتاب. فرحت بالعرض، ولكني حزنت من الشروط؛ فذهبت إلى المطبعة التي أرسل إليها الكتاب. وردوا بأنهم مستعدون لطباعته لي، فطبعته. ولم آخذ أي حقوق منهم. وكان العرض الأول أفضل من العرض الثاني.
وطبعت كتب «نظرية الدوائر الثلاث»، و«الواقع العربي المعاصر» في «دار نشر عين». دفعت ثمن الورق وحده أربعة آلاف جنيه. وردت لي بعد ذلك ولم آخذ حقوقا من الكتابين.
ثم تدهور عالم النشر، فطلبت مني دار عين للنشر عندما قدمت لها أحد كتبي من عدة أجزاء، وقامت بحساب ثمن الورق والطباعة، طلبت دار النشر ستين ألف جنيه على أن ترد إلي من ثمن المبيعات، فرفضت.
وعرضت الكتاب على «دار سينا للنشر»، فكان الطلب مماثلا أن أدفع ثمن تكاليف الكتاب، فرفضت أيضا. ولما تعبت من الناشرين وبأنني سوف أدفع ثمن الورق، ولا أدري إن كنت سأسترد الثمن أم لا، قررت أن أطبع كتبي على نفقتي الخاصة مثل: «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى 2011-2015»، و«الثورة المصرية في أعوامها السادس والسابع والثامن»، و«أمريكا الأسطورة والحقيقة»، و«ذكريات» الجزء الأول، و«التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، و«من النقل إلى العقل» الجزء الرابع، عن السيرة، والجزء الخامس في علم الفقه. وبعد أن طبعت «الهيئة العامة للكتاب» الأجزاء الثلاثة الأولى من علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم التفسير توقفت لذكر اسم سيد قطب في أحد الهوامش.
وكنت أطبع من كل كتاب ألف نسخة، ولما تراكمت النسخ في مكتبتي على رفوف المكتبة أو في الصناديق، تعرفت على أحد الناشرين صاحب «دار الكتاب المصري الحديث» حيث عرضت عليه إذا كان من الممكن أن يأخذ هذه الكتب لتوزيعها ورد ثمنها لي بعد ذلك؛ لأنني طبعتها على نفقتي الخاصة، وكان ثمنها ما يزيد عن سبعين ألف جنيه. ووعدته بأن يأخذ نصف المبلغ في حال لو نجح في توزيع الكتب أي خمسين في المائة من ثمنها. مع أن الموزع عادة لا يأخذ أكثر من ثلاثين بالمائة أو ثلاثة وثلاثين في المائة على الأكثر. ففرح الرجل وأتى بصناديق، وأخذ معظم النسخ باستثناء القليل من كل كتاب أحتفظ بها للذكرى. وكل مرة أسأله عما حدث يقول «ما زالوا في عهدتي، لم أوزع منهم شيئا.» وعندما غضبت منه في إحدى المرات أعطاني شيكا مقبول الدفع بأربعة آلاف جنيه، مع أن المطلوب كان حوالي ثلاثين ألفا من الجنيهات. وجاءني مرة أخرى بعد سنوات قائلا: «إن الكتب لم توزع!» وإنه سيأتي في مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية ليوزعها هناك، ولكنه لم يأت. والآن انقطعت الصلة بيننا تماما ولم أحصل منه على شيء.
أما «دار رؤية» وكان صاحبها يتظاهر بأنه صديقي، فأخذ مني بعض النسخ القليلة، وكان يريد أن يوزعها، ولم يرد لي شيء من دخلها. وبعد عدة سنوات طلب مني نسخا أخرى لتوزيعها وكان قد طبع لي كتاب «حوار من المشرق والمغرب» و«التراث والتجديد». زارني في المنزل مع إحدى الصديقات الكويتيات كي تضمنه، وأعطاني مقدما أربعة آلاف جنيه. ولم أستلم باقي المبلغ بعدها حتى الآن.
أما في بيروت فقد طبعت لي «دار الطليعة» ترجمتي لكتاب اسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة». وبعد عدة سنوات انخفض سعر الدولار في بيروت فقالوا لي: «إن الكتاب يباع بالليرة اللبنانية وحولناها لك إلى دولارات أمريكية.» وأعطاني مائة دولار فقط.
وطبع لي «مركز الكتاب للطباعة والنشر» «مقدمة في علم الاستغراب»، وتم عرضه في معرض الكتاب، ووعدني أنه في العام القادم سيعطيني حقوقي، ثم توفي. ولا أعرف نجله الذي كان يشرف على الدار لأسترد حقوقي منه؛ فلم أستلم منه شيئا.
أما «دار مايا» التي يشرف عليها ناشر ليبي في بيروت، فقد طبع لي ثلاثة كتب: «محمد إقبال، فيلسوف الذاتية»، و«من النص إلى الواقع» (جزءان)، و«من الفناء إلى البقاء» (جزءان). أعطاني جزءا من حقوقي في الكتاب الأول طبقا للمبيعات العامة. وعندما رأى الطبعة المصرية للكتاب «من النص إلى الواقع» عام 2004م حجز على جميع حقوقي، لأنني أخللت بشروط العقد وطبعت الكتاب مرة ثانية بالقاهرة دون الرجوع إليه؛ فمن ثم لا أستحق أي عائد أو حقوق منه، مع أن الاتفاق الشفاهي كان من حقي طباعة طبعتين؛ الأولى فخمة غالية الثمن في بيروت، والثانية متواضعة رخيصة الثمن في مصر والوطن العربي مثل السودان والجزائر وموريتانيا واليمن.
وكانت طباعته لكتاب «من النص إلى الواقع» عام 2005م. فهو الذي قام بطبعه ببيروت بعد الطبعة المصرية عام 2004م وليس قبلها. وكنت قد اتفقت مع الناشر المصري أنه لا مانع من أن تكون هناك طبعة أخرى لنشر الكتاب في أي مكان دفعا بالثقافة العربية وليس طلبا للكسب.
فمعركتي مع الناشرين هي أن الناشر يرى أن الكتاب بضاعة يتاجر بها. وأنا أرى الكتاب رسالة يقوم بها المؤلف بصرف النظر عن حسابات المكسب والخسارة. وكنت قد طبعت «الحكومة الإسلامية»، و«جهاد النفس أو الجهاد الأكبر للخميني»، و«مجلة اليسار الإسلامي» على نفقتي الخاصة، طبعت مائة نسخة من كل كتاب ولم أعرف كيف أوزعها. ووجدت بائع الجرائد يجلس على مدخل مقهى ريش بالقرب من ميدان طلعت حرب. فأعطيت له خمس نسخ من كل إصدار، ومرة وأنا هناك لم أجد النسخ معروضة فسألته عن ثمنها؛ فنهرني وقال لا يوجد؛ فعرفت أنه لا فرق بين الناشرين أصحاب الدور الكبيرة وبين بائع الجرائد الصغير على ناصية الطريق. وكان مدبولي الأب يقول لي: «يا دكتور لماذا تحزن من الناشر؟ أنت تريد طبع كتاب لنشر أفكارك، ونحن نقوم لك بذلك. ونحن نريد أن نبني عمارة، وأنت تساعدنا في ذلك. فأنت لا تنافسني في بناء العمارة، ولا نحن ننافسك في نشر الرسالة.»
ثم نشرت لي «دار الشروق الدولية» كتابين، الأول «جذور التسلط وآفاق الحرية»، والثاني «من منهاتن إلى بغداد». وقد كنت استوحيت عنوان الكتاب من مقال لمحمد أركون. وبدا لي أن صاحب الدار كان صادقا أمينا. وفي مرة كنت على موعد معه في الدار، انتظرته، ولكنه لم يحضر. فاتصلت به كي أعرف إذا ما كان سيأتي لمقابلتي أم لا؟ فعندما رد على اتصالي عرفت أنه كان يتناول طعام الغداء مع اثنين من التجار الإندونيسيين، فلم يستطع الحضور ولم يعتذر. وبعد ذلك عرفت أنه حول دار النشر إلى متجر لتجارة السجاد مع إندونيسيا. وأرسل لي حقوقي لا أذكر كم كانت، وباقي أعداد النسخ التي كانت لديه. فحزنت لأن الدافع لدور النشر هو المكسب، فلما أتاه المكسب الأكبر ترك تجارة الكتاب إلى تجارة السجاد.
وتعرفت على سائق تاكسي أجرة كان يجمع بعض المهندسين في مكان عمل نجلي المهندس ليوصلهم من وإلى مكان عملهم. وبعد أن قل عمله بالشركة لبيعها لم يجد عملا لدى المهندسين هؤلاء والذين كان يوصلهم يوميا. طلبت منه كمساعدة له أن يوصلني للجامعة مرة أو مرتين أسبوعيا. وذات يوم طلب سلفة مبلغ ستة آلاف جنيه، وأنا ضعيف أمام المحتاجين. فوافقت وأعطيته المبلغ. واتفقت معه أن يردها على ستة أقساط شهريا، كل شهر ألف جنيه. التزم ورد لي قيمة ثلاثة أقساط، وفي الشهر الرابع طلب تأجيل القسط ثم طلب تأجيلا آخر وآخر. وعندما لم يستطع تدبير باقي المبلغ طلب مني ألا أدفع قيمة مواصلتي للجامعة، وأن أركب بها معه إلى أن تنتهي الأقساط. لم يناسبني هذا الحل لأنني لم أكن أذهب للجامعة في تلك الفترة كثيرا، ولم أكن أخرج من المنزل كثيرا. لم أستخدم التاكسي، ولم يرد لي باقي المبلغ. فتوقفت عن التعامل معه، ولم أرغب في أن يستمر في العمل لدي. فصرفته، وضحيت بباقي الأقساط.
وفى يوم أتى سباك ليصلح شيئا في الحمام، وبعد أن أتم عمله غادر. ولما كان الحمام جزءا من حجرة النوم، وكانت عادة زوجتي أن تترك درج الكومودينو الخاص بها في غرفة النوم نصف مفتوح تضع فيه مصاريف اليوم، ولما رأى السباك هذا الدرج نصف المفتوح وهو خارج وبه أوراق مالية سهل عليه أن يمد يده ويأخذها. وكان المبلغ في حدود الثمانمائة جنيه. ولما اكتشفت زوجتي هذه السرقة ونحن لا نعرف السباك أسقط في أيدينا، ولم نعرف ماذا نفعل؟ فنحن لا نعرف له اسما ولا عنوانا ولا رقم هاتفه. وأدركنا أن العيب فينا، وعلى رأي المثل: «المال السايب يعلم السرقة».
أما المساعدات؛ فالأولى ربة المنزل وهي زوجتي الحبيبة. كان تقريبا عشر مساعدات على مدى نصف قرن باستثناء عشر سنوات كنت فيها خارج مصر.
وكانت الشروط في المساعدة التي تعمل عندنا أنا وزوجتي شرطين أساسيين: الأمانة والكفاءة. تأتي الأمانة أولا لأننا لا نحسن الحفاظ على ما لدينا من مال أو مجوهرات. أما الكفاءة فتأتي وتذهب طبقا للتعلم والخبرة وكسب المعرفة. وكن يقضين معظم الوقت بمفردهن في المنزل لأن زوجتي كانت تعمل بالجامعة الأمريكية، وأنا كنت أذهب إلى الجامعة ثلاث مرات أسبوعيا. وأولادنا الثلاثة في مدارسهم. ويمكن توزيع المساعدات الأمينات وغير الأمينات على الإطلاق، يمكن توزيعهن على قطبي الأمانة والخيانة. فكانت الأمينات التامات، مصرية قبطية تتصف بالأمانة، والكفاءة المطلقة في إدارة شئون المنزل من طبخ وتنظيف. فإذا ما عدنا من أعمالنا نجدها تجلس في المطبخ كالحارس الأمين. وإن تعبت تضع ذراعيها وتحني رأسها على المائدة، لترتاح قليلا. وكانت لا تتكلم كثيرا، أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام. فلا تنقل ما يحدث في البيت إلى خارجه أبدا سواء بين أفراد العائلة الواحدة من فرد فيها إلى آخر أو خارج المنزل، كما يفعل معظمهن من الثرثارات واللواتي يمكن أن يسببن الانفصال بين المرأة وزوجها بسبب ذلك. وكانت تصطحب معها ابنتها لتدربها على العمل. وكانت لا تطلب أي زيادة في المرتب كما كانت تفعل قريناتها.
وفي أقصى القطب الآخر، هناك المساعدات غير الأمينات على الإطلاق اللواتي كن يسرقن من المنزل كل ما تطاله أيديهن. وكن في الكفاءة على درجة أقل نظرا لانشغالهن بسرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه كالمال والمصوغات. وكانت منهن وعلى رأسهن مصرية مطلقة ترعى أولادها، وتسكن في غرفة فوق السطح، وكما كانت تقول تسقط عليها مياه الأمطار. وكانت تقدم نفسها كخفيفة الظل وتضحك طوال الوقت. أصبحت كأنها عضوة في المنزل مع باقي أفراد الأسرة وليست غريبة عليها. تجلس على الأريكة معنا، وتشاهد التليفزيون معنا، مربعة ساقيها فوق الأريكة. تذهب معنا في الصيف إلى قرية جامعة القاهرة بالساحل الشمالي، تسبح في حمام السباحة معنا، وتأكل على المائدة معنا، تسافر إلى الخارج معنا. ونطلب من الجهة الداعية أن تحول بطاقات الطائرة من درجة رجال الأعمال وهي الدرجة الأولى، إلى الدرجة الاقتصادية وهي الدرجة الثانية حتى تأخذ بطاقة لها كي نصطحبها معنا لترى العالم الخارجي، وحتى لا نتركها بمفردها في المنزل والأطفال يقيمون مع جدتهم وخالتهم. اكتشفت سرقاتها؛ آلة التصوير التي تركناها فوق «بوفيه» السفرة، وأوراقا مالية كنت تركتها في غرفة المكتب، وزجاجات النبيذ التي كانت في الدولاب هدية من صديقي ممثل العراق بالجامعة العربية. كانت قد طلبت «سلفة» مبلغا من المال كي تبني سقفا من الحديد المسلح ليقاوم سقوط الأمطار بعد أن انهار سقف بيتها.
ولما أردنا أن نستعلم عن ماضيها سألناها فعرفنا منها أنها كانت تخدم في شقة لدى الخليجيين العزاب. فخشيت على نفسها منهم بعد أن طالبوها بما لا تستطيع، وخشية أن تكون الشقة مراقبة من قبل رجال الأمن وبوليس الآداب؛ فتركت العمل عندهم.
وعملت لدينا امرأة سمراء الوجه جاءت بتوصية من أحد الأصدقاء. وكانت متوسطة الكفاءة بل ومتوسطة الأمانة أيضا؛ إذ إننا عدنا مرة من أعمالنا أنا وزوجتي فوجدنا الدولاب شبه مفتوح. فلما سألناها عن ذلك، أنكرت. فهددناها، وأخذناها بالسيارة إلى قسم الشرطة. ولما عرفت أننا جادون في اتهامها اعترفت بأنها سرقت أشياء من الدولاب، ووعدت أنها سترجعها إلينا. عدنا إلى المنزل، وأرجعت هي المسروقات بعدها. وبعد مدة سمعنا أنها مريضة بمرض عضال، ثم توفيت. وكنا نرسل إليها الأموال والعيديات كل سنة. وكان نفس السؤال عندي يتردد بلا إجابة واضحة حتى الآن. ما السبب في كل هذا، الأخلاق أم الفقر؟
وذات يوم سمعنا أن ابنتها حلت محلها تعمل في خدمة العائلات التي كانت تعمل عندها أمها.
وكنت أفكر في من المسئول عن هذه الطبقة من الشعب؟ الفقر أم الأخلاق؟ دون استطاعة الإجابة عن السؤال حتى الآن.
وبين هذين القطبين المتناقضين إلى حد التطرف هناك درجات متوسطة بينهما، الأقرب إلى الأمانة المطلقة، كانت سيدة مطلقة وأما لأولاد تعمل عندنا حاليا. تأتي في موعدها في الثامنة صباحا، وتغادر بعد موعدها في الخامسة مساء، تقوم بأعمال التنظيف والطبخ، ولم نر منها أي مكروه، ولها من الكفاءة ما يؤهلها لخدمة الأسرة.
وكانت المساعدات الأجنبيات أقرب إلى الأمانة المطلقة، مثل المساعدات النيجيريات. فأتت واحدة منهن تعمل بكفاءة، كانت تصاحبني في المؤتمرات والندوات العامة في مصر وخارجها. وكانت تقوم بمساعدتي على الاستحمام. وذات مرة وهي تقوم بذلك كانت ترتدي ملابس مفتوحة تكشف صدرها، وقالت لي: إن المرة بخمسين دولارا «فسألتها» وماذا عن مرتبك الشهري؟ «قالت» إن زوجها متزوج من أربع وله منزل كبير في وسط المنازل، وأربعة منازل صغيرة حوله في كل منزل زوجة وأولادها، والزوجة مسئولة عن إعالتهم. فمعظم العاملات من نيجيريا كن يأتين إلى القاهرة للعمل وإرسال المال لأولادهن. وكان الزوج عادة يتزوج بأربع ليس من الإسلام ولكنها عادة أفريقية. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل هناك صلة بين هذه العادة وبين الزواج بأربع زوجات في الإسلام وليس أكثر، في الفقه الإسلامي القديم؟
وعملت لدينا ذات مرة مساعدة سودانية مؤدبة غاية الأدب وكانت كفئا. وحدث أن الممرض المرافق لي وقتها تشاجر معها ذات يوم وضربها. وأخبرت أمها. جاءت الأم غاضبة، وبعد أن تشاجرت معنا أخذت ابنتها وغادرت. ولا أدري حتى الآن لماذا لم نصرف الممرض بدلا من أن تذهب المساعدة أو نرسله ليستبدلوه بآخر؟
وكانت أقرب إلى عدم الأمانة المطلقة سيدة أبهرتنا بعملها وبنظافتها ومهارتها في الطبخ. ولم نكن نعلم أن هذا مجرد غطاء لإخفاء جوهرها الحقيقي. أخذت يوما ظرفا به بضع مئات من الدولارات، كان قد أحضرها مندوب جريدة الخليج مكافأة لمقال نشرته، وتركت زوجتي المظروف على حافة الأريكة بعد استلامه؛ لنجده وقد اختفى. وعندما سافرت معي إلى عمان، كان في جيبي أيضا ظرف آخر به مئات الدولارات لم أجده صباحا. وعندما أتت معي مرة أخرى في زيارة للخليج لحضور المائدة المستديرة لكتاب الاتحاد. أعطي لكل باحث جهاز حاسب آلي «لاب توب» وكان به الأبحاث التي سنناقشها في المائدة. أخذت جهازي وأخذت هي جهازا لها دون أن تستشيرني أو تستشير القائمين على الندوة. ولما عدنا إلى القاهرة أعطيت لزوجتي جهازي لأنها تستطيع التعامل معه أكثر مني. فوضعته زوجتي بين كومة الجرائد الأسبوعية التي احتفظت لي بها لأقرأها بعد عودتي من السفر. بحثت عن جهازي فلم أجده. فلما سألت المساعدة عنه، قالت إنها أخذته لأولادها؛ فأصبح معها جهازان، وكانت تسير في ردهات وطرقات الفندق في عمان كما تسير الملكة علياء؛ تضع على وجهها مساحيق التجميل، وترتدي أحدث الأزياء، وزوجا من الأحذية ذات الكعب العالي، فتصبح محط أنظار وإعجاب الجميع، وكنت أخجل أن أقول هذه مساعدتي؛ فقد يذهب الخيال إلى ما هو أبعد. كانت تقف على سلم الفندق في وضع وكأنها مستعدة للتصوير، لا فرق عندها بين المثقف المصري أو الأردني الذين يحضرون المؤتمر؛ فبالنسبة إليها كلهم رجال. وعندما عدنا إلى القاهرة اكتشفت زوجتي ضياع مبلغ من المال؛ فصرفناها من العمل بالمنزل. وكنت في مرة قد اصطحبتها معي إلى البنك فأخذت تنظر للأوراق بتمعن لتعرف كم هي المبالغ الموجودة بالضبط. وفي مرة أخرى ذهبنا لبنك آخر، كنت قد صرفت مبلغ ثلاثين ألف جنيه، وبينما أستلم المال سمعتها تبكي فسألتها لماذا تبكي، قالت: «إن أمها تحتاج المال، وإن أمها بالمستشفى تجرى لها عملية جراحية خطيرة في المخ، وإنها ربما تتوفى لو لم نعط لهم أجرهم.» تصورت نفسي مسئولا عن وفاة الأم لو لم أساعدها. فتبرعت لها بالمبلغ كله ورجعنا إلى المنزل وسافرت هي إلى البلدة التي كانت تعيش بها. وقبل أن تغادر كتبت إيصال أمانة على نفسها في حال لو لم ترد المبلغ. كنت أثق بها كثيرا فأخذت منها الورقة ومزقتها. كنت أومن أن مساعدة المحتاج لا تحتاج إلى وثيقة لإثباتها.
وبعد عدة شهور اتصل بنا قسم الشرطة في الصاغة بالأزهر وأخبرنا أنه تم القبض على سيدة تحاول بيع بعض المصوغات وتقول إنها تعرفكم، ووجدنا رقم هاتفكم في الموبايل الخاص بها، فأخبرت الضابط بأنها بالفعل كانت تعمل عندنا وصرفناها لسرقاتها، وعلمنا فيما بعد أن تهمة السرقة قد ثبتت عليها وأنها حوكمت بالسجن عدة أشهر.
وبعد مدة اتصلت بنا ذات مرة تلفونيا لتخبرنا أنها هاجرت إلى أمريكا، وتزوجت من أمريكي، وأقام لها مصنعا لبيع المنسوجات الشرقية. ويبدو أنها أرادت أن تقول لنا بشكل غير مباشر إن «الشغالة» التي كانت تعمل عندكم ذات يوم أصبحت الآن سيدة أعمال، تعيش في أمريكا ولا حاجة بها للعمل كشغالة مرة أخرى. وقد تكون الآن مليونيرة ومن سيدات الأعمال.
وبين القطبين المطلقين والنسبيين كانت هناك مساعدات المنزل اللواتي إما تكذب الكذبة بقول روايات غير صحيحة وتطلب بعض المال لعرض الملابس المستعملة للبيع، أو في رواية أخرى لها اقترضت مالا لتقيم «نصبة» للشاي والقهوة في آخر خط المواصلات للسائقين والمحصلين والمارة من العمال. ثم اكتشفنا بعد ذلك أنها لم تقم بالمال المقترض معرضا للملابس المستعملة ولا منصة للشاي والقهوة. ومرة أخرى غابت عدة أيام وطلبت إجازة بسبب وفاة والدها، واتضح بعد ذلك أنه غير صحيح. وفي أول عهدها بالعمل في المنزل، أخبرتنا أن هناك سائقا يريد الزواج منها، فرحبنا بذلك، ولكنها كانت متزوجة بالفعل ولم تطلق بعد، قلنا هذه جريمة تستحقين السجن عليها، فكيف يكون لك زوجان في نفس الوقت؟ وطلبت مني المساعدة أن نقنع زوجها ليطلقها رسميا حتى تستطيع أن تتزوج للمرة الثانية. واستطعنا ذلك، فعادت إلى المنزل ومعها ورقة الطلاق. ثم اختفى السائق الذي وعدها بالزواج. ولكنها على الأقل استطاعت أن تنال حريتها حتى وإن لم تتزوج ثانية. كانت ذات مرة تشتري لنا مواد غذائية من البقال بجوار البيت والذي كان يعرفني فقال لي إنه أمسك بها تحاول سرقة شيء ما من المحل، وحين قالت إنها تعمل عندي أطلق سراحها. وكانت زوجتي قد تعبت من كذبها المستمر وعدم خبرتها بأعمال المنزل فصرفناها. سمعنا بعد ذلك أنها تزوجت من عامل، وكانت وقتها تعمل في جمع صناديق القمامة وفرزها وتصنيفها، بين الزجاج والعلب الصفيح وأوراق الكرتون في حقائب، والقيام ببيعها لمصانع تدوير القمامة، وكانت تكسب في اليوم الواحد حوالي خمسين جنيها، وتترك أولادها مع والدها. ولما أصبح زوجها عاطلا عمل مع زوجته في جمع القمامة، وأصبحت موظفة في شركة تقوم بمثل هذا العمل. بعدها تأتي في الأعياد بدعوى تهنئتي، فلقد قضت معنا ما يقرب من الثماني سنوات فنعطيها العيدية لها ولأولادها.
وكانت هناك مساعدة أخرى لم تقم طويلا معنا. وكنا نسمع حركتها في الفجر تقلب أواني المطبخ. ظننا أنها ربما تعد شيئا لها تشربه في الصباح الباكر، ولكننا اكتشفنا بعد ذلك أنها تخرج الأواني واحدة تلو الأخرى لزوجها لسرقتها، فتم ضبطها، وصرفناها رغم أنها أبهرتنا بتنظيف المشربيات بعد أن فتحتها ومسحت الأتربة العالقة بين مربعاتها الصغيرة.
ثم جاءت بعدها سيدة قصيرة مطلقة، وبينما كانت تساعدني على الاغتسال والاستحمام مرة انزلقت من حافة «البانيو» ووقعت داخله ووقعت هي أيضا بعد أن دفعت قدماي ساقيها، لا أتذكر لماذا غادرتنا بعد وقت قصير؟
وكان لدينا مساعدة مصرية في شئون المنزل، كانت جدة ريفية. وبينما نحن في الساحل الشمالي تعاركت مع ممرضي المرافق الأول، ويبدو أنها سبته هو وعائلته، فأصر على أن تغادر هي أو يغادر هو؛ إذ لا يستطيع البقاء معها في نفس العمل. فصرفناها، ثم عادت واتصلت بنا عدة مرات ولم نرد؛ فسألت البواب وأخبرها أننا أحضرنا أخرى غيرها.
ثم أتت سيدة أخرى، كانت كفاءتها في المطبخ أكثر منها في التنظيف. كانت تعمل لدينا في الصيف لأنها كانت تعمل كمدرسة رسم في إحدى المدارس الخاصة، ولما لم يتجدد عقدها في المدرسة، طلبت أن تستمر معنا في العمل كمساعدة منزل. كانت أكثر المساعدات جمالا وشبابا وعناية بنفسها. ويبدو أن المدرسة التي كانت تعمل بها جددت لها العمل؛ فاعتذرت عن الاستمرار في العمل عندنا، فحزنا عليها كلنا خاصة رجال المنزل.
ومرة أخيرة أتت جدة شابة تعمل كمساعدة خاصة لزوجتي، كانت لا تجيد أعمال الطبخ أو التنظيف، طبخت الملوخية ونسيت أن تضع فيها «التقلية»، وفي الصباح قدمت الفطير عجينا نيئا. وعندما سألت ممرضي ومرافقي الدائم عن شيء لم يسمعها، فقال: «نعم!» قالت: «نعامة ترفسك.» غضب وأصر على أن تغادر السيدة المنزل. قالت وهي تقدم نفسها إنها تحب «تعامل باحترام» وإنها خدمت أسرة لمدة ثمانية عشر عاما. فعجبنا كيف أن طبيخها بهذه الرداءة؟ وكيف أنها بعد يومين سبت الممرض؟ ولم تعرف الأسرة ماذا تفعل. وكنت حريصا على الممرض المرافق الذي خدم عندي أكثر من أربع سنوات ولا أستطيع أن أضحي به من أجل مساعدة لم تقض معنا سوى يومين. نكتشف كل يوم منها أنها بلا كفاءة في الطبخ أو أدب في الحديث فنصحت الأسرة بصرفها.
ونرجو أن يكون ذلك آخر تغيير في المساعدين والمساعدات، بعد أن اطمأننا إلى من عندنا بما لديهم من كفاءة وأمانة.
أما حارس المنزل «البواب» هو الأخير ومن قبله لا يهمه إلا زيادة الدخل فوق مرتبه الشهري، فكان يمسح العربات بالشارع. وفي إحدى المرات كانت زوجة البواب لدينا تعمل عند سكان العمارات المجاورة كمساعدة في شئون المنزل لتساعد زوجها على زيادة الدخل، كان أسوأ هؤلاء أحدهم وكان من أسوان، سافرنا مرة في إجازة صيف وتركناه يتولى حراسة المنزل. ومنذ أن انتهينا من بناء المنزل فاضت عدة بلاطات رخامية وبعض الأشياء وضعناها بأحد جوانب المنزل من الخارج، وجدناه قد سرقها، وكنا قد تركنا أيضا ثمن الجرائد الأسبوعية واليومية في عهدته لمحاسبة بائع الجرائد، اكتشفنا أنه لم يدفع ثمن الجرائد وأنه أخذ الأموال لنفسه وبددها؛ صرفته لعدم أمانته، كما صرف من عمله الآخر لنفس الأسباب.
الفصل العاشر
العواطف والانفعالات
بالرغم من أن الفلاسفة العقليين مثل ديكارت كتب رسالة في الانفعالات، وكذلك كتب الوجوديون في نفس الموضوع مثل جان بول سارتر كتب رسالة في الانفعالات، فإن التفرقة بين العواطف والانفعالات تفرقة دقيقة، وترجماتها إلى اللغة العربية صعبة، تتداخل فيما بينها؛ ففي اللغتين الفرنسية والإنجليزية هناك لفظ مشترك مثل
passions
عواطف. وتعني انفعالات، وهناك بالفرنسية كلمة عواطف
sentiments ، وهي بالإنجليزية نفس اللفظ ونفس المعنى. وتزيد الإنجليزية لفظ
feelings
فيعني مشاعر. ولا يوجد لها مقابل في الفرنسية.
وتشير كل هذه الألفاظ للجانب الوجداني للإنسان مقابل الجانب العقلي. ويلاحظ أن العواطف إيجابية أكثر منها كونها سلبية مثل: السماحة والاحترام والتقدير والتعاطف والمشاركة الوجدانية.
أما الانفعالات فهي سلبية أكثر منها إيجابية مثل: الغضب والكراهية والحسد والغيرة والضيق والصراخ وربما أيضا الفرح والحزن اللذين يقعان بين العواطف والانفعالات.
ويمكن القول بأن العواطف تدوم أكثر من الانفعالات؛ فالعواطف تبقى في الشعور مدة طويلة، في حين أن الانفعال وقتي، يأتي بسرعة، وينتهي بسرعة.
فالحب مثلا إذا كان دائما فهو عاطفة نبيلة، وإذا كان انفعالا وقتيا فهو عاطفة هوجاء.
ولا تتعلق العواطف بالأشخاص المتعاطف معهم، كما لا تتعلق الانفعالات بالأشخاص المنفعل تجاههم؛ فالأشخاص لهم كل التقدير والاحترام سواء أكانوا من المتعاطف معهم أم من المنفعل ضدهم.
وتتعلق العواطف والانفعالات بالجانب الذاتي فقط؛ أي بإحساس الإنسان، وبتجربته الحية تجاه بعض الأشخاص . وقد يكون مصيبا أو مخطئا في هذا الإحساس.
فالعواطف والانفعالات إذن تقع خارج نطاق الأحكام العقلية أو الخلقية، ولا تستحق الغضب منها؛ لأنها ذاتية خالصة ولا شأن لها بالأشخاص الموضوعين بين قوسين. إنما هو الوعي الذي يحلل نفسه تجاه ما يحدث فيه من ذكريات؛ فالذكرى ذاتية خالصة، وهي تجربة حية مضت كموقف ولكنها بقيت منغمسة في الوعي، كما هو الحال في شعر أحمد رامي في قصيدة ذكريات:
كيف أنسى ذكرياتي
وهي أحلام حياتي
إنها صورة أيامي
على مرآة ذاتي
ويعيش الإنسان بين دائرتين صغيرتين؛ الأولى دائرة الوالدين، والثانية دائرة الأبناء والأحفاد. ففي الدائرة الأولى الصغرى وهي دائرة الأسرة، الوالدان والأشقاء والشقيقات قبل الزواج والانفصال عنهما. فالأب كان طيب القلب، يحافظ على أسرته وأبنائه وأحفاده، يلتقي بهم في المناسبات عندما يكبرون ويتعاطف الأبناء معه طبقا للآية
وبالوالدين إحسانا . وهو موضع احترام وتقدير الجميع. كنت أزورهم مرة أسبوعيا هو والوالدة بعد الزواج وتكوين أسرتي الصغيرة؛ الزوجة والأولاد ثم الأحفاد. رأيته وهو في اللحظة الأخيرة وكان زوج شقيقتي موجودا والروح تصعد إلى بارئها، وعلامات الألم بادية على وجهه وفمه المفتوح.
أما الوالدة فقد توفيت بعده بعشر سنوات، وكنت أزورها وهي مريضة على الأقل مرتين في الأسبوع، وفي آخر مرة رأيت ظهرها وقد آلمها من قرحة الفراش، وفي اليوم التالي كنت أحضر عزاء أحد الأقرباء ولم أستطع زيارتها لتأخر الوقت. حزنت كثيرا وندمت لأنها توفيت ذلك اليوم ولم أرها للمرة الأخيرة، ولم أسامح نفسي كيف لم أصعد لزيارتها حتى لو كنت متعبا؟
وتوفي أخي من دائرتي الأولى الصغيرة. كنت بجانبه أنا وابنته في غرفة الإنعاش بمستشفى القصر العيني الفرنسي، وأخذنا عزاءه في مسجد المدينة الجامعية.
أخشى من النفس الأخير الذي ينقطع بعده دخول الهواء إلى الرئتين. كنت بجوار أبي وبجواري زوج شقيقتي الكبرى وهو في النزع الأخير، رأيت فمه مفتوحا على آخره، ووجهه متألم. وبعد ذلك انتهى تعبير قسمات الوجه، وانفض الصدر، وتوقف التنفس، قرأ زوج أختي الفاتحة عليه، ووضع الغطاء على وجهه، وخرجنا من الغرفة، ورجونا من أمي ألا تصرخ؛ فقد قام أبي بواجبه خير قيام، وربى سبعة من أولاده؛ ولدين وخمس شقيقات. وكان فخورا بتلك البنايات السبع التي بناها. صحيح أنه من المحافظين، وكنا إذا زرناه أنا وزوجتي الحبيبة لمساعدته في بعض الأعمال المنزلية؛ لأن والدتي كانت في بني سويف، كان يجلس أمامنا، وكنا نشاهد في «التليفزيون» جنازة عبد الناصر عنده، وكانت زوجتي ترتدي «جونلة» قصيرة فرمى لها بغطاء التلفزيون قائلا: «استري نفسك.»
كان تقليديا، وكانت زوجتي تعد له الطعام أثناء غياب والدتي، ومرة كانت تطبخ فاصوليا خضراء، وتقطعها بالعرض، ولما انتهت من الطبخ وأكل منها رأينا عدم الرضا على وجهه. فسألناه: «ما الخبر؟» فقال: «إن زوجتك قطعت الفاصوليا بالعرض، أما أمك فكانت تقطعها بالطول؛ ولذلك ففاصوليا والدتك ألذ من فاصوليا زوجتك.» فقبلنا النقد عن رضا مع أنه لا فرق بين تقطيع الفاصوليا بالطول أو بالعرض.
وكانت والدتي تطبخ لنا الكشك الصعيدي، وكنت أكتب على وجه الطبق بالصلصة الحمراء اسم زوجتي؛ فيضحكان الوالدة والوالد رحمهما الله.
وكان عندما يقرأ الجريدة الصباحية يعيد قراءة الأخبار لوالدتي التي كانت أمية، وهو يمثل ما يقرأ كي تفهم ما يحدث في السياسة خاصة أنني وأخي كنا من المسيسين.
وقبل أن أغادر إلى فرنسا سألت والدي: «أين هي كتيبات الإخوان؟ والمجلة التي كانوا يصدرونها؟» قال: «أخفيتها داخل ماسورة حائط في السطح فلا يستطيع أحد رؤيتها.» خشية علي من ملاحقات الأمن أو الشرطة.
كان مخلصا لأسرته، ونحن في الإسكندرية والأسرة تودعني قبل ركوبي الباخرة، أعطاني أخي عشرين جنيها مكافأة الباحث التي كان يأخذها في الشهر، ولما رأى الوالد ذلك أخرج ما في جيبه وكانوا خمسة جنيهات. فأعطاها لي، وفرحت. وحزنت في الوقت نفسه، فرحت لهذه العاطفة النبيلة في الأسرة. وحزنت؛ لأنني أخذت كل ما معها وكل مصروفها في هذا الشهر.
ومرة أخرى يبدو أنه تعارك مع والدتي فجاء يسكن عندي، وكنت قد أغلقت نصف الشرفة حتى أصبحت كغرفة صغيرة إضافية. عاش فيها والدي عدة أيام، وهو شارد الذهن ؛ لأن شريط الذكريات يمر أمامه، وكنا نحاول أن نصلح بينه وبين والدتي ولكنه كان يرفض. أما هي فأقل منه رفضا، وجاء زوج شقيقتي الكبرى إلى منزل والدتي فأقنعها بأنه يجب عليها أن تبادر وتصالحه؛ لأنها المرأة وهو الرجل، فأطاعته. وقدمت إلى منزلي، وأخذت معها والدي إلى بيته، وانتهى الأمر. وكان والدي يحضر لنا معه الطحينة من السرجة بشارع «الحسينية». وكان يركب الحافلة ذهابا وإيابا. وكنا ندعوه أنا وزوجتي للغداء قبل أن يرحل، فكان يرفض. فنسأله: «ما الخبر؟» فيقول لي: إن طبيخ زوجته أحسن من طبيخ زوجتي؛ فأعتذر له بأن زوجتي ما زالت حديثة العهد بالزواج لا تحسن الطبيخ، أما والدتي فهي أكثر خبرة منها، فتنبسط أسارير وجهه بهذا الاعتراف.
كان يحب أسرته، ولا يحب البقاء خارج المنزل، وكانت قوانين الجيش تحتم عليه أن يبقى «نبطشية» مع فرقة الموسيقى في المعسكر مرة كل شهر حتى الصباح، فكان يأتينا في المساء ويخرج في الصباح الباكر بعد الفجر ويصل المعسكر مبكرا وكأنه قضى الليلة فيه.
ومرة أراد أن يستقل أول مترو عند بداية العمل، حتى يصل مبكرا وقبل أن يستيقظ زملاؤه. كان الترام قد بدأ في التحرك، فجرى والدي خلفه، وسقط على الأرض قبل أن يدركه، وسند على أصابع يده عند سقوطه فانكسرت لثقل جسمه عليها، فلفها بمنديله، وأسرع إلى العمل في المعسكر. وقال لزملائه الموسيقيين بأنه وقع في الحمام، فأرسلوه إلى المستشفى العسكري حيث قاموا بخياطة الجروح، ولكن أصابعه ظلت ملتوية مدة طويلة. ومن حسن الحظ أن ذلك لم يمنعه من العزف على «الترمبون» الذي كان بحاجة إلى اليد والأصابع وليس الأصابع وحدها كالكمان.
وكان والدي غيورا جدا على والدتي لشدة حبه لها، فلا يتحمل زائرا رجلا يتباسط مع أمي في الحديث، فيخلق والدي سببا لتعكير الجو حتى يخرج الضيف، ويترك والدتي في سلام، رأيت ذلك لأول مرة عندما زارنا عم إسماعيل والد «علي» الموسيقي و«جمال» الممثل. وكان يأتي أنيقا، وكان شعره مصففا بقدر كبير من الكريمات والذي كان يلمع في الضوء، يتكلم وهو يضحك، وكان قريبا لوالدتي؛ فتدخل الوالد لتعكير الجو، فقال له عم إسماعيل: «صل على النبي يا عم حنفي» حتى يهدئ من روعه، ويخبره أنه لا نية عنده في مغازلة والدتي وقد تجاوز الستين ووالدتي الخمسين، وكانت ترن في أذني أغنية الفتيات صاحبات ليلى مراد في فيلم «غزل البنات»: «أبجد هوز حطي كلمن. شكل الأستاذ بقى منسجمن». وفي كل مرة يزورنا حمو شقيقتي يتكرر نفس الشيء؛ فقد كان متكلما ثرثارا ضاحكا، ولا يترك لغيره فرصة للكلام. وبالرغم من أنه كان قصيرا بين السمار والسواد، عجوزا، وأسنانه بين كل سن وسن فجوة، ودون أن يكون فيه أي نوع من أنواع جمال الرجال، كان والدي يغار منه لقدرته على الكلام بينما والدي أقرب إلى الصمت. فكان والدي يتهرب دائما من زيارة عم إسماعيل لنا دفاعا عن أمي وغيرة منه.
ولما مرضت والدتي ولم يكن عندنا من يمرضها، أحضرنا سيدتين تتناوبان العمل، اثنتي عشرة ساعة في اليوم، تذهب إحداهما فتأتي الأخرى، كانتا تساعدانها في تنظيف ظهرها بالقطن والشاش من جروح قرح الفراش، وكنت أزورها مرة كل أسبوع، وأنا عائد من الجامعة. وفي يوم الزيارة عدت من الجامعة وكنت متعبا لأنني كنت في واجب عزاء فقررت أن أزورها في اليوم التالي. وعرفت أنها قد توفيت؛ فحزنت، وندمت على أنني لم أزرها في الموعد المحدد حتى لو كنت متعبا، وحضرت عزاءها، وكان صوان العزاء بميدان الحسينية، وكان كبيرا.
وكان أبي قبل أن يتوفى قد ساعدناه في شراء مقبرة للأسرة بمنطقة البساتين بجوار عين الصيرة، وكتبنا عليها لافتة باسمه. وكان هو أول من دفن فيها، وكانت خالتي هي الثانية، وأمي هي الثالثة؛ لأن مقابر أسرة أمي في بني سويف في الضفة الأخرى لنهر النيل، وحماتي فيما بعد. وظلت تلك مقابر الأسرة حتى الآن، بها أخي وشقيقاتي، وأزواجهن.
ويعيش الإنسان مع دائرة الأسرة الأولى؛ الزوجة والأبناء، ذكورا وإناثا. فأول عاطفة تركتها الزوجة الحبيبة في شعوري هي الوفاء، حاضرا أم غائبا، مستريحا أم غاضبا، عاشقا أم معشوقا، صحيحا أم سقيما، حرا أم سجينا، سعيدا أم شقيا.
فالوفاء عاطفة نبيلة لا تتغير، تعيش في الذكريات، ويسعد الإنسان برؤية شروطها، فلا خوف مما يسمى الخيانة للزوجة أو تعدد الزوجات أو الطلاق أو الهجر.
تدمع العيون في حالة التأثر إذا ما شعر صوابا أم خطأ أن الوفاء لا يقابله وفاء آخر؛ فالوفاء علاقة متبادلة بين زوجين، خاصة إذا كانا حبيبين، وبوجه أخص إذا كانا عاشقين. أمد لها العون فيما تحتاج، وتمد لي العون فيما أحتاج، تغنيني عن العالم، وأغنيها عن العالم، كما هو الحال في شعر نزار قباني في قصيدة قارئة الفنجان: «قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا». وبعد أن اكتشفت زوجتي الحبيبة موهبتها في النقد السينمائي انضمت إلى معهد السينما بأكاديمية الفنون للدراسة به حتى حصلت على البكالوريوس في السينما، وكونت مكتبة سينمائية كاملة عن تاريخ السينما المصرية والعربية، وحضرت معظم مهرجانات السينما في مصر والوطن العربي، وأسست مركزا لتاريخ السينما يقع في الطابق الثاني من منزلنا الجديد. ونشطت في عقد ندوات شهرية عن نقاد السينما المصريين قبل أن يرحلوا، وكانت الندوات مسجلة. ونشرت عدة مجلدات عن تاريخ السينما المصرية مثل أعمال حسن جمعة. وهي بصدد جمع مقالاتها في النقد السينمائي والتي تصدر عن قريب، ولولا اعتلال صحتها لكان نشاطها أوسع، ومع ذلك أصبح مركزها السينمائي مكانا للباحثين في تاريخ السينما المصرية يقدم خدماته مجانا وحبا في العلم ونشر الثقافة السينمائية.
ولد الابن البكر بعد عام تقريبا من زواجي، وأخذناه معنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية عندما كنت أستاذا زائرا في جامعة تمبل بولاية بنسلفانيا، وكان طفلا صغيرا ما زال يحبو. وما إن اشتد عوده حتى أخذ يسير في الشقة ذات الأرضية الخشبية، ويدخل المطبخ ويحضر الأواني يقرع بها الأرض؛ حتى انزعج الساكن الجار بالدور الأرضي، وبعد أن استطاع أن يمشي دخل المطبخ وكانت زوجتي الحبيبة قد أشعلت الفرن لطهي الطعام، فلما وضع يده على زجاج باب الفرن لسعه؛ فجرى مسرعا بعيدا عنه. وكان كلما رآني أو رأى والدته حذرنا من لسعة الفرن قائلا: «يح!» كان يقلدني في كل شيء وأنا أقرأ الكتب مقلبا الصفحات، كان هو يأخذ أقرب كتاب من على الرف ويجلس على الأرض مقلبا صفحات الكتاب مثلي، ليعرف لماذا أقلب صفحات الكتاب وكأني أبحث عن شيء بداخله، وعندما لا يجد شيئا بين صفحاته يأخذ غيره ويقلب بين صفحاته فلا يجد شيئا فيرميه هو الآخر مستغربا عن ماذا أبحث! وكنت إذا دخلت الحمام يريد أن يعرف لماذا أغلق الحمام خلفي فيدفع بيده وأصابعه الصغيرة تحت عقب الباب فأرى أصابعه الصغيرة. فلما لا يستطيع فتح الباب أو الدخول ورائي يغادر، كانت واجهة غرفة الجلوس زجاجية، وكان يأتي بكرسي يصعد عليه؛ ليرى الفناء الأخضر. ولما كان يراني عائدا من الجامعة يخبط بيده على الزجاج ويهلل فرحا، ويأتي لانتظاري وراء باب الشقة ينتظر لأفتح الباب، ثم يتغير الفرح إلى بكاء؛ فأحمله وأربت على كتفيه محتضنا إياه، وأقول له أعلم أن أمك ضربتك فلا تحزن، فكان يفرح من جديد، كنت ألاعبه كثيرا، يجري فوق السرير وأنا أحاول اللحاق به. وكلما فر من قبضة يدي فرح وضحك على أنه انتصر علي. وتتكرر هذه اللعبة كل يوم؛ يصعد إلى السرير وكأنه يدعوني أن وقت اللعب قد أتى وهو يراني على المكتب طيلة النهار. كانت السعادة في هذا المنزل؛ سكن أساتذة الجامعة، كل سبت بعد الظهر أن يأتي ببرميل البيرة، وكان بالفناء شواية، ويحضر كل ساكن قطع اللحم ليشويها، ونشرب البيرة ونتعرف نحن الأساتذة الجيران بعضنا على البعض، وأحيانا طلاب الدراسات العليا. ويحدث أن تستلقي فتاة على العشب الأخضر وهي تشرب البيرة، وكنت لا أدري ماذا كان قصدها! وكان ابني قد بلغ السنتين، كانت تدعوه ليلعب معها فيستجيب ويجد شعرها الناعم المنسدل على الكتفين يبرق في الشمس فيتحسسه بيده، وكان يضع إصبعه في كوب البيرة الزجاجي الخاص بها ثم يضع إصبعه في فمها وهي تتذوقه معجبة ومبتسمة بهذه الشقاوة. ويرفض أن يغادر بعد نهاية الجلسة لكي نصعد إلى شقتنا، وتعرفت على معظم الطالبات عن طريقه، فقد كان حلقة الوصل بيني وبينهن. وكنت أرى مدير المنزل الشاب يأخذ طالبة كندية بعد أن شربا البيرة إلى حجرته. لم أفهم كل ذلك لأنني كنت قد حضرت توا من مصر متأثرا بمقولات العيب والحرام. ولما أرادت زوجتي إكمال دراستها والحصول على الماجستير، ويصعب ذلك وابننا ما زال طفلا صغيرا يحتاج إلى رعاية مستمرة وقضاء وقت طويل معه، قررنا إرساله إلى مصر ليبقى مع جدته وشقيقة أمه، ولما ذهبنا إلى المطار لتسليمه للمضيفة بكى؛ فنصحونا في الطائرة بأن تأتي والدته معه إلى القاهرة ثم تتركه مع الأقرباء وتجلس معه شهرا أو أقل أو أكثر حتى يتعود على غيابها والعيش مع أقربائه الجدد، وبدلا من أن ندفع ببطاقة السفر للمضيفة التي ستصحبه ندفعها لأمه وكان هو يسافر مجانا؛ لأنه لم يبلغ السنتين. فعادت به إلى المنزل لمدة ستة أشهر إضافية لأننا كنا بمنتصف العام الدراسي ولا تستطيع ترك الدراسة والسفر شهرا للقاهرة. وفي هذه الشهور الستة أظهر الطفل الصغير كل إبداعاته في اللعب والضحك والجري وملاعبة الفتيات وبداية الكلام والنطق باللغة العربية، لدرجة أننا أنا ووالدته نحزن لأننا كنا سنفترق عنه وهو لا يعلم ماذا ينتظره في نهاية العام الدراسي. وبالفعل أخذته أمه إلى القاهرة ودربته كيف يعيش مع الأسرة الجديدة، وكانت تختفي عن أنظاره بين الحين والآخر لتدربه على عدم وجودها، حتى تعود على خالته وأولادها، ثم عادت زوجتي إلى أمريكا وكأننا في حداد لغياب الطفل من وجوده معنا ولعبنا معه. ولكننا أدركنا أن العلم في حاجة إلى تضحية. وكنا نأتي إلى القاهرة سنويا في الصيف في رحلات جماعية «شارتر» كي نرى طفلنا. شعر أول مرة بالغربة نحونا، ورفض أن يبيت معنا في شقتنا، وظل يعيش في منزل جدته وخالته كما تعود خلال العام. وتدريجيا بدأ يتعود علينا من جديد، وأخذناه إلى الإسكندرية فقام في الليل قائلا إياكم أن تظنوا أنني نسيت خالتي وأولادها، وبكى؛ فقد كان لا يود أن يعيش في غربة مرتين. ونحن نغادر القاهرة عائدين إلى فيلادلفيا قلنا له إننا سنشتري له اللعب وسنعود إليه عن قريب كاذبين عليه. وفي كل صيف كنا نأتي للقاهرة لنراه حتى تعود على غيابنا وأن له أسرتين: أمه وخالته، أبوه وأولاد خالته، يلعب مع كليهما. وبعد أن انتهت زوجتي من دراسة الماجستير والحصول على الدرجة وكان قد تبقى لي سنة واحدة للعودة إلى مصر، وكنا نريد أن نكتشف أمريكا كما فعلت في كتابي الذي صدر أخيرا «أمريكا، الأسطورة والحقيقة»، خفنا عليه من الأسفار الطويلة التي قمنا بها ثلاث مرات، من الشرق إلى الغرب، ومن الشرق إلى الشمال عبر كندا، ومن الشرق إلى الجنوب وصولا لفلوريدا. وكنا نخاف أن يمرض ولا يتحمل هذه الأسفار الطويلة فقررنا أن يبقى في القاهرة دون أن نراه في الصيف كما اعتدنا. وزرنا في الصيف الولايات المتحدة، ولاية ولاية قبل أن نعود نهائيا إلى القاهرة. ومنذ ذلك الوقت لا يفارقنا الأولاد الثلاثة إذا سافرنا طويلا، سنتين في المغرب وثلاث سنوات في اليابان. وذهب ابني البكر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو طالب في الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ ليقضي فصلين دراسيين بجامعة بولدر في ولاية أوهايو، وسنة أخرى في انجلترا للحصول على درجة الماجستير في النظام الفيدرالي؛ إذ كان خريج العلوم السياسية. وبعد عودته وقبوله في وزارة الخارجية المصرية عين في السلك الدبلوماسي، وتدرج في المناصب في الوزارة حتى أصبح وزيرا مفوضا، وربما يصبح بعد عام سفيرا لمصر. وكانت رسالته للماجستير في انجلترا عن النظام الفيدرالي، وسجل رسالته للدكتوراه في موضوع مشابه في جامعة القاهرة إلا أن الخارجية استهلكته ولم يعد لديه وقت لاستكمال الدكتوراه. وبعد أكثر من خمس سنوات تنازل عن السلك الأكاديمي.
جوهر نجلي البكر الأكبر هو الإخلاص؛ الإخلاص في العمل؛ يخرج من الصباح الباكر ويعود في المساء، متعبا في حاجة إلى الراحة بعد عناء. يعطي نموذجا للإخلاص لزملائه الذين يعملون معه، أعلى منه رتبة أو أقل، وكأنه كان يدور في وعيه اللاشعوري حديث الرسول «إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه.» أصبح العمل هو بؤرة حياته، وربما لم يعد يبقى لباقي الدوائر الأخرى في حياته أي مكان، ومع ذلك هو حسن العشرة، مخلص للأصدقاء، صاحب «نكتة»، يلعب مع الأطفال وكأنه طفل مثلهم، وتلعب الأطفال معه، يخلص لأسرته، ويؤدي معظم خدماتها بالرغم من ضيق وقته، لم يلهه الإخلاص في العمل عن التمتع بالموسيقى والمسرح.
وهو متخصص في النظام الفيدرالي الذي قد يطبق في الوطن العربي أسوة بالاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السويسري، والمملكة المتحدة، وألمانيا الاتحادية، والاتحاد الأوروبي؛ يجمع الدول المتحدة مع جيرانها في منظمات إقليمية. وأول مظاهر هذه الاتحادات، المرور الحر من وطن إلى آخر دون تأشيرة دخول، والاقتصاد الحر لكل دولة، ويكون الاتحاد أساسا في السياسة الخارجية وفي الدفاع.
والابن الأوسط تدور حياته وحياة زوجته وأولاده الثلاثة حول محور الإيمان؛ فالجميع متدين، يؤدون الصلوات، ويحترمون الشعائر، ويخلصون للجد والجدة، والأعمام والأخوال.
وهو مخلص لعمله في علم الاتصالات، ولديه خبرة واسعة في مجال عمله بتركيا وكندا، ولولا صعوبة عودته إلى الوطن وإيجاد عمل يليق بمستواه الفني بعد أن كان مهندسا كبيرا في شركة للاتصالات يملكها نجيب ساويرس والتي تم بيعها لشركة أخرى استغنت عن معظم مهندسيها الكبار. وينتظر أن تسمح الظروف للعودة إلى الوطن، وإذا وجد عملا جديرا بمستواه التقني كمهندس للاتصالات.
أما الابنة الصغرى فيمكن تلخيص شخصيتها، كما أشعر بها، في كلمة واحدة هي «التمرد»؛ التمرد على بقايا المحافظة في الأسرة الأولى، والتمرد في حياتها الأدبية والنقدية، وعلى أوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية. شاركت في الكثير من الندوات الأدبية، ولها اجتهادات أولى في كتابة القصة القصيرة، ولها محاولات في النقد الأدبي، ولها مشاركات في الحركات الوطنية، والأحزاب التقدمية. تعد الآن رسالتها للدكتوراه بألمانيا في النقد الأدبي من مرحلة ما بعد التحرر من الاستعمار، تنقد نظريات النقد الأدبي الصورية والاجتماعية لتقيم نقدا أدبيا يجمع بين الأشكال الأدبية والبنيات الاجتماعية والحركات الوطنية، لها ابنة هي حفيدتي، يبدو أنها ستكون مثل أمها وجدها، تنتقل من التمرد إلى الثورة، كما انتقل جيل الإصلاح والنهضة إلى جيل الثورات العسكرية، ثم انتقال الثورات العسكرية والنخب الدينية إلى الثورات الشعبية الجماهيرية، ومنظمات المجتمع المدني، وجيل الشباب الذي عانى من التهميش وغياب القيادات الثورية، ومثل الانتقال إلى ثورة 2011م.
وبعتاب رقيق لأولادي الثلاثة في طريقة اختيار أسمائهم، هناك طريقتان؛ الأولى مركزية، وهي الطريقة القبلية التي ما زالت سائدة في الصعيد وفي بعض المناطق من الوجه البحري وفي عديد من الأقطار العربية؛ فلكل إنسان اسم ولكن الاسم الثاني اسم القبيلة. والطريقة الثانية هي الطريقة الطولية الممتدة بلا مركز؛ فهناك الاسم واسم الأب واسم الجد، الاسم الثلاثي، ونادرا ما يطلب الاسم الرباعي، فإذا طلب فإنه يكون أبا الجد. فمثلا اسمي بالكامل حسن حنفي حسنين أحمد، حسن اسمي، حنفي اسم الوالد، حسنين اسم الجد، وأحمد أبو الجد. وألاحظ ليس فقط في عائلتي بل في عائلات غيرى بأنه يتبعون الطريقة المركزية في تسمياتهم بانتسابهم لاسم القبيلة أو العائلة، ربما طلبا لأوراق رسمية في الغرب فيضطر الشخص إلى اختيار اسم مركزي لا أدري كيف! هل هو اسم الأب أم الجد أم أبو الجد ... إلخ. ويسقط الاسم الرباعي في حالة الأحفاد؛ فمثلا حفيدي «أنس» اسمه «أنس حاتم حسن» ويسقط الاسم الرباعي حنفي، فإذا تزوج وكان له ابن وسمي «محمود» يكون اسمه «محمود أنس حاتم» ويسقط الاسم الرابع وهو حسن. وما آخذه على أولادي الثلاثة هو إسقاط اسم الأب والاكتفاء باسم الجد وكأنه اسم العائلة؛ فيكون أسماء أولادي الثلاثة: حازم حنفي دون حسن الأب، حاتم حنفي دون حسن الأب، حنين حنفي دون حسن الأب. وحنفي هو ليس اسم العائلة بل هو اسم أبي؛ فأشعر بأن اسمي قد سقط وأنا الأب من تسمية الأولاد لأنفسهم، فأحزن؛ فأنا لم أسقط اسم أبي من تسميتي فأنا «حسن حنفي حسنين» وليس «حسن حسنين».
أما الدائرة الأوسع وهي الدائرة الثانية في أسرتي، فمعظمها من البنات باستثناء أخ لي. يتخللها تياران: التيار المحافظ، والتيار التقدمي. ويضم الاتجاه المحافظ معظم شقيقاتي البنات لأنهن لم يعملن بالسياسة كثيرا، إنما التفتن إلى حياتهن العملية في الوظائف وتكوين الأسر والحصول على الأبناء. وأما جيل الأحفاد هم الذين تأثروا بالجانب التقدمي في الأسرة الأولى وعاشوا مرحلة انكماش مصر وتخليها عن مركزها؛ قلب الوطن العربي. وقد تتستر إحداهن بغطاء الدين ولكن قلبها مع رعاية المصالح لأولادها وتدعيمهم أسرهم الصغيرة.
وكان أخي نموذجا للرجل الطيب، صافي القلب، يحب الخير للجميع. قبل أن يكون باحثا بقسم اللغة العربية قبل تعيينه معيدا بمرتب بسيط، ومع ذلك استطاع أن يساهم في إعالة أسرته وتزويج شقيقاته وإرسال الوالدين للحج مرتين، وكان تلميذا لأحد تلامذة طه حسين؛ فكان يحب العلم وفي نفس الوقت كان ضابطا احتياطيا في الجيش. وكان يهوى لعبة المصارعة، وكنت أشاهده وهو يصارع أحد الطلبة في مدرسة خليل أغا وكان قوي البنية، فكنت أخشى عليه من أن يصيبه مكروه. كان طويلا مثلي يلعب كرة السلة وأحيانا العقلة والمتوازيين، ويحب التمثيل؛ فانضم لفريق التمثيل بالمدرسة، وكان يدخل في مسابقات وزارة المعارف لفرق التمثيل المدرسية. وكان المنافس الأكبر في مدرسة خليل أغا لفريق تمثيل مدرسة الخديوية التي كان جمال إسماعيل قريبنا طالبا بها، صاحبني إلى الإسكندرية هو والوالد عند سفري لفرنسا بالباخرة فأعطاني عشرين جنيها وكانت مرتبه الشهري كله كباحث لدى الجامعة. كما أعطاني الوالد الخمسة جنيهات التي كانت كل ما معه قبل السفر، وظللت أحفظ له هذا الجميل حتى عودتي، وقمت بإعانة والدي ووالدتي وشقيقتي الصغرى بعد الرجوع من فرنسا بدلا عنه، وعين وكيلا لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان يخدم الطلبة ويساعدهم لأقصى حد، لدرجة أنه سمح لأحد الطلاب السوريين باستمرار تحضيره للدكتوراه وكانت عن هيجل لمدة عشر سنوات، وكان القانون لا يسمح بأكثر من خمس سنوات. وهو الذي أنشأ كلية الآداب بجامعة بني سويف، وكان عميدا للكلية ورئيسا لقسم اللغة العربية، ثم كبرت الجامعة بإنشاء كليات أخرى مثل الحقوق، والآن هي جامعة كبيرة تضم كلياتها العديدة ومبانيها الجديدة. وكان كثير التدخين؛ مما أصاب رئتيه بمرض خطير، وكنت معه ليلة الوفاة في المستشفى وبغرفة الإنعاش أنا وابنته الكبرى وهي تقول: «نحن نحبك يا أبى!» وقرر قبل أن يتوفى أن يهدي مكتبته إلى كلية الآداب بجامعة بني سويف؛ فهو عميدها الأول ورئيس قسم اللغة العربية الأول بها، وسمي أكبر مدرج بالكلية باسمه.
وكانت علاقة شقيقتي الكبرى بزوجها القريب من والدتي علاقة مثالية للعلاقات الزوجية من حيث التضحية والمحبة والفداء، وكانت أخت الزوج عانسا وصلت إلى ما فوق الخمسين ولا أمل لها في الزواج، وكانت في اللاشعور تحسد شقيقتي لحب زوجها لها وحب شقيقتي له. لم تفعل شيئا كريها ولكنها لم تكن تحسن المعاملة، وتعوض نقصها باستعلاء على أسرتها وربما في عملها، تسير بحذاء ذي كعب عال يخطف الأبصار، ولكن لا أحد ينظر إليها، وكانت شقيقتي من الحكمة بحيث لم تصطدم بها على الإطلاق بالرغم من وجود ثلاث نساء في منزل شقيقتي؛ هي وحماتها وشقيقة زوجها العانس. فإذا أخطأت شقيقتي في شأن من شئون المنزل هاجت وماجت، ولم ترد شقيقتي عليها، ولم تترك لها المجال لتعكير الصفو مع زوجها أو حماتها. ولما توفيت شقيقتي وحضرت بطبيعة الحال مراسم الدفن في مقبرة اشتراها زوجها انتظارا لهذا اليوم الكئيب، وجلست بجوار زوج شقيقتي وهو صامت لا يتكلم؛ مهموم لفقدان رفيقة حياته، وعيناه تنظر إلى المقبرة بعد الدفن وكأنه يقول: «لماذا تتركينني بمفردي وتغادرينني؟» وبعد شهر واحد لم يحتمل زوج شقيقتي ألم الفراق وخلو المنزل من الحبيبة شقيقتي؛ ففارق الحياة بعد شهر واحد من وفاة شقيقتي كي يلحق بها إلى نفس المكان.
وكانت إحداهن طيبة القلب للغاية، خيرة، لا تعرف الشر، وكذلك أبناؤها. وكانت أخرى في حالة متوسطة بين الطيبة وبين ما تدفعه إليها الحاجات الاجتماعية، لها ابنة لم تتزوج حتى الآن وقد قاربت على الخمسين نتيجة لظروف الضغط عليها من الاتجاه المحافظ في أسرتها، ولي شقيقة أخرى طموحة في العلم، تجاوزت مدرسة المعلمات إلى كلية الآداب بعد الثانوية العامة، وأصبحت رئيسا لأحد أقسامها، وهي الآن ما زالت وفية لقسمها وتخصصها بعد أن قاومت الاتجاهات المحافظة في أسرتها القائلة بأن البنات يكفيها التعليم المتوسط ثم الزواج. وأحد أبنائها وتقريبا الوحيد الذي يمثل الاتجاه التقدمي في الدائرة الثانية للأسرة، يناقش، ويحاور، وينقد، ويرفض.
أما الدائرة الثالثة في الأسرة وهم أبناء أولاد شقيقاتي فهم ذكورا وإناثا أقرب إلى المحافظة الدينية والاجتماعية، باستثناء واحد منهم، هو الغاضب دائما من عدم تحقيق هدفه في التمثيل في السينما أو المسلسلات التليفزيونية، وكانت تلك هوايته الأولى خاصة بعد أن ظهر في البعض من المسلسلات وأثبت جدارة دون واسطة في الصعود إلى درجات أعلى.
والجميع يرتبط فيما بينهم بأواصر القرابة والمحبة والصداقة، يلتقون في المناسبات، ويتهافتون بين الحين والآخر، ولهم شبكة اتصال فيما بينهم بعنوان «آل حنفي».
وإذا كانت العواطف تتم داخل الأسرة الواحدة بأبنائها وأحفادها، فإن الانفعالات غالبا ما تظهر في جهة العمل، فعادة ما تتم الانفعالات بين الموظفين تطلعا إلى منصب أعلى.
وتتوالد الانفعالات بعضها عن البعض الآخر مثل الغيرة التي تولد الحسد الذي يولد الحقد الذي يولد الكراهية الذي يولد العدوان؛ فالغيرة شيء طبيعي يمكن القضاء عليها بالمنافسة الشريفة، فلا يتولد منها حقد أو كراهية.
وقد بدأ رئيس القسم يشعر بالغيرة مني بعدما عدت من فرنسا وعينت مدرسا للفلسفة، وقد كنت أعجب به في أول سنة لي كطالب بالقسم، وهو في آخر سنة، وكان له قسط من الجمال التركي، وينزل سلم الكلية ضاحكا مبتسما، وكأنه يقول «انظروا لي.»
1
ونسي الآية الكريمة
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .
فلما أصبحنا زملاء وأراد رئيس القسم أحمد فؤاد الأهواني أن يعينني بلا إعلان، بدأت الغيرة تصب في قلب رئيس القسم التالي. ولما كنت أملأ مدرجات الجامعة فكرا ووطنية بعد هزيمة 1967م امتلأت القاعات بالطلبة والمدرسين الشبان. ولم يخف ذلك على أجهزة الأمن، وكنت أخبئ الشيخ إمام في شنطة سيارتي وأدخله للجامعة؛ لأنه كان من الممنوعات. وكان أحمد فؤاد نجم يدخل مخبئا عود إمام تحت قدميه فلم يكن يوقفه أحدا. ثم يبدأ الغناء في مدرج الآداب والحقوق الكبير حتى الظهر، وتشتعل الجامعة فكرا ووطنية .
فلما جاء موعد ترقيتي إلى أستاذ مساعد، رقتني اللجنة العلمية العامة بالإجماع، وكان لا بد بعد ذلك من الحصول على موافقة الأقسام الإدارية بالجامعة. لم يكن بالقسم إلا أستاذ واحد هو رئيس القسم الذي اتصلت به أجهزة الأمن، وطلب منه عدم الموافقة على الترقية. وذهب إلى مجلس الكلية فاتصلت أجهزة الأمن بالعميد لمطالبته بعدم الموافقة على الترقية. وذهب الموضوع إلى مجلس الجامعة فلم يعرف ماذا يفعل؟ فأرسل التقرير بالترقية إلى مجلس الكلية فأرسله العميد ثانية إلى اللجنة العامة بدعوى الفحص لأنني كافر. ورد رئيس اللجنة العلمية على الجامعة بالموافقة على الترقية بدعوى أن ناقل الكفر ليس بكافر. وكانوا يقصدون ترجمتي لرسالة اسبينوزا «رسالة اللاهوت والسياسة». وفي مجلس الجامعة أصر رئيس الجامعة بتطبيق قواعد الترقيات العامة وهو أن محك الترقية قرار اللجنة العلمية وليس المجالس الإدارية، ومرت الترقية بسلام.
هذا أحد مصادر الغيرة والحسد والحقد من هذا الشاب الآتي حديثا من فرنسا وله أعمال علمية يرقى بها في لجان الترقية وبسرعة وعكس ما تطالب به أجهزة الأمن بإيقاف ترقيتي.
ولم يكن الانفعال فقط تجاه زملائي في القسم، بل أيضا خارج القسم وفي نطاق الكلية؛ فالنماذج مكررة داخل القسم وخارجه. وفي مرة دعوت أستاذا كبيرا ووزيرا سابقا للأوقاف لإلقاء محاضرة عن «منهج الفلسفات المقارنة» ومثال ذلك المقارنة بين شك الغزالي وشك ديكارت الذي كان موضوعا لرسالته في ألمانيا منذ عدة عقود. وعقدت المحاضرة في مدرج كبير بالكلية، وبينما كان المحاضر على وشك الانتهاء، فتح علينا أستاذ الباب وكلمه - وأنا رئيس الجلسة - بأن موعد المحاضرة قد انتهى وأنه سيشغل المدرج مع طلبته الآن؛ فأحرج المحاضر لهذا الطرد من المدرج، وكان يمكن لهذا الأستاذ الذي لا يعرف الطرق اللائقة في التعامل مع الزملاء أن يهمس لرئيس الجلسة - وهو أنا - في أذني بالموضوع، وكان يمكن أيضا أن يكتب ورقة يعطيها لي يخبرني فيها أن الموعد قد فات، فقمنا نحن الاثنان؛ المحاضر وأنا، ونحن نشعر بالخجل من عدم الاحترام. وبعد أن خرجنا من المدرج دون أن ينهي المحاضر محاضرته بعبارة أخيرة جاءنا هذا الأستاذ، وله لحية، لكي يعتذر لنا عما فعل، فلم نقبل اعتذاره. وربما أعطته هذه اللحية الحق في التكلم وكأنه صاحب سلطة على الناس.
ولاحظت عدة مرات عندما أدعى لمناقشة رسالة في أحد أقسام الفلسفة بكليات الآداب بعد أن يجلس أعضاء اللجنة الثلاثية وأنا في وسطها باعتباري أقدم الأساتذة، لاحظت أن رئيس القسم يأتي ويجلس بجانب أحد الأعضاء، ويأخذ مكبر الصوت، ويتكلم بدعوى أنه يقدمني ويقدم أعضاء لجنة المناقشة للجمهور، ثم يعود مرة ثانية بعد انتهاء المناقشة وإعلان النتيجة ليلقي الكلمة الختامية بدعوى شكر أعضاء اللجنة ورئيسها؛ وعلى هذا النحو يكون هو الرئيس الذي يتكلم قبل رئيس اللجنة الفعلي، فهو الرئيس على الرئيس. وتكرر ذلك في جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس وجامعة بني سويف، ولما أدركت أن هذا ضد الأعراف الجامعية. فليس من حق رئيس القسم أن يتكلم واللجنة منعقدة ولها رئيس يستطيع أن يقدم أعضاء اللجنة للجمهور، وبدأت أغضب، وفي المرة الرابعة في جامعة بني سويف بدأ رئيس القسم يعتلي المنصة لكي يتكلم، فطلبت منه أن يعود إلى مكانه في القاعة، وعاود ذلك في نهاية المناقشة؛ فطلبت منه للمرة الثانية أن يعود لمكانه في القاعة، وعرفت أن الرئاسة ما زالت قيمة حتى لو كانت على رئيس، وأحيانا أخرى في تنظيم لجنة المناقشة على المنصة يضعون صديق رئيس القسم أو العميد في الوسط وأنا في الطرف، ويكون رئيسا للجنة وهو أصغر مني، إن لم يكن أحد تلاميذي! فغضبت، وهددت بمغادرة اللجنة إن لم يعد النظام العرفي؛ رئيس اللجنة في الوسط، وهو أقدم الأساتذة، وعلى يمينه ويساره العضوان الآخران. وعرفت أن التقاليد الجامعية لا مكان لها داخل الجامعة، وأن قيم الصداقة أو الرغبة في الظهور هي التي تسود.
ثم تتحول الغيرة والحقد والحسد إلى كراهية، والكراهية إلى عدوان، ويمتد هذا الانفعال الجديد إلى بعض أساتذة القسم المساعدين، كراهية لصاحب رؤية جديدة للعلم، سواء كان في الفلسفة الإسلامية أو في الفلسفة الغربية.
ولما كنا نضع أسماء الأساتذة المتفرغين في قائمة المشاركين في الامتحانات لنيل مكافأة بسيطة، كانوا يرفضون استلامها؛ فنضعها في صندوق القسم للصرف على المناسبات الخاصة المختلفة كالأفراح والأحزان. وظهرت الغيرة لحد العدوان عندما ذهب أحد الأساتذة إلى صراف الكلية واستلم مكافأة أحد الأساتذة المتفرغين بعد أن ترك جزءا منها للصراف كي يوافق على تسليمه هذه المكافأة وهو غير مخول لذلك، لا كسكرتير للقسم، ولا رئيس له، وأبلغه بأن يكتب اسمي في قائمة المصححين للامتحانات وأني أخذت مكافأة التصحيح لنفسي، فلما علمت ذهبت إلى الأستاذ المتفرغ وشرحت له الأمر فاستعجب من هذه الكراهية التي يشعر بها زميل تجاه زميل آخر.
وتمثلت الكراهية في أنه كان يشرف على أكبر عدد من الرسائل في الجامعات الإقليمية، ويوافق عليها في أسرع وقت بشرط أن يستخدم المدرس الجديد مؤلفات الأستاذ ككتب مقررة، وانتشر هذا المستوى من الرسائل في معظم الجامعات الإقليمية شمالا وجنوبا. وكان يقبل أي انتداب لجامعة للتدريس بها لأنه سيقوم بتوزيع كتبه، وكان يفخر بأن كتبه لها الآن أكثر من عشر طبعات ليوحي للناس بأن بها علما للقراءة والاطلاع وليس للامتحان والنجاح.
وانفعال آخر كان يغمرني عندما كنت أشعر بأن المصلحة هي الدافع الرئيسي لأي أستاذ بأن يفعل شيئا يدر عليه مصلحة خاصة، وشعرت بأهمية كتاب هبرماس «المعرفة والمصلحة». كانت المصلحة هي الموجه العام للسلوك مع التضحية بقيمة العلم ورسالة العلماء، وقد يصل حد المصلحة إلى السرقات العلمية حين الترقية. وحين ضبط المخالف يقدم للمحاكمة وتوجه التهم له، ويمنع من التقدم للترقية قبل عامين عقابا له. وهذا النوع من الأساتذة تكثر اتصالاته وإصداراته، وهي جميعا تعتبر إعادة طبع لمقالات سابقة وليست مؤلفات جديدة.
ولما كانت الغيرة والحسد والكراهية والعدوان يتوالد بعضها من البعض الآخر، ولم يكن للجماعة العلمية أي هدف جماعي يذكر، لا مشروع بحث، ولا المساهمة في أي مشروع في الكلية أو خارجها مثل عندنا في الجمعية الفلسفية المصرية أو في اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية بالقاهرة أو المجمع الفلسفي العربي في بغداد، ولا سمعة لهم ولا أثر، وكانت شهرتي قد امتدت خارج مصر إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي؛ بدأت هذه الانفعالات الأربعة تكشر عن أنيابها. وكنت قد انتخبت أمينا للجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، ووضعت مشروعا لدراسة الفلسفة في مصر من خلال أقسام الفلسفة بالجامعات المصرية ومشاريع للبحث العلمي يجمع أساتذة الفلسفة للقيام بعمل مشترك مثل الجمعية الفلسفية المصرية، ولما كان كل شيء في مصر يمر عن طريق الاتصالات والعلاقات (التربيطات) وجدت نفسي وقد أزحت عن أمانة لجنة الفلسفة وتعيين آخر أصغر سنا أمينا جديدا، فاستغربت. وكان أمين المجلس في ذلك الوقت هو من أعتبره أحد تلاميذي. ولما لم يحضر الأمين الجديد لرئاسة اللجنة واعتذار لمرضه، فعين آخر أصغر منه أمينا بالنيابة، وكان عضوا بلجنة الفلسفة، ولم يستطع التقدم لانتخاب أمين للجنة، وتنازل عن ترشيح نفسه احتراما لي، ولأنه كان يرى أنني الأجدر. ولما أصبحت له السلطة في رئاسة المجلس أزاحني وعين أحد أصدقائه أمينا للجنة. وانتخبت أنا أمينا للجنة بالإجماع، وتم تعيينه هو أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة الذي تندرج تحته جميع اللجان، وتساءلت لم الحزن ورئيس الجامعة بالتعيين، وعميد الكلية بانتخاب ثلاثة، معين أحدهما، انتخاب في الظاهر وتعيين في الباطن؟ ولم أحزن وكان يتم تجديد دورات متتالية لحكم الرئيس بانتخابات مزورة؟ كما يتم انتخاب أعضاء مجالس الشعب والشورى في الظاهر ويكون التعيين في الباطن نظرا لغياب المنافسة. فانقطعت عن حضور اجتماعات لجنة الفلسفة ونشاط المجلس الأعلى للثقافة على العموم، ثم تم تعيين صحفي خريج قسم فلسفة في الأربعينيات من عمره شغلته الصحافة عن الفلسفة، وأصبح كاتب عامود صحفي في إحدى الجرائد اليومية أو كتاب وثائق خلفاء الرئيس الأول لجمهورية مصر العربية، فحزنت وأعضاء اللجنة من الأساتذة الكبار. وفي إحدى الجلسات سأل يوما هل تعرفون أحد الفلاسفة؟ ونحن قد أشرفنا على عدة رسائل علمية حول هذا الفيلسوف تحديدا فكيف لا نعرفه؟ يسألنا وكأننا تلاميذ. وكان يفتخر بأن التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد قد تم بقلمه هذا وأخرج القلم يرينا إياه، سكت أفرغ ما في جوفي اشمئزازا. ودعانا ذات يوم إلى الغداء في مطعم بإحدى البواخر النيلية الراسية على شاطئ النيل رشوة كي نقبل رئاسته للجنة. ومن يومها غادرت اللجنة وقاطعتها ولم أنضم إليها مرة أخرى وحتى الآن، ولم تدم رئاسته طويلا؛ لقضاء نحبه، وقبل أن تناقش اللجنة كتابي «فيشته، فيلسوف المقاومة». وكان من مطبوعات المجلس، حيث قذف به أحد الأعضاء أرضا بعد أن وزع مجانا على الأعضاء جميعا، استخفافا بالكتاب، وإهانة لمؤلفه. وإلى الآن وأنا أتساءل: «لماذا لم يرشح قسم الفلسفة أحد أعضائه لنيل إحدى الجوائز التشجيعية أو التقديرية، في حين رشحتني هيئات علمية أخرى وأقسام أخرى بالكلية لنيل جائزة الدولة التقديرية ثم جائزة النيل الكبرى والتي نال مثلها نجيب محفوظ وآخرون؟» وعندما رشح القسم أحد الأساتذة الكبار في السن لم يأخذ إلا صوتين من مجلس الكلية، وعندما رشح القسم أستاذا آخر أخذ صوتا واحدا من مجلس الكلية. لم يهتم القسم إلا بإعطاء الأساتذة أكبر قدر من ساعات المحاضرات لتوزيع كتبهم المقررة من خلال عمال القسم (فراشين) أو الاهتمام بالإعارات لدول الخليج؛ فانقسم القسم إلى «شلل» وجماعات مصالح متضاربة. ولتنشيط القسم من جديد دعوت بعض الأساتذة الزائرين يقيم شهرا ويعطي محاضرات بالجامعة لكل منهم مثل: أنور عبد الملك والذي ذاع صيته في العلوم الاجتماعية، ورشدي راشد الذي أصبح العالم الأول في تاريخ الرياضيات العربية. لم يحضر كثير من الأساتذة أو طلاب الدراسات العليا لسماع المحاضرات. كما دعوت حسام الدين الألوسي أستاذ الفلسفة بالعراق ليعطينا تصوره عن تاريخ الفلسفة ولم يحضر الكثير أيضا. وفي محاضرة لرشدي راشد في المجلس الأعلى للثقافة عندما كنت مقررا للجنة الفلسفة فأعطانا درسا مهما عن لغة الرياضيات وأعطى نموذجا لتحويل العبارة الفلسفية للطوسي إلى معادلة رياضية فغضب مقرر اللجنة التالي وغادر القاعة ظانا أن المحاضر أعطى علمه لنفسه؛ لأن المحاضرين لم يفهموا شيئا. وعندما حضر أحد الفلاسفة اليونان ورئيس جامعة أثينا والموسيقي الشهير إلى مصر عن طريق تلميذته التي أصبحت زميلة لنا بالقسم، وأعطى محاضرة للمجلس الأعلى للثقافة، كان من عادة رئيس القسم أو أحد الأساتذة الأكبر سنا دعوة المحاضر الزائر للعشاء في بيته، هذا ما رأيته في الولايات المتحدة الأمريكية. فأعددت وجبة عشاء له ولزوجته ودعوت الأساتذة ليتحدثوا ويتناقشوا في مسائل فلسفية عامة أو في الفلسفة اليونانية خاصة. ولم يحضر أحد من زملائي في القسم، ولم تحضر إلا تلميذته المصرية والزميلة في القسم ومعها طبق من الحلوى الشرقية، فحزنت على مدى تفكك القسم بحيث أصبح لا رابط علميا بين الأساتذة والأساتذة الزائرين. وعندما طلب الأستاذ اليوناني رئيس جامعة أثينا والفيلسوف أن يتناول وجبة عشاء شعبية مصرية؛ أخذته هو وزوجته إلى مطعم «أبو طارق» للكشري في شارع مشهور بالقرب من ميدان التحرير، وتحادثنا نحن الثلاثة عن العلاقات المصرية-اليونانية وعن الحي المصري في أثينا والحي اليوناني في الإسكندرية ودور اليونان في السينما المصرية.
ولا حرج أن يتعامل بالعلم ظاهرا وبالمصلحة دافعا، ويحول المصلحة العامة إلى مصلحة خاصة؛ فالمصلحة هي البداية والدافع والنهاية. وترتبط بالمصلحة الوصولية أو الانتهازية فيتصل المعيد بالأستاذ ويظل معه صديقا مخلصا وتلميذا راغبا في العلم حتى ينال الدرجتين العلميتين بعد التخرج ثم ينتهي الأمر، ويسير في طريقه الخاص إما بحثا عن انتداب في الداخل ليزيد دخله، أو يوزع كتابه المقرر، أو إعارة إلى الخارج، خاصة لجامعات الخليج؛ لينال قسطا أوفر من المال ليكون ما يساعده على الزواج والاستقرار؛ من شبكة ومهر وجهاز وسكن وسيارة، فينتقل من طبقة اجتماعية إلى طبقة أعلى، ويهجر أستاذه وكأنه لا يعرفه، ويلتصق بدائرة أستاذ آخر أقدر على تحقيق المصلحة.
وقد تكون الوصولية إدارية لا علمية فهي أسرع لتحقيق المناصب، ويعتمد أستاذ آخر على التظاهر بالإخلاص إلى الأستاذ القديم الذي عمل معه علميا، ولكنه في الباطن يسعى وراء لقمة العيش. يأخذ أفكاره من الأستاذ، يضعها في بالونة بلون أستاذ آخر، وبدلا من أن يحفر البئر بنفسه ليصل للماء، فإنه يشرب من بئر غيرها، ينقد أستاذه من وراء ظهره، يبلغ الناس بأن أستاذه يمنعه من العلم والانتشار خوفا منه؛ فالتلميذ قد أصبح أعلم وأقدر وأكثر شهرة من الأستاذ، فيتحول إلى منافق لأستاذه ثم يطعنه في الظهر ظانا أنه يزحزحه من مكانه ليجلس هو عليه.
وآخر يبغي الشهرة، يتخلى عن تخصصه، ويتنقل بين الأدب والموسيقى والشعر، ويستشهد بهيجل وبيتهوفن وجوته، يقنع الناس بأنه واسع الثقافة، ومبدع الفلسفة، ويترك تخصصه الأول دون أن يبدع فيه شيئا. كنت قد حاولت إرسال اثنين منهم إلى الخارج لمزيد من العلم، فذهب واحد وهو يتكلم في علم لا يعرفه الأساتذة الأجانب، وعاد بعلم لا يعرفه الأساتذة المصريون، فرفع نفسه فوق الحضارتين الغربية والإسلامية وما زال يتفاخر بذلك.
ولم يستطع الثاني المغادرة إلى ألمانيا لأنه لا يعرف التعامل مع الحاسب الآلي «الكمبيوتر» ورسب في هذه المادة مرتين، لم يعرف كيف يصوغ جملة اسمية بها مبتدأ وخبر، أو فعلية بها فعل وفاعل. وكانت الجملة عنده يبلغ طولها صفحة بأكملها، لا يعرف كيفية التنقيط والتقطيع لها بالفاصلة والنقطة، يقرأ كثيرا، ويفكر قليلا على غير ما كان يقرأ قليلا ويفكر كثيرا على أفكار أستاذه.
وقد أرسلت آخر إلى ألمانيا كي يحضر حلقات بحث في فلسفة الدين. وبعد شهرين أراد الرجوع لأنه لا يفهم شيئا، ليس فقط لأنه لا يعرف اللغة ولكنه أيضا لأنه لا يفهم موضوع البحث. وأكمل العام الدراسي دون أن ينتج شيئا، يكفيه التعرف على زميلاته في السكن الجامعي.
لم يكتب أحد منهم مقالا فلسفيا في تخصصه أو في الفلسفة العامة، بعد أن قارب أحدهما سن المعاش. وظلا مدرسين دون ترقية إلى أساتذة مساعدين، لم يتصل هؤلاء الوصوليون بي ولا مرة بعد الحصول على شهاداتهم العليا؛ فمهمتي بالنسبة إليهم قد انتهت، ويلتصقون بأستاذ آخر وبدائرة أخرى لعلهم ينالون منهم أكثر مما نالوا مني.
لم أندم على شيء فقد قمت بواجبي تجاه العلم والوطن، ويبدو أن هذا النوع من المعيدين هو الذي يقدمه العصر. فلماذا أبكي على الجامعة وحدها، والوطن أحق بالبكاء عليه؟
ولما أقمت الجمعية الفلسفية المصرية لتنشيط الفكر الفلسفي في مصر، بعيدا عن الجامعات، لم يشارك واحد منهم في نشاط الجمعية، سواء بحضور الندوة الشهرية، أو المشاركة في المؤتمر السنوي، أو ينشر كتابا علميا خارج الكتاب المقرر.
وأخيرا انعزل البعض، وانكمش على نفسه، واكتفى بوظيفته التي يعيش منها؛ فالعزلة أحب إليهم من المشاركة. العزلة بها أمان حتى ولو كان زائفا، والمشاركة مغامرة غير محسوبة العواقب.
ويكون أحد الأساتذة جماعة حوله من تلاميذه، ومن يستطيعون تحقيق مصالحهم الشخصية من خلاله؛ فتحولت الجماعة العلمية الكبيرة إلى مجموعات أو «شلل» صغيرة، يتعاونون معا في الخير والشر، وإن كان في الشر أكثر. وتكبر هذه الجماعات الصغيرة أو تصغر بناء على تحقيق المصالح أو عدم تحقيقها، ويظل الباب مفتوحا لمن يشاء الانضمام، فتتفتت الجماعة العلمية الكبيرة كما تتفتت الأوطان إلى أجزاء بالحروب الأهلية، وكما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ومن لا يستطيع الدخول في مثل هذه المجموعات الصغيرة علنا فإنه يدخل سرا، ويشترك في التآمر المفضوح، وإن ظهرت البراءة على الوجه؛ فقد حدث أن تآمرت مجموعة صغيرة أو «شلة» على اختطاف الجمعية الفلسفية المصرية من مؤسسها. وفي اجتماع الجمعية العمومية أحضرت هذه «الشلة» أكبر عدد من المعيدين وطلاب الدراسات العليا وانضموا إلى الجمعية قبل الانتخاب بساعة واحدة. واختاروا بطبيعة الحال لرئاسة الجمعية ونائبها وأعضاء مجلس إدارتها من تآمر عليها علنا أو سرا. وانطلقت «الزغاريد» لنجاح هذا التآمر الجديد، وإخراج العضو المؤسس وأعضاء مجلس إدارتها منها. واختاروا رئيسا ونائبا ومجلس إدارة جددا ممن اتفقوا عليهم سلفا. ولما رأت وزارة الشئون الاجتماعية والمشرف على الجمعية أن كل من صوتوا في انتخاباتها الأخيرة، أصواتهم باطلة؛ لأن الذي له حق التصويت هو من مر على عضويته سنتان على الأقل. فرجعت الجمعية إلى رئيسها ومجلس إدارتها الأول، وخرج المتآمرون.
أليست ترشيح الجماعة العلمية لأحد أعضاء «الشلل» ومنها شلة الغيرة والحقد والحسد والكراهية والعدوان، ويأخذ الترشيح بالإجماع ثم لا يأخذ في مجلس الكلية إلا صوتا واحدا جريمة خلقية؟ ولو أن أحدا من هذه «الشلل» جلس وكتب شيئا ينفع الفكر والوطن لكان خيرا له من التآمر والغيرة والحسد والحقد والكراهية والعدوان. إن محاولة أستاذ تجميع أكبر قدر ممكن من المعيدين والطلاب للدراسة معه، وإعطاءهم الدرجات العلمية في موضوعات متكررة، واستخدام الجيل الجديد لصالح الجيل القديم عندما ينتشرون في الجامعات الإقليمية يسبحون بحمده ويفرضون كتبه في طبعاتها العاشرة؛ هي جريمة كبيرة وانخفاض بمستوى التعليم جيلا وراء جيل، ورغبة في المنفعة وجمع المال، دون أن يرثه أحد لأنه لا ذرية له.
إن تكوين «شلل» صغيرة داخل الجماعات العلمية الكبيرة، تحقيقا لمنفعة، أو تطلعا إلى سلطة، لهو قضاء على الجماعات العلمية نفسها، وعدم إيجاد بديل عنها في «الشلة التسلطية» التي تكبر يوما وراء يوم، بديلا عن الجماعة العلمية الكبيرة؛ وتصبح «الشلة التسلطية» وسيلة للوصول إلى المناصب الإدارية لرئيسها بعد أن أظهر شعبيته ومدى انتشاره وولاء الجماعة العلمية الكبيرة. ويبقى التمركز حول الذات جريمة كبرى في الجماعة العلمية الكبيرة التي تقوم على البرهان وليس على الادعاء، والانتقال بين الشرق والغرب لبيان أنه يعرف الثقافتين، وحين يكتب لا يوجد موضوع محدد أو منهج ملائم أو الوصول إلى نتيجة بعد افتراض علمي يكون البحث تحقيقا له. ويزداد صراخا في المناقشات العلمية لإقناع السامعين برأيه. ويستعمل أكبر قدر ممكن من المصطلحات المعربة ليبين أنه من أصحاب الثقافتين، كما يستعمل بعض المفاهيم الغربية الحديثة ليبين أنه يعرف الحداثة. في حين أن الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية تمران بمرحلتين مختلفتين، الأولى في بداية عصر النهضة، والثانية في نهاية العصر الحديث. ويدعي أنه من أنصار علم «الاستغراب» الذي يقوم على التمييز بين الحضارتين، وتحويل الحضارة الغربية إلى موضوع للدراسة بدلا من أن تكون دائما ذاتا دارسة، وتحويل الحضارة الإسلامية إلى ذات دارسة بدلا من أن تكون دائما موضوعا للدراسة، فهو يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول. ومن علامات الربط بين الغيرة والحسد والكراهية والعدوان انتخبتني لجنة الفلسفة بالمركز الأعلى للثقافة الذي كان يسمى سابقا المركز الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية مقررا للجنة. وكان أحد أعضائها قد صرح بأنه لن يرشح نفسه طالما أني سأرشح نفسي، ولما تغيرت طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجلس، وتغير الأمين العام له تم استبعادي من أمانة اللجنة وعين آخر أصغر مني سنا. ولما كان مريضا فلم يكن يحضر إلا نادرا وحضر من هو أصغر منه سنا بالنيابة، فحزنت لهذا العدوان وقاطعت المجلس حتى الآن، والذي كانت قراراته ينقصها الاحترام والتقدير. ولما مر رئيس المجلس الجديد ليفتش على اللجان وأمنائها قال للأمين إن حمامات المجلس ليست نظيفة، وكأنه يقارن بين نظافة الحمام وعدم نظافة أعمال اللجان. وكنت قد قدمت مشروعا مكونا من عدة أجزاء؛ أولا: دور أقسام الفلسفة في مصر، ثانيا: رسالة أقسام الفلسفة في مصر، ثالثا: دور لجان الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، رابعا: رسالة الفلسفة في مصر، وخامسا: رسالة الفلسفة في الوطن العربي. وربما خشي المجلس من هذا المشروع الذي قد يتعرض إلى الأوضاع السياسية في مصر والوطن العربي والربط بين الفلسفة والمجتمع، أو يخرج الفلسفة من القاعات الجامعية إلى الشوارع والميادين العامة فيتحقق ما قاله الفلاسفة مثل أورتيجا إيجاسيه «ثورة الجماهير» أو ما قاله لينين في «الفلسفة والثورة» و«الدولة والثورة». ودخلت الفلسفة من جديد محجوزة بين الجدران الأربعة لقاعات الدراسة.
وقد يكون التمركز على الذات فارغا بلا نتيجة، في بحث أو مقال أو مشاركة في ندوة شهرية أو في مؤتمر سنوي. يكفي أنه تعامل مع الغرب دراسيا واجتماعيا حتى يكون له الفضل على الآخرين، ويدل ذلك على الرغبة في التحول من عقدة النقص إلى عقدة العظمة؛ فالتعامل مع الأجنبي وتفوق علمه خير من التعامل مع المصري ونقص علمه. وهو أيضا كثير الصياح ليغطي بصياحه على رؤيته بشكل سلبي، وهو ما يسمى في الثقافة الشعبية «عقدة الخواجة».
ومن الانفعالات التي اختبرتها، إحساس البعض بالتمركز حول الذات، وأنه لا يوجد في العالم إلا هو؛ فهو الأعلم الأحكم، والأدق، والأشجع، والأصح في آرائه. وهو ما يحدث أيضا على المستوى السياسي عند الرؤساء الذين يعتبرون أنفسهم هكذا «الأسد إلى الأبد». يصعب الحوار معه أو إبراز رأي آخر بجوار رأيه؛ فالتمركز حول الذات يصل إلى مستوى مطلق، كما في آية
ما علمت لكم من إله غيري . وهناك صيغة أخرى للتمركز حول الذات دون إفصاح ودون دليل، إنما يكون الدليل في الدراسة بالخارج والحياة هناك مع الأجانب. فيؤدي ذلك إلى الإحساس بالعظمة، والسمو فوق الآخرين، والتعالي عليهم، وهم المكونون محليا. وقد ظهر ذلك منذ أن كان طالبا يأتي متأخرا لقاعة الدرس في أبهى صورة حتى ينظر إليه الجميع؛ لأنه يظن أن الأناقة والجمال تأتي منه وحده.
وقد تتضح الغيرة في رغبة أحد الأساتذة بعد عودته من الخارج ونسيان الناس أنه كان موجودا، يكتب في الصحيفة الأولى في مصر، وبعد كتابة عدة مقالات، اثنين أو ثلاثة، لم يتحقق الهدف. وفي كل اجتماع يتم في «مركز الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية» السابق على «المجلس الأعلى للثقافة» مع وزير الثقافة في حوار مع المثقفين، يرفع يده ليكون أول المتكلمين حتى يعرفه الناس أكثر وحتى يلفت نظر الوزير إليه، ويكون خطابه حتى يجذب أنظار المثقفين إليه، وعندما لم يتحقق الغرض من كل ذلك يكتب مقالا يتهمني فيه بأنني من أنصار الثورة الإسلامية في إيران، وأنني ممثل الخميني في مصر، في وقت كان رئيس الدولة يهاجم فيه الثورة الإسلامية وقائدها، فقاطعته، وسميته صديق نصف العمر. ولما حاول أحد الأصدقاء المشتركين جمعنا على العشاء في منزله، أدخلنا الصديق إلى الشرفة لكي نتصافى، فانتظرت أن يبدأ هو بالاعتذار ومناقشة الموضوع، وانتظر هو أن أكون البادئ بالكلام معاتبا إياه، فلم أشأ لأنني المظلوم وهو الظالم. فخرجنا من الشرفة دون أن نحقق شيئا. ومع ذلك عندما هاجمته الجماعة الإسلامية المتشددة وحاولت الاعتداء عليه كما حاولت ذلك من قبل معي، هنأته بالنجاة، وقابلته مرة في تأبين أحد الزملاء، وكان يسير شبه أعرج ولم نتحادث يومها.
ولما غادر الأستاذ الكبير بالقسم معارا إلى الخارج بإحدى الجامعات العربية، أخذ هو رئاسة القسم بدلا عنه. ولما ترك الأستاذ الكبير مكانه في الجامعة المعار إليها، خلفه الأستاذ الآخر. ودعا معه معظم أساتذة القسم حتى فرغه ولم يعد به أحد تقريبا، فعل ذلك تقربا إلى الجامعة الخليجية. ومنذ ذلك الوقت الذي بنى فيه الأستاذ قسم الفلسفة بالجامعة الخليجية هدم القسم في جامعته الوطنية، ولم يعد للقسم قائمة بعد ذلك حتى الآن.
ووقع من تبقى فيه في الخلاف والقضايا حتى وصل الأمر إلى المحاكم، وبقي أستاذ وحيد ما زال يحمل الشعلة في القسم، اتهمته الجامعة، ولامته على أنه كان سببا في عدم ترقية رئيسة القسم الحالية.
وحدث نفس الشيء في جامعة أخرى عندما غادر رئيس القسم إلى إحدى جامعات الخليج وبقي حوالي عشرين عاما حتى تحطم قسمه في وطنه. وحاول أعضاء القسم الحاليين إعادة بنائه قدر الإمكان.
وفى جامعتي كنت رئيسا في لجنة المناقشة باعتباري أقدم الأساتذة، وأعطتني إدارة الدراسات العليا الظرف الذي به أسماء المناقشين، واستمارات مكافآتهم كي يملئوها وأوقع عليها، فأخذته طالبة قديمة لي أصبحت وكيلة للكلية، وأعطت الظرف الذي به أوراق المناقشة إلى أحد الأعضاء. وفي المداولة بعد المناقشة أخذ مني العضو باللجنة الأوراق طالبا مني وأنا رئيس اللجنة أن يقرأ هو النتيجة بنجاح الطالب والإعلان عن درجته. كنت في حيرة هل أقبل ذلك ضد المتعارف عليه والقاعدة بأن يعلن رئيس اللجنة النتيجة بنفسه؟ أم أترك العضو يقوم بذلك دون استئذان مني؟ وقررت أن أتركه يأخذ شرف الإعلان عن النتيجة، وألا أمنعه من ذلك؛ فهو يريد مزيدا من الشرف في إعلان النتائج.
ولما تمرد أحد الأساتذة الشبان على الأستاذ المنتشر في الجامعات الإقليمية، وأراد أن يقيم لنفسه «شلة» في جامعته يكون هو رئيسها، صعد الشبان على أكتافه وهو سعيد بهذه الرئاسة الجديدة، ولما أراد أن يكون رئيسا بالفعل وفي مناقشة الرسائل الجامعية أراد أن يتكلم أولا قبل رئيس اللجنة العلمية بدعوى تقديمه رئيس اللجنة وأعضائها لجمهور المستمعين. فلما قبلت ذلك على مضض في أول جلسة، لم أقبله بعد ذلك في جلسة أخرى للمناقشة، كي لا يكون رئيسا على رئيس، ومنعته من الكلام من أول الجلسة لآخرها؛ فخاصمني حتى الآن وقد منعت عنه أن يكون رئيسا على الرئيس.
وتكرر ذلك في جامعة أخرى يبدو فيها رئيس القسم وهو يريد أن يبين لجمهور الحاضرين بأنه رئيس على الرئيس. وقد كان قد قدم لرئاسة اللجنة من هو أصغر مني سنا، وجعله يجلس في وسط المائدة رئيسا، وأنا على الطرف عضوا، فرفضت ذلك قبل المناقشة؛ وأرجعوا ذلك إلى العميد، فنزل العميد مادا يده بالسلام علي دون أن يعتذر عما حدث ولكني اعتبرت ذلك اعتذارا غير مباشر.
وفي جامعات أخرى تكرر نفس الشيء وأراد رئيس الجامعة أن يقدمني للجمهور باعتباري رئيس اللجنة، وأن يختم المناقشة حتى يكون هو الأول والأخير.
وفى جامعة أخرى كان الذي قدمني لا رئيس القسم بل عضو أقل مني في الدرجة العلمية، وكان يتكلم باعتباره رئيسا على الرئيس. فحزنت، وهل من المناسب تقديم أستاذ مساعد بالقسم أشرف على رسالة الطالب أن يقوم بتقديم من هو أكبر منه سنا وأعلى درجة؟
يبدو أن الرئاسة ما زالت مطلبا في ثقافتنا، وأن الوصول إليها يكون بأي ثمن؛ مما جعلني أتذكر إزاحة نجيب عن السلطة وهو أقدم ضباط الجيش، ورئيس جماعة الضباط الأحرار لصالح شاب أقل منه سنا ورتبة!
وفى إحدى جلسات مناقشة إحدى رسائل الدكتوراه لم يستطع رئيس إداري ولو كان رئيس الجامعة نفسها أن يرأس الجلسة. وكانت طالبة لي قد وصلت إلى منصب إداري بالكلية. وكانت تحمل خطابا من لجنة الدراسات العليا يحتوي على أوراق إدارية مثل أسماء أعضاء لجنة المناقشة، واسم الطالب، وموضوع المناقشة، وتحديد اسم رئيس اللجنة وأسماء الأعضاء. وكان الظرف باسمي باعتباري رئيس اللجنة، لم تسلمني الطالبة الظرف بل سلمته لأحد أعضاء اللجنة الذي كان يعمل بمنصب إداري رفيع، وبعد انتهاء المناقشة طلب مني هذا العضو أن يعلن هو نتيجة المناقشة للحاضرين ثم انتزع المظروف والأوراق دون أن ينتظر إجابتي لأنه عرف أن الإجابة ستكون بالرفض. تعجبت من صاحب المقام الرفيع والذي لا يهمه سوى أن يزداد رفعة على حساب أي شيء، حتى لو كان بإعلان النتيجة ليحظى بتصفيق الجمهور له. كنت قد احترت في الأمر، هل أوافق على ما حدث أم لا؟ ولأن إعلان النتيجة يكون من اختصاص رئيس اللجنة؛ تركته يفعل ما يشاء؛ فلن أصارع في قضايا غير علمية أراها لا تستحق. فليأخذ التصفيق كما يشاء، ورنت في أذني الآية:
بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى .
وكنت قد قدمت استقالتي من القسم والكلية والجامعة لرفضهم دفع تكاليف دار الضيافة العامة في المؤتمر السنوي الذي كان يقيمه القسم بالاشتراك مع الجمعية الفلسفية المصرية، مع أن الجامعة لن تدفع شيئا. والطلب كان سيتم دفعه من عائد الوديعة التي وضعتها باسم الكلية للصرف منها على النشاط العلمي، لم يتم قبول الاستقالة ورفضها صاحب المقام الرفيع.
وعندما كنت رئيسا للقسم، أتت سكرتيرة جديدة. وكانت ذات قامة طويلة، وممتلئة الجسم، ترتدي حذاء ذا كعب عال، ولكنها جميلة من تقاطيع وجهها، وكانت العادة إذا كانت لدي بعض المكافآت عند صراف الكلية أن أرسل سكرتيرة القسم لتتسلمها نيابة عني وهي شخصية رسمية في القسم، والتعامل مع الصراف جزء من وظائفها. فأرسلتها إلى الصراف لتسلم مكافأة الامتحانات ورئاسة القسم الخاصة بي ونيابة عني، وكان مقدارها خمسة آلاف جنيه. ولما كنت لا أحضر إلى الكلية كل يوم وحسب روايتها وضعت المبلغ في درج المكتب الخاص بها وأغلقته بالمفتاح وخرجت وأغلقت باب غرفتها والمضاف لحجرة السكرتارية وكان بالألمونيوم والزجاج. ولما أتيت في اليوم التالي وجدتها تبكي وتقول إن لصا كسر الباب، وكسر درج المكتب، وسرق المبلغ، والكلية تحقق معها. وكانت عروسا مقدمة على الزواج وتجهز سكنها لهذا الغرض. وانتهى تحقيق الكلية بعد رفع بصماتها أنها هي التي كسرت الباب وكسرت قفل الدرج وأخذت المبلغ. فطلبوا مني أن أكتب طلبا للعميد لكي يرسلها إلى النيابة العامة لتأخذ جزاءها بعد المحاكمة، فلم أفعل؛ فجزاء السرقة السجن وهي «على وش جواز». واكتفت الكلية بإخراجها من القسم وتحويلها إلى وظيفة إدارية بعيدة عن علاقة الأساتذة بالصراف.
الفصل الحادي عشر
ضرورات الجسد
يظن الفلاسفة المثاليون أن الإنسان هو مجرد فكر «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» ويظن الفلاسفة المسلمون أن النفس التي تفكر مستقلة عن البدن، وأن الحب الروحي أعمق من الحب الجسدي.
1
في حين أن الفلسفة المعاصرة في الغرب تقول: إن الجسد هو جوهر الإنسان. فعند ميرلو بونتيه الإدراك الحسي في الجسد، والحركة بالجسد، والسير في المكان بالجسد، والحب بالجسد، والحياة بالجسد، والموت بالجسد. وقد نشأت مثاليا، ثم انتهيت وجوديا، بدأت بالعقل، وانتهيت بالجسد.
تناوبت الصحة والمرض علي منذ الشباب وحتى الكهولة، فمنذ الطفولة وأنا ألعب لعبة من يرفع الصفيحة إلى أعلى، ويمسكها بيديه يكون أبوه ملكا. وبطبيعة الحال كنت أريد أن يصبح أبي ملكا؛ فرفعت الصفيحة إلى أعلى وبدلا من أن أمسكها جيدا، وقعت على رقبتي، وكادت أن تشقها بجوار العنق. فأسرعت والدتي بي إلى المستشفى، وعالجتني، وضمتني إلى صدرها، وسألتني: «هل كان من الضروري أن يصير أبوك ملكا؟ وماذا أكسب أنا لو فقدتك وأصبح أبوك ملكا؟»
ومرة ثانية كنت في السطح أقف بجوار طاولة ثقيلة من الخشب ويبدو أنها كانت جزءا من سرير، وقعت على قصبة ساقي فكسرته وحملتني أمي إلى برسوم المجبراتي بميدان محطة مصر، وجبرني، وظللت مدة طويلة لا أستطيع السير على ساقي.
ومرة ثالثة عندما أجروا علي عملية الطهارة، وربطوني بالشاش والقطن، وكان يأتينا زائر، قريب أو صديق لا أذكر، كنت أرفع الجلباب وأقول له «بص اتطهرت.» فتقول لي والدتي: «عيب يا ولد!»
ولما لاحظت أسرتي أن نظري ضعيف، ذهبت إلى عيادة العيون. كشف علي الطبيب، وأعطاني نظارة، فكنت أرى بطريقة أفضل. ولما كنت ألعب في الحارة بالكرة كانت الكرة تقذف في وجهي فكسرت النظارة، وكانت في ذلك الوقت عدساتها من الزجاج، فتتكسر باستمرار لكثرة لعبي في الحارة، ووقوعي على الأرض، وكانت والدتي تقول: «من أين سنأتي لك بالمال في كل مرة تكسر فيها نظارتك؟»
وبعد ذهابي إلى فرنسا، وتناول الطعام مرة واحدة في اليوم، كنت أجهد نفسي بين دراسة الفلسفة في السوربون صباحا، والموسيقى في الكونسرفتوار بعد الظهر، والقراءة وعزف الكمان مساء. تعبت وأحسست بالإرهاق، فذهبت للكشف بعيادة المدينة الجامعية، كانت وجبة الطعام بسبعة فرنكات ونصف، وكنا نستحق وجبتين، وكانت تخفض للطلاب دون منح إلى خمسة فرنكات ونصف، ثم تخفض مرة ثانية للطلاب الأكثر فقرا مثلي إلى ثلاثة فرنكات ونصف، وبما أنني كنت أتناول الطعام مرة واحدة فقط في اليوم، كنت أبيع بطاقة الوجبة الثانية بمبلغ سبعة فرنكات ونصف؛ فكنت أكسب أربعة فرنكات في الوجبة. وفي مرة وجه لي أحد الطلبة الفرنسيين الإهانة لأنه اشترى البطاقة بسبعة فرنكات ونصف؛ فوصفني بأنني تاجر جشع ولكن ماهر؛ حيث أشتري البطاقة بثلاثة فرنكات ونصف وأبيعها بسبعة ونصف. حزنت للإهانة وقلت في نفسي يا ليته كان يعلم السبب. فاكتشف الأطباء أنني مصاب في الرئة اليمنى بمرض الدرن أي السل. حجزوني مدة أربعة أشهر للعلاج بمادة تنقط عن طريق الوريد مرتين يوميا. وطلبوا مني أن أعيش كما يعيش باقي البشر، أن آكل لأعمل، وإلا قضيت على حياتي بنفسي.
وبعد عودتي إلى مصر كنت في منزل أخي. اكتشفت بنت أختي الطبيبة أن لون بشرتي أصفر. وكنت أنهج عند صعودي السلم؛ فأخذتني بالضرورة إلى مستشفى القصر العيني، فوجدوا أن أربعة شرايين في القلب مسدودة، وأنني أعيش بشريان واحد. فأشاروا علي بضرورة إجراء عملية للقلب المفتوح، وعلى يد أفضل جراح، ولكنه يجري العمليات بمستشفى السلام الدولي وليس بالقصر العيني؛ لأنها كانت أفضل. مكثت أسبوعا بالمستشفى، وبعدها خرجت محاولا ألا أجهد نفسي في العمل.
وفى مرة أخرى اكتشف الأطباء وجود حصوات صغيرة بالمرارة؛ فخشوا أن تكبر وتسد قناة المرارة؛ وطلبوا إجراء عملية جراحية لاستخراج الحصوات ولاستئصال المرارة، ثم وجدوا التهابا «بالبروستاتا» فطلبوا استئصالها أيضا.
ولما أصبت بداء السكري وبدأت جروحه تظهر على قدمي، طلب الأطباء مداواة الجروح وهو الأمر الذي استغرق مني عدة سنوات بعد أن عرضت الأمر على أكثر من طبيب، ثم وجدوا السكر قد امتد لقدمي ووصل الالتهاب لقدمي؛ فطلبوا استئصال الإبهام خشية وصول الالتهاب لكل القدم.
وبعد أن طال المرض وطالت رقدتي على الفراش عدة شهور متواصلة، ظهرت قروح الفراش، أسفل الظهر، وعالجتها بصعوبة بالغة. ومنعني الأطباء من الجلوس على مكتبي؛ فالساقان لا بد أن تكونا مرتفعتين إلى أعلى، حتى لا يتدفق الدم والماء إلى القدمين فيتورمان.
ثم مرة أخرى أخذوا عينات من تحت إبطي لتحليلها، وجاءت النتيجة سلبية. وكانت نتيجة تحليل الدم تظهر احتياجي للبلازما.
وبدأ نظري يضعف أكثر فحاولت علاجه بقطرات العين الدائمة صباحا ومساء، ولكني ما زلت غير قادر على القراءة والكتابة؛ ولذلك أجريت عمليتي المياه الزرقاء والبيضاء، وحقن الأطباء عيني ثلاث مرات بعلاج يساعد على تحسن النظر، ولكن لم يقو بصري.
ثم لاحظ الأطباء عند تحليل الدم بأن نسبة البلازما قليلة، أقل من المتوسط، نتيجة لالتهاب بالدم؛ فدخلت المستشفى عدة مرات لإجراء عمليات نقل الدم.
ثم أصبت بهبوط ضغط الدم؛ فأوصى الأطباء بعلاج لتنظيم الضغط.
ومرة وقعت على الأرض كنت بغرفة النوم، فتعثرت بطرف سجادة فانكسر الحوض بسبب الوقوع، فأجريت لي عملية لتركيب مفصل صناعي معدني بدلا من الذي انكسر. رقدت بعدها على الفراش عدة أشهر وأنا غير قادر على الحركة. لم أستطع حتى إجراء جلسات العلاج الطبيعي.
ثم زاد تدهور نظري إلى حد لم أستطع الرؤية سواء للقراءة أو الكتابة ولا حتى النظر للشاشة الضوئية. فاستعنت بجليستي ومعاونتي على القراءة والكتابة.
وما إن التأمت جروح السكر حتى استعنت بالعلاج الطبيعي لمساعدتي على النهوض والجلوس والسير بمساعدة المشاية ولو لخطوات قليلة.
وبعد أن كنت أملأ العالم سياحة وحضورا للمؤتمرات والندوات في مصر والخارج، استلقيت راقدا على الفراش شبه ضرير وشبه عاجز. فإذا قمت فإنني أستعين بكرسي متحرك يدفعه مرافقي الممرض والمقيم عندي منذ خمس سنوات. أنفعل عليه وينفعل علي ولكني لا أستطيع العيش بدونه. يرافقني في كل مكان، في المستشفيات، وفي السفر إلى المؤتمرات بالخارج؛ فهو خير رفيق وممرض، يعاونني على حياتي الخاصة، أتعب وأحزن لغيابه أثناء الإجازات حيث يعيش بقرية الصفط بمحافظة المنيا، يغيب أسبوعا، أو أكثر، وأستعين ببديل أقل خبرة ولكني أتحمل حتى يعود مرافقي وممرضي الأول. وهو على مستوى عال من الثقافة والفن؛ يضحكني بالنكات، ويسرني بالغناء لي، ويطلعني على أهم الأخبار في مصر والعالم، وآخرها تشبث الرئيس الأمريكي بالبيت الأبيض، ورفضه تسليم الرئاسة لخليفته، وقيام أنصاره بالهجوم على مبنى الكونجرس، وتحطيم زجاجه دون أن يقول آخر: «العنف في أمريكا» كما يقال عن العنف عندنا في الوطن العربي والعالم الإسلامي. وكان يحضر لي المراجع المطلوبة على رفوف مكتبتي ويرجعها بعد أن عجزت عن النزول للمكتبة؛ وذلك لأن السلالم مرهقة نزولا وصعودا. يتحمل عناء الأتربة نظرا لهجران المكتبة فترات طويلة، ولأنني كنت أستخدم مكتبي بالطابق العلوي فلا أضطر للنزول والصعود. كان يعرف أماكن الكتب وموضوعاتها، كان يكفيني أن أشير إلى الدولاب ورقم الرف المطلوب ومن بين مئات الكتب وعشرات الدواليب يحضر المطلوب بشكل دقيق، يعرف النسخ المطلوبة، وعناوين موضوعاتها الملصقة على كل رف كما هو الحال في المكتبات العامة الضخمة، لم يكن يخطئ، ويحضر لي المطلوب فورا، فساعدني ذلك كثيرا.
أدركت قيمة الصحة وقيمة الجسد، وندمت على إهماله، وكيف فرض علي نفسه عندما أصبحت شيخا كبيرا. وماذا كنت أفعل وأنا في سن الشباب وكلي حركة وحماس ونشاط للعمل، وكأن روحي لا جسد لها. وكنت أسخر من الفلاسفة المعاصرين الذين يجعلون الجسد مركزا للكون؛ يتحرك في المكان، ويتكلم، ويجادل، ويصارع، بل ويحب، وأتهمهم كما يفعل السلفيون حاليا بأنهم ماديون. وعرفت بعد ذلك أن الجسد هو الذي يحمل العقل والروح، فبدون الجسد يختفي العقل، وتختفي الروح، والجسد هو حاوي القلب، والقلب هو الذي يمد الجسد بحرارته، كما قال عمر الخيام:
أولى بهذا القلب أن يعشقا،
وفي ضرام الحب أن يحرقا،
ما أضيع العمر الذي مر بي،
من غير أن أهوى وأن أعشق.
ومن أجل العلاج والعمليات الجراحية كنت نزيلا دائما بالمستشفيات. وأدركت الفرق بين المستشفى الخاص والمستشفى الجامعي؛ فالمستشفى الخاص أقرب إلى التجارة وليس إلى علاج للمرضى، يريدون منه المكسب أكثر مما يعطونه من العلاج. كنت في أحد المستشفيات التي أخذت اسما إسلاميا للتغطية على الكسب من المرض، والتجارة بالمريض. مكثت ليلة واحدة فيه، وكان ثمنها ثلاثة آلاف جنيه؛ فعجبت من الثمن المرتفع. وطلب مني أحد الأطباء أن أنتظر ليلة أخرى حتى يسأل الإخصائي أو الاستشاري عن إمكانية المغادرة، فسألته عن سبب ارتفاع ثمن الليلة بالمستشفى؟ فأعطاني كشف المصروفات، ورأيت أن علبة الزبادي الصغيرة التي أبتاعها من محل البقالة بحوالي جنيه واحد ثمنها في المستشفى خمسة وسبعون جنيها؛ فقررت الخروج بعد أن دفعت ثمن الليلة، وعدت إلى المنزل وأنا أفكر كيف أصبحت تجارة كبيرة؟!
وفي مرة أخرى كنت في حاجة إلى نقل دم؛ فذهبت إلى مستشفى خاص قريب في قسم الطوارئ. رأيت طابورا من المرضى وكان ترتيبي العشرين. فعجبت من الانتظار حتى في قسم الطوارئ والذي من المفترض يعتمد على السرعة! وطلبت ما جئت من أجله؛ نقل الدم لقلة البلازما، فطلبوا أن أدخل المستشفى حتى يقوموا بهذا الإجراء. وفي المستشفى رأيتهم يجرون كل التحليلات الممكنة وغير الممكنة، وكشوف الأشعة الممكنة وغير الممكنة. ومرت الليلة الأولى دون نقل الدم، وانتظرت الليلة التالية، فقالوا إن التحليلات لم تكتمل بعد، وأجروا أيضا التحليلات الضرورية وغير الضرورية. وعندما حل الليل سألت: «أين نقل الدم؟» قالوا: «إن الدم يأتي من مستشفى آخر قريب وأنه لم يصل بعد.» فقلت: «إن نقله لا يستغرق أكثر من ساعة، وأرجو إعطاء الدم الليلة فأنا لا أستطيع الانتظار أكثر من ذلك.» ومرت الليلة الثانية ولم يصل الدم بعد، فصرخت فيهم: «أريد الخروج!» قالوا: «انتظر، فالدم قادم.» قلت: «لا أريد دما بل أريد الخروج.» وصرخت فيهم عدة صرخات بأنهم تجار وليسوا أطباء، وأن هذا المستشفى بقالة كبيرة للتكسب، وليس مستشفى للعلاج؛ فأحضروا الدم بسرعة، ونقلوه عن طريق ساعدي. وقالوا: «انتظر حتى نحلل الدم، ونعرف هل تريد كمية أخرى أم أن نسبة البلازما قد وصلت إلى المستوى المطلوب أو ما يقرب منها!» فانتظرت الليلة الثالثة. وقلت لهم في الصباح أن يحضروا كشف الحساب لأنني سوف أخرج مهما كانت نتيجة التحاليل. كانت نتيجة التحليل قد قاربت المتوسط، فأردت الخروج، وكان الحساب تسعة آلاف جنيه، دفعتها في مقابل كيس واحد من الدم، يأخذون بدلا منه من أحد زوار المريض إجباريا ومجانا لإعطائه لمريض آخر بآلاف الجنيهات ، بالإضافة إلى إقامة ثلاث ليال دون داع. عرفت أن المستشفيات الخاصة تجارة، لا يدخلها إلا التجار، ورجال الأعمال، وسكان التجمعات والمدن الجديدة. كنت قد دفعت ثمانية آلاف جنيه عند الدخول، وأعطيتهم ألفا أخرى حين الخروج، وتساءلت: «وماذا يفعل الفقراء؟!»
وذهبت مرة أخرى إلى مستشفى القصر العيني والمعروف بالفرنساوي؛ لأن فرنسا هي التي أنشأته، وهو مبنى مجاور لكلية طب جامعة القاهرة وتابع لها، وعندي بطاقة علاج مجانية فيه، ولكني كنت سأدفع مقابل تكاليف إقامة المرافق. قضيت فيه يوما واحدا، ودفعت فيه خمسمائة جنيه تكاليف إقامة مرافقي تحت الحساب. ولما غادرت اليوم الثاني كان حسابه أربعمائة جنيه. وتعجبت لأنهم وعدوا بإرجاع باقي المبلغ بعد شهرين، ولم أستلم شيئا حتى الآن!
وعندما أغلق المستشفى بعد زيادة أعداد مرضى الكورونا، حولوني إلى مستشفيين آخرين لاختيار أحدهما، اخترت الأول القريب من مستشفى القصر العيني، وانتظرت مدة ساعتين عند المدخل؛ لأن مدير المستشفى كان يمر على المرضى، وأبلغوني أنه سيأتي عن قريب، ولما لم يأت أحد بدأت في رفع صوتي عاليا؛ فطلبوا أن أذهب لمدير المستشفى، قلت: «الحمد لله أن أحدا سيستقبلني.» وصعدت إلى أعلى، قالوا: «انتظر قليلا حتى يأتي الطبيب المختص؛ لأنه يجرى الآن عملية جراحية.» فانتظرت ساعة أخرى بجوار المصعد الكهربائي، ولما لم يأت أحد رفعت صوتي مجددا عاليا غاضبا: ثلاث ساعات وأنا أنتظر! وخرجت من المستشفى غاضبا، وأنا أفكر كيف يعالج المرضى في بلادنا؟ وكيف يستقبلونهم؟!
وفي مرة أخرى دخلت مستشفى القصر العيني الفرنساوي، وبدءوا في إعطائي محاليل كنت أحتاجها بالتنقيط عن طريق الوريد. وبعد مدة قصيرة قالوا إن الأدوية انتهت من المستشفى وإن علي شراءها على حسابي؛ أرسلت مرافقي الممرض لشرائها من صيدلية خارج المستشفى. وتكرر نفس الشيء عندما كنت أحتاج لحقن العين، فقالوا لا توجد إلا حقنة واحدة بالمستشفى كله، وكنت أحتاج إلى ثلاث، وكان ثمن الواحدة خمسمائة جنيه، وكان علي أن أشتري حقنتين بمبلغ ألف جنيه من حسابي الخاص.
وحضر طبيب العيون، وكان صديقي، وأعطاني الحقنتين قائلا: «هذا نوع من الفساد في المستشفى، يأخذون الأدوية مجانا، ويبيعونها، ويطالبون المريض بشرائها، بدعوى عدم وجودها لديهم.»
وذهبت إلى مستشفى آخر، وأظهرت لهم بطاقة العلاج الجامعي المجاني فأجلسوني على مقعد، وأتأنى مساعد طبيب يعرض علي بضاعته وكأنه تاجر قائلا لي: «ثمن هذه الغرفة كذا، وثمن هذه الغرفة الثانية كذا.» قلت لهم: «إنني أريد غرفة مزدوجة؛ لأن ممرضي معي.» قالوا: «لا، هو في غرفة، وأنت في غرفة أخرى.» قلت: «لا، سأغادر.» وكان معي صديقي طبيب العيون من القصر العيني، قال: «لا تغضب.» وذهب وتحدث مع مكتب الاستقبال حتى وافقوا على ما أطلب، غرفة واحدة مزدوجة.
كان المطلوب وقتها إجراء جراحة صغيرة لاستئصال جزء من إصبع قدمي خوفا من انتشار الالتهاب في باقي الأصابع، ثم القدم، ثم الجسم كله.
أتى الجراح في اليوم التالي، ونزلت إلى غرفة العمليات، وبعد إجراء الجراحة طلبوا الانتظار ليلة واحدة ثم الخروج في اليوم التالي، قالوا في اليوم التالي قبل الخروج إني أحتاج إلى تحليلات كذا وكذا، وأحتاج إلى أشعة كذا وكذا، وأحتاج أشعة مقطعية وأخرى صوتية. فقلت: «وما الحاجة لهذا كله؟ لقد أجريت العملية الجراحية وسأخرج اليوم أو غدا.» قالوا: «لا، سيأتي طبيب أشعة خاص ينقل جهازه حتى عندك في غرفتك لفحص الساقين؛ ليطمئنوا على نجاح العملية، ثم سيأتي طبيب آخر ليفحصك الفحص النهائي ليلا.» جاء طبيب المستشفى ليلا ومعه جهاز الأشعة، وآلمني للغاية. ثم قالوا: «الإخصائي سيأتي غدا ظهرا.» وإنه يجب أن أقضي ليلة أخرى في المستشفى. قلت لهم: «فلماذا يأتي الإخصائي وقد تم إجراء الأشعة المطلوبة في المستشفى؟» قالوا: «هو أدق.» ثم قلت: «وكيف يستعملون جهازا غير دقيق في المرة الأولى، وتؤلمونني مرتين؟ مرة بجهاز المستشفى ومرة بجهاز الإخصائي؟» وصممت على الخروج دون انتظار الإخصائي؛ لأنه سيقوم بعمل تم عمله بالمستشفى ولا حاجة لتكرار الأشعة مرة أخرى، كما أنه لا حاجة لدفع الثمن مرتين. وأصررت على الخروج في نفس الليلة، وقلت: «لن أمكث دقيقة واحدة؛ لأنكم تجار تتاجرون بالمريض، وتجعلونه ضحية لكم ولتجارتكم، وسأقدم شكوى إلى الجامعة ؛ فرئيس الجامعة أحد تلاميذي. احسبوا التكاليف المطلوبة الليلة وقدموها لي.» طلبوا يومها أربعة آلاف جنيه كانت مصاريف إقامة ممرضي ومرافقي، فدفعنا المبلغ المطلوب، وعدنا إلى المنزل فرحين بعد أن ابتعدنا عن التجارة بالمرضى في المستشفيات الخاصة.
وفى أثناء إقامتي بالمستشفى الجامعي كانت كل ممرضة تدخل غرفتي، إما تعطي حقنة، أو تقيس ضغطا، أو نسبة السكر، كانت تنظر إلينا ضاحكة، وتطمئن هل فهمنا الدعاء؟ ثم تخرج، ثم تأتي عاملة النظافة مرة كل ساعة على الأقل، تحمل أدوات النظافة، المكنسة والجردل تحوم حول سرير المريض، تتظاهر بأنها تنظف أرضية الغرفة ذهابا وإيابا، وتتمنى لنا الشفاء، ولا تخرج من الغرفة إلا بعد أن تأخذ القسمة والنصيب.
وبعدها بساعة تأتي عاملة نظافة أخرى لتقوم بنفس العمل وتقول نفس الكلام، وتنتظر نفس القسمة والنصيب. ثم تقول إن العاملة السابقة نسيت تنظيف الحمام، وإنها قامت بذلك على الوجه الأكمل. تصل إلى باب الغرفة وقبل أن تذهب تعود وتتمنى لنا الشفاء العاجل، فكنت أعطيها ما فيه القسمة والنصيب مرتين، وكنت أتساءل كل مرة بيني وبين نفسي: هل الفقر؟ هل الجشع؟ هل غلاء المعيشة؟ هل قلة الرواتب؟ هل كل ذلك معا؟
وكنت في مرة أخرى بغرفتي في المستشفى، وكان التليفزيون لا يعمل. فسألنا: «ما السبب؟» فقالوا إن جهاز التحكم لتشغيل التليفزيون (الريموت كنترول) موجود في غرفة التمريض، ولا يعطى للمريض إلا إذا ترك بطاقته الشخصية في مقابله، فإذا أتت الممرضة ومعها الجهاز تعطيه لنا وتنتظر، وقد نسينا موضوع البطاقة الشخصية؛ تنتظر أن نعطيها ما فيه القسمة والنصيب لتسلمنا «الريموت كنترول»، ثم تخرج دون البطاقة. يكفيها ما أخذته من القسمة والنصيب.
بل إنه حتى عامل المصعد إذا دخل مريض المصعد تمنى له الشفاء، ويقول له إن المصعد عطلان، لا يتوقف عند الدور الذي طلبه المريض، ولكنه سيوقفه من أجله على وجه الخصوص؛ طمعا في القسمة والنصيب.
وقد أسفر هذا التعامل التجاري وحتى في المستشفيات الإسلامية والتي تحولت إلى مستشفيات خاصة بعد أزمة الحركات الإسلامية وتضييق الحكومة عليها؛ فكانت الممرضات وعاملات النظافة وعامل المصعد أكثر استحياء خاصة في المستشفيات الإسلامية خاصة وصوت القرآن يرتفع في المصعد عند استعماله، وكان الاستحياء ليس من الطلب المباشر بل كان عن طريق النظرات حيث يفهم المريض المطلوب.
وبعد هذه التجارب المتكررة والكثيرة أصبحت لا أحب الذهاب للمستشفى، وأفضل أن يأتيني الطبيب لفحصي بالمنزل إذا كان الأمر لا يقتضي الذهاب للمستشفى، كنت أفضل ذلك؛ لراحتي وللثمن الأقل من المكوث في المستشفى لعدة أيام والانتظار لساعات في غرف الاستقبال.
كما اتبعت الصيدليات نظام توصيل الأدوية للمنازل مثل المطاعم ومحلات البقالة؛ لراحة المريض وللعائد المادي الذي يحصل عليه عامل توصيل الطلبات، ليواجه ضرورات الحياة. كانت بعض العائلات تبخل بهذا المبلغ البسيط فأصبحت «فاتورة» التوصيل إجبارية.
أما محصل الكهرباء والغاز فيكتفي بأخذ الفاتورة ولا يطلب أكثر. ويظل السؤال: هل هو الفقر والبيئة الاجتماعية أم الجشع والأخلاق أم تحويل الشعب كله إلى شحاذين يحتاجون للمساعدة؟ ولا تخجل الحكومة أن تفعل نفس الشيء عن طريق ضريبة المبيعات وضريبة الإيجارات وضريبة عبور الطرق السريعة وكافة أنواع الضرائب التي حكمت المحكمة الدستورية ببطلانها.
الفصل الثاني عشر
مثوى أخير أم بداية جديدة؟
كل بداية لها نهاية، وكل نهاية لها بداية، ولا تسمى النهاية الأخيرة في هذه الذكريات بالنهاية السعيدة كما بدأت بالفقر السعيد، ولكنها تنتهي بتفكير في المثوى الأخير أي في نهاية الإنسان، وقبلها في وجوده في هذا العالم، وأداء رسالته فيه. ولا تعني الأخير الآخرة، أتى وترك الدنيا إلى عالم آخر، بل تعني آلام الدنيا التي يبتعد الإنسان عنها. يعني المثوى الأخير: هل حققت رسالتي في الدنيا قبل أن أغادر إلى العالم الآخر؟ هل حققت ما تمنيته من «المنهج الإسلامي العام»؟ وهل حققت رسالة جيلي، فلكل جيل رسالة في عصره؟ وماذا بعد أداء الرسالة، هل أستمع إليها في «ذكريات» أم أصحح نفسي بنفسي؟ أم تنبت في ذهني شجرة أخرى ولو على ضفاف النهر، تحمل فاكهة جديدة لم تكن في ذهني من قبل؟ هل أترك هذا العالم إلى عالم آخر ابتداء من حياة القبر، نعيما أو عذابا حتى البعث الجديد، حتى يوم الحساب؟
وإذا حاسبت نفسي ابتداء من حياة القبر وشريط الذكريات حتى الحياة الأخرى التي يتم فيها الحساب فأنجح أم أرسب؟ أثاب أم أعاقب؟
المثوى الأخير ويقظة الضمير تحت الأرض استعدادا ليوم حساب خارج الأرض، فالغيبيات التي بعدت عنها في الدنيا، وتفضيل المشاهدات عليها ها هي تحضر أمامي بكل ثقة ليسمع الناس جوابي في الآخرة كما سمعت في الدنيا. فالبعث بعد الموت حياة الضمير وشريط الذكريات حتى يعرف الإنسان ماذا فعل، ويتذكر ما نسيه بفعل الزمن، وانتظر ساعة الحساب مع غيره.
المثوى الأخير افتراض أتحقق منه وأجيب عنه، هناك تدوين للأفعال، يسارا ويمينا، فأصعد إلى أعلى فأجد حسابي على مائدة القضاة، الذي قد يطابق أو لا يطابق شريط الذكريات.
سنقرئك فلا تنسى . فالقراءة المستنيرة ضد النسيان. والنسيان والرد إذ لا تستطيع الذاكرة أن تتذكر كل شيء. قد تخطئ في التاريخ الموضوعي؛ لأنه من الصعب تذكر الموضوعات التي لا تترك في الوعي تجارب حية. فيكون ذلك فوق الاستطاعة.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . أليس أداء الرسالة في الحياة بصدق وإخلاص فيه نجاة؟ أليس قضاء الإنسان عمره في البحث والتقصي، في العلم والتعلم مثل الصلاة وباقي الأركان الخمسة؟ أليس العمل من أجل تحقيق غاية نبيلة، تحرر أرض، أو تحرير بشر أو تحقيق عدالة ومساواة، أو قضاء على ظلم وطغيان، أو قطع لدابر الاستبداد، أليس في كل ذلك ما يثقل الميزان؟
فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * وما أدراك ما هيه * نار حامية .
الأفعال الطيبة تجعل الإنسان في مثواه الأخير في راحة واطمئنان، وكأنه أدى الشعائر كلها منذ الصبا وحتى الممات. والعلم جهاد، والتعلم مقاومة للأعداء «العلماء ورثة الأنبياء.» العالم قبل أن يكشف عنه الحجاب فهو في ظلام، ولا يهم العالم في أي أرض يموت
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت .
والتفكير في أين يبقى الجسد؟ مع الأهل والأصدقاء؟ وإذا امتلأ المكان الأول فهل يجوز للزوجة الحبيبة والأبناء الأعزاء الحصول على أرض جديدة لمثوى الأبناء والأحفاد؟ أم أن الأرض تتسع لكل من أتاها ليستقر فيها، ولا ترفض أحدا، فلم يبق من الجسد إلا العظم، ولا يعرف الإنسان بأي أرض يموت؟
وعندما يحين المثوى الأخير لا يستطيع الإنسان أن يعود إلى الوراء من جديد ليحسن أفعاله، وينقي ضميره، وتصدق نياته؛ فالزمان يتقدم ولا يتأخر، والندم لا يجدي لأنه استرجاع للماضي الذي ولى. والندم لا يفيد لأنه تحسر على ما مضى، وحزن على ما فات. يود الإنسان أن يعود ليفعل صالحا، وقد كان العمر متسعا أمامه، ولكن الزمن لا يعود إلى الوراء. والنهاية لا تكون بداية، والبداية الثانية لا تكون إلا في الحياة بعد التوبة، والاستغفار لا يفيد، فلقد تم الفعل وانتهى؛ فالمولود لا يعود إلى رحم أمه. والرحمة الإلهية مشروطة بفعل التوبة في الحياة، وليس كما يقول عمر الخيام: «... إن لم أكن أخلصت في طاعتك ... فإنني أطمع في رحمتك».
فالفعل السيئ في الدنيا لا تتبعه رحمة في الآخرة، ولا يعني أن الله يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك، أن الشرك هو مجرد حكم عددي بأن الله واحد لا شريك له؛ فالتوحيد في الدنيا بين القول والعمل، بين الظاهر والباطن، بين الفكر والوجدان، حتى لا يكون الإنسان منافقا، يقول ما لا يفعل، ويفكر في شيء لا يشعر به؛ فالتوحيد هو وحدة القول والعمل، والفكر والوجدان، فخالد بن الوليد شعر وهو في المثوى الأخير أنه لا يوجد في جسده موضع ليس به ضربة سيف أو طعنة رمح، وهو يموت كما تموت النعاج. فالفعل الموحد هو أساس التوحيد، والتوحيد باللسان ليس توحيدا بالأفعال؛ فالتوحيد شهادة على العصر وليس هروبا خارج الأوطان.
ويعني المثوى الأخير الفعل الممتد من المولد حتى الممات، وهو شريط الذكريات الذي يمر في ذهن الإنسان في اللحظة الأخيرة، يرى مسار حياته، ولا يندم عليها، فإذا ندم توقف الشريط، فلم تعد هناك جدوى لرؤياه نظرا للحظات المأساة فيها.
يهتم الإنسان بتراثه قبل المثوى الأخير. وليس التراث هو المال والذهب والفضة والأرض والمصنع، بل هو ما يتركه في ذهن وفكر أقرانه، وفي سجل التاريخ، يصنعون له سيرة أخرى مدونة، كما يدون التاريخ تراثه في الأذهان والعقول وفي القلوب وفي الأنفس، نار جديدة تشتعل في قلوب الأجيال القادمة، حتى وإن احترقت مؤلفاته تبقى. «الذكريات» حركة في التاريخ وجزء من لهيب الوطن، تحرق من يعتدي عليه، وتدفئ من يبرد بسبب هجرة الأوطان.
و«الذكريات» حياة لمن يحياها، ونور لمن لم يحجب نوره.
و«الذكريات» حقيقة الخلود لصاحبها في الأرض قبل السماء، تحرك الناس، وتشعل القلوب إذا ماتت النفوس، وتحمل الوجدان.
لا تحتاج «الذكريات» إلى نصب تذكاري حجري أو معدني ثابت كتمثال الشرك، بل تحتاج إلى قراءة مستمرة لأقوال، ومشاهدات لأفعال. «الذكريات» طينة حية وليست حجرا ميتا، تحفظ في القلوب، وتتحول إلى أمثلة شعبية، وأغنيات بلدية مثل مذكرات أحمد عرابي.
وعندما يبلغ الإنسان من العمر عتيا تفرض اللحظات الأخيرة نفسها عليه، وتجعله يتساءل: يا ترى هل مر زمن لم أفعل فيه شيئا؟ هل تركت الزمن يفلت من بين أصابعي ولم أقم فيه بعملي نحو المجتمع والوطن؟ هل وأنا في المثوى الأخير أو قاربت منه على علم بما أنجزته في الماضي؟ وإلى أي حد كان نافعا للناس؟ هل أنا مستعد لحكم التاريخ علي في المستقبل؟ وقادر على الدفاع عن نفسي، دون طلب للمغفرة والرحمة؟ هل التفكير في اللحظات الأخيرة وأنا ما زلت حيا يمنعني من أن أكون سعيدا أو أن أكون قادرا على الاستمرار في العطاء والعمل؟ أكتب هذه الذكريات وأنا طريح الفراش، تساعدني قارئة الفنجان، أسمع منها، وتكتب لي وأنا أتألم من لهيب آلام الأعصاب، لا أخاف من المستقبل إذا كنت قد أديت واجبي في الماضي، وما زلت أؤديه في الحاضر.
ومع ذلك أحزن لتركي الحياة ومغادرتها دون أن أدري ماذا حققت؟ وقيمة ما حققت؟ لا أحب الشفاعة في الدنيا ولا في الآخرة؛ فأعمالي تشفع لي. وصدقي يدافع عني، وإخلاصي يمحو أخطائي الصغيرة التي يخشى منها بعض المؤمنين. هم يخشون من الصغائر، ومستقبلي مرهون بفعل الكبائر التي تبقى في الذكريات، في حين تنسى الصغائر، وهي ما سماه القرآن الكريم «اللمم».
أفكر في الموت دون أن أخشاه إحساسا مني بأنني أديت رسالتي حتى النهاية، حتى وأنا على فراش المرض كنت أعمل بفضل مساعدة القارئة، وكنت أنهي كتابي الأخير «الفكر الوطني في العالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية». كنت أتصوره جزءا واحدا، ولما عز علي أن أساوي مصر والوطن العربي بباقي دول العالم الثالث، أفردت لهما جزءا ثانيا «مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي». ولما انتهى هذا الجزء ورأيت أن الفصل الأول «نمو الوعي الوطني في مصر» والثاني «مصر المعاصرة» ورأيت الفصل الثاني قد انقسم إلى الوطن العربي، والعروبة، والإسلام، والإسلام والعروبة. أصبح هذا هو الجزء الثاني، ثم اضطررت لعمل جزء ثالث يضم الإصلاح والنهضة، والصحوة الأسيوية والثورة الإسلامية.
ولما تباطأت السكرتارية بتحويل المخطوط اليدوي إلى نص مطبوع، بدأت في الجزء الثاني من «ذكريات» عن طريق الموضوعات وليس عن طريق المراحل العمرية.
وقبل أن أختتم الجزء الثالث من كتابي الأخير، والجزء الثاني من «ذكريات» برز أمامي موضوع آخر وهو «التفسير الشعوري للقرآن الكريم». ورأيت أن «التفسير الموضوعي» يقوم على تحليل المضمون والمعجم المفهرس، والبناء العقلي للموضوعات التي تهمنا مثل: الفقر والظلم والفساد. في حين أن التفسير الشعوري يقوم على الإحساس بالآيات كتجارب حية تطابق التجارب الحية التي عشتها، ويستعمل تحليل الخبرات الشعورية في النص وفي الحياة، وقد يكون هذا آخر ما يتفرع في عقلي وفكري وذهني وقلبي من موضوعات إذا ما طال بي العمر وامتد الزمن.
ويبدو أن الأرض الطيبة، والرعاية السليمة بالمياه تنبت زرعا لا أتوقعه، كما حدث وأنا أصحح هذا الجزء الثاني من «الذكريات». برزت في ذهني دراسة أخرى عن «الثقافة الشعبية في الأغاني والأزجال والأمثال العامية» للعام القادم 2022م. فلا يوجد مثوى أخير ولا نهاية للبداية، وإنما توجد باستمرار بداية جديدة للنهاية؛ فالمثوى لا تعني بالضرورة الموت، بل قد تعني تجدد الحياة، والأخير أشبه بالطريق المستقيم الذي لا نهاية له إلا في الأفق، وعلى ضفتيه تنبت الأشجار والنخيل الذي لا تنتهي ثماره ونتاجه، وهذه حقيقة وليست مزحة أضحك بها كما كنت مع ابنتي الصغرى ونحن نسير في الطريق العام، عندما كنا في الأندلس وتمل من ركوب السيارة، وتسأل: «متى سنصل؟» وكنت أقول لها: «عند هذه الشجرة الأخيرة.» ولا تأتي شجرة أخيرة؛ فالأشجار تتوالى باستمرار ولا نهاية لها، فتعبير «المثوى الأخير» لا يعني الرقدة تحت التراب كما ينادي عبد الوهاب في أغنيته «أيها الراقدون تحت التراب» بل يعني استراحة المحارب الذي تتجدد ميادين القتال أمامه، وهو ما زال قادرا على النزال. ولا يعني هذا التعبير أي إحساس بقرب النهاية الأخيرة، بل ببداية جديدة. ولا يعني الموت النهائي، بل الحياة المتجددة. ولا يعني التشاؤم والحزن على فراق من أحب بل الأمل في المستقبل الذي لا يتحول إلى ماض أبدا، بل يصبح مستقبل المستقبل؛ فتعبير «المثوى الأخير» لا يعني نهاية الحياة بالموت ولكنه يعني بداية الحياة بالأمل.
إذا كانت البداية لها نهاية فإن النهاية قد تكون بداية جديدة؛ فالإبداع الفكري بدايات لا نهايات؛ لأن الإبداع لا ينتهي؛ فبمجرد ظهور النهايات في «المثوى الأخير» انبثقت بدايات جديدة بالرغم من ضعف الجسد. ويبدو أن ضعف الجسد يوازي قوة العقل كما لاحظ ابن سينا في البراهين على خلود النفس، فالزمان لا يتوقف؛ إن بدأ فإنه لا ينتهي. والمهم أن يشعر الوجود الزماني بمساره وتجدده وبداياته الجديدة كلما قارب على الانتهاء؛ فالزمان مسار متصل والجسد هو الذي يقطعه.
فإذا استمر الزمان عندي لكان في استطاعتي كتابة «الثقافة الشعبية في الأغاني والأزجال والأمثال العامية» لأبين أنه لا فرق بين الوحي النازل من السماء والإبداع الأدبي الصاعد من الأرض. وربما كتبت أيضا «صورة المرأة في القرآن الكريم».
الأولى: المرأة المغوية «حواء»، الثانية: المرأة الغائبة «امرأة نوح»، الثالثة: المرأة الشاذة «امرأة لوط»، الرابعة: المرأة المضحية «سارة زوجة إبراهيم» ضحت لتزوجه هاجر، الخامسة: المرأة الجميلة «بلقيس ملكة اليمن»، السادسة: المرأة المفتونة «امرأة العزيز» التي افتتنت بيوسف، السابعة: المرأة الأم «أم موسى» التي وضعت ابنها في النهر، الثامنة: المرأة المستحية «الفتاة المستحية التي استسقت موسى ليسقي لها»، التاسعة: المرأة المؤمنة «مريم أم عيسى المسيح»، العاشرة: المرأة المحبة «خديجة زوجة الرسول»، الحادية عشرة: المرأة المحبوبة «عائشة بنت أبي بكر»، الثانية عشرة: المرأة الزوجة الفاتنة «زينب».
ويتضمن الجزء الثاني أحكام الزواج والطلاق، والمهر، والخصام، وتعدد الزوجات، وملك اليمين، والسبايا والجواري والإماء، والإرث، والشهادة، واللباس وغطاء الجسد.
وإن امتد الزمان كتبت عن الجدل القرآني بين المصدق واللامصدق سواء كان ذلك في الدنيا أو فيما بعدها، وهزيمة حجج اللامصدق وانتصار حجج المصدق. الأول: انتصار الإيمان على العقل. والثاني: انتصار العقل على الإيمان.
وإذا امتد الزمان أكثر لكتبت الذكريات الجزء الثالث، ويتضمن رؤية عامة
Over-all view ، لدلالة حياتي العلمية والثقافية والسياسية دون تقسيمها إلى مراحل كالجزء الأول أو إلى موضوعات كالجزء الثاني. أضع فيها خلاصة العمر والنتيجة النهائية لحياة عالم صاحب رسالة، لم يأت هذا العالم ويتركه بلا أثر، ويصبح فيه مجرد تاريخ لذكريات الآخرين والأجيال القادمة.
الخاتمة
محاولة للدفع والنقد الذاتي
كثر النقد للجزء الأول من «ذكريات» وكل ناقد يحاول أن يعرف من المقصود بهذا أو بذاك، ويحول الذكريات من التحليل الذاتي لتجارب الحياة إلى الكشف الموضوعي في المجتمع والتاريخ. والذكريات ليس لها صلة بالجانب الموضوعي، أشخاصا أو وقائع؛ إذ إنها بين قوسين أي لا تصدر أحكام عليها، يبدو أن النقد السريع في مصر هو نقد تاريخي يطابق بين النص وما يحال إليه ظنا، ولمعرفة هل هو مدح أم ذم؟
ويتساءل أحد قراء الجزء الأول من «ذكريات» أين أنا؟ لماذا لم تذكرني؟ ويتساءل آخر لماذا ذكرتني في سطر واحد فقط دون أن تكتب عني أكثر من ذلك؟ فكل قارئ يسأل وهو لا يقرأ الذكريات إلا من خلال نفسه، أين هو؟ وما حجم الحديث عنه؟
والمدح يقبل بترحيب، والذم يرد عليه، خاصة إن كان الموضوع الذي تنبع منه الذكريات قد كون جماعة تسبح بحمده، وتتقرب إليه لتنتفع منه.
وقد تقع الذكريات في بعض الأخطاء التاريخية وهذا طبيعي؛ لأن مقياس الصدق فيها هو ذاتها وليس مطابقتها للواقع الخارجي. وهناك فرق بين الذكريات وباقي الأنواع الأدبية مثل المذكرات، واليوميات، والسير الذاتية . فالذكريات صدقها في انسيابها، وانطلاقها الطبيعي، وهي أشبه بالشريط السينمائي، أما الأنواع الأخرى فصدقها في مطابقتها للتاريخ.
الذكريات ليس بها صدق وكذب إلا حين التدخل بمقص الرقيب، أو بالإرادة كي تستبعد جزءا أو تضيف جزءا آخر. حينئذ تكون أقرب إلى التأليف، أما الأنواع الأخرى فلا حرج أن يتدخل فيها مقص الرقيب؛ لأنها تخص واقعا محددا، وتصف حوادث محددة.
والذكريات قد ينسى بعضها حين كتابتها ثم يتم تذكرها في لحظة أخرى؛ فالذاكرة تخضع لقوانين التذكر والنسيان، الزيادة والنقصان. وقد يعمها التكرار في سياقات أخرى مثل، العلاقة بالمرأة أو العلاقة بالجامعة. فالذكريات تتشابك أحيانا في سياقات متعددة. وهو ما يفسر عدم التطابق بين الجزء الأول والجزء الثاني في تذكر الحوادث أو نسيانها؛ لذلك تم التردد بين تسمية هذه الذكريات بالجزء الثاني أم الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة؟ ولما كان هناك اختلاف بين الكتابين في التبويب وفي طريقة العرض من الذكريات المرحلية سابقا إلى الذكريات الموضوعية حاليا، وكثرت الإضافات التي اعترى بعضها النسيان في الكتاب الأول؛ حسمت التردد بتسمية هذه الذكريات «الجزء الثاني». وعلى الرغم من عدم دقة هذه التسمية لأنها تعتبر إعادة صياغة لموضوعات ومادة الكتاب الأول إلا أن تسميتها بطبعة جديدة مزيدة ومنقحة، غير دقيقة أيضا لاختلاف أساليب التعبير وطرق السرد. وعيبها أنها تتكرر هنا وهناك كشريط «ذكريات» سينمائي، إلا أن ميزتها الإخراج الجديد. ومع ذلك تتساوى الذكريات الأولى والثانية في نفس العنوان حتى لو كانت بعنوان طبعة ثانية مزيدة أو منقحة أو الجزء الثاني. وربما كان التوفيق بين العنوانين في طبعة جديدة مزيدة ومنقحة يخفف التعارض بين العنوانين؛ جزء أول وجزء ثاني.
وتختصر الذكريات كلها إلى فصل واحد، به من يريدون الدفاع عنه ظنا بأن الذكريات لا تشير إلى وقائع أو أشخاص بعينها، وقول آخر يثير تساؤلا: «هل أنا مثل ما ذكرت أو تذكرت؟» وكأنني أكتب تاريخا، وكأن الذكريات مدح للبعض وذم للبعض الآخر.
وعندما عقدت ندوة لمناقشة «ذكريات» اهتم الجميع بهذا الفصل الواحد،
1
لعله يخرج منه بريئا. أما باقي الفصول بدءا من الطفولة حتى الشيخوخة ومرورا بمراحل الدراسة الأولية والابتدائية والثانوية والجامعة والدراسات العليا في الخارج فلم يتناولها أحد.
وأما صراعي مع الإدارة الجامعية لإيقاف ترقيتي مرتين، بعد أن حكمت اللجنة العليا بترقيتي، فلا وجود له ولا ذكر له.
وكأن مواقفي السياسية من زيارة الرئيس لإسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام ليست لها أهمية.
وكأن نقاشي مع الرؤساء ابتداء من عبد الناصر مطالبا بالحرية للشعب، وباستقلال الجامعات ليس له أهمية؛ مما يدل على تحيز القارئ في قراءة النص، وأخذ ما يهمه شخصيا له ولأصدقائه، وترك «هموم الفكر والوطن».
وهذا ما دفعني إلى كتابة جزء ثان من «ذكريات» لعله يقرأ هذه المرة بحياد وتجرد وتناول لكل فصوله الاثني عشر، ودون التركيز على فصل واحد.
فالقارئ هو الذي يؤول نص الكاتب ويكتبه مرة أخرى بقراءته؛ فيصبح النص تأليفا مزدوجا بين الكاتب والقارئ.
والرد على «ذكريات» لا يكون بتجريم صاحبها بل بكتابة ذكريات أخرى، لمن يريد وعاش نفس الفترة، وآلمته بعض المواقف، وفرح من مواقف أخرى؛ فالذكريات مجال خارج المدح والذم، والثواب والعقاب، بل هي شهادة للتاريخ على من يريد أن يعرف.
والصعوبة في الذكريات هي ما يظنه البعض أنها جمع بين العام والخاص؛ فلا يجوز للذكريات أن تتناول الحياة الخاصة لمن يتذكرهم صاحب الذكريات. أما إذا كان الخاص عاما، والعام خاصا فمن الضروري الجمع بين الاثنين باعتبار أن الخاص يعرفه الجميع مثل العام، أن صاحب الذكريات يعيش التجربتين معا؛ فالخاص لا يستحق الإخفاء، بل يظهر مثل العام، كما أن العام الذي يعرفه الجميع لا يستحق الإخفاء فما عرف قد عرف وما ظهر قد ظهر.
ونقد الذكريات لا يكون بإصدار أحكام خلقية خاصة فيما يتعلق بالمرأة، وخاصة إذا كان ذلك في الخارج في فترة التكوين والتحول من الحب العذري إلى ما بعده. وهو نقد يجعل الناقد أكثر أخلاقية من المنقود، ويجلب الشهرة عليه والتحية له باعتباره المدافع عن الأخلاق. وهل الأخلاق هي في العلاقة بالمرأة وحدها؟ أم أيضا بالسرقات العلمية، وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والتآمر بدعوى أن المتآمر ابن لفلان أو ابنة لآخر، والعمل في الخفاء لتعيين معيدة، والاتصال بالسفارات الأجنبية لبيان خطورة الرسالة على العلاقة بين الدولتين؟ وهل تكوين «شلل» للجماعة العلمية لا يعد جريمة خلقية؟
أليس الاستعلاء على الغير والتكبر جرائم علمية يستحق صاحبها الذم والاستنكار؟ أليست العزلة عن حياة الجماعة العلمية تخل عن أداء الواجبات العلمية؟
يبدو أن البيئة العامة ما زالت مخضبة بالجنس، يخفونه في الظاهر ويلمسونه في الباطن.
أليس النفاق، ومواجهة التلميذ للأستاذ في وجهه بالتحية والترحاب والاعتراف بحق الأستاذ ثم الذم من وراء ظهره بشكل عام ومن خلال وسائل الاتصال رذيلة خلقية؟
أليست علاقة بين أستاذ وطالبة نالت الجوائز العلمية على يديه دون أن تستحقها جريمة علمية وأخلاقية؟
إن الذكريات التي تكشف الستار أفضل من الذكريات التي تخفيها. وما يخص معروف يتحدث به الناس ولا يجرؤ أحد على الإفصاح عنه.
أليس استبعاد الجماعة العلمية من ترشيح أحد علمائها لجائزة الدولة التقديرية، وترشيح أستاذ آخر من جماعة علمية أخرى وفي نفس الوقت ترشيح جماعات علمية أخرى لنفس الأستاذ ونيله الجائزة؛ جريمة أخلاقية؟
أليس عدم ترشيح الجماعة العلمية لنفس الأستاذ لجائزة النيل وترشيح أستاذ آخر من جماعة علمية أخرى، وترشيح جماعات علمية أخرى لنفس الأستاذ لنيل الجائزة واستلامها؛ أليست جريمة أخلاقية؟
قد لا تتساوى جميع الفصول الاثني عشر في الحجم؛ فهناك فصول يصل عددها إلى ثلاثين صفحة، وأخرى تظل في نطاق العشر صفحات. كان الحرص دائما على إبقاء التوازن الكمي بين الفصول، ولكني لم أستطع؛ فهناك فصول طويلة بطبعها لأن الموضوع يستحق الطول، مثل الفصل الثالث «الحب العذري»، وهناك فصول قصيرة، مثل الفصل الحادي عشر «ضرورات الجسد» والفصل الثاني عشر والأخير «مثوى أخير أم بداية جديدة».
وقد تكون هناك أخطاء نحوية وذلك طبيعي؛ لأن الذكريات استرسال طبيعي للكلام، ولا يتضمن مراجعة للنحو. فإذا ظهرت أخطاء نحوية فإنها تكون أقرب إلى العادة والعرف مثل «أبو الخير» فإنها لا تكون «أبي الخير» إذا كانت مضافا إليه أو سبقها حرف جر، أو «أبا الخير» إذا كانت مفعولا به. فاسم «أبو الخير» استعصى على التصريف. ويحدث ذلك ليس من المؤلف وحده بل أيضا من «السكرتارية» اعتمادا على مراجعة شيخ في اللغة العربية في المطبعة التابعة لدار النشر.
وقد يكون بالنص أخطاء مطبعية لا يلتفت إليها مراجع المطبعة الذي تكون مهمته مراجعة الأخطاء المطبعية، وهذا يحدث في كل كتاب مطبوع، وفي كل المطابع، وفي كل دور النشر؛ لذلك تضاف أحيانا في آخر الكتاب صفحة لتصويب الأخطاء المطبعية.
والنقد الذاتي يسبق نقد الآخر؛ فالاعتراف بالحق فضيلة، وحسن النية مع الذات أفضل من سوء النية تجاه الآخر. والمصلحة العامة بين الأنا والآخر أفضل من مصلحة الآخر الخاصة. وصداقة مؤقتة خير من نفاق دائم.
وفى النهاية تبقى الذكريات الشهادة الصادقة على التاريخ.
صفحة غير معروفة