وكنت أعزف الكمان في الدور الأرضي، وفي الغرفة المجاورة كانت طالبة ألمانية تعزف «الهارب» وهي آلة مصرية قديمة، فتوقفنا عن العزف في نفس اللحظة، وخرجنا من الباب في نفس اللحظة في الطرقة، وتقابلنا وقالت لي: «لقد مللت من العزف، أريد أن أفعل شيئا آخر.» فأخذت أشرح لها أن الإنسان لا يمل من الموسيقى، وأنها إن استراحت دقائق تنشط إلى العزف من جديد. قالت: «ولكني أريد العودة إلى غرفتي، تعال معي؛ لنتحدث عن الموسيقى.» قلت لها معتذرا: «لكني سأستمر في العزف.» غادرت وهي غاضبة، ثم أدركت في نفس الوقت أن إجابتي برغبتي في استمرار العزف لم تكن موفقة، وحاولت أن أقابلها من جديد لكي أعتذر لها ولكن اللحظة المناسبة لم تأت، ويبدو أن العلاقة إن فات موعدها لا تعود من جديد؛ فالموسيقى لحظة فن قصيرة، أما القراءة فزمانها طويل. وكانت العادة في البيوت الجامعية أن تقام انتخابات للأسر الطلابية لتنظيم النشاط الثقافي والفني في المنزل، وفي إحدى السنوات انتخبني الطلاب رئيسا لإحدى هذه الأسر الثقافية الفنية. وكان من بين الطلاب طالب ألماني يدرس التمثيل الصامت مع أشهر ممثل صامت في فرنسا في ذلك الوقت «جولدي بارو». طلبت منه أن يشارك معنا بأمسية ثقافية يقوم فيها باستعراض لقطات وعرض لفن التمثيل الصامت، فقام بعرض «السجين». وكانت تحكي قصة سجين معتقل يحاول التحدث مع حوائط السجن والتعرف على ثغراتها لعله يجد مخرجا، وكان يمثل أنه يسير على قدمين متعبتين، يتلمس الجدران المصمتة لعله يجد فرجة يخرج منها فارا إلى الحرية.
وذات يوم زار رئيس جمهورية ألمانيا فرنسا وقابل ديجول في مهمة رسمية، فدعاه الدكتور الألماني مدير المنزل لزيارة البيت الألماني ومقابلة الطلاب، ولما كنت رئيس الاتحاد كان من واجبي أن ألقي خطابا بالألمانية ترحيبا بالرئيس، فاستعجب كيف يكون طالبا غير ألماني يلقي خطاب ترحيب لرئيس ألماني نيابة عن الطلاب الألمان في بيت ألمانيا الجامعي، وتعجب من قدرتي وإجادتي للغة الألمانية، فشرح لي رئيس البيت أنها قواعد الديمقراطية، يتعلمها الطلاب، وهي المساواة بين الطلاب الأجانب والألمان، لا فرق بينهم في بيت الطلبة الألماني. وتساءلت متى يزور الرئيس المصري فرنسا؟ ويزور بيت الطلبة المصريين الذي عرف باسم منزل الطلبة الأرمن، ويحاول استعادته لمصر؟
وتعرفت على فتاة ألمانية، لم تكن طالبة ولكنها كانت تعمل بإحدى المستشفيات كممرضة، ودعاها صديقها الألماني إلى الحفل الراقص. ويبدو أنه لم يكن مهتما بها كثيرا. فجلست بجواري، وتحدثنا بالألمانية والتي كنت أجيدها تماما في ذلك الوقت، واتفقنا على أن نتقابل بعد نهاية الحفل، في اليوم التالي وكانت هذه الفترة هي التي انتقلت فيها من المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر بعد انتهاء مدة الأربع سنوات القانونية، انتقلت إلى مسكن الطلبة الرياضيين في «بور رويال». وكان شرط بقائي الوحيد هناك أن أمارس السباحة، وكان حمام السباحة في الدور الرابع تحت الأرض.
وفي اليوم التالي كنت قد انتقلت بالفعل، فجاءت لزيارتي في المنزل الجديد، وأعجبت بلغتي الألمانية الواضحة السليمة. دعوتها إلى الغداء أكثر من مرة في مطعم الجامعة حتى اطمأنت لي تماما؛ فساعدتني في الانتقال من مرحلة الحب العذري إلى ما بعدها على مدى عدة سنوات؛ خمس سنوات أو أكثر.
ودعتني إلى زيارتها في منزلها في ألمانيا والتعرف على أسرتها والتي كانت مكونة من الأم والأخ. وكان أخوها صاحب مزرعة، كما كان يربي الخنازير التي تأكل «الردة» وهي قشور القمح المعجونة باللبن، وكان لون جلدها بين البياض والحمرة. فتعجبني وأتساءل: «ولم تحريمها؟» وسمعت «خنخنة» صوت الخنازير. وسألت في الصباح: «ما هذه الأصوات التي سمعتها ليلا وما سببها؟» فقيل: «إنهم اللصوص، يحاولون السرقة.» فقلت: «وأين الأخ للدفاع عن المزرعة؟» قيل: «إنهم قتلة، ولا يضيرهم قتل من يوقفهم، فمن الأفضل أن نتركهم يأخذوا خنزيرا أو اثنين على أن يقتلوا صاحب المزرعة.»
ثم جاءت يوما لتزورني في مصر بحجة الذهاب لزيارة الأقصر وأسوان. ودعوتها إلى الغداء في المنزل الذي أقطن فيه مع والدي ووالدتي وشقيقتي الصغرى والتي لم تكن تزوجت بعد. فلما وجدت الأسرة أنها «بنت حلال» سألتها والدتي: «لماذا لا تتزوجين ابني؟» فقالت: «اسألوه هو لماذا لا يتزوجني؟» فلم أجب؛ فلقد كان عندي مبدأ هو التعرف على أكبر قدر من الصديقات الأجنبيات ولكن الزواج من مصرية، فلو تزوج جميع الطلبة المبعوثين إلى الخارج من أجنبيات فلمن نترك بنات البلد المصريات؟ وقد يكون هناك استثناءات؛ فطه حسين تزوج من أجنبية تساعده على القراءة والكتابة.
وزارت صديقتي الألمانية الأقصر وأسوان، وصاحبتها إلى الإسكندرية. ورجعت إلى فرنسا وهي مبهورة بمصر وشعبها ورجالها، وظلت تراسلني كلما وجدت اسمي موجودا في الصحف الفرنسية لنشاطي الثقافي والسياسي في مصر، وكنت أرد على رسائلها باهتمام. وبعد عدة سنوات قد تزيد على العشر وأثناء زيارة لي لفرنسا، رأيتها وقد بدت عليها آثار الزمن، وظلت بلا صديق، بلا زواج، إخلاصا لصديقها المصري وإن لم يتزوجها؛ فدمعت عيناي.
ولما كانت غرفتي في بيت الطلبة الرياضيين مزدوجة؛ وضعت ستارة لتفصل بيني وبين زميلي المصري الذي يتقاسم معي الغرفة، وكان يذهب في نهاية كل أسبوع يزور صديقته الروسية، ويقضي العطلة معها. وفي يوم كان الوقت ليلا سمعت طرقا على الباب، فلما فتحت وجدت صديقته الفرنسية جاءت لتبحث عنه؛ فأخبرتها بغيابه. فطلبت أن تمضي الليلة معي في الغرفة مكانه حتى الصباح، وأزاحت الستارة التي تقسم الغرفة حتى أصبحنا في غرفة واحدة كبيرة. خلعت حذاءها، ثم استلقت على السرير، وأنا جالس على مكتبي أقرأ وأكتب. وبعد مدة سألتني: «متى تنتهي من المذاكرة؟» فأجبتها: «عندما أتعب.» فجاءت ناحيتي، وضمتني إلى صدرها. وقالت: «ألم تتعب بعد؟» فقلت: «أنت صديقة صديقي.» فأجابت: «كلاكما عندي سيان، من يدخل البهجة إلى حياتي يكون هو الصديق، الحاضر هو الصديق، والغائب لا صداقة ولا مكان له عندي.» فعشت لحظتها صراعا بين الوفاء لصديقي وبين الاستجابة لها، خاصة وأن صديقي كان عند صديقته الأخرى. فمكثت عندي حتى الصباح، وغادرت اليوم التالي وهي مبتهجة وسعيدة.
في يوم ما رأيت طالبة تقف عند باب منزل الطلبة الرياضيين، كانت سمراء البشرة، قصيرة الطول، وقليلة الحجم، ولكنها كانت ضاحكة، تتحرك يمينا ويسارا كانت تبحث عن شيء لا أراه. فسألتها: «عن أي شيء تبحثين؟» فقالت: «أبحث عن صديقي المغربي.» فقلت: «هل هناك موعد معه؟» قالت: «لا، ولكنه يسكن هنا.» فسألتها: «هل تعرفين اسمه؟» قالت: «لا.» فدعوتها إلى الصعود إلى غرفتي فهناك طلاب مغاربة كثر يقيمون في نفس الطابق؛ فصعدت، ودخلت معي الغرفة، وكان الطابق خاليا هادئا. وأعجبتني حيويتها وقلة حجمها، فسألتها : «من أين أنت؟» قالت: «من فنزويلا.» قلت: «نعم بلد النفط.»
طلبت أن تنتظر عندي حتى يأتي صديقها. ولكنه لم يأت، وطال الانتظار، واستلقت على السرير، وفي آخر عبارة سألتني: «هل أهون عليك أن أغادر الآن؟» فقلت: «لا بالطبع، أهلا وسهلا بك.» ثم غادرت في الصباح وهي مبتهجة وسعيدة «مبسوطة». وبقيت أنا أفكر في أمريكا اللاتينية، وقد كنت من أنصار العالم الثالث. ثم عدت إلى مصر، وعشت في البيئة التي تمنع حرية الفرد وصدقه مع نفسه ومجتمعه، وما زالت في ذهني ذكريات باريس. وتعرفت على طالبة ألمانية، كانت كبيرة الحجم، ريفية الطبع، تدرس الأدب الفرنسي. أتت إلى باريس في منحة لمدة سنة واحدة، كانت تعيش في منزل الطلبة الألماني والذي كنت قد غادرته، وكانت قادمة من مدينة تقع على الحدود الفرنسية الألمانية، تعيش بمفردها هي وأمها، وكانت تعود إلى ألمانيا مرة كل شهر أثناء دراستها بفرنسا؛ لتطمئن على أمها. وذات يوم دعتني لزيارة ألمانيا، لأتعرف على أمها، وجدتهما كما توقعت؛ فلاحتين ريفيتين طيبتين، يصعب على أي إنسان أن يتلاعب بهما أو يستغل علاقته بهما. وبسرعة اعتقدت أنني سوف أطور معها الحب إلى ما بعد العذري ثم إلى زواج دائم، ظنت أنني أفضل أن أعيش بألمانيا معها؛ فكتبت إليها أنني لا أستطيع أن أفارق مصر للأبد، وإذا كانت تريد الارتباط بي فعليها أن تأتي هي إلى مصر، وتعريفها بوالدي وإذا أعجبتهم فساعتها يمكن أن أرتبط بها. فردت على الرسالة غاضبة، وقالت: «أيها الساذج كيف تقول هذا؟» ولم أقل لها إنني قلت ذلك حتى أقضي على أي أمل لديها في الارتباط؛ بمعنى «أطفشها».
صفحة غير معروفة