وأثناء البحث عن غرفة على التبادل أي مجانية في مقابل مساعدة ابن صاحب المنزل في أداء واجباته المدرسية. وكانت لا توجد أي غرفة عند سؤال مكتب الخدمات الطلابية «الكوبار»، بل غرفة أخرى تقع في وسط الحي اللاتيني في «سان جيرمان» وكانت ذات أجر زهيد، حوالي مائة فرنك شهريا. فذهبت لمقابلة صاحب الغرفة فقابلتني طالبة فرنسية في غاية الجمال، وأخبرتني أنها المسئولة عن تأجير هذه الغرفة ولا شأن لصاحبها بها والذي كان يسكن في الشقة المجاورة. وكنت أرى باريس من شرفتي من أعلى، والسوربون والبانثيون «مقبرة العظماء» وحديقة لوكسمبورج، وكنت أرى الجمال الفرنسي مجسدا أمامي وبجواري. وكان المبنى الذي أقيم به يقع بجوار مبنى كلية الطب ومدرسة اللغات الشرقية الحية، والتي كنت أستخدم مكتبتها للدراسة. وعندما رأيت الطالبة الفرنسية عقد لساني لجمالها ولم أستطع التفوه بكلمة واحدة وأقرر هل آخذ الغرفة أم لا. ولم أدر حينها السبب في عقدة لساني، هل الجمال الباهر الذي رأيته من شرفة المنزل لباريس أم الجمال الباهر للطالبة الفرنسية بجواري، أم لقلة المال وتوفير مبلغ المائة فرنك شهريا اللازم لإيجار الغرفة؟ ولما لاحظت الطالبة الفرنسية صمتي وحيرتي، مسكت يدي وقالت : «لا تحزن سآتي لرؤيتك مرة كل أسبوع.» فزاد ارتباكي من أين آتى إليها بالعشاء؟ وفي أي مطعم أدعوها بالحي اللاتيني حيث كانت تكثر المطاعم؟ وماذا أرتدي ليلتها وملابسي ليست بالأناقة المطلوبة لمثل هذه المناسبة؟ ومن أين لي بالنبيذ الأحمر لنتناوله عند العودة معا؟ وهموم أخرى غيرها. ولما طال ترددي في أخذ قرار بالنسبة لتأجير الغرفة نزلنا، وسار كل منا في سبيله. أنا الريفي المصري الساذج، وهي الفتاة الفرنسية المتحضرة.
وفي فرنسا استمر الحب العذري في السنوات الأربع الأولى. في الغرفة المقابلة التي تطل على الشارع كانت تسكن فتاة أسمع صوتها في المساء. ولما كنت أعزف على كماني في المساء، فتحت الباب وقالت: «الوقت متأخر يا أستاذ، اخفض صوت الآلة.» فوضعت «السوردين» على الكمان كي أخفض صوت الأوتار.
وبعدها بأيام كنت أسمع صوت ضحكتها مع صديقاتها على الأستاذ المجاور والذي لا هم له إلا الدراسة والعزف على الكمان.
وفي يوم بعد أن وصلت إلى محطة المترو وجدت سيدة تدخل البوابة ضاحكة وهي «تخرم» بطاقة الصعود للمترو. ثم قالت بعد أن تعرفت علي: «أنت جاري؟» قلت: «نعم.» وقلت لها: «وأنت جارتي؟» قالت: «نعم.» ثم دعتني للقائها مساء. كنت خائفا طيلة اليوم. أفكر وأنا في الجامعة بالحي اللاتيني، ماذا أقول لها مساء عند اللقاء، وأين أقابلها؟ في غرفتي التي لا يراها أحد؟ أم في غرفتها التي تطل على الشارع؟ أم في الطرقة التي بيننا فيرانا الطالع والنازل باتجاه السلم أو المصعد الكهربائي؟
وحين عدت إلى غرفتي لم أجد صوتا من غرفتها. فرحت بأن الموضوع قد تم حله، وفهمت على الفور أنها لم تكن موجودة. وفي صباح اليوم التالي قابلتها عند مدخل المترو. فاعتذرت لي عن غيابها بالأمس، وعادت تطلب اللقاء مجددا اليوم مساء.
كانت ضاحكة بشوشة حية، تسعد من يصاحبها، ومع ذلك كنت مهموما بالفلسفة في الصباح، والموسيقى بعد الظهر، والقراءة والعزف في المساء. ولم أعرف في أي وقت أدعوها؛ فصمت، وعرفت هي أني ليس لي «مزاج» لمعرفتها؛ فتحسرت عندما قابلتها في اليوم الذي يليه عند بوابة المترو، حيث كانت تعمل، ولم تنظر لي، ولم تضحك، ولم تكلمني؛ فخجلت من نفسي، ولم أدر هل ما فعلت بالابتعاد عنها كان صحيحا أم الأفضل كان الاقتراب منها ومعرفتها؟ فالمعرفة لا تأتي فقط من الكتب، ولكن من تجارب الحياة.
ومرة وأنا آخذ القطار كل يوم وأجلس في العربة الأخيرة لكي أكون قريبا من الباب استعدادا لتغيير القطار إلى آخر، هذا الفن من الركوب في مكان معين من العربة الأولى أو الوسطى أو الأخيرة كي يكون النزول منها قريبا من الباب الذي يؤدي إلى القطار الآخر. وكانت هناك فتاة فرنسية بيضاء، ولكنها قصيرة، تركب القطار في العربة الأخيرة مثلي، وتنزل قريبا من بوابة التغيير مثلي، وبعد عدة أيام نظرت لي وضحكت، وبادلتها النظرات الخجولة، لا أعرف كيف أبدأ، كانت العبارات على لساني كي أقول: «أنت تأخذين القطار في نفس الموعد مثلي، وتركبين العربة الأخيرة مثلي، وتغيرين القطار إلى آخر من نفس البوابة مثلي.» لكن لساني لم يتحرك، ولم أقل شيئا، وتوالت الأيام بنفس التجربة، كل يوم حتى غابت عني، وغبت عنها.
وفي فرنسا وأنا في منزل «الولايات المتحدة الأمريكية» بالمدينة الجامعية، التقيت بطالبة في حجرة الدراسة بالمنزل. كانت جميلة للغاية، مبتسمة مع بعض الجدية. تنظر في الكتاب أمامها، وربما عقلها شارد. تفكر في هذا الطالب الذي يجلس في الطاولة بجوارها، ولا يفرقهما إلا الممر الضيق والذي يقسم حجرة الدراسة إلى قسمين، وأنا أنظر لها، وهي تنظر لي ولكني لا أقوى على الكلام، وكان يكفيني أن أتأمل جمالها الإنساني. وعندما تقوم وتخرج من الغرفة إلى المطعم ألاحظ رشاقة حركاتها وجسمها الرشيق، وكان من السهل أن أصاحبها إلى المطعم، ولكني لم أفعل؛ لأنني لم أتعود على هذه الطريقة التي في ظاهرها صداقة وفي باطنها ما بعد الصداقة.
وفي يوم من الأيام رأيت طالبا مغربيا طويلا عريضا يأتي إليها في غرفة الدراسة، ويصحبها إلى المطعم الجامعي، كان يأتيها باستمرار وكل يوم يسأل عنها في مكتب الاستقبال؛ فتنزل إليه. حزنت لأنني لم أستطع المبادرة قبل أن يظهر، كنت أكتفي بالنظر إلى الجمال وكأنني «نجيب الريحاني» في فيلم «غزل البنات» وهو ينظر لليلى مراد مستمعا لصوت عبد الوهاب: «وحب الروح مالوش آخر لكن حب الجسد فاني».
ولما انتقلت إلى البيت الألماني شعرت بفتاة نشطة حية ضاحكة، وهي نفس المواصفات التي كانت موجودة في حبي العذري، الأول والثاني والثالث. وبالرغم من سمارها وقصرها، تجرأت وكلمتها بالألمانية؛ فاستجابت، وكلمها ألماني آخر؛ فاستجابت، وخرجت مع ألماني ثالث. كانت تبحث عن زوج وليس عن صديق، وأنا لست مؤهلا لذلك، وكانت تبعث بالغيرة في نفس كل من يصاحبها وعندي أيضا. وظللت أعاني من هذا الحب العذري ثلاث سنوات، ثم عادت إلى ألمانيا. وبعد عدة سنوات لا أذكر سنتين أو ثلاث، عادت إلى باريس في زيارة، وعرفت مكاني حيث كنت أقيم في منزل الطلاب الرياضيين في «بول رويال»، وجاءت إلى غرفتي. كنت قد تغيرت في النظر إلى المرأة، وعرفت عيوب الحب العذري ووجعه؛ الذي استمر معي لأربع سنوات منذ 1956-1960م. كانت تنظر إلي محاولة إغرائي، كنت قد تغيرت ولم يعد للحب العذري عندي قيمة أو مكانته السابقة؛ فاستبدلته ليلتها بالحب ما بعد العذري.
صفحة غير معروفة