الدولي في اليابان (1982-1987م)
وبعد كل هذا الشد والجذب تعبت، فعرض علي صديقي حبيب الشاروني الذي كان يدرس بالمغرب بفاس أن أحل محله لأنه سيعود إلى مصر، وبالفعل قبلت. وغادرت إلى فاس مع زوجتي وأطفالي الثلاثة: حازم، حاتم، حنين. وأدخلناهم المدارس بجوار المنزل الذي كان أقرب إلى فيلا في حديقة في شارع بن عائشة رقم 12. وشرح إلي الإخوة المصريون والسوريون والعراقيون أن أوراقي ستتوقف في الوزارة، ولا تسير وتأخذ طريقها إلا إذا دفعت ما نسميه في مصر «رشوة»، فرفضت، وظللت بلا مرتب، وكان لا يزيد عن ألف دولار شهريا. وبعد تدخل الأصدقاء مثل محمد عزيز لحبابي صرفوا إلي المتأخر كله. ولما علمت موظفة البنك أنني مصري، وقد أرجع إلى مصر، طلبت مني أن أحضر لها قماش «بوبلين»، وكنت سمعت هذا اللفظ من والدتي وأنا صغير، كما طلب مني العميد «المعلوم» حتى أسوي أموري بالكلية والجامعة، فأخرجت رزمة من الأوراق فئة المائة درهم. ولما أخذت زوجتي العربة السيات التي اشتريناها من إسبانيا ونزلت وسط المدينة لشراء بعض المواد الغذائية خاصة اللحوم، وعادت، وجدت الشرطي واقفا ب «الكلبش» بجوار العربة، فعفي عنها لأنها سيدة مصرية وإلا لكان له شأن آخر. وكنت قد ذهبت إلى إسبانيا ، الدولة المجاورة، واشتريت عربة سيات
Seat
وهي فيات الإسبانية، فيات الإيطالية المصنعة في إسبانيا كي أتحرك بها إلى الجامعة وأزور المغرب. وكنت أدرس للسنة الرابعة لطلاب غاية في العمق والشجاعة والجرأة في المناقشة. ولم أر طالبا عربيا في مثل هذه الثقافة والوعي العربي والجرأة مثل الطالب المغربي. وكنت أعطي درسا ثانيا للسنة الأولى التي كان يحضر فيها حوالي أكثر من أربعمائة طالب من كل السنوات والكليات. وكنت أسمح لمن يريد الحديث أن يتحدث، وطلب الأمازيغيون الحديث كثيرا، وكذلك الماركسيون، ولم يكن هناك سلفيون، وكنت لا أرفض أي دعوة للحديث خارج الجامعة مثل حزب الاستقلال. وحاضرت في سلا ومكناس والرباط والدار البيضاء ومراكش في الجنوب، وتطوان في الشمال. واتصلت بالأحزاب التقدمية والجرائد والمجلات الماركسية مثل «أنوال».
وقمنا بالسياحة، زوجتي وأنا وأولادي الثلاثة عبر المغرب جنوبا وشمالا وشرقا؛ فذهبنا إلى الشمال عبر تطوان، وعبرنا جبل طارق إلى إسبانيا. ورأينا الآثار الإسلامية، قصر الحمرا في غرناطة، جامع قرطبة وجيرالدا في إشبيلية، وهي بقايا المئذنة لمسجدها الكبير، بل ذهبنا إلى مدريد وقبلها طليطلة لنرى سورها وآثارها الإسلامية، وفخامة العاصمة مدريد. ثم ذهبنا مرة أخرى إلى الجنوب إلى بلاد الأمازيغ حتى مراكش وجبالها من حولها. ثم نزلنا إلى الجنوب، مدينة العيون والحدود الموريتانية، وهناك حدثت حادثة للعربة؛ إذ أسقط علينا عامل على جبل حجارة فجاءت تحت العربة، فأوقف محرك السيارة تماما. وكان هذا العامل جنديا بالجيش، فاستدعى الونش وجرها إلى توكيل فيات بالمدينة، وانتظرنا حتى تم إصلاحها. ودعانا هذا الجندي إلى منزله بالطقوس المغربية، المائدة والمناديل البيضاء إرضاء لنا، وإلا كان الجيش وقع عليه عقوبة الإهمال. وعدنا إلى فاس، ومرة ثالثة إلى الشرق، من فاس إلى وجدة على الحدود الجزائرية بعد أن تلقيت دعوة من المؤتمر العربي للقاء في تونس. فذهبنا عبر المغرب العربي كله. وعجبنا من غلق الحدود بين المغرب والجزائر، ودقة التفتيش وخلع الأحذية. وكان موظف الجمارك يريد خلع باب العربة لعلي أخفيت فيها شيئا، وأخذوا ما لدينا من عملة مغربية نستلمها حين العودة ، ورأينا المهربين عبر الحدود. ومررنا عبر الساحل الشمالي بعد أول مدينة، مغنية، وكان جبليا، وخافت الأسرة، وفضلت طريق الأصنام الجنوبي حتى عبرنا الحدود الجزائرية التونسية. ووصلنا إلى تونس، وعدنا من نفس الطريق الذي فيه السلامة والأمان دون التوقف في تلمسان غرب تونس، وعدنا من نفس الطريق إلى فاس؛ لغضبي أننا لم نرجع عن طريق الساحل الجبلي كي تزداد معرفتنا به.
والمرأة المغربية في هذا الوقت كانت حديثة في لباسها وسلوكها؛ فلم تكن الحركة السلفية قد انتشرت بعد، تعتني بجمالها، شعرها، و«مكياجها». وكانت اجتماعية يسهل الحديث معها، يغلب عليها الطابع الفرنسي، وليس الشرقي. وكان معي أخي وصديقي محمود إسماعيل أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، معارا إلى المغرب. وكنا نذهب إلى المقهى، ونطلب قهوة بالحليب، ونحادث الفتيات على الكراسي المجاورة أو السائرات في الطريق، فلا يمانعن من تبادل الحديث. وكان المصري محبوبا للغاية، خاصة اللهجة المصرية من خلال الأفلام السينمائية؛ فكثير من العرب جذورهم مغاربة، نزحوا من الأندلس مثلي؛ فاسمي حسن حنفي حسنين أحمد حسنين المغربي؛ فقد نزح جد جدي من الأندلس، واستقر في المغرب. وكان كثير من المغاربة في طريقهم إلى الحج يمرون بمصر، ويستقرون بها حين العودة، وهناك حي بالإسكندرية يسمى حارة المغاربة، وما زال الأقارب يسكنون فيها ويعملون بالمهن العربية مثل الحياكة. وكثير من مشايخ الصوفية نازحون من المغرب مثل السيد البدوي بطنطا، والمرسي أبي العباس في الإسكندرية من مدينة مرسيا الأندلسية؛ فالتصوف المغربي رد فعل على انسحاب المسلمين من الأندلس وهزيمتهم أمام فرناندو إيزابيلا لآخر المعاقل في غرناطة، وتسليم عبد الله بن الأحمر قصر الحمراء لهما دون قتال بشرط عدم قيام المارشال بيتان بتسليم باريس للألمان في الحرب العالمية الثانية شرط عدم تدميرها، كنائسها، ومتاحفها، وقصورها.
والعادات المغربية فريدة في نوعها خاصة في شهر رمضان؛ فالصوم واجب ديني. وما إن ينطلق أذان المغرب حتى يبدأ المغربي بأكل الحلوى وشرب الشيشة وربما لعب الطاولة والدومينو وربما المعاشرة الجنسية. ويبدأ الإفطار في الساعة الحادية عشرة ليلا بعد صلاة التراويح ، ثم يبدأ الخروج إلى الشوارع للسمر ولقاء الأصدقاء. أما السحور فقبل الفجر بقليل مع صلاة الفجر. يوم الجمعة أكل السكسك «الكسكسي»، مقدم بالخضار واللحم وليس بالسكر والزبيب في الأفراح كما هو الحال عندنا في مصر، ويقدم على مائدة مستديرة يجلس عليها الضيوف وما تبقى يعطى لأصحاب المنزل، ثم يقدم الشاي الأخضر. واللباس المغربي للسيدات جلباب أخضر طويل، عليه نقوش من خيوط الذهب الصفراء، وتضع السيدة جميع أنواع الحلي في وجهها وعلى صدرها. أما الرجل فيلبس القفطان المغربي الطويل وعلى رأسه الطربوش الأحمر ذو الزر الأسود، وفي قدميه الخف المغربي، لم يتفرنس كما هو الحال في الجزائر وتونس . الحديث عن الدين يسبق الحديث عن السياسة، مؤمن بالقلب ومنفتح حر في السلوك، يتكلم العربية الفصحى قدر الإمكان بالرغم من وجود اللهجة المغربية.
والفقر في المغرب مثل الفقر في مصر، وسكان العشوائيات في المغرب مثل سكان العشوائيات في مصر، والقصور في المغرب مثل القصور والتجمعات الجديدة في مصر، والبطالة في المغرب مثل البطالة في مصر، ومغادرة الأوطان إلى أوروبا في المغرب مثل مغادرة الأوطان في مصر. المرأة في المغرب تعمل ربات بيوت، وتسمى في مصر «شغالة»، وأكثرهن في المغرب، ولكنها تتأنق وتلبس خير ما عندها من حلي وجلاليب مغربية، عملت لدينا أكثر من واحدة تطبخ وتغسل وتنظف. وإذا خرجت الزوجة من المنزل لعملها فإن الشغالة تقوم بباقي الواجبات للرجل مثل إعداد القهوة وغير ذلك، وقد تقوم بما تقوم به الزوجات حين غيابها. والمنزل المغربي منزل عربي أصيل، الديكورات العربية والأرابيسك والأقواس العربية، ما تبقى من الأندلس. في قلب كل مغربي يسكن قصر الحمرا بأعمدته ونوافذه ونوافيره المتسقة. والخضرة في ربوع المغرب تجعله جنة على الأرض، الورود بكافة ألوانها، والروائح العطرة التي تنافس روائح الورود. وتمتد المغرب من طنجة شمالا إلى العيون جنوبا إلى وجدة شرقا، جبال وتلال ونخيل وأشجار. من يعشق الحياة يحب أن يعيش فيها، ومن يعمل عقله؛ فالطالب المغربي خير محاور، ولغته العربية الفصحى سليمة، والابتسامة على وجهه، لا يعبأ بالزمن ، يفضل الاستمرار في الجامعة على أن يتخرج ويصبح عاطلا، وبالرغم من بعده عن الوطن العربي مثل مصر إلا أنه يحمل همومه، وفي قلبها فلسطين، وكما قال الجابري: تمشرق المغرب وتمغرب المشرق. وما زالتا مدينتا سبتة ومليلة تحت الاحتلال الإسباني، لا تثاران في السياسة المغربية خشية أن تطرد إسبانيا المغاربة من على أرضها، طابعها أوروبي وليس عربيا، العرب فيها يهربون ما يستطيعون رجالا ونساء، ولهم أسواقهم، تتركهم إسبانيا في المدينتين يدخلون ويخرجون في مقابل الاحتفاظ بهما إسبانيتين، وتتحول المدينتان إلى غصة في القلب، وأنا ابن جيل التحرر الوطني.
كانت طنجة مثلهما ثم تحررت، فلماذا لا تتحرر المدينتان أسوة بطنجة وسنغافورة وهونج كونج وكيب تاون وربما أيضا قناة السويس قبل اتفاقية الجلاء 1954م والتأميم 1956م.
ومرة دعاني حزب الاستقلال لألقي محاضرة في فندق فاس عن «نظام الحكم في الإسلام». فقلت ما يعرفه الجميع، صغيرا وكبيرا، مؤمنا وملحدا، أنه ليس نظاما إلهيا أو ملكيا أو وراثيا. واستشهدت بآية
صفحة غير معروفة