السيد يس، محمد عمران، فكنا نمثل الطلبة الدارسين في فرنسا، اثني عشر طالبا، ثمانية اشتراكيون وأربعة لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة مثل الإعفاء من جمارك العربات، توفير سكن مناسب أو سرعة التعيين. وقد اختير هذا الوفد بناء على انتخابات عامة من جميع الطلاب الدارسين في فرنسا، وحدث نفس الشيء في ألمانيا وإنجلترا، وكان التجمع الرئيسي في فرنسا، ومنها الطائرة التي نقلت الطلبة من باريس إلى القاهرة في يونيو 1966م وأعادتهم إليها، ينتقلون بعدها بالقطار إلى مقار دراساتهم في فرنسا أو خارجها؛ فما أسهل المواصلات الأرضية داخل أوروبا !
وفي هذا العام قمنا بنشاط سياسي في الموضوعات التي تحدثنا فيها مع المشير مثل الطبقة الجديدة في مصر، طبقة كبار الضباط والمديرين ورجال القطاع العام، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، والخوف من هذه الطبقة أو تضخمها. وكان تجمعا للطلبة التقدميين، نستعد فيه للقاء جمال عبد الناصر، وكان كل منا يكتب بحثا في تخصصه في أحوال مصر الاقتصادية والسياسية والثقافية؛ فكتب حسام عيسى عن أحوال مصر السياسية، ومحمود عبد الفضيل عن أحوالها الاقتصادية، والسيد يس عن أوضاعها الاجتماعية،
3
ورشدي راشد عن أحوالها الثقافية، وحسن عبد الحميد وأبو زيد رضوان ومحمد عمران عن أوضاعها القانونية، وأنا عن استقلال الجامعات، وكان البعض الآخر يجهز نفسه لخطاب شفاهي دون أن يكتب. وكان سيد يس في إحدى الجامعات الإقليمية مثل ديجون، وكان يأتي إلى باريس فأترك له غرفتي ليقضي الليلة فيها في البيت الألماني، وكنت أذهب لآخر الليل في مكان آخر، يقول هو مع صديقتي. والجوهري كان مدرس الطبيعة النووية. وأعددنا ملفا كاملا عن أحوال مصر لإعطائه إلى الرئيس عبد الناصر في الصيف عندما نقابله، ونحذره فيه من أي مواجهة مع إسرائيل لن تكون في صالح مصر. وكنا نغني: «لك يا مصر السلامة، وسلاما يا بلادي، إن رمى الدهر سهامه، أتقيها بفؤادي، واسلمي في كل حين.» وكان اللقاء في أغسطس 1966م في أكبر مدرج بجامعة الإسكندرية، وهو في قصر الطاهرة، واستمر لمدة أسبوع، انتهى بتصويرنا معه صورة تذكارية أمام قصر الطاهرة. وكان من أبرز التساؤلات: هل ما يحدث في مصر اشتراكية غربية أم تطبيق عربي للاشتراكية؟ فالاشتراكية واحدة نظريا، وإن كانت متعددة عمليا. وهو نفس السؤال الذي سأله سيد قطب في مرحلته الأخيرة: هل هم المسلمون أم جماعة من المسلمين؟ وسلمناه ملف الدراسات عن أحوال مصر، فأتانا اليوم التالي يعبر عن إعجابه بها، ولكنه يخشى من التطرف من الاشتراكيين كما يقال الآن عن تطرف الإخوان. وطلبنا منه أن يعاد كتابة الميثاق حتى لا يسمح بالفارق الطبقي أكثر من 1:10 والذي هو الآن واحد إلى عدة ملايين بل مليارات. وفي نهاية المؤتمر نشأ بيني وبين رشدي راشد حوار؛ أنا أستعد للعودة إلى مصر، وهو مصمم على البقاء في فرنسا حتى أصبح عالما كبيرا في تاريخ الرياضيات، وحصل على الدكتوراه لأبحاثه
Sur Travaux . وحاول إنشاء معهد لتاريخ العلوم بمكتبة الإسكندرية، ولكن لم تنجح الفكرة لغياب صاحبها. وحاولت إقناعه بتأسيس شيء في جامعة القاهرة من الجوائز التي يحصل عليها الطلاب ولكنه لم يستسغ الفكرة على خلاف مجدي يعقوب وأحمد زويل، بالرغم من توفر المال لديه من الجوائز التي نالها خاصة جائزة فيصل الإسلامية، بينما تقدم ناشر «من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه» لنيلها فحجبت الجائزة هذا العام. ودعوته أستاذا زائرا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، فكان بينه وبين الطلبة فرق شاسع في المستوى. ودعوته إلى إلقاء محاضرة عامة في المجلس الأعلى للثقافة باسم لجنة الفلسفة، فحضر القليل، وغادر أمين لجنة الفلسفة احتجاجا على هذه المحاضرة التي يعلو مستواها على مستوى الحاضرين. وتذكرت كلمة جان جيتون التي كتبها في آخر صورة بعثها إلي: «يجب الرهان»
Il Faut Parier ؛ فقد راهنت على مصر والجامعات العربية والإسلامية، ونلت أعلى الجوائز في مصر، جائزة الدولة التقديرية 2007م ثم جاءت جائزة النيل 2016م والجائزة البولندية من رئيس جمهورية بولندا، وجائزة الشيرازي من الرئيس خاتمي في إيران. وهو راهن على فرنسا، ونال أعلى الجوائز من السعودية، فيصل، وأصبح من أشهر علماء تاريخ الرياضيات في الغرب - أطال الله في عمرينا لمزيد من العطاء. لا نتراسل كثيرا ولكني أراه كلما أتى في اجتماع مجلس إدارة مركز المخطوطات العربية بمكتبة الإسكندرية؛ فكلانا عضو في الإدارة السابقة. وكان قد أتاني مرة في مكتبة مدرسة اللغات الشرقية يعرض علي إذا كان يحجز لي من دخله الشهري الذي كان يحول إليه جزءا، وأخرج من يده ورقة فرنكات وقعت على الأرض، فاعتذرت، وشكرته.
وكان الطلب الوحيد الشخصي من وزير التعليم حسين كامل بهاء الدين هو نقل مكتبتي من باريس إلى القاهرة بعد أن كنت سلمت مفتاح غرفة السطح التي كنت أسكن فيها إلى السفير؛ لأنني سأغادر بالطائرة ، فطلب مني الوزير أن يوافق عبد الناصر، فانتظرته وهو خارج من المدرج وشرحت له الأمر، فوافق ومضى على الطلب على الفور، وانتظرت حوالي ستة أشهر، من يونيو حتى ديسمبر. وعاد الزملاء في مؤتمر المبعوثين إلى باريس في سبتمبر 1966م، وتخلفت أنا في مصر بعد أن كنت قد ناقشت رسالة دكتوراه الدولة في السربون في يونيو من نفس العام. ولأول مرة بعد المناقشة أسير في شارع بول ميش خاوي الوفاض من هموم العلم وكأني سائح، كان همي فقط شراء النصوص الفلسفية التي تنقصني من مكتبات النصوص الفلسفية خاصة عند فران
Vrin
وأوبيي
Aubier
صفحة غير معروفة