وبعد أن طال المرض وطالت رقدتي على الفراش عدة شهور متواصلة، ظهرت قروح الفراش، أسفل الظهر، وعالجتها بصعوبة بالغة. ومنعني الأطباء من الجلوس على مكتبي؛ فالساقان لا بد أن تكونا مرتفعتين إلى أعلى، حتى لا يتدفق الدم والماء إلى القدمين فيتورمان.
ثم مرة أخرى أخذوا عينات من تحت إبطي لتحليلها، وجاءت النتيجة سلبية. وكانت نتيجة تحليل الدم تظهر احتياجي للبلازما.
وبدأ نظري يضعف أكثر فحاولت علاجه بقطرات العين الدائمة صباحا ومساء، ولكني ما زلت غير قادر على القراءة والكتابة؛ ولذلك أجريت عمليتي المياه الزرقاء والبيضاء، وحقن الأطباء عيني ثلاث مرات بعلاج يساعد على تحسن النظر، ولكن لم يقو بصري.
ثم لاحظ الأطباء عند تحليل الدم بأن نسبة البلازما قليلة، أقل من المتوسط، نتيجة لالتهاب بالدم؛ فدخلت المستشفى عدة مرات لإجراء عمليات نقل الدم.
ثم أصبت بهبوط ضغط الدم؛ فأوصى الأطباء بعلاج لتنظيم الضغط.
ومرة وقعت على الأرض كنت بغرفة النوم، فتعثرت بطرف سجادة فانكسر الحوض بسبب الوقوع، فأجريت لي عملية لتركيب مفصل صناعي معدني بدلا من الذي انكسر. رقدت بعدها على الفراش عدة أشهر وأنا غير قادر على الحركة. لم أستطع حتى إجراء جلسات العلاج الطبيعي.
ثم زاد تدهور نظري إلى حد لم أستطع الرؤية سواء للقراءة أو الكتابة ولا حتى النظر للشاشة الضوئية. فاستعنت بجليستي ومعاونتي على القراءة والكتابة.
وما إن التأمت جروح السكر حتى استعنت بالعلاج الطبيعي لمساعدتي على النهوض والجلوس والسير بمساعدة المشاية ولو لخطوات قليلة.
وبعد أن كنت أملأ العالم سياحة وحضورا للمؤتمرات والندوات في مصر والخارج، استلقيت راقدا على الفراش شبه ضرير وشبه عاجز. فإذا قمت فإنني أستعين بكرسي متحرك يدفعه مرافقي الممرض والمقيم عندي منذ خمس سنوات. أنفعل عليه وينفعل علي ولكني لا أستطيع العيش بدونه. يرافقني في كل مكان، في المستشفيات، وفي السفر إلى المؤتمرات بالخارج؛ فهو خير رفيق وممرض، يعاونني على حياتي الخاصة، أتعب وأحزن لغيابه أثناء الإجازات حيث يعيش بقرية الصفط بمحافظة المنيا، يغيب أسبوعا، أو أكثر، وأستعين ببديل أقل خبرة ولكني أتحمل حتى يعود مرافقي وممرضي الأول. وهو على مستوى عال من الثقافة والفن؛ يضحكني بالنكات، ويسرني بالغناء لي، ويطلعني على أهم الأخبار في مصر والعالم، وآخرها تشبث الرئيس الأمريكي بالبيت الأبيض، ورفضه تسليم الرئاسة لخليفته، وقيام أنصاره بالهجوم على مبنى الكونجرس، وتحطيم زجاجه دون أن يقول آخر: «العنف في أمريكا» كما يقال عن العنف عندنا في الوطن العربي والعالم الإسلامي. وكان يحضر لي المراجع المطلوبة على رفوف مكتبتي ويرجعها بعد أن عجزت عن النزول للمكتبة؛ وذلك لأن السلالم مرهقة نزولا وصعودا. يتحمل عناء الأتربة نظرا لهجران المكتبة فترات طويلة، ولأنني كنت أستخدم مكتبي بالطابق العلوي فلا أضطر للنزول والصعود. كان يعرف أماكن الكتب وموضوعاتها، كان يكفيني أن أشير إلى الدولاب ورقم الرف المطلوب ومن بين مئات الكتب وعشرات الدواليب يحضر المطلوب بشكل دقيق، يعرف النسخ المطلوبة، وعناوين موضوعاتها الملصقة على كل رف كما هو الحال في المكتبات العامة الضخمة، لم يكن يخطئ، ويحضر لي المطلوب فورا، فساعدني ذلك كثيرا.
أدركت قيمة الصحة وقيمة الجسد، وندمت على إهماله، وكيف فرض علي نفسه عندما أصبحت شيخا كبيرا. وماذا كنت أفعل وأنا في سن الشباب وكلي حركة وحماس ونشاط للعمل، وكأن روحي لا جسد لها. وكنت أسخر من الفلاسفة المعاصرين الذين يجعلون الجسد مركزا للكون؛ يتحرك في المكان، ويتكلم، ويجادل، ويصارع، بل ويحب، وأتهمهم كما يفعل السلفيون حاليا بأنهم ماديون. وعرفت بعد ذلك أن الجسد هو الذي يحمل العقل والروح، فبدون الجسد يختفي العقل، وتختفي الروح، والجسد هو حاوي القلب، والقلب هو الذي يمد الجسد بحرارته، كما قال عمر الخيام:
صفحة غير معروفة