للمليك كلنا نفتدي
نحن في ظله
قد ملكنا الزمن
نحن من حوله
فدية للوطن
وكان التلاميذ في ذلك الوقت وفي هذه السن المبكرة يشاركون في المظاهرات دون انتظار حتى ما بعد الجامعة لو أمكن الصبر بالرغم من أن للصبر حدودا. وسمعنا أن في الجامعة مظاهرات «لجنة الطلبة والعمال» فخرجنا من المدرسة في مظاهرة ونحن نهتف، وذهبنا إلى باب الشعرية حيث كان يسير الترماي، وأمرنا السائق: «دور يا أسطى.» إلى الجامعة، فذهبنا إلى جامعة القاهرة، وشاركنا في المظاهرات التي فتح عليها القصر الكوبري، كوبري عباس، فسقط الطلبة في النيل واستشهد البعض الآخر برصاص الجنود، كما هو واضح في بداية فيلم «في بيتنا رجل»، قصة إحسان عبد القدوس. وسمعنا باستشهاد عمر شاهين وعبد الحكيم الجراحي. وقد سمي مدرجان بآداب القاهرة على اسميهما قبل أن يتغيرا إلى مجرد أرقام 74، 78 حتى لا يتذكر الطلبة الحركة الوطنية، ومع ذلك النصب التذكاري أمام بوابة جامعة القاهرة الرئيسية، وفي آخر كوبري الجامعة تمثال نهضة مصر. وأخفيت ذلك عن الأسرة، وعدت من نفس الطريق إلى المنزل وكأنني عائد من المدرسة. وكانت هذه أول مرة يكون لي فيها نشاط سياسي في هذه السن المبكرة. وقضيت في مدرسة السلحدار الابتدائية ثلاث سنوات (1945-1948م).
وفي عام 1948م انتقلت إلى مدرسة خليل أغا الثانوية بشارع الجيش، وكان بها أيضا بعد الظهر «مدرسة تحسين الخطوط الملكية» في البدروم. ويلاحظ أن أسماء المدارس كانت كلها تركية أو مملوكية مثل: سليمان جاويش، السلحدار، خليل أغا. وفيها ازدادت نسبة التعليم والنضج. وكان بها قسط من الرياضة البدنية، واشتركت في «الجمباز» وأخي سيد في المصارعة، كما اشتركت في فرقة الرسم، وكنت أهوى رسم «البورتريه» صور الموسيقيين، مثل بيتهوفن وشوبان، أو الشعراء، مثل شوقي وحافظ. وكانت طريقتي هي تقسيم الصورة الصغيرة إلى مربعات أصغر، ثم أبدأ الرسم بتكبير هذه المربعات عشر مرات تقريبا، ثم أبدأ برسم كل مربع حتى تكتمل الصورة على فرخ ورق كبير. وقد علقت صور بيتهوفن وشوبان وشوقي وحافظ على حائط غرفتي أنا وأخي سيد، التي كانت تطل على السطح. وعندما غادرت إلى فرنسا في عام 1956م لم أعرف ماذا أفعل بهذه الصور؟ أتركها معلقة على الحائط أم أخلعها وأحتفظ بها في مكان ما؟ السطح وفوق أحد الجملونات. وفعلت، وأفسدتها مثل كل البلي. ويا ليتني احتفظت بها في مكان أمين كجزء من الذكريات المبكرة والجلوس على المنضدة هذا الوقت الطويل كما فعلت ذلك فيما بعد من أجل الفلسفة. كان همي أن آخذ أوراق الأفكار المتناثرة التي أدون فيها أحلامي بمجرد الاستيقاظ! وأخذتها معي إلى فرنسا عن الفكر والواقع، وتركتها في حقيبة في غرفة الحقائب في بيت الطلبة الألمان بالمدينة الجامعية بباريس. كما اشتركت في فرقة الموسيقى وأخي في التمثيل مع أبو زهرة. أما جمال إسماعيل فقد كان في المدرسة الخديوية، وكانت فرقتا التمثيل بالمدرستين تلتقيان لتكوين فرقة مشتركة. وتعلمت النوتة والصولفينج. وكنت أنا ورفيق العمر محمد وهبي عبد العزيز، الذي أصبح مستشارا في جامعة الدول العربية، نذهب إلى معهد شفيق للموسيقى في عابدين والملاصق لسور القصر، وكان عم وهبي - وهو عازف كمان في فرقة أم كلثوم - يدفع له المصاريف، وأنا لا أستطيع أن أدفع شيئا ولو خمسين قرشا في الشهر. وهناك تعرفنا على العلمي عازف الكمان، ثم قدم لنا عم وهبي في معهد الموسيقى العربية في شارع رمسيس ببنائه العربي، وكان هناك امتحان قبول في مادتي العزف والصولفينج، وأوصى عم وهبي المدرس الأرمني على وهبي فنجح، وأنا نجحت في العزف ولكني لم أستطع تقليد الأصوات؛ فقد كنت أسمع جيدا نغمة البيانو ولكني لا أستطيع تقليدها، وذهبت إلى علي إسماعيل ليوصي علي، ولم أدر إذا كان فعل أم لا. حزنت انفعالا، وقد تكون هذه التجربة إحدى علامات الاتجاه كلية نحو الفلسفة. وقد تكرر هذا الخيار بين الموسيقى والفلسفة وأنا في فرنسا بتجربة مرضية، إرهاق سنتين بدراسة كليهما واحتمال الإصابة بالسل في الرئتين. وتذكرت
ألا تعدلوا . وقد حاولت العدل ولكني لم أستطع. وتذكرت تجارب أخرى دفعتني إلى الفلسفة طبقا للمثل الشعبي: «أبو بالين كداب» وكان معنا أيضا المغني الأول العزبي الذي غنى في فرحي، وترددت هل أعطيه أجرا أم لا؟ وإذا أعطيت، خمسة أم ثلاثة جنيهات؟ وكان لدينا نظام الثقافة بعد أربع سنوات؛ حيث لا تخصص، والتوجيهية بعد خمس سنوات؛ حيث يختار الطالب بين ثلاث شعب: علمي، أو رياضة، أو فلسفة. لم أكن أفضل العلم؛ فهو دراسة للطبيعة. ويبدو أن اتجاهي كان دراسة الإنسان دون أن أعرف. ولما كان أدبي به شعبتان أدبي رياضة وأدبي فلسفة، وكان العقل أحد ملكات الإنسان، فاخترت أدبي رياضة. ودخل أستاذ الرياضيات، وكان أعرج عبوسا، وملأ السبورة السوداء بمعادلات بالطباشير الأبيض لم أفهم منها شيئا، فحولت في الحصة الثانية إلى أدبي فلسفة، ثم صرح المدرس بعد ذلك أنه قصد أن «يعقد» الطلبة؛ فمن كان هشا ترك، ومن كان صلبا بقي، ثم شرح هذه المعادلات التي هربتني منه بعد ذلك معادلة معادلة
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . وذهبت إلى أدبي واستمعت لأول مرة إلى الشعر العربي فتذوقته. بدأت أتذوق الآداب، القصة والرواية والشعر. وكان أستاذ الأدب يتكلم من قلبه، يريد أن يسمعه الطلبة ولا يكتبون وراءه شيئا. وكان أستاذ الفلسفة عقلانيا، يشرح تاريخ الفلسفة، ويعيرنا كتب أفلاطون وأرسطو، والبعض منا لم يشأ أن يرجع كتب الأستاذ بعد التخرج، فمنع تسليم شهادته حتى يرجع الكتب، وهو ما حدث بالفعل. وكان مدرس التاريخ «أبانوب» ضخم الجثة ولكنه حلو الحديث، يبدأ الدرس بآخر نكتة، يضحك هو أولا قبل التلاميذ حتى يضحكوا ويأخذون عليه. كنا نحبه إنسانيا واجتماعيا، ولكن التاريخ لديه رصد للحوادث، وهو ما لا تشتهيه النفس؛ لأنه خال من النزعة الإنسانية. والعقل والفن - أي الفلسفة والفن - عوضاني حنيني للموسيقى، في حين أن هيجل هو الذي اعتبر الأوبرا أعلى الفنون لجمعها بين الشعر والموسيقى. وفي هذه الأيام أعلن عن مسابقة التوجيهية في الشعب الثلاثة ، ومن الأدبي الفلسفة، فدخلت المسابقة وكان ترتيبي الأول على القطر مما شجعني على دخول قسم الفلسفة بآداب القاهرة بالجامعة. وأقامت مدرسة خليل أغا الثانوية حفلا لتكريمي، دعي فيه أستاذ الفلسفة عثمان أمين، وكنت أراه بوجهه الضاحك الأشقر، وكان هو الذي وضع سؤال المسابقة عن مقارنة الشك بين ديكارت والغزالي. وأحضر مدرس الفلسفة جاتوه وحلوى للمناسبة، وقمت بعزف قطعة من الموسيقى الشرقية أمام الجميع، وسارت شائعات بأنني أخذت ما تبقى من الحلوى في علبة الكمان! ولا أدري كيف تدخل الحلوى داخل جراب الكمان وهي موجودة! ووضع اسمي في لوحة الشرف مع أوائل الطلاب والناجحين في مسابقة العلوم والرياضيات على مدخل المدرسة بجوار حجرة الناظر. وأخذت مكافأة عشرين جنيها وزعتها، خمسا لوالدي، وخمسا لإخوتي، واشتريت كمانا بخمسة جنيهات، وساعة بخمسة أخرى. وكانت الجامعة ما زالت بمصاريف إلا للمتفوقين كما ثبت من مسابقة التوجيهية ثم من امتحان الثانوية العامة الذي حصلت فيه على 77,5٪. ثم قامت الثورة في يوليو 1952م، وقررت أن يكون التعليم الجامعي مجانا مثل التعليم العام الذي قرره طه حسين وزيرا وفديا للتعليم بعبارته الشهيرة: «التعليم كالماء والهواء.»
واكتشافي المرأة كان تدريجيا. البداية بصالحة أخرى في الشباك الذي أمامنا بجمالها وبياضها وكانت لها أولاد، وأكبر مني سنا، لكنه كان حب المراهقة. أما التجربة التي هزتني هي تجربة جارتي (الشابة) نعيمة بنت الكبابجي الذي على ناصية الشارع البنهاوي ودرب الشرفا . ولم يكن جزارا باللحم بل كان بائع كبدة يعدها في المنزل ويقليها في الدكان فتجلب الزبائن. كانت الشقة السكنية بجوارنا، وقلي الكبدة في الحوش فتملأ المنزل كله، وكانت رائحة الثوم تسيل اللعاب على نقيض الكبدة الإسكندراني المطبوخة والتي لا يمكن التمييز فيها بين المطبوخ والنيئ؛ فكلاهما بدمه. كانت تساعد أباها مع أمها في إعداد الكبدة، وكانت الأم تقوم بكل شيء، وتكون الشابة بمفردها في السكن، وكنت أنا لا أذهب إلى المدرسة لإعدادي مسابقة التوجيهية. وكان هناك شباك في الحائط الفاصل أصعد إليه لأناجيها. لا أدري إن كنت أحبها أم أحب صفاتها: البياض، الطول ، الحيوية، الابتسامة، وربما لا أدري ما هو الحب إلا إحساس باطني يدفع الإنسان إلى فعل لا إرادي بصرف النظر عن الخطأ والصواب وبصرف النظر عن الهدف والمستقبل، يرانا الطالع والنازل على السلم ونحن نتناجى، والشباك الآخر الرئيسي بجوار شباكها نتكلم من خلالهما، ونحن مكشوفان للجار في الحارة ولأبي صلاح صاحب الفرن الذي فوقنا، وفرنه أسفلنا على ناصية درب الشرفا وعطفة العبساوي؛ ففضحنا أنفسنا بأنفسنا إلى أن جاء يوم زواجها وانتقالها إلى بيت «العدل»، غنت لي أنها تتركني على عينها. وكان الجيران يحذرونها من «يد الهون» ولم أفهم الرمز وقتها كما يحرم السلفيون الآن، بعضهم وليس كلهم، استعمال المنقار لتكوير الكوسة والبطاطس والباذنجان. وكانت فترة حزن شديد، رجف القلب آخر يوم لها في المنزل. خرجت معها مرة واحدة، هي بالملاية اللف وأنا بالبدلة والكرافتة يسير كل منا بجوار الآخر، ووجهها في الأرض، وأنا أسمع تعليقات المارة: «مش كده يا أستاذ!» وذهبنا إلى المصوراتي وأخذنا صورة معا، وكان هذا أقصى ما يستطيع الحبيبان الغشم أن يفعلاه في الأحياء الشعبية. عرف ذلك الوالد ومنعني، وقال إنه يخشى على أخواتي مني، وشتان بين الموقفين، الأخت والحبيبة، عشق الروح وعش الجسد. كنت أحب الجمال والحيوية والظرف؛ أي القدرة على النكات مع المرأة، وأنا فنان، رسام وموسيقي. أرسمها وألحن لها، ولو كنت شاعرا لغنيتها في قصيدة حسن ونعيمة. كان مصيري هو مصير نجيب الريحاني ومصيرها مصير أنور وجدي في «غزل البنات».
صفحة غير معروفة