8
وبعل وعشتروت، وفي صيدا بعل وعشتروت وأشمون، وفي قرطاجنة حيث كانت جالية منهم تانيت وبعل حمون وأشمون، وفي جبيل إيل وأدونيس وبعلة جبيل، وكان كذلك في مصر فكان في تاب أمون رع وهو الإله الأعظم، وموت زوجه، وخنسو ابنه. وكان الثلاثة إلها واحدا. ثم إن الفينيقيين قد حفلوا أكثر من سائر الأمم بأمر القرابين، وتغالوا فيها حتى إنهم كانوا يضحون بأبناء نوعهم للآلهة، قال برو في كتاب له في تأريخ الصناعة في القدم: «ليس في آثار المصريين، أو الكلدان ما يدل على أن هؤلاء الأقوام أكرموا الآلهة بالضحايا البشرية، بل انفرد السوريون بذلك، ونقلته جالياتهم إلى قرطاجنة، وكان يسوغ لهم أن يستبدلوا الضحايا البشرية بحيوانات وطيور من الأوالف والدواجن، أو أن يعتاضوا عنها بشيء من النصب أو التماثيل، إكراما للآلهة أو بخدمة هياكلها مدى العمر أو شطرا منه.» وقال بعض الباحثين في أحوال الفينيقيين: «إن العشائر الكنعانية لم يكن لها في أقدم أيامها هياكل ومعابد، بل كانت تعبد آلهتها على قمم الجبال والمشارف، فتنصب عمودا أو صخرا تسميه بيت إيل.» والحال أن صناعة إشادة الهياكل قديمة في الفينيقيين بدليل قدم عهد الهيكل الذي شادوه في صور، وهو هيكل ملكرت، واستدعاء سليمان المهندسين الفينيقيين إليه لبناء هيكله. وأما إيل وبيت إيل وغير ذلك مما يختص بإيل فلا يبعد أن يكون مأخوذا أمر العبادة فيه عن الآراميين أسلاف الكنعانيين في بعض المدن الفينيقية مثل جبيل وغيرها، ومما يثبت هذا احتفاء الآراميين بهذا الاسم وتبركهم به أكثر من غيرهم من جميع القبائل، كما يدل عليه إضافة أسماء ملوك الشام إليه وشيوعه بين إخوانهم بني إسرائيل، ثم إنهم - كما أخذوا عن الكلدان وعن المصريين شيئا من عبادتهم - فكذلك أخذوا عن الآراميين. وقد جاء في سفر الملوك وصف كهنة بعل وعشتروت عند الفينيقيين كيف كانوا في أعيادهم يلبسون ملابس النساء، ويخضبون وجوههم، ويزججون حواجبهم، ويكحلون عيونهم، ويعرون أيديهم إلى الكتف، ويشهرون السيوف، ويتنكبون الحراب، ويتأبطون الدفوف، ويرقصون، ويضجون، ويلوثون شعورهم بالأوحال، ويخدشون جسومهم بالسيوف والحراب، وكيف فتك إيليا النبي في ثمانمائة وخمسين منهم، جمعهم آخاب ملك إسرائيل ليبلوا عبادتهم لبعل، فذبحهم النبي عن آخرهم حذاء نهر قيشون عند الكرمل. وأما ما بقي لنا من آثار الفينيقيين من حيث المباني فهو قليل جدا بالنسبة إلى ما بلغوه من الترقي في الصناعة والتقدم في سلم الحضارة، وربما كان السبب في ذلك أمور منها أن هؤلاء الناس لم يكونوا يحفلون كالمصريين وأهل ما بين دجلة والفرات بالمباني الفخمة الضخمة لكثرة الحجر عندهم وندوره عند هؤلاء، والنادر عزيز في كل آن ومكان، أو لأن الفينقيين قوم عملوا على مسالمة الناس لينصرفوا بجملتهم إلى التجارة وجمع الثروة فحصروا افتخارهم في هاته الوجهة ، فلم يقم فيهم ملوك يطرقون أبواب الجاه بتوسيع نطاق المملكة بالغزوات والحروب وتكليف الأسرى تشييد الأهرام وما شاكلها من المباني الضخمة حفظا لآثارهم وإحياء لجاههم، وإما لأن المتسلطين على البلاد الفينيقية على اختلاف أجناسهم وتباين مذاهبهم عمدوا إلى تدمير تلك المباني لعلة دينية أو لعلة أخرى؛ كأن الحاجة اضطرتهم إلى إقامة الأسوار من حجار تلك المباني. ومما بعث على قلب الآثار الفينيقية - ولا سيما ما كان منها في المدافن من المصنوعات البديعة - الطمع في الكنوز؛ فقد قال لانورمان: «ليس في جميع الأقوام من يحاكي الفينيقيين في دفن الأشياء النفيسة مع موتاهم. ويتبين مما كتب على مدفن ملكين من ملوك صيدا، وهما تبنيت وابنه أشمون عازار، من الدعاء على من يمس قبريهما بأذى. إن سرقة الكنوز من تلك المقابر كانت قديمة العهد، وقد استفحل أمرها كثيرا في هذه الأيام، ورب سرقة كنز من تلك الكنوز أفقدت العلم بأحوال الأمم السالفة كنوزا لا تقدر قيمتها، وأما مدافن الفينيقيين فقد وجد منها كثير في صور وصيدا وجون وبرجا، وهما قريتان في إقليم الخروب وبيروت وجبيل وغيرها من المدن والقرى، وهي منقورة في صخور منها ما يشتمل على قبر واحد، ومنها ما يشتمل على أكثر من قبر.»
قد أسهبنا في الكلام على الفينيقيين؛ لأنهم هم الذين عمروا سواحل لبنان في الأعصر القديمة، وكان لهم المقام الأول في الحضارة والتمدن، ولكن لما كان غرضنا مقصورا على لبنان بحسب تحديده الإداري في الحال الحاضرة، وكان الذين كتبوا تاريخ سورية قد استوعبوا في كتبهم ما يشفي الغليل من بيان أحوال الفينيقيين وما حدث لهم مع الآشوريين والمصريين والفرس واليونان والرومان والعرب؛ رأينا من اللازم أن نتقيد بهذا الغرض وأن لا نخرج عنه إلا لما يلتحم به من المواد التحاما مكينا.
لقد عجب بعض المؤرخين كيف أن اسم لبنان بقي من العهد القديم إلى الآن خلوا من شوائب التحريف والتبديل مما عرا غيره من الأسماء؛ مثل سورية وفينيقية وغيرهما من الأسماء التي أطلقت على ما أطلق عليه لبنان من الأرض، وعندنا أن السبب في ذلك البقاء أمران عظيمان في جملة أمور أخرى أقل عظما منهما، أحدهما يتعلق بالأحوال الدينية، والآخر بالأحوال السياسية، أما الدينية فلأن ذكره وارد في الكتاب موارد الأذكار المقدسة؛ فقد جاء في العدد السادس عشر من المزمور 103: «تروي أشجار الرب أرز لبنان التي غرسها.» وقال النبي حزقيال وغيره من رجال الله في الكتاب أقوالا يؤخذ منها أن لبنان كان ينظر إليه بعين التكريم والاحترام، وزد على ذلك أنه كان مظهرا للإله الذي كان له المقام الأول بين آلهة القدماء، نريد الإله إيل الذي استغاث به يسوع وهو على الصليب، وأما السياسية فلأن دماء الناس بالغزو والفتح لم تغسل بياض لمته الذي أكسبه ذلك الاسم، فإنه كان في غالب الأحيان والأحوال كجزيرة في بحر من الدماء؛ فالاسم الذي وضع له إنما وضع لمزية بادية فيه لا يمحوها كر الأيام وتوالي الأعوام، وأيضا فقد كان لخشبه في عالم الدين وعالم الحضارة أثر ذاع أكثر من غيره من الآثار، وبقي مدى الأدهار مصونا، فصان بذلك الاسم ووقاه، فلو سكتت الألسنة عن ترديده لنطق به هيكل سليمان ونشرته سفن الفينيقيين في جميع الأقطار.
أما ادعاء بعض اللبنانيين المسند إلى ما لديهم من التقاليد أن مهد الإنسان الأول في لبنان وأن الفردوس فيه؛ فهو مما لم يقم عليه دليل، ولم يثبته برهان، ومما ينفيه حكم العقل بداهة؛ لأنه يتعذر التصديق بأن الإنسان في حال الفطرة يستطيع أن يعيش في مكان من مثل ما يدعي اللبنانيون أن جنة الفردوس كانت فيه كوادي أهدن المسماة وادي قديشا، ولكن هو الميل إلى المفاخرة بالأصل يحمل الإنسان على ادعاء أمور كثيرة لا تنطبق على الواقع، فإن الهنود يدعون أن الفردوس إنما كان بسفح مهاترو من جبال حملايا. وقد قال يوحنا الدمشقي فيما يتعلق بتلك التقاليد: «إن عدنا الإلهي وضع أولا بنوع غير معروف في مكان مرتفع عن الأرض بأسرها في جهة كثيرة الاعتدال لا يعتريها أدنى تقلب في الأزمنة، أو الفصول. أما هواؤه فصاف ولطيف، ونوره معتدل، وروائحه ذكية، وربيعه وخضرته دائمان، وأزهاره لا تنقطع، وبالجملة فإنه يفوق بالبهجة والجمال جميع ما يقع تحت الحس، أو يخطر في المخيلة.»
وقس على ما تقدم جميع التقاليد اللبنانية فيما يتعلق بالآباء الأولين من مثل قايين وشيت وهابيل وغيرهم. والذي ذهب إليه غالب العلماء أن الفردوس كان في جوار ما بين النهرين، ولم يعينوا المكان تعيينا صريحا.
وقد سألنا أحد الأفاضل أن نتوخى في كتابنا هذا بيان سكان لبنان القدماء من أي الأصول الثلاثة كانوا، أمن سام أم حام أم يافث، وسألنا أن نبين أيضا حقيقة سكانه الحاليين أهم من بقايا السكان الأقدمين، فيتبين لنا مما مر حتى الآن أن الذين توطنوا لبنان بحسبما كان عليه في تلك الأعصر القديمة من سعة النطاق هم من الأبوين سام وحام، وهم الآراميون سكان دمشق وما حولها وسورية المجوفة، وربما امتدوا إلى شاطئ البحر فتوطنوا جبيل قبل الكنعانيين، والكنعانيون وهم سكان السواحل اللبنانية، وأما سكان لبنان اليوم فهم طوائف مختلفة يعسر إلحاق كل طائفة منها بالسكان الأصليين؛ فإن هذه البلاد كانت قديما - كما قلنا - موطن الكنعانيين وغيرهم من نسل سام وحام، ثم أتاها الآشوريون والمصريون وبنو إسرائيل والماديون، ثم استقلت مدة من الزمان، ثم أضيفت إلى مملكة مكدونية، ثم إلى المملكة الرومانية، ثم افتتحها العرب، وبعد ذلك غشيتها جيوش الصليبيين، ثم تملكها التتر والدولة العثمانية فصار سكانها من كثرة تعاقب الاستيلاء عليها وحلول الأقوام المختلفة فيها طوائف من أصول مختلفة، كما سيتبين ذلك.
إن أقدم ما اتصل بالمؤرخين من حوادث فينيقية إنما هو استيلاء الآشوريين عليها، فإن ديودورس قال: «إن فينيقية كانت من مملكة نينوس زوج سميرميس الشهيرة وهو ملك آشور في القرن الثاني والعشرين ق.م.» وقيل: في القرن العشرين. ورأى موفرس أن في الآثار ما يدل على اجتياز الآشوريين سورية وفلسطين مرتين؛ مرة قبل المسيح بألفي سنة، ومرة قبل المسيح بألف وثمانمائة سنة، وليس فيما وراء ذلك شيء ذكره المؤرخون أو دلت عليه الآثار القديمة، ثم عقب ذلك تسلط المصريين على فينيقية من أواسط القرن السابع عشر ق.م إلى آخر القرن الثالث عشر، وقيل: من أواسط الخامس عشر إلى أواسط الثاني عشر، فإن لانورمان يقول: «إن المصريين، وقد اشتدت عليهم وطأة ملوكهم الرعاة
9
وذاقوا تحت نير سلطتهم مرارة القسوة والعنف؛ أتوا آسيا الوسطى بعدما تيسر لهم طرد ملوكهم الرعاة الغرباء، وافتتحوها بقلوب ملؤها الحقد ونفوس ميالة إلى الانتقام، وأبلغ تطمس الفتح حتى الفرات. وآثار فراعنة مصر بادية على صخور نهر الكلب، وفي قرية عدلون بالقرب من صور، وفي المتحف البريطاني ورقة بابيروس تتضمن ما يدل على أن مستسفرا مصريا طاف المدن الفينيقية طوفة أرباب الحل والعقد؛ فأتى جبيل وبيروت وصيدا وسرابتا (أي صرفند)، ثم صور، ثم حاصور (وموقعها فيما يظن فوق بحيرة الحولة إلى جنوبي جبل الشيخ).» وكانت صيدا في هذا الزمن ذات سلطة على أكثر المدن الفينيقية، وأما جبيل فكانت مستقلة بنفسها منفردة في أعمالها جالياتها في سائر الأقطار منفصلة عن جاليات الصيدونيين، وهي فيما رأى موفرس أقدم منها أيضا.
صفحة غير معروفة