ولو كان المأمور المعزول ينقل دائما إلى منصب آخر لما عظمت البلوى، ولكن الويل كل الويل لمن عزل لسبب أو لغير سبب، وكان فارغ الجيب أو قصير الرجل عن اللحاق بأحد صنائع «المابين»، فلقد شهدت رهطا من هؤلاء المأمورين الذين لم يجمعوا ثروة فعزلوا وعاشوا على مضض الفقر والمهانة. عرفت مديرا للتلغراف عزل من منصبه فلبث سنين على بساط الفاقة ، ولما نشبت به مخالب الجوع عين ساعيا للتلغراف بإسعاف رجل من قدماء مريديه براتب مائة وخمسين غرشا. والفقر خير من الموت.
وأعظم من هذه البلوى ما كان يتقاضاه عمال «المابين» وأنصارهم من الولاة وكل ذي منصب مرموق، ولو أذنت لنا بعض المصارف والتجار بمراجعة دفاترهم لاستخرجت منها ألوفا وملايين من النقود التي كان يمتصها أولئك العمال من ثروة البلاد، فيرسلونها تحاويل إلى الأستانة، خلا ما كانوا ينفذون صرا ومنسوجا ومجوهرا ومنقوشا بزخارف الصناعة. ولقد شهد العالم ما كان من وجود الحوالات بالألوف وعشرات الألوف من الليرات في جيوب الذين قبض عليهم من أولئك المختلسين وهم ينوون الفرار من وجه العدل بعد إعلان الدستور في هذه الأيام.
وأعظم من هذا أيضا ما فشا من الزيغ في تعيين المأمورين على هوى ذوي النفوذ بلا فحص ولا تدقيق ولا نظر إلى السلك وسابق الخدمات. فكم من وال صعد إلى الولاية وهو يتمنى قبلها أن يكون في حواشي حواشيها، أو معتمد سياسي وقنصل لم يمر بحياته على أبواب نظارة الخارجية مع أن القوانين صريحة بمنع هذه المجازفة.
عرفت رجلا عين واليا بلا سابق خدمة وما كان أعتاه في ولايته. ودرويشا عين متصرفا فما كان أجهله فيها، وبات جميع أعوانه يتفكهون بالهزء منه.
ويجب أن نلحق بما تقدم عدم التناسب في الرواتب بين كبار المأمورين وصغارهم، فالكبير يتقاضى فوق راتب أمثاله في أوروبا والصغير لا يعطى الكفاف من العيش، ولا تكافؤ أيضا بين أفراد بعض الدوائر كالجمعية الرسومية ومجلس الشورى وغيرهما؛ حيث ترى عضوا براتب ألفي غرش إلى جانب آخر براتب عشرة آلاف.
وأضف إلى كل ذلك تأخر دفع تلك الرواتب أشهرا في بعض الأحوال وضبطها كلها في أحوال أخرى، وانظر إذا كان من الممكن كف يد العمال عن الرشوة ومخالفة قول مدحت باشا كما مر في باب: «الدستور ورجال الدولة.»
عرفت مثمنا بإدارة جمرك براتب ثلاثمائة غرش ينقد ناظره مائة وخمسين عثمانية كل شهر حق إغضائه عنه. وعرفت كاتب رفتية براتب ثمانين غرشا يعول عشرة أنفس وله حظية ينفق عليها الألفين شهريا. وعرفت بإزاء أمثال هذين كثيرين من ذوي الرواتب المعتدلة يشكون العسر، ومنهم واحد براتب ألفي غرش يقتر على نفسه وعلى عياله، ويشكو الفاقة؛ لأنه لا يصرف له في كل السنة إلا راتب ثلاثة أشهر.
فانظر الآن إلى كل هذه الصدوع وما ينشأ من رأبها بحكم الدستور؛ إذ يقلد المناصب أربابها وترتفع عن عواتقهم الضرائب التي تثقل عواتقهم فيثقلون عواتق الأمة، وتنظم أسلاك المستخدمين فيندرج كل في سلكه إلى حيث يسوقه جده وإخلاصه في الخدمة، وتتعادل الرواتب فيعطى كل جزاء عمله، وينتظم دفعها بلا تأخير، ويمتنع العزل بلا محاكمة، وتتمهد سبل الترقي بلا محاباة، ويعاقب المرتشون بلا رحمة ولا سبيل للرحمة بعد إزاحة تلك الأسباب من وجوههم. لا ريب أن رتق هذا الفتق وحده ينتج من الفوائد الناجمة عن انتظام الأحكام وراحة الآمر والمأمور وزيادة الدخل وإصلاح الأخلاق ما لا ينتجه بذل الملايين.
ولا يذهبن عن بالك أيضا أن إصلاح الحال يصلح بالطبع أخلاق الرجال؛ فلئن فسدت أخلاق معظم المأمورين في الزمن الماضي فذلك لأن قادة الأحكام كانوا كتلة فساد لا بد من تناثر جراثيمها إلى ما لصق بها، فلقد عرفنا نفرا ممن اتهموا أفظع التهم عرفناهم قبل استعلائهم واستقرارهم على منصات النفوذ، فكانوا أشد الناس تمسكا بالحرية وأشدهم تذمرا من الاستبداد وأكثرهم مغالاة بطلب الإصلاح، فلما ألقيت إليهم أطراف حبال الاستبداد كان لا بد لهم إما من التشبث بها طلبا للرفعة والمال والنفوذ، وهذا ما جنح إليه فريق منهم فاضطر إلى تناسي مذهبه القديم - كما أسلفنا - وإما من صرف الوجه عنها حرصا على الناموس أن يعبث به عابث وهو ما آثره فريق آخر فنبذ واطرح، ولولا إعلان الدستور لبقي حتى الآن في زوايا النسيان أو وهدة الهوان.
فلا ريب، إذا، أن إعلان الدستور وحده مصلح من أخلاق المأمورين الفاسدة في زمن الحرية والعدل ما لم يكن من الممكن أن ينجع فيه دواء في زمن الاستبداد والظلم.
صفحة غير معروفة