قيل: "ذلك قبيحٌ، وإِنما استحسنوه لجهلهم، ولذلك سُمُّوه جاهليّةٌ"، قلنا: ليس كذلك؛ وإِنما سُمُّوه جاهليةً بجهلهم بالشرائع. وذلك دليلٌ على ما نقوله من أنّ حَسَن الأفعالِ وقبيحَها بالمعنى المتنازَع فيه إِنما يعرفان بالشرع لا غير.
الوجه الثاني: إِنّ من استوى عنده الصدق والكذب من كلِّ وجهٍ، إِلاّ من جهة كونهما كذبًا وصدقًا، فإِنّه يُرجح الصدقَ. ولولا اختصاصه بصفةٍ كان لأجلها حَسَنًا، لما رجَّحه. وكذلك الملِلك العظيم يجد مسكينًا وحده في برّيّةٍ مشرفًا على الهلاك، فيميل إلى إنقاذه وليس ذلك إِلاّ لُحسن الإِنقاذ لا غير. إِذ الملك غنيِّ عن مكافأة المكسين، والفَرَضُ أنْ ليس هناك مَن يتشوّق إِلى ثنائه عليه بذلك.
والجواب أنّ ترجيح الصدق وإِنقاذ المسكين، إِن فرَضنا تساوى فعلهما وترِكهما من كلّ وجهٍ، بحيث لا يُتّبَع فيهما عُرف ولا إِلفٌن ولا يُدفَع بهما تألّمُ نفسٍ ولا نفرةُ طبعٍ، لم يُسلُّم أنَه يُرجح واحدًا منهما. وإِنما يَرجح أحدُهما لما سبق من اطّراد عُرفٍ، أو إِلفٍ، أو دفع ألمٍ أو رِقّةٍ. لأنّ العاقل إِذا رأى غيره هي شدّةٍ، جوَّز أن يكون هو فيها، ثم فرَض لحوقَها به. فيلحقه لذلك رقّةٌ وألمٌ، أو رقةٌ، أو ألمٌ، فيبادر إِلى إنقاذه دفعًا لذلك عنه.
الوجه الثالث: لو كان حُسنُ الأشياء وقبحُها إِنما يثبت بالشرع، ما قَبُح من الله شيءٌ. ولو كان كذلك، لجاز أن يُظهر المعجزاتِ على أيدي الكاذبين. وفي ذلك سَد بابِ معرفة النبوّات، لالتباس الصادق بالكاذب. ولجاز أن يأمر الله سبحانه خلقَه بكلّ قبيحٍ، كالكفر والجور والظلم والكذب، وينهاهم عن كلّ حَسَنٍ، كالإِيمان والعدل والصدق. وذلك محالٌ.
والجواب أنّه لا يقبح من الله شيءٌ. وإِلاّ لكان خلقُه لكلّ مفسدةٍ في العالم، وخلقُه للكفّار للنار، وخلقُه لإِبليس سببًا لإِضلال الخلق، وخلقه للطباع المائلة والشهوات المستميلة حتى تجذب المعاصي فيما بين ذلك، قبيحًا. وقد اتّفقنا على عدم قُبحِ ذلك كلّه. وأمّا جواز فعلِه ما ذكرتموه من المستقبًحات، فثابتٌ. ولو فعل ذلك كلّه، لم يكن قبيحًا؛ كالأشياء التي ذكرناها واتّفقنا على عدم قبحها. لأنّ ما ادّعيتم قبحه وما سلّمتهم عدمَ قبحه قبيحٌ بالإِضافة إِلى نظر العقل. فإِما أن تقولوا بالقبح في الجميع؛ فيلزمكم أنّ
1 / 90