وحُسن العدل والبرِّ، وكذلك سائر المعروفات والمنكَرات، حُسنُها وقبحها معلومٌ للعقلاء بالضرورة. ولو تَوقَّف على ورود الشرع، لما عُرِف قبله، ولا من ينكرِه. بل البراهمة من جملة حججهم في إِبطال النبوّات أن قالوا: "الفعل إِن دلّ العقلُ على حُسنه أثبتناه، أو على قبحه، أثبتناه؛ وإِن لم يدلّ على حُسنه ولا قبحه، فَعَلنا منه ما اضطررنا إِليه، وتَرَكنا ما لا ضرورة إِليه احتياطًا. وحينئذ نستغني عن النبوّات". فكيف يقال: إِنّ ما يُحتَج به على إِبطال النبوّات لا يُعرَف إِلا بها؟ هذا خُلفٌ.
والجواب: أنّا لا ننكر أنّ في الأفعال ما يُعلَم حُسنُه وقبحُه قبل الشرع، ولمن لا يقول بالشرع. لكنّ ذلك الحُسن والقبح إِنما هو بأحد المعنيين الأوّليين من أوجه الحُسن والقبح التي يُطلَق عليهما، كما سبق. وهما الميل والنفرة الطبيعيّان، أو صفة الكمال والنقص. فإِنّ المعروف والبرّ تميل إِليهما الطباعُ؛ وهما لفاعلهما صفتا كمالٍ. وضدّهما المنكَرُ والفجور، تنفر عنهما الطباعُ؛ وهما لفاعلهما صفتا نقصٍ. ولهذا يُمدح الإِنسانُ بأن يقال: "عادلٌ بار، فاعلٌ للمعروف، صادقٌ"؛ ويُذمّ بأضداد ذلك، فيقال: "جائزٌ فاجرٌ، فاعلٌ للمنكَر، كذابٌ".
وقد يُستحسن الفعلُ لدفعِ الأذى عن النفس؛ كإِنقاذ الغريق وإِعطاء المسكين، لدفع تأذّى النفس برقِّتها عليه. أو لاتّفاق العالَم أو أهلِ العلم على أنّه من المصالح الخاصّة أو العامّة، لا ينتظم أمرُ الناس إِلاّ به، كنفي الظلم والكذب. وهو راجعٌ إِلى ما ذكرنا أوّلًا.
وإِذا ثبت هذا، فليس النزاع فيه؛ إِنما النزاع في ربط الذمِّ والمدح والجزاء على الأفعال بحصول المفاسد والمصالح منها جزمًا في العقل. وما ذكر تموه ليس نظيرَه.
ثم ما ذكرتموه من استقباح البراهمة ونحوهم لبعض الأفعال قبل الشرع معارَضٌ بما كانت العرب في الجاهلية على كثرتهم وكمال عقولهم وحكمتهم، على ما دلّ عليه سيرتُهم ومحاوراتُهم نزمًا ونثرًا، تستحسِنه وتفتخر به، من إراقة الدماء، ونهب الأموال، وسبي العيال، وقهر الخصوم، وغير ذلك. فإن قلتم: "ذلك حَسًنٌ"، يلزم التناقضُ. وإن قلتم: "قبيحٌ"، فكيف يَتفق على حُسنه الجم الغفير من العقلاء؟ فإن
1 / 89