ما قالوا لنا سددًا ولكنْ ... تفاحش أمرهم وأتوا بهجرِ
فقوله «ما قالوا» جزء اقصم عصب بحذف الميم، وعصب بإسكان اللام فصار فاعلتن، فنقل إلى مفعولن. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «تفاحش» وبيت العقص:
لولا ملكٌ رؤفٌ رحيمٌ ... تداركني برحمته هلكتُ
جزؤه الأول وهو قوله «لولام» وزنه مفعول، كان مفاعلتن فعضب بحذف الميم ونقص بإسكان اللام وحذف النون فصار «فاعلتُ» فنقل إلى مفعول. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «لولا» . وبيت الجمم:
أنت خير من ركب المطايا ... وخيرهم أبًا وأخًا وأمّا
الجزء وهو قوله «أنت خىْ» أجم، كان مفاعلتن فعضب بحذف الميم، وعُقل بحذف اللام، فصار «فاعتن» فنقل إلى فاعلن. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «خير من ركب المطا» قلت: كان مقتضى اعتبار الترتيب في الوضع تقديم الجمم على العقص ضرورة أن التغيير فيه أقلّ، والأمر في ذلك سهل. «تنبيهات» الأول: أنكر الأخفش والمعري وطائفةٌ من العروضيين العقل في الوافر من أجل أن مفاعلتن انتقل بالعصب إلى مفاعيلن ومفاعيلن في سائر الشعر يتعاقب فيه الياء والنون فيكون إما مفاعيل وإما مفاعلن. لكنهم سوّغوا في مفاعيلن في الوافر أن يأتي على مفاعيل ولم يسوغوا فيه أن تأتي على مفاعلن لأنه فرع منقول عن أصل، فلم يسوّغوا فيه ما سوغوا فيما هو أصلٌ، وآثروا إبقاء الياء لأنها في محل اللام الساكنة بالعصب فكرهوا تغييرها. ثانيًا: وهذا احتجاج ضعيف لا يلتفت إليه مع نقل الخليل عن العرب جواز ذلك. قال ابن بري: والصحيح إنكار العقل في المجزوء منه لئلا يلتبس بمجزوء الرجز، وهذا الالتباس محذور. قلت: فإذا وجد بيتٌ مربع على زنة مفاعلن، ولم يكن في القصيدة جزء وجد بيتٌ مربع على زنة مفاعلن، ولم يكن في القصيدة جزء على زنة مفاعلتن حكم بأن القصيدة من الرجز حملًا على ما هو الأخف، فإن مستفعلن في الرجز يصير مفاعلن بالخبن، وهو حذف ساكن، ومفاعلتن يصير مفاعلن في الوافر بالعقل وهو حذف متحرك، ولا شك أن حذف الساكن أخف من حذف المتحرك. ثم قال ابن بري: بخلاف معصوب المجزوء بالهزج. قلت: كأن عصب المجزوء عنده محذور، وأنه إذا وجد في القصيدة كلها ساغ حملها على كل واحدٍ من البحرين، ويؤيده ما قدمه قبل ذلك حيث قال: واعلم أنه متى دخل العصب في جميع أجزاء المجزوء فإنه يشبه الهزج، كقوله:
صفحنا عن بني ذهلٍ ... وقلنا القومُ إخوانُ
لكنْ يقع الفرق بينهما بأن ننظر فإن كان في القصيدة جزء واحد على مفاعلتن فهي من الوافر، وإن لم يكن فيها ولا جزء واحد احتملت أن تكون من الوافر ومن الهزج. قلت: المرجح لحملها على الهزج قائم، لأن مفاعيلن فيه أصلي لا تغيير فيه ومفاعيلن في الوافر إنما يتصور بتغيير يرتكب فيه وهو العصب، وإذا كان كذلك فيحمل على ما هو بالمثابة التي ذكرتها على الهزج لا على الوافر، فتأمل التنبيه الثاني: إلتزم في الوافر أن يستعمل مقطوفًا لأنه شعر كثرت حركاته فاستثقلت فحذف من آخر عروضه وآخر ضربه تسهيلًا وتخفيفًا، وآثروا من الحذف ما بقي به الشعر عذب المساق لذيذ المذاق، وهو القطف. فإن قيل: فهلاّ! استثقلوا في الكامل ما استقلوا في الوافر لأن حركاتهما سواء إلا أنا وجدناهم آثروا الوافر بالحذف والتخفيف دون الكامل؟ فالجواب أن الكامل وقعت فيه الفاصلة مقدمة في جزئه وهو متفاعلن على الوتد، وهي أكثر حركاتٍ من الوتد، والوافر تاخرت فيه الفاصلة فكان جانب الحذف وهو آخر الجزء في الوافر أكثر حركاتٍ منه في الكامل. التنبيه الثالث: حكى الأخفش للوافر عروضًا ثالثة مجزوءة مقطوفة لها ضرب مثلها، وبيته:
عبيلةُ أنتِ همّي ... وأنتِ الدهر ذكرى
ومثله:
فإن يهلك عبيدٌ ... فقد باد القرونُ
ومثله:
أشاقك طيفُ مامه ... بمكة أم حمامه
قال ابن بري: وهذه الأبيات لا دليل فيها لاحتمال أن تكون من مشكول المجتث كقوله:
أولئك خير قومٍ ... إذا ذكر الخيار
قلت: هذا غلط ظاهر، فإنه إن تمّ له الاحتمال الذي أبداه فإنما يتم له في البيت الأخير فقط. وما قيله لا يتأتى فيه ذلك. ألا ترى أن قوله «وأنتِ الدهرَ ذكرى» لا يمكن أن يكون من المجتث بوجهٍ، وكذا البيت الثاني لا يتصور كونه من بحر المجتث أصلًا، والله الموفق للصواب.
1 / 58