أقول: المراقبة هي أن لا يزاحف السببان المجتمعان ولا يسلمان من الزحاف، بل لابد من مزاحفة أحدهما وسلامة الآخر. وهومراد الناظم، وذلك لأن الضدين هما مزاحفة السببين جميعًا، وسلامتهما جميعًا. فإذا امتنعا لزم مزاحفة أحدهما وسلامة الآخر، فتجامع المراقبة المعاقبة في أنه إذا حذف أحد الساكنين من السببين ثبت الآخر وجوبًا، وتفارقها في أن المعاقبة يجوز فيها إثباتهما معًا والمراقبة يمتنع فيها ذلك. ويقع الفرق بينهما أيضًا بأن المعاقبة تكون بين السببين المتلاقيين كانا في جزء واحد، أو في جزأين، فالمراقبة لا تكون إلا إذا كان السببان متجاورين في جزء واحد. وسميت مراقبةً لأنها يراقب فيها حذف أحد الساكنين فيثبت الآخر، أو ثبوته فيحذف الآخر.
وقوله (مبدأ شطر لم) يعني أن المراقبة تحل في مبدأ كل شطر من شطور البحرين المرموز لهما بالام والميم، وهما الثاني عشر وهو المضارع المشار إليه باللام والثالث عشر وهو المقتضب المشار إليه بالميم. فإن قلت علامة يعود الضمير من قوله (بأربعها)؟ قلت على مبادئ الشطور الأربعة المفهومة من السياق، وذلك لأن كل بحر له شطران، ولكل شطر منهما مبدأ، فالمضارع في الاستعمال مجزوء، زنته:
مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن فاع لاتن.
والمقتضب كذلك، وزنته:
مفعولاتُ مستفعلن مفعولاتن مستفعلن.
فمبدأ الشطر الأول من المضارع (مفاعيلن) وكذا مبدأ شطره الثاني. ومبدأ الشطر الأول من المقتضب (مفعولات) وكذا مبدأ شطره الثاني. فإذا هي أربعة مبادئ. والمرقبة ثابتة في جميعها فلا يجوز في شيء منها إثبات السببين معًا ولا حذفهما معًا. ولابد من سلامة أحدهما ومزاحفة الآخر. فإن قلت: فكيف أنث العدد والمعدود مذكر؟ قلت، مر لنا أن الكسائي يجيزه إذا كان المعدود محذوفًا، وقال به غيره. فيجوز تخريج ذلك على هذا المذهب. وجوز الشريف عود الضمير على الأسباب الأربعة في البيت، وهما اثنان في أول المصراع الأول منه واثنان في أول المصرع الثاني، وذلك (عيلن) في المصراعين من المضارع و(مفعو) في المصراعين من المقتضب. وأنث لأنه أول السبب بالكلمة أو باللفظة قال: ويسوغ أن يريد بالأربع ثواني الأسباب، وهي الحروف السواكن والحرف يذكر ويؤنث، فقال (بأربعها) فلحظ التأنيث. قال:
وأبحر طي جزِ مكانفةٌ لها ... بكملها فافعل بها أيها تشا
أقول: المكانفةُ هي جواز سلامة السببين المجتمعين، ومزاحفتهما معًا، وسلامة أحدهما ومزاحفة الآخر. وهو معنى قول الناظم (فافعل بها أيها تشا) وتدخل في أربعة أبحر، وهي البحر التاسع وهو السريع المرموز له بالطاء. والبحر العاشر هو المنسرح المرموز له بالياء. والبحر الثالث هو البسيط المرموز له بالجيم. والبحر السابع هو الرجز المرموز له بالزاي. وقوله (بكملها) يعني أن المكانفة إنما تدخل في هذه الأبحر في الأجزاء الكمل السالمة من نقص العلل، وذلك كضرب العروض الأولى من المنسرح، لأن الطي لازم له. قال الشريف: وذكر الناظم بحر المنسرح أولًا فيما يكون فيه المعاقبة ثم ذكره هنا فيما يسوغ فيه حذف الساكنيين معًا. ووجه ذلك أن أجزاؤه تختلف، فأما (مستفعلن) الواقع في أول شطريه فحذف الساكنين فيه جائزٌ قلت: وكذا (مفعولات) كما يؤخذ من الشواهد، ولا وجه للتخصيص بمستفعلن المذكور. وأما (مستفعلن) الذي يلي (مفعولات) فلا يجوز حذفهما فيه لأن قبله تاء (مفعولات) وهي متحركةٌ، فلو دخل (مستفعلن) الخبل لاجتمع فيه خمس متحركاتِ، ولذلك لا يعده بعض العروضيين من باب المعاقبة، إذ امتناع حذف الساكنيين إنما هو لأمر ِ عارض فيه، فتأمله، انتهى كلامه. فإن قلت: كيف ساغ الابتداء بقوله (مكانفة) وهي نكرة محضة لا مسوغ للإبتداء بها؟ قلت هي موصوفة بقوله (لها) والخبر قوله (بكملها) فالمسوغ موجود فلا إشكال.
علل الأجزاء
قال:
وما لم يكن مما مضى ادع بعلةِ ... زيادته والنقص فرقًا لذى النهى
1 / 29