وهذ الجواب وإن كان سديدًا في (غافر الذنب وقابل التوب) إلا أنه لا يمكن مثله في شديد العقاب، لأن (شديد العقاب) لا تكون إضافته إلا غير محضة على كل حال لأنه صفة مشبهة، فلا يفرق بين ماضيه وغيره بخلاف اسم الفاعل، فلا يكون، (يعني شديد العقاب) إلا نكرةً، فيبقى الاعتراض قائمًا، فحكم بعض النحويين بأن (شديد العقاب) بدل بعد أن حكم بأن ما قبله صفات بالوجه الذي ذكرناه.
واختار بعضهم بأن يكون (غافر الذنب) من أول الأمر بدلًا كراهة أن يخالف بين الصفات فيجعل بعضها صفةً وبعضها بدلًا، وأجرى البواقي عليها بدلًا، فكأنه قال: م الله العزيز العليم، من رب غافر الذنب وقابل التوب العقاب.
وفي هذه الصفات إشكال آخر وهو قوله: (ذي الطول)، فإنه معرفة، فلا يحسن أن يكون صفة لقوله (من الله) لأنك فصلت بينه وبينه بالبدل، ولا يحسن أن يكون صفةً للبدل لأنه نكرة (وذي الطول) معرفة، فالأولى أن يقال هو بدل من المبدل الأول، كأنه قال من الله العزيز العليم من رب غافر الذنب من الله ذي الطول، فعلى هذا يستقيم ولكن بتقدير البدل. انتهى كلامه. وفيه دليل بين على جواز تعدد البدل مع اتحاد المبدل منه، وهو غير ما حكى فيه أبو حيان المنع عن بعض أصحابه، فتأمله.
وأما المناقشة الرابعة وهو ما وقع من تغييره عن أجزاء القصيدة بالتفاعيل مع أن أجزاء العروض محصورة في أوزان معروفة لا يصح أن يكون شيء منها مفردًا للتفاعيل حسبما قرره الشيخ، فأقول هذا وهم فاحش، لأن التفاعيل عند العروضيون جمع لتفعيل، لا باعتبار أن لفظ هذا المفرد يوزن به، بل باعتبار أنه اسم موضوع للفظ خاص عندهم يوزن به ما يماثله من مطلق الحركات والسكنات، فالتفاعيل بمنزلة قولك الأجزاء، فكما أن مفرد الأجزاء جزء، وهو اسم للفظ الموزون به، كذلك مفرد التفاعيل تفعيل، وهو اسم لمفهوم الجزء عندهم، لا أنه شيء يوزن بلفظه، ففعولن مثلًا يطلق عليه جزء وتفعيل، سماه بذلك الخليل واضع هذا الفن.
والتفعيل في الأصل مصدر قولك فعلت الكلمة إذا أتيت فيها بلفظ (ف ع ل)، ثم سمي به الجزء الذي فيه تلك الأحرف، كما أن التنوين مصدر قولك نونت الكلمة، إذا أتيت فيها بنون، ثم سموا النون نفسها إذا كانت على صفة خاصة بالتنوين، وقد يطلق العروضيون التفعيل على التقطيع مع الإتيان بالأمثلة الموازنة لذلك التقطيع كقولهم في قوله:
ستُبدى لك الأيامُ ما كنتَ جاهلًا
سَتُبدِى لَكَلْ أييَا مما كنْ تَجَاهِلَنْ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
ويأْتي كَبلأخْبا رِمَلْلَمْ تُزوْوِدِي
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
وكذا في قوله:
لا تحسب المجدَ تمرًا أنت آكلُهُ
لا تحسبل مجد تم رَنْ أنتَ آكِلهُو
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
لا تبلغلْ مَجْدَحضتْ تا تَلعَقَص صَبِرا
مستغعلن فاعلن مستفعلن فعلن
وكذا في قوله:
سَلِى إنْ جهلتِ الناسَ عنا وعنهمُ
سلى إن جهلتننا سعننا وعنهمو
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فليسَ سواءً عالمٌ وجهولُ
فليس سوا أنعا لمنو جهولو
فعول مفاعيلن فعول فعولن
إلى آخره، فيستعملونه مصدرًا، وهذا واضح لا يخفى على أصاغر الطلبة، والعجب من الشيخ أبي حيان ﵀ كيف وقع في مثل هذا، وأعجب منذلك قوم راج عندهم هذا الوهم فسفهوا رأى من قال بخلافه عجزًا عن درك الحق وإخلادًا إلى التقليد، وظنًا أن لا فضل إلا بتقدم العصر، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف بمنه وكرمه.
ولنرجع إلى ما نحن بصدده من كلام الناظم ﵀.
قال:
فرتِّبْ إلى اليا زِنْ دوائرَ خفْ لشقْ ... أولاتِ عَدٍ جزءٌ لجزءٍ ثُناثُنا
1 / 11