الأول: أن مبنى هذا الاعتراض على منع دخول الفاء على جواب لما وهو ممنوع. فقد نص ابن مالك على جوازه مستدلًا بقول الله تعالى: (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد)، فإن قلت لا دليل له في هذه الآية لاحتمال أن يكون الجواب فيها محذوفًا، كما قيل تقديره: انقسموا قسمين فمنهم مقتصد، أي ومنهم غير ذلك، قلت: هو احتمال مرجوح، والظاهر خلافه، فقد ورد جواب لما مقترنًا بإذا الفجائية ورودًا شائعًا. قال الله تعالى: (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون)، وقال تعالى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق)، وقال تعالى: (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)، وفيه دليل على أن جواب لما يجوز أن يكون جملةً اسميةً، وإذا جاز ذلك فأي داع إلى ارتكاب الحذف في الآية التي أوردها ابن مالك مع أنه على خلاف الأصل؟ والفاء وإذا الفجائية أختان في ربط الجواب بالشرط، فإذا ربط بإحداهما في تركيب جاز أن يربط بالأخرى، ولا فرق. فإذن الظاهر ما قاله ابن مالك من أن الجواب في الآية التي استدل بها هو الجملة الاسمية، وأن الفاء رابطة الجواب.
فإن قلت: هذا في الجملة الاسمية، فأين وقوعه في الفعلية؟ قلت: يدل عليه قول الشاعر:
لما اتقى بيدٍ عظيمٍ جرمُها ... فتركتُ ضاحي جلدهِا يتذبذبُ
لكن ابن هشام صرح في المغنى بأنها فيه زائدة. وعليه فلا يكون البيت شاهدًا على المدعي.
الثاني: سلمنا امتناع دخول الفاء على جواب لما، لكن لا نسلم أن الجواب في كلام الزمخشرى مذكور حتى يلزم ما قاله أبو حيان، وإنما هو محذوف، تقدير الكلام معه: لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة وحدها نبا هذا القول عن الصواب، فقد آذنت هذه المصادفة بأن جميع تلك التوابع أبدال غير أوصاف، ويدل على هذا الجواب المحذوف قوله فيما سبق (فيه نبو ظاهر)، وقد نص غير واحد على جواز الحذف في ذلك عند قيام الدليل فلم لا يكون هذا منه.
الثالث: سلمنا أن جواب لما لا يقترن بالفاء، وأنه في عبارة الزمخشرى مذكور لا محذوف، لكنا لا نسلم أن مجموع قوله (فقد آذنت) جواب، وإنما الجواب هو قوله آذنت، وأما (قد) فهي هنا اسم بمعنى (حسب)، والفاء الداخلة عليها كالفاء الداخلة على قط في قولك (افعل هذا فقط) . أي لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة وحدها فحسب آذنت هذه المصادفة بما قلناه من دعوى البدلية في جميع التوابع. والشيخ أبو حيان فهم أن (قد) حرف داخل على الفعل، مثله في قولك (قد قام زيد)، فسارع إلى تلحين الزمخشرى ذهولًا عما قلناه، والله الموفق لا رب غيره.
وأما المناقشة الثالثة وهي ما لزم على كونها أبدالًا من تكرير البدل وهو ليس بدل البداء فليست بذاك، فالشيخ قد أقر على نفسه بعدم الاطلاع على نص في المسألة إلا من جهة كلام حكاه عن بعض أصحابه، ولم يسمه، ولا يلزم من عدم عرفانه بالجواز عدم الجواز في نفسه، فالزمخشرى إمام في هذا الفن، ثبت في النقل. وقد نص غير واحد من المعربين في قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين)، على جواز إعراب التوابع أبدالًا مع أنها ليست بأبدال بداء قطعًا ففيه دليل على جواز ما أجازه الزمخشرى.
فإن قلت: ذلك محمول على أن كل تابع بدل مما قبله، لا أنها كلها أبدال من شيء واحد كما حكاه الشيخ عن بعض أصحابه في إعراب ذينك البيتين، قلت: وكلام الزمخشرى قابل لأن يحمل على هذا المعنى بعينه، فهو لم يقل في هذه التوابع إلا أنها أبدال، وذلك صادق بأن يجعل كل واحد منها بدلًا مما قبله، فيتعدد التابع والمتبوع، فام لم يحمله الشيخ على هذا المعنى مع أنه ليس في اللفظ ما يدفعه.
على أن ابن الحاجب ﵀ تكلم على هذه الآية في أماليه ولا بأس بإيراد كلامه بجملته تكميلًا للفائدة. قال ما نصه: لا يستقيم أن يكون (غافر الذنب وقابل التوب) صفة لقوله (من الله العزيز العليم)، لأن (غافر الذنب وقابل التوب) معناه أنه يغفر الذنب ويقبل التوب. قال الله تعالى: (يغفر الذنوب جميعًا)، وقال (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)، فيكون في معنى الحال والاستقبال، فتكون إضافته غير محضة. وأجيب عن ذلك بأن (غافر الذنب) على معنى ثبوت ذلك له، وإذا كان على معنى ثبوت ذلك له فهو صفة بمعنى المضي، فتكون إضافته محضةً فتفيد التعريف فيصح وصف المعرفة به.
1 / 10