اعلم أنه لا طريق إلى ذلك عقلا، والطريق إليه السمع، وليس يمكن أن يقال أن في العقل
إليه طريق لأن ما يقتضي ذلك لو كان له مقتضى إما أمرا يرجع إلى القادر أو أمرا يرجع إلى المقدور، وما يمكن أن يقال أنه يقتضيه مما يرجع إلى القادر أن القادر يجب أن يقدر على جنس ضد الشيء حتى ينفصل حكمه من حكم المضطر. وإذا كان تعالى قد قدر على إيجاد الجواهر فيجب أن يكون لها ضد يقدر عليه. وما يرجع إلى المقدور ما يمكن أن يقال أنه يقتضيه أن في نفي صحة العدم وجوب كونه مثلا له تعالى لأنه تعالى ينفصل من غيره بوجوب الوجود وأن لا يصح عدمه. واعلم أن القادر على الشيء إنما يجب أن يصح منه أن يفعله وأن لا يفعله، وبذلك ينفصل من المضطر الذي لا يصح منه الانفكاك عما اضطر إليه، فأما صحة فعل ضد
فلا يقتضي ذلك والتأليف والاعتماد القادر عليهما تنفصل حاله من حال المضطر وإن لم يكن لهما ضد. وليس في أن لا يصح العدم في الجوهر بعد وجوده كونه مثلا له تعالى لأنه كان يصح أن لا يوجد في الأول فلا يكون موجودا في سائر الأوقات، والقديم تعالى يستحيل كونه غير موجود في كل حال. وهذا هو المعتمد دون ما يقال أنه وإن وجب وجوده فلا يماثله تعالى لأن ما به ينفصل تعالى من غيره فيما يرجع إلى ذاته كونه موجودا لم يزل لأن ما يقتضي ما هو عليه في ذاته هو وجوب الوجود، فإنا نقول أن الوجود لما كان قد حصل ولا يجب، ويجب ويحصل، فلا بد من اختصاص حيث يجب، وهذا حاصل في وجوب الوجود وقتا واحدا. فلو وجد شيء غيره تعالى في وقت واحد لكان قد شاركه تعالى فيما ينبئ عما هو عليه في
ذاته. وبهذا يسقط قول من يقول: إن القديم لو عدم لكان لا يخرج عن أن يكون قد وجد لم يزل، وهذا هو الذي يرجع إلى الذات. ولا يمكن أن يقال: إن ما يرجع إلى ذاته كان يكون قد خرج عنه. فإذا بطل أن يكون إلى ذلك طريق من جهة العقل ثبت أن الطريق إليه السمع، وأحد الطرق فيه قوله تعالى ( كل من عليها فان )، والفناء ظاهرة الانتفاء، وهذا هو المعقول منه إذا أطلق. فإذا صح أن العقلاء يفنون صح ذلك في غيرهم لأن الفناء لا يختص بجوهر دون جوهر على ما نبينه من بعد. وتعلق من يخالف في ذلك بأنه يطلق الفناء في غير هذا الوجه بقول أمية: «ياإبني أمية إنني عنكما غان وما الغنى غير أني مرعش فان»، بعيد لأنا لا ننكر إطلاق ذلك
على غير هذا الوجه، لكن المعقول منه إذا أطلق وظاهر الكلام فيما قلناه. وإن كان حال هذه اللفظة مع غير هذا الوجه كحالها معه وجب إذا لم يتبين أنه أزيد أحدهما دون الآخر أن لا يتخصص أحد الوجهين بكونه مرادا دون الآخر. ولو لم يكن إلا ما قال بعده ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) لصح أن المراد الوجه الذي نقوله. وأحد الأدلة فيه قوله تعالى ( هو الأول والآخر ) وكونه أولا يقتضي كونه موجودا ولا موجود سواه، وكونه آخرا يقتضي أن يكون هو الموجود ولا موجود سواه والجنة والنار لا يفنيان، فلا من كونه تعالى آخرا قبل دخول الخلق الجنة والنار. وأحد ما اعتمد فيه قوله تعالى ( كل شيء هالك إلا وجهه )، والهلاك يستعمل في البطلان، فلا شيء يقتضي كونه مجازا فيه، فإن كان حال هذه العبارة مع غيره كحالها
معه، فيجب أن لا يكون المراد أحدهما فقط لأن لا يبان أن المراد أحدهما دون الآخر.
الفصل السادس وستين في بيان الوجه الذي له يعدم الجوهر بعد الوجود
إذا عدم فلم تنتهي الحال إلى وقت يستحيل وجوده، فيقال: إن تلك الحال تجري مجرى الوقت الثاني لما لم يصح عليه البقاء لما نبينه من بعد. ولا يمكن أن يقال أنه يعدم بأن تعدم أكوانه، فإن الجوهر يحتاج إلى الكون وإن لم يحتاج إليه في وجوده إلا أن وجوده لا ينفصل من الوجه الذي له يحتاج إلى ذلك لأنه لا معنى يضاد جميع الأكوان، ولو كان معنى هذه حاله لكان يحل الجوهر حتى
يبقى مع الأكوان وذلك يمنع من كون الجوهر منتفيا بهذا الوجه. ولا يمكن أن يقال أن الكون يبطل ببطلان الجوهر، والجوهر يبطل ببطلان الكون، وكل واحد متعلق بالآخر، وذلك لا يصح، ونحن نبين من بعد أنه لا يمكن أن يقال أن الجوهر باق ببقاء، فيبطل إذا لم يوجد البقاء لأن البقاء لا يصح عليه البقاء، فيجب البقاء في الثاني، ويبينأنه لا يمكن أن يقال أنه يحتاج في بقائه إلى معنى لا يبقى، فينتفي بعدم ذلك المعنى وإن لم يكن البقاء جاريا مجرى العلة ويجري ذلك المعنى مجرى الرطوبة أن الاعتماد يحتاج في بقائه إلى الرطوبة ولو لم تبق لم يبق الاعتماد ويبين أنه لا يتجدد وجوده حالا فحالا، فيقال: إن وجوده في كل حال يتعلق بموجد، وإذا لم يوجد وجب العدم. ويبين أن القادر لا يقدر
XVII
صفحة غير معروفة