فوقه، وعلى هذا المنهاج كانوا حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أموال الناس، وجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقر نفسه وقارها، وعرف لها مقدارها، حتى قبض تقي العرض مصون الوجه، ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة، فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر.
فقد حكى عن ابن ميادة أنه مدح أبا جعفر المنصور بكلمته التي يقول فيها:
فوجدت حين لقيت أيمن طائر ... ووليت حين وليت بالإصلاح
وعفوت عن كسر الجناح ولم يكن ... لتطير ناهضة بغير جناح
قوم إذا جلب الثناء إليهم ... بيع الثناء هناك بالأرباح
وأتاه راعي إبله بلبن فشرب ثم مسح على بطنه وقد عزم على الرحلة فقال: سبحان الله أأفد على أمير المؤمنين وهذه الشربة تكفيني؟!! وصرف وجهه عن قصده، فلم يفد عليه، هذا على أنه ساقة الشعراء، فأنت ترى كبر نفسه، وبعد همته.
على أن عبد الله بن عمر على جلالته، والحسن البصري، وعكرمة، ومالك بن أنس المدني وجملة من أهل العلم غير هؤلاء، كانوا يقبلون صلات الملوك.
وقد سئل عثمان بن عفان ﵁ عن مال السلطان، فقال: لحم طير زكي.
والشعراء في قبولها مال الملوك أعذر من المتورعين وأصحاب الفتيا؛ لما جرت به العادة قبل الإسلام وعلى عهد رسول الله ﷺ وبعده إلى أيام المنصور الذي أنف ابن ميادة أن يفد عليه.
وهكذا يروى عن جميل بن عبد الله بن معمر أنه ما مدح أحدًا قط إلا ذويه وقراباته، وأنه صحب الوليد بن عبد الملك في سفر، فكلفه أن يرجز به، وظن أنه يمدحه فأنشأ يقول:
1 / 83