باب في فضل الشعر
العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم؛ لفضل اللسان على اليد، والبعد عن امتهان الجسد؛ إذ خروج الحكمة عن الذات، بمشاركة الآلات؛ إذ لا بد للإنسان من أن يكون تولى ذلك بنفسه، أو احتاج فيه إلى آلة أو معين من جنسه.
وكلام العرب نوعان: منظوم، ومنثور. ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفق الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرًا في التسمية؛ لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبه إذا كان منثورًا لم يؤمن عليه، ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب، ومن أجله انتخب؛ وإن كان أعلى قدرًا وأغلى ثمنًا، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثورًا تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله، والواحدة من الألف، وعسى أن لا تكون أفضله، فإن كانت هي اليتيمة المعروفة، والفريدة
1 / 19
الموصوفة؛ فكم في سقط الشعر من أمثالها ونظرائها لا يعبأ به، ولا ينظر إليه، فإذا أخذه سلك الوزن، وعقد القافية؛ تألفت أشتاته، وازدوجت فرائده وبناته، واتخذ اللابس جمالًا، والمدخر مالًا فصار قرطة الآذان، وقلائد الأعناق، وأماني النفوس، وأكاليل الرءوس، يقلب بالألسن، ويخبأ في القلوب، مصونًا باللب، ممنوعًا من السرقة والغضب.
وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيدًا محفوظًا، وأن الشعر أقل، وأكثر جيدًا محفوظًا؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور.
وكان الكلام كله منثورًا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرًا؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا.
وقيل: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون؛ فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره.
ولعل بعض الكتاب المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وأن النبي ﷺ غير شاعر؛ لقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، وبلغ في الحاجة، والذي عليه في ذلك أكثر مما له؛ لأن الله تعالى إنما بعث رسوله أميًا غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك، حين استوت الفصاحة، واشتهرت البلاغة؛ آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازًا للمتعاطين، وجعله منثورًا ليكون أظهر برهانًا لفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون
1 / 20
قادرًا على ما يحبه من الكلام، وتحدى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك، كما قال الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " فكما أن القرآن أعجز الشعراء وليس بشعر، كذلك أعجز الخطباء وليس بخطبة، والمترسلين وليس بترسل، وإعجازه الشعراء أشد برهانًا، ألا ترى كيف نسبوا النبي ﷺ إلى الشعر لما غلبوا وتبين عجزهم؟ فقالوا: هو شاعر، لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته، وأنه يقع منه ما لا يلحق، والمنثور ليس كذلك، فمن ههنا قال الله ﵎: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " أي: لتقوم عليكم الحجة، ويصح قبلكم الدليل، ويشهد لذلك رواية يونس عن الزهري أنه قال: معناه ما الذي علمناه شعرًا، وما ينبغي له أن يبلغ عنا شعرًا.
وقال غيره: أراد وما ينبغي له أن يبلغ عنا ما لم نعلمه، أي: ليس هو ممن يفعل ذلك؛ لأمانته ومشهور صدقه. ولو أن كون النبي ﷺ غير شاعر غض من الشعر لكانت أميته غضًا من الكتابة، وهذا أظهر من أن يخفي على أحد.
واحتج بعضهم بأن الشعراء أبدًا يخدمون الكتاب، ولا تجد كاتبًا يخدم شاعرًا، وقد عميت عليهم الأنباء، وإنما ذلك لأن الشاعر واثق بنفسه. مدل بما عنده على الكاتب والملك؛ فهو يطلب ما في أيديهما ويأخذه، والكاتب بأي آية يفضل الشاعر فيرجو ما في يده؟ وإنما صناعته فضلة عن صناعته، على أن يكون كاتب بلاغة، فأما كاتب الخدمة في القانون وما شاكله فصانع
1 / 21
مستأجر، مع أنه قد كان لأبي تمام والبحتري قهارمة وكتاب، وكان من عميان الشعراء كتاب أزمة كبشار وأبي علي البصير، وكان ابن الرومي من أكبر كتاب الدواوين، فغلب عليه الشعر؛ لأنه غلاب. وكما تجد من يمدح السوقة في الشعراء فكذلك تجد للسوقة كتابًا، وللتجار الباعة، في زمننا هذا وقبله.
ولما أهجم بهذا الرد، وأورد هذه الحجة، لولا أن السيد أبقاه الله قد جمع النوعين، وحاز الفضيلتين، فهما نقطتان من بحره، ونوارتان من زهره، وسيرد في أضعاف هذا الكتاب من أشعاره ما يكون دليلًا على صدق ما قلته، إن شاء الله تعالى.
ومن فضل الشعر أن الشاعر يخاطب الملك باسمه، وينسبه إلى أمه، ويخاطبه بالكاف كما يخاطب أقل السوقة؛ فلا ينكر ذلك عليه، بل يراه أوكد في المدح، وأعظم اشتهارًا للممدوح، كل ذلك حرص على الشعر، ورغبة فيه، ولبقائه على مر الدهور واختلاف العصور، والكاتب لا يفعل ذلك إلا أن يفعله منظومًا غير منثور، وهذه مزية ظاهرة وفضل بين.
ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسن الكذب، واغتفر له قبحه، فقد أوعد رسول الله ﷺ كعب بن زهير لما أرسل إلى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام، وذكر النبي ﷺ بما أحفظه، فأرسل إليه أخوه " ويحك إن النبي صلى الله
1 / 22
عليه وسلم أوعدك لما بلغه عنك، وقد كان أوعد رجالًا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وإن من بقيء من شعراء قريش كابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله ﷺ؛ فإنه لا يقتل من جاء تائبًا، وإلا فانج إلى نجائك، فإنه والله قاتلك، فضاقت به الأرض، فأتى إلى رسول الله ﷺ متنكرًا، فلما صلى النبي ﷺ صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله ﷺ ثم قال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد أتى مستأمنًا تائبًا، أفتؤمنه فآتيك به؟ قال: هو آمن، فحسر كعب عن وجهه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فأمنه رسول الله رسول الله ﷺ، وأنشد كعب قصيدته التي أولها:
1 / 23
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
يقول فيها بعد تغزله وذكر شدة خوفه ووجله:
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيه مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم ... أذنب، ولو كثرت في الأقاويل
فلم ينكر عليه النبي ﷺ قوله، وما كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه ووهب له بردته، فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم. وقال العتبي بعشرين ألفًا، وهي التي يتوارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع والأعياد تبركًا بها.
وذكر جماعة منهم عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي الشاعر أنه أعطاه مع البردة مائة من الإبل، قال: وقال الأحوص يذكر عمر بن عبد العزيز عطية رسول الله ﷺ كعبًا، وقد توقف في عطاء الشعراء:
وقبلك ما أعطى هنيدة جلة ... على الشعر كعبًا من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء بنوره ... ﵇ بالضحى والأصائل
واعتذر حسان بن ثابت من قوله في الإفك بقوله لعائشة ﵂ في أبيات مدحها بها:
حصان رزان ما تزن بريبةٍ ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
يقول فيها:
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
ثم يقول:
1 / 24
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ماحل
فاعتذر كما تراه مغالطًا في شيء نفذ فيه حكم رسول الله ﷺ بالحد، وزعم أن ذلك قول امرئ ماحل، أي: مكايد، فلم يعاقب لما يرون من استخفاف كذب الشاعر، وأنه يحتج به ولا يحتج عليه.
وسئل أحد المتقدمين عن الشعراء فقال: ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم.
حكى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري أن كعب الأحبار قال له عمر بن الخطاب وقد ذكر الشعر: يا كعب، هل تجد للشعراء ذكرًا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قومًا من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب.
وقيل: ليس لأحد من الناس أن يطري نفسه ويمدحها، في غير منافرة، إلا أن يكون شاعرًا، فإن ذلك جائز له في الشعر، غير معيب عليه.
وقال بعضهم وأظنه أبا العباس الناشئ العلم عند الفلاسفة ثلاث طبقات: أعلى، وهو ما غاب عن الحواس فأدرك بالعقل أو القياس، وأوسط، وهو علم الآداب النفيسة التي أظهرها العقل من الأشياء الطبيعية كالأعداد والمساحات وصناعة التنجيم وصناعة اللحون، وأسفل، وهو العلم بالأشياء الجزئية والأشخاص الجسيمة، فوجب إذا كانت العلوم أفضلها ما لم تشارك فيه الجسوم أن يكون أفضل الصناعات ما لم تشارك فيه الآلات، وإذا كانت
1 / 25
اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد قسمي الفلسفة وجدنا الشعر أقدم من لحنه لا محالة، فكان أعظم من الذي هو أعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل. هذا معنى الكلام المنقول عنه مختصرًا وليس نصًا.
فإن قيل في الشعر: إنه سبب التكفف، وأخذ الأعراض، وما أشبه ذلك؛ لم يلحقه من ذلك إلا ما يلحق المنثور.
ومن فضائله أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقييد العلوم والأشياء النفيسة والطبيعية التي يخشى ذهابها، فكيف ظنك بالعرب الذي هو فخرها العظيم وقسطاسها المستقيم؟ وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به، مسقطة لمروءته، ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، وتكسوه جلالة الحكمة.
فأما قيامه وجلوس اللحون فلأن هذا متشوف إليه، يحب إسماع من بحضرته أجمعين، بغير آلة ولا معين، ولا يمكنه ذلك إلا قائمًا أو مشرفًا، وليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك الخطيب، وصاحب اللحون لا يمكنه القيام لما في حجره كرامة منه على القوم، على أن منهم من كان يقوم بالدف والمزهر.
1 / 26
وقد قال النبي ﷺ: " إن من البيان لسحرًا وإن من الشعر لحكمًا " وقيل " لحكمة ": فقرن البيان بالسحر فصاحة منه ﷺ، وجعل من الشعر حكمًا؛ لأن السحر يخيل للإنسان ما لم يكن للطافته وحيلة صاحبه وكذلك البيان يتصور فيه الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق؛ لرقة معناه، ولطف موقعه، وأبلغ البيانين عند العلماء الشعر بلا مدافعة، وقال رؤبة:
لقد خشيت أن تكون ساحرًا ... راوية مرًا ومرًا شاعرًا
فقرن الشعر أيضًا بالسحر لتلك العلة، ويروي أيضًا لقد حسنت بسين مضمومة غير معجمة، ونون، والتاء مفتوحة.
باب في الرد علي من يكره الشعر
روى عن النبي ﷺ أنه قال: " إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه "، وقد قال ﵊: " إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب "، وقالت عائشة ﵂: الشعر فيه كلام حسن وقبيح، فخذ الحسن واترك القبيح، ويروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ﵂ أن النبي ﷺ بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبرًا ينشد عليه الشعر، وقال عمر بن الخطاب ﵁: الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه، وقال
1 / 27
على بن أبي طالب ﵁: الشعر ميزان القول، ورواه بعضهم: الشعر ميزان القوم.
وروى ابن عائشة يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: " الشعر كلام من كلام العرب جزل، تتكلم به في بواديها، وتسل به الضغائن من بينها " وأنشد ابن عائشة قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
قلدتك الشعر يا سلامة ذا ... فايش، والشيء حيث ما جعلا
والشعر يستنزل الكريم كما ... ينزل رعد السحابة السبلا
ويروى عن أسماء بنت أبي بكر ﵄ قالت: مر الزبير بن العوام ﵁ بمجلس لأصحاب النبي ﷺ، وحسان ينشدهم، وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره، فقال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ لقد كان ينشد رسول الله ﷺ فيحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه إذا أنشده.
ويروى أن عمر بن الخطاب ﵁ مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله ﷺ، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك، فقال عمر: صدقت.
وكتب عمر بن الخطاب ﵁ إلى أبي موسى الأشعري: مر من قبلك بتعلم الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب.
1 / 28
وقال معاوية ﵀: يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
ويروى أن أعرابيًا وقف على علي بن أبي طالب ﵁ فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك، فقال له علي: خط حاجتك في الأرض، فإني أرى الضر عليك، فكتب الأعرابي على الأرض إني فقير فقال له علي: يا قنبر؛ ادفع إليه حلتي الفلانية، فلما أخذها مثل بين يديه فقال:
كسوتني حلة تبلى محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه ... كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به ... فكل عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال علي: يا قنبر، أعطه خمسين دينارًا، أما الحلة فلمسألتك، وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: " أنزلوا الناس منازلهم " وقيل لسعيد بن المسيب: إن قومًا بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكًا أعجميًا.
1 / 29
وقال ابن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر، وكذلك ما قبح منه.
وسئل في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان وقد قال قوم: إنها تنقض الوضوء فقال:
نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم قام فأم الناس، وقيل: بل أنشد:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزًا ... ولو رضيت رمح أسته لاستقرت
وقال الزبير بن بكار: سمعت العمري يقول: رووا أولادكم الشعر؛ فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل.
وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة.
وكان ابن عباس يقول: إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرًا.
وكانت عائشة ﵂ كثيرة الرواية للشعر. يقال: إنها كانت تروي جميع شعر لبيد.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين ".
1 / 30
وكان أبو السائب المخزومي على شرفه، وجلالته، وفضله في الدين والعلم يقول: أما والله لو كان الشعر محرمًا لوردنا الرحبة كل يوم مرارًا. والرحبة: الموضع الذي تقام فيه الحدود، يريد أنه لا يستطيع الصبر عنه فيحد في كل يوم مرارًا ولا يتركه.
فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فهو غلط، وسوه تأول؛ لأن المقصودين بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله ﷺ بالهجاء، ومسوه بالأذى، فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله ﷿ ونبه عليهم فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا " يريد شعراء النبي ﷺ ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وقد قال فيهم النبي ﷺ: " هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل "، وقال لحسان بن ثابت " اهجهم يعني قريشًا فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس، وألق أبا بكر يعلمك تلك الهنات " فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي ﷺ شعراء يثيبهم على الشعر، ويأمرهم بعمله، ويسمعه منهم.
وأما قوله ﵊: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى
1 / 31
يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا " فإنما هو من غلب الشعر على قلبه، وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فروضه، ومنعه من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، والشعر غيره مما جرى هذه المجرى من شطرنج وغيره سواء. وأما غير ذلك ممن يتخذ الشعر أدبًا وفكاهة وإقامة مروءة فلا جناح عليه وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين، والجلة من الصحابة والتابعين، والفقهاء المشهورين، وسأذكر من ذلك طرفًا يقتدي به في هذا الباب، إن شاء الله تعالى.
باب في أشعار الخلفاء والقضاة والفقهاء
من ذلك قول أبي بكر الصديق ﵁ قالوا: واسمه عبد الله ابن عثمان، ويقال: عتيق لقب له قال في غزوة عبيدة بن الحارث، رواه ابن إسحاق وغيره:
أمن طيف سلمى الدمائث ... أرقت، أوامر في العشيرة حادث؟؟
ترى من لؤي فرقة لا يصدها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه، وقالوا: لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهروا هرير المجحرات اللواهث
1 / 32
فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحل مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث
ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها في الفروع الأثائث
فأولى برب الراقصات عشية ... حراجيج تخدى في السريح الرثائث
كأدم ظباء حول مكة عكف ... يردن حياض البئر ذات النبائث
لئن لم يفيقوا عاجلًا من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولا بحانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الطوامث
تغادر قتلى تعصب الطير حولهم ... ولا يرأف الكفار رأف ابن حارث
فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يبتغي الشر باحث
فإن شعثوا عرضي على سوء رأيهم ... فإني من أعراضهم غير شاعث
ومن شعر عمر بن الخطاب ﵁ وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة ويروى للأعور الشني:
هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها
ومن شعره أيضًا وقد لبس بردًا جديدًا فنظر الناس إليه وقد روى لورقة بن نوفل في أبيات:
1 / 33
ولا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يومًا خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان؛ إذ تجرى الرياح له ... والجن والإنس فيما بينها ترد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يومًا كما وردوا
ومن شعره أيضًا ﵁:
توعدني كعب ثلاثًا يعدها ... ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي خوف الموت؛ إني لميت ... ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب
ومن شعر عثمان بن عفان ﵁:
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن عضها حتى يضر بها الفقر
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر
ومن شعر علي بن أبي طالب ﵁ وكان مجودًا ما قاله يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه:
ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا ... نواصيها حمر النحور دوامي
وأعرض نقع في السماء كأنه ... عجاجة دجن ملبس بقتام
ونادى ابن هند في الكلاع وحمير ... وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هم هم ... إذا ناب دهر جنتي وسهامي
فجاوبني من خيل همدان عصبة ... فوارس من همدان غير لئام
فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها ... وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام
فلو كنت بوابًا على باب جنة ... لقلت لهمدان: ادخلوا بسلام
وهو القائل بصفين أيضًا:
لمن راية حمراء يخفق ظلها ... إذا قلت قدمها حضين تقدما
1 / 34
فيوردها في الصف حتى يرد بها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
فهؤلاء الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم: ما منهم إلا من قال الشعر، وخامسهم الحسن بن علي ﵀، وهو القائل وقد خرج على أصحابه مختضبًا رواه المبرد:
نسود أعلاها، وتأبى أصولها، ... فليت الذي يسود منها هو الأصل
ومن شعر معاوية بن أبي سفيان رحمة الله عليه ما رواه ابن الكلبي عن عبد الرحمن المدني، قال: لما حضرت معاوية الوفاة جعل يقول:
إن تناقش يكن نقاشك يار ... ب عذابًا، لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب رءوف ... عن مسيء ذنوبه كالتراب
وروى في غير موضع واحد:
فقدت سفاهتي، وأزحت غيي ... وفي على تحلمي اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني ... إلى حاجاتها الحدق المراض
ومن قوله ايضًا، وهو لائق به، دال على صحة ناقله:
إذا لم أجد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم!؟
خذيها هنيئًا واذكري فعل ماجد ... حباك على حرب العداوة بالسلم
وأما يزيد بن معاوية فمن بعده فكثير شعرهم مشهور.
ومن شعر الحسين بن علي ﵄، وقد عاتبه أخوه الحسن ﵀ في امرأته:
لعمرك إنني لأحب دارًا ... تحل بها سكينة والرباب
1 / 35
أخبهما وأبذل جل مالي ... وليس للائمي عندي عتاب
وليس من بني عبد المطلب رجالًا ونساء من لم يقل الشعر، حاشا النبي ﷺ: فمن ذلك قول حمزة بن عبد المطلب ﵀ يذكر لقاءه أبا جهل وأصحابه في قصيده تركت أكثرها اختصارًا:
عشية صاروا جاشدين وكلنا ... مراجله من غيظ أصحابه تغلي
فلما تراءينا أناخوا فعقلوا ... مطايا وعقلنا مدى غرض النبل
وقلنا لهم: حبل الإله نصيرنا ... وما لكم إلا الضلالة من حبل
فثار أبو جهل هنالك باغيًا ... فخاب، ورد الله كيد أبي جهل
وما نحن إلا في ثلاثين راكبًا ... وهم مائتان بعد واحدة فضل
وأما العباس فكان شاعرًا مغلقًا حسن التهدي: من ذلك قوله ﵀ يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله ﷺ:
ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي ... بوادي حنين والأسنة تشرع
وقولي إذا ما النفس جاشت لها قدى ... وهام تدهدى والسواعد تقطع
وكيف رددت الخيل وهي مغيرة ... بزوراء تعطى باليدين وتمنع
نصرنا رسول الله في الحرب سبعة ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
ومن شعر عبد الله بن عباس ﵁:
1 / 36
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الليل والليل عاكر
وباكرني في حاجة لم يجد بها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همه من مقامه ... وزايله هم طروق مسامر
وكان له فضل علي بظنه ... بي الخير؛ إني للذي ظن شاكر
ومن شعر جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين ﵁ قوله يوم مؤتة وفيه قتل رحمة الله عليه:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... علي إذا لاقيتها ضرابها
وشعر أبي سفيان بن الحارث مشهور في الجاهلية والإسلام. فأما أبو طالب ومن شاكله فلم أذكر لهم شيئًا، خلا بيتين لعبد الله بن عبد المطلب أنشدهما القاضي أبو الفضل، وهما:
وأحور مخضوب البنان محجب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها
بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... فلست مريدًا ذاك طوعًا ولا كرهًا
وكانت فاطمة ﵂ تقول الشعر، رويت لها أشياء كثيرة.
ثم نرجع إلى الخلفاء المرضيين: قال عمر بن عبد العزيز، رواه الأوزاعي عن محمد بن كعب:
أيقظان أنت اليوم أم أنت حالم؟ ... وكيف يطيق النوم حيران هائم؟
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت ... جفونا لعينيك الدموع السواجم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم، والردى لك لازم
وتشغل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ومما أثبته حماد الرواية من شعره:
1 / 37
إنه الفؤاد عن الصبا ... وعن انقيادك للهوى
فلعمر ربك إن في ... شيب المفارق والجلا
لك واعظًا لو كنت تت ... عظ اتعاظ ذوي النهى
حتى متى لا ترعوي؟ ... وإلى متى؟ وإلى متى؟
بلى الشباب وأنت إن ... عمرت رهن للبلى
وكفى بذلك زاجرًا ... للمرء عن غي، كفى
ومن شعره أيضًا أنشده ابن داود القياسي في كتابه:
ولولا النهى ثم التقى خشية الردى ... لعاصيت في حب الصبا كل زاجر
صبا ما صبا فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ومن قول عبد الله بن الزبير قوله وقد ولي الحرمين مدة، ودعي بأمير المؤمنين ما شاء الله حتى قتل، رحمة الله عليه وقد روي لعبد الله بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء:
لا أحسب الشر جارًا لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا
وما لقيت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
ومن قوله المشهور عنه:
وكم من عدو قد أراد مساءتي ... بغيب، ولو لاقيته لتندما
كثير الخنا حتى إذا ما لقيته ... أصر على إثم وإن كان أقسما
وحسبك من القضاة شريح بن الحارث: كان شاعرًا مجودًا، وقد استقضاه عمر بن الخطاب ﵁، كتب إلى مؤدب ولده وقد وجده وقت
1 / 38