على أن هذه الحقيقة تخرجنا من دائرة البحث فيما إذا كانت اللذة غاية أو واسطة للغاية، إلى دائرة الحكم في أدبية الفعل؛ هل هو صواب أو خطأ؟ وهو ما لا محل له في هذا الفصل. وفيما تقدم بيان كاف على ما نظن لتدبر القارئ في المراد باللذة والغاية، وهل هما شيء واحد أو مختلفتان. فإن نظرنا في المسألة من وجهة الفعل بحد ذاته، ومن وجهة المحركات له؛ كانت اللذة غاية الغايات التي يرمي إليها الإنسان في أفعاله على الإطلاق.
إنما إذا نظر إليها من وجهة أدبية الفعل، وهل هو حسن أو صالح، صواب أو خطأ، كانت الغاية شيئا، واللذة شيئا آخر، وكانت الغاية الحرص على الحياة والنجاح في هذا الحرص، وكانت اللذة مغرية على الفعل ودليلا على أنه حسن. وإنما قد تكون دلالتها مضللة؛ ولهذا تلقى المسئولية على التعقل الذي له وظيفة الحكم.
ومما تقدم تفهم سبب الفرق بين الفريقين، وهو أن الأول يغفل أدبية الفعل في حكمه على اللذة والغاية، وفي قوله بأنهما شيء واحد، والآخر لا يرى بدا من اعتبار أدبية الفعل في الحكم على اللذة والغاية؛ لأن الإنسان ليس حيوانا مسيرا بحكم الغريزة وحدها، بل له تعقل ذو سلطان على غريزته، فلا يعمل عملا إلا إذا كان للتعقل يد فيه حتما؛ ولذلك يفكر ليختار بين لذتين، وأيهما أضمن لنجاحه في الحياة. فالحرص على حياته وبقائه ضربة لازب في أفعاله، فلا يمكن أن تكون اللذة غايته القصوى ما دام إنسانا أدبيا لا حيوانا غريزيا فقط. (2) قيمة السرور
إن قيمة السلوك تقاس بالسرور الذي ينتجه؛ ولذلك يعد السلوك حسنا بالنسبة لما ينتجه من السرور، فإذا أنتج سرورا أكثر مما كان ممكنا أن ينتج عد حسنا، وإن أنتج أقل مما كان ممكنا أن ينتج عد سيئا؛ مثال ذلك: أن تصطحب عائلتك إلى متنزه، فإذا أخذتها في سيارة دفعت أجرة أكثر جدا مما لو أخذتها في الترام، وكان ممكنا أن تنفق الفرق بين أجرة السيارة وأجرة الترام في أمر آخر يزيد سرورها؛ فإذن أخذها في الترام أوفر سرورا من أخذها في سيارة، ولذلك يعد السلوك الأول سيئا، والثاني حسنا. (2-1) تعاقب اللذة والألم
لا عبرة في الداعي للسلوك، وهو طلب السرور، بل العبرة في قيمة السرور الذي ينتجه السلوك. ولكل ضرب من السلوك وجهان: سار ومؤلم، فيقال: هذا أحسن من ذاك؛ لأن سروره يزيد على ألمه، والعكس بالعكس.
فالحكم في أي الوجهين أكثر مسرة يستلزم التبصرة في ظروف السلوك وعواقبه من قبيل المبادئ الأدبية، فالشخص الذي ينغمس في الملاهي الجسدية يجد لذة فيها، ثم يجد ألما في عواقب انغماسه، من أمراض وخسارة مال وسوء سمعة، فإذا استبصر في سلوكه ووازن بين ماضيه من لذة وألم، فربما وجد الألم يتفوق على اللذة، وحينئذ يدرك أن سلوكه سيئ فيعدل عنه.
وكذلك الغشاش يجد سرورا في غشه؛ إذ يتمتع بمال لم يتعب فيه، ولكنه يجد أيضا ألما في فقد الثقة به، فضلا عما يشعر به من توبيخ الضمير لاختلاسه حق غيره، فإذا وازن بين سروره وألمه شعر أن سلوكه كان سيئا، فالسلوك الرديء هو الذي ينتج أقل سرورا لا الذي لا ينتج سرورا بتاتا؛ لأن الإنسان لا يسلك سلوكا خلوا من ملذة البتة. ومهما كان السلوك حسنا وأعظم مسرة فلا يخلو من ألم.
ربما كان تحصيل المعرفة أعظم مسرة عندك، فالجهاد في تحصيلها ألم، وإن كنت لا تشعر بألمه في حال شعورك بسروره؛ فقد يضعف صحتك أو يشغلك عن المكسب، فتضطر أن تعيش مقترا، كذلك إذا كنت ولوعا بالكسب فجهادك في الحصول عليه ألم، وإذا كنت ولوعا بادخار المال فبخلك به على نفسك ينتج ألما. (2-2) تفاوت المسرات
وقد اختلف الباحثون في كيفية المسرات وكميتها؛ فقال بعضهم: إنها تختلف كمية فقط، وقال آخرون: تختلف كمية وكيفية أيضا.
المسرات تختلف كيفية باختلاف مواضيعها؛ فلذة العالم تختلف عن لذة الغني، ولذة الفنان تختلف عن لذة الاقتصادي، ولكن القائلين بكمية اللذة فقط يقولون: إن اختلاف المسرات باختلاف مواضيعها يرد كيفياتها إلى كميات ويحملنا على القول: إن مسرة الشاعر بشعره أعظم من مسرة الكاسب المال بكسبه، وإذا شئنا أن نجعل قاعدة لنوعية المسرات كما أو كيفا، فقد لا نجد هذه القاعدة إلا في قيمة المسرات وما يستحقه السلوك منها، وهي تعود بنا إلى الكمية فنقول: إن هذه المسرات أعظم قيمة من تلك، ولا فرق في اختلاف كيفيتها؛ إذ لا عبرة بالكيفية في الشعور بالسرور، فالمسرات تختلف باختلاف الشعور بها، والشعور يكون كثيرا أو قليلا. (2-3) مقايسة المسرات
صفحة غير معروفة