وجدت هذا الطفل ينفض عن نفسه الملابس الشتوية الكبيرة الثقيلة وينزع عنه كل أغطيته ويكاد مع الفرحة يطير ومع الدقة يرقص، ومع كل شيء وكل حدث يتوقف ويستمتع ويحب، ذلك الطفل الذي كان قد خيل إلي أنه انتهى من زمن ومات؛ لأنه كبر ونضج وتضخم عقله بطريقة ابتلعت بها كل تلقائيته، واندفاعه، وفرحته المستمرة بالحياة، وجدته يعود.
ولكن العقل أيضا، وجدته، ويا للدهشة! مع التلقائية والفرجة والطفولة يستيقظ! بل، ولأول مرة، يجد «متعة» في التفكير والتأمل.
وجاءت الفكرة هادرة كالمياه المندفعة من السد العالي.
إننا في مصر لا بد أن نصنع شيئا يعيد لنا حبنا للحياة.
إنني أمر في قاهرتنا الحبيبة في الشارع أو في السيارة فأجد ملامحنا منقبضة حتى ملامح الشبان والفتيات قاسية تعاني من الضيق.
ذلك أننا وكأنما استيقظنا ذات صباح فوجدنا أنفسنا قد وضعنا في مأزق حياة ووجود لا أعتقد أن شعبا قبلنا، ولا شعبا بعدنا سيوضع فيه؛ ذلك أننا استيقظنا لنجد أننا تضاعفنا في فترة لا تزيد عن الربع قرن أربع مرات في بلاد ورقعة زراعية ومأهولة لا تتسع إلا بالكثير لاثني عشر مليون إنسان، أصبح فيها الآن ربما أكثر من خمسين مليونا من السكان.
هذه المرة ليست المشكلة مشكلة فقر وغنى، مشكلة طبقية أو سياسية، ولكنها مشكلة لم تخطر لآدم سميث مفكر الرأسمالية أو كارل ماركس مفكر الاشتراكية على بال، مشكلة وجود بشري مكثف تكثيفا هائلا؛ بحيث يجعل من نفس ذلك الوجود جحيما بشريا لا يطاق، إن الإنسان إنسان لأنه «نوع»، والنبات والحشرات هكذا لأنها «كم»، والإنسان أبدا لا يستطيع أن يحيا، بل أن يسعد ويزاول كل وظائفه العليا كإنسان إلا وهو يحيا كنوع إنساني، والنوع الإنساني أحد متطلباته ليس الطعام فقط أو الأوكسيجين، ولكن «المساحة»، أو بالأدق الحد الأدنى من المساحة اللازمة لحركة وتنفس ووجود الكائن البشري الحي، وأعتقد أن علماء الجغرافيا البشرية والعلوم الاجتماعية لا بد يدركون أن هناك «مساحة حرجة» لازمة لوجود كل إنسان على حدة ليتكون مجتمع ما، فإذا تضخم العدد بحيث تجاوز هذه المساحة الحرجة، ووصل إلى مرحلة من التلاصق والتكثف غير بشرية بالمرة، لا بد أن تحدث لهذا الكائن البشري تغيرات وأمزجة واتجاهات وتطرفات وأنواع من الخبل والهوس والجنون الخفي على المستوى الفردي والجماعي، لم يعرفها الناس من قبل.
وذلك هو المأزق البشري الخطير الذي نحن عليه الآن.
لأمر ما عن للعقلية الجماعية المصرية أن تتكاثر وتتكثف، دفاعا مغلوطا عن النفس ربما، سرطانا جماعيا ربما، جشعا لحياة لا متعة فيها إلا الطعام والجنس ربما، لا أعرف، والغريب أن أحدا من علمائنا لا يعرف أيضا، بل لم تحاول جامعاتنا أن تدرس هذه الظاهرة، وما عدا ذلك الكتاب العظيم الذي كتبه الدكتور جمال حمدان والذي اصطحبت جزأه الرابع الخاص بالسكان في مصر معي في رحلة سابقة، وهي دراسة رغم تفردها وعبقريتها إلا أن جمال حمدان يقف أيضا، وهو العالم الفذ الكبير، يتساءل حائرا عن سر هذا الانفجار البشري المصري.
أما السر فنتركه لبحث علمائنا، إن أتاح لهم ازدحامهم هم الآخرين أن يبحثوا، أما نتائج هذا الانفجار وما يفعله فينا وبنا فتلك أمور لا بد أن نعي بها تماما، وإلا هلكنا، أجل، أقولها بملء صوتي: هلكنا، فكثير، بل أقول: معظم ما نشكو منه، مرجعه إلى هذا التضخم السرطاني الهائل في عدد السكان والأفواه، ولولا أننا شعب عريق الحضارة، تشكل المادة الحضارية جزءا أساسيا من تكوين أبسط فلاحيه وأمييه، لكانت قد حدثت لنا أهوال وأهوال، إن معظم الدعاوي والغوغائية السطحية والسلوك الغريب في مدرجات الكرة وحفلات الغناء، والشارع والنادي، ووسائل المواصلات، كلها راجعة إلى «التلاصق» الجسدي الذي تعدى المسافة الحرجة واعتدى على التفرد البشري الواجب ليكون الإنسان أو الإنسانة بشرا سويا، وفي مثل ذلك الجو غير العاقل وغير البشري فأي دعوى حتى لو كانت ضدنا ستجد الاستجابة، فالناس من فرط ازدحامها أصبحت تكره بعضها لله في لله، وتكره وجودها معا، وقد ضاق ذلك الوجود إلى حد الاختناق، تتوق إلى مكان أو فرصة تزاول فيه تفردها وإنسانيتها ونوعيتها البشرية فلا تجد.
صفحة غير معروفة