حديث
لقاء حافل مع دورنمات
دورنمات في مصر
افتح الحنفية ينزل كوكايين
المساحة الحرجة
ضحك الجنازات
مهزلة دورنماتية
الأب الغائب
ملعبة التليفزيون
وهوى النجم
صفحة غير معروفة
جولة في عقول القراء
أسرع يا بني وصور «إيزيس» بين الحكيم ومطاوع
لكي نعيش الحاضر لا بد أن نعرف المستقبل
حتما سأكتب قصتها
حديث
لقاء حافل مع دورنمات
دورنمات في مصر
افتح الحنفية ينزل كوكايين
المساحة الحرجة
ضحك الجنازات
صفحة غير معروفة
مهزلة دورنماتية
الأب الغائب
ملعبة التليفزيون
وهوى النجم
جولة في عقول القراء
أسرع يا بني وصور «إيزيس» بين الحكيم ومطاوع
لكي نعيش الحاضر لا بد أن نعرف المستقبل
حتما سأكتب قصتها
عزف منفرد
عزف منفرد
صفحة غير معروفة
دراسات ومقالات
تأليف
يوسف إدريس
حديث
تهمة لا أنفيها
قالت الشائعات: إن فترة المرض حولت فناننا الكبير إلى متصوف يرى الله في داخله، ثم جاءت كتاباتك الأخيرة شبه مؤكدة لهذه الشائعات.
فماذا عن رد هذه «التهمة»؟!
ضحك وهو يقول: هذه تهمة لا أنفيها، وشرف لا أدعيه؛ فالذي لا يرى الله في داخله، ليس هو فقط غير متصوف، أو غير مؤمن، ولكنه غير إنسان بالمرة، ولست من أولئك الذين يحبون أن يتحدثوا عما يؤمنون به؛ فأنا في داخلي معمل إيمان لا يتوقف عن البحث والتنقيب، والتجريب والرفض، والعدول والقبول، معملي هذا غير ملتزم بإصدار نشرة دورية عن «أحدث» ما وصل إليه!
وأعتقد أن «الشائعات» صيغت بهذه الطريقة كي أبدو في نظر الناس كأني لم أكن مؤمنا بالله، ثم آمنت به أخيرا بعد المرض، لكن كيف وضعت «حيثيات» قضية خطيرة كهذه وأنا نفسي لا أعرف عنها شيئا؟!
بيني وبينك، أنا لا أستطيع أن أضع إجابة محددة لهذا السؤال، لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل؛ أنا لا أكاد أعرف من أنا! أعرف الله، سبحانه، أو أعرفه للآخرين؟! كل ما أستطيع قوله في هذا المضمار هو أني أكون، في معظم الأحيان، صادق الإيمان بالكلمة حين أكتبها، وبالفعل حين أفعله.
صفحة غير معروفة
ترى، هل أجبتك؟!
فلنستبعد حكاية الزعامة
شغلت بتأمل طريقته في الكلام؛ هو أحد فنانينا الكبار الذين بمقدورهم أن يسيطروا على الكلمة المنطوقة، أكثرهم تتجلى عظمة مواهبهم عندما يمسكون بالقلم، لكنهم عندما يتكلمون فلا فرق بينهم وبين سائر الناس.
يوسف إدريس يتكلم بنفس البراعة التي يكتب بها، رأيته مرة في بيت رجاء النقاش «يحكي» لمن حوله عن مشكلة ما صادفت أحد معارفه؛ طريقة «الحكي» عنده تأخذ شكلا دراميا دون أن يقصد، كان يقدم في الحكاية أشياء ويؤخر تفاصيل، ثم يكشف عنها شيئا فشيئا، والذين يجلسون حوله يحبسون الأنفاس، وكلما توغل في «الحكي» ظهرت مفاجآت جديدة ومشوقات، كل هذه بطريقة عادية جدا وبلا جهد، والسؤال الخالد: «وماذا بعد؟» واضح على وجوه الجالسين.
إذن، قلت لنفسي لحظتئذ: أنت أمام قصاص بالسليقة؛ من غير المعقول أن يعقد لواء الزعامة في فن القصة القصيرة في عالمنا العربي لإنسان ما، ما لم يكن هذا الإنسان قد ولد ليكون قصاصا.
دكتور يوسف، اتفق النقاد، وبما يشبه الإجماع، على زعامتك للقصة العربية القصيرة، إلا أن الناقد الكبير جبرا إبراهيم جبرا يقول إن قصصك مبنية على «رؤية روائية»؛ بحيث تبدو القصة وكأنها «رواية مكثفة»؛ ومن ثم فهو يعتبرك روائيا لا كاتبا للقصة القصيرة، وهل ثمة «دفاع»؟!
رفع كفه إلى أعلى وقال بلهجة المحتج:
أولا:
فلنستبعد حكاية «الزعامة» هذه، ويكفينا ما يغص به عالمنا العربي من زعامات!
ثم أراح يده على المائدة وعاد إلى صوته الطبيعي.
صفحة غير معروفة
ثانيا:
أنا أوافق الأستاذ الكبير جبرا إبراهيم جبرا على مسألة «الرؤية»؛ فالرؤية الروائية لا تختلف عن الرؤية القصصية القصيرة إلا إذا اختلف الإنسان الطويل عن الإنسان القصير، كلاهما إنسان؛ ولهذا فأنا أضحك عندما يقال: هذا كاتب روائي، وهذا كاتب أقصوصة، كلاهما كاتب روائي وكاتب أقصوصة، كأن في هذا نوعا من التعريف مع أنه في رأيي نوع من اللاتعريف، المهم في الموضوع كله هو «الرؤية»، سواء كان الشكل الفني هو القصة القصيرة أو الرواية، وعلى كل حال فإن القصة، بنوعيها، قد انفصلت تماما في عصرنا الحديث عن جدتها وأمها؛ أعني عن الملحمة والحدوتة، صارت نوعا آخر جديدا له وظيفة أرقى بكثير من «طريق الندامة»، و«سكة السلامة»، والموعظة الحسنة، لكن هذا موضوع يطول شرحه، هو في حاجة إلى بحث؛ ربما كتاب.
ماهية القصة
قلت مرة إن القصة فن دقيق جدا وخطير جدا، ومتقدم جدا حتى على العقلية السائدة في العالم اليوم، والبشرية حتى الآن لم تكتشف «ماهية» القصة!
هل نطمع في شيء من التوضيح؟
نظر قليلا إلى سفينة بعيدة بدت لنا تصعد وتهبط في خط الأفق قبل أن يقول: الفن باعتباره نوعا من التكوين البيولوجي للإنسان، لم يكتشف دوره تماما بعد، وأعتقد أنه لن يكتشف إلا إذا اكتشفت كل أسرار الحياة.
ولنتأمل الحقيقة البسيطة التي تقول إن النبات يحزن ويفرح ويستجيب للموسيقى وللحنان، ما دام هذا يحدث لأبسط أشكال الحياة؛ للنبات، فكيف الحال بالإنسان؟! ألا تعتقد أن الفن يتخذ أبعادا أعمق ملايين المرات عند ذلك المخلوق الذي هو أرقى ما وصل إليه تطور الكائنات؟!
القصة، بالنسبة للفن، هي سلم التطور كله، هي تقريبا، أول فن يستجيب له الطفل، ثم تظل معه في رحلة الحياة يستجيب لها في كل مراحل عمره، حتى وهو في قمة نضجه.
هذا النوع من الفن الذي يعمل على كافة هذه المستويات، لا بد طبعا أن يتضمن كافة الفنون الأخرى؛ اللغة، والموسيقى، وإيقاع الحياة، وتوهج الخيال، وتغيير المكونات الداخلية الدقيقة في الإنسان، جمالية كانت أو فكرية.
القصة تحتل - في الفن - المقامات الموسيقية السبعة؛ ومن هنا فهي فن دقيق وخطير لم تكتشفه البشرية بعد.
صفحة غير معروفة
وظيفتي مساعدة الآخرين
هذا يقودنا إلى سؤال هام أدخلت نفسك فيه دون أن تدري، كنت تقول إنك أكثر ميلا إلى العزف على العاطفة البشرية، وأقل حماسا للعقلانية المحضة على أساس أن التأثير على الوجدان يحدث أثرا أعمق من التأثير على العقل، لكنك في الفترة الأخيرة أوليت المقال عناية خاصة بحيث جعلته أشبه بالدراسة المركزة؛ الأمر الذي شكل - في رأيي - خطرا على إنتاجك الفني من ناحية، ويناقض قولك الأول من ناحية، فما قولك؟
ما إن انتهيت من السؤال حتى رأيته يتجهم ويصمت صمتا تاما ؛ من ميزات فناننا الكبير أن ما في داخله يتضح على وجهه في التو واللحظة، بعد فترة ليست بالقصيرة خرج عن صمته: سؤالك هذا ليس هو الأول، تلقيت رسائل كثيرة تطالبني بالكف عن كتابة المقال، كيلا أهدر موهبتي القصصية والمسرحية، لكن هناك عدة قضايا في هذا الشأن؛ القضية الأولى هي: أن الكتابة ليست فقط شكلا فنيا، والكاتب في عصرنا الحديث هو المنبه لقومه، المقلق، الموحي، هو الذي إذا نام الناس صحا، وإذا صحوا نام، إذا انحرفوا يمينا اتجه يسارا، وإذا سدروا في يساريتهم توسط أو أيمن؛ إنه الضابط للحركة، البوصلة، العازف على الناي إذا كان للحكمة ناي.
القضية الثانية هي: أنني لا أكتب بناء على تحديد دقيق لوظيفتي في الحياة؛ فلست أعرف لي وظيفة غير محاولة مساعدة الآخرين ليساعدوني، وحين أرى عقل أمتي هو الغائب، فلا أفكر لثانية واحدة في أي شيء سوى أن أعتبر نفسي مجندا، تماما كالمجند إجباريا في القوات المسلحة للدفاع عن الوطن العقل، أو العقل الوطن، يجب أن تعرف أن ثمة هجوما رهيبا - وبأشعة ليزر - على الأمة العربية، لا أعني الأرض العربية فقط، وإنما أعني العقلانية العربية.
عندما يكون عقل أمتي في خطر، فلتذهب جميع الأشكال الفنية - القصصية والروائية والمسرحية - إلى الجحيم، إن الكتابة ليست هزلا، وإذا كنا قد ذللناها وأسميناها أدبا أو فنونا جميلة، فأعتقد أننا فعلنا هذا عن تخلف شديد في إدراك، ليس فقط ماهية الفن ودوره في الحياة، بل ماهية الحياة ذاتها وقيمتها، الكتابة عمل خطير؛ إنها العقل والوجدان والروح تنسكب على الورق، وقد أدرك أعداؤنا هذا من زمن طويل، وتمكنوا من هزيمتنا فنيا وفكريا، وسهل عليهم بعد ذلك أن يهزمونا عسكريا، الهزيمة كانت إنسانيا أولا؛ لأن الإنسان هو الذي يقاتل وليس سلاحه، الجزء المقاتل في الإنسان هو إرادته، والكلمة الصادقة هي إرادة الإنسان، عندما أقول «الكلمة» فإنما أعنيها بمعناها الواسع الشامل لكافة ما يحرك النبضة في الكائن الحي.
إني أعتبر نفسي مجندا للدفاع عن عقلي وكياني أولا؛ لكي أدافع بهما عن عقل بني وطني، وحين يصل الأمر إلى مرحلة الالتحام بالسلاح الأبيض وأنعزل أنا فوق السطح لأكتب قصة أسلي بها المحاربين، أعتقد أن المسألة تصل عندئذ إلى درجة الخيانة. أما عن المؤرخين، فإنهم أحرار إذا اعتبروا ما أفعله هو العبث بعينه؛ لأنني - كما يقولون - أهدر موهبتي القصصية والمسرحية فيما يسمونه كتابة المقالات، ومن يدري، ربما لن يبقى مني - إذا بقي شيء - إلا ما يقال إني أهدره؟!
الحرام، والحلال
أثناء حديثه كانت عيناه تتوهجان، ترسلان ذلك البريق الذي لا تجده إلا عند أولئك الذين وصفوهم بأنهم ملئوا الدنيا وشغلوا الناس، ربما هو يمتاز عن الكثيرين منهم بأن الكلمة عنده مقرونة بالفعل في أكثر الأحيان؛ وربما لهذا السبب تجده يركز على الجانب الإيجابي في الضحية الإنسانية، وفي أغلب أعماله الفنية، وقلت لنفسي، وأنا أرى توتره، لا بد من سؤال جديد - وبأقصى سرعة - لنخرج عن جو السؤال السابق: سمعتك مرة في إحدى الندوات تقول: إن مشكلة «الخطيئة» مشكلة أجنبية غريبة علينا، ومع ذلك نعالجها في أعمالنا الفنية، بينما المشكلة التي نقابلها في مجتمعنا هي «الحرام»، والفارق دقيق بين الخطيئة والحرام، ولكنه أساس، ثم دارت مناقشة جانبية في الندوة نسيت بعدها أن تقول لنا عن هذا الفارق، ألا تعتقد أنها فرصة الآن لتكمل ما بدأته؟! - الخطيئة، بشكلها المسيحي، تتضمن أن الإنسان كائن خاطئ بطبعه، وقد جاء الإسلام ليغير هذا المعنى، ثم طورت المدارس الإسلامية هذا التغيير إلى فكرة «الحرام»، ومعناها أنه ليس هناك خطيئة أبدية، ولكن هناك أفعالا حلالا وأفعالا حراما، وهذا الفهم أكثر عدلا بالنسبة للإنسان وأكثر تحريرا لإرادته.
لكن أغرب ما في الأمر أن الديانة المسيحية - وفقا لتعاليم السيد المسيح، عليه السلام، ترفع هذه الخطيئة عن كاهل الإنسان باعتبار أن السيد المسيح قد حمل عن البشر خطاياهم كلها، بينما ارتدت المذاهب الأوروبية المسيحية إلى فكرة أن الإنسان كائن خاطئ أساسا لتستطيع أن تحكم قبضتها على الناس.
الشخصية العربية
صفحة غير معروفة
ما دمنا قد تحدثنا عن «البشر» بصفة عامة في مفهومين مختلفين، فما قولك في سؤال عن «الإنسان العربي» وحده؟ - أي سؤال؟ - في كتابك القيم «اكتشاف قارة» حللت الشخصية الألمانية والشخصية اليابانية؛ قلت إن الأولى تتحكم فيها عقدة التفوق بينما مركب النقص هو الذي يتحكم في الثانية، ترى، ما أهم مزايا وعيوب الشخصية العربية في رأيك؟
وقف ودار حول المائدة واقترب من جهاز تليفون الكازينو، رفع السماعة وأدار القرص لمرة واحدة، ثم أعاد السماعة إلى مكانها وجاء ليجلس بجواري، أشعل لنفسه سيجارة، وقال بصوت هادئ: سأغادر الإسكندرية إلى الزقازيق غدا، إن كنت ستسافر إلى القاهرة غدا، تعال معي. - شكرا، سأقضي بضعة أيام بالإسكندرية، لكنك قلت لي إنك ستقضي هنا عشرة أيام. - مللت، لا بد من السفر إلى الزقازيق، ومنها إلى الريف.
هذا هو السر إذن؛ كثرة الأسفار هي التي مكنته من التحرك في عالم متسع، من يراجع أعماله الفنية يدهش لتنوع هذا العالم وثرائه، إنه يكتب عن القرية بنفس القوة التي يكتب بها عن المدينة، أحيانا تجد أحداثه تدور في «العزبة» الصغيرة، وكأنه ولد فيها، وأحيانا تجده يتحرك في مدينة أوروبية، وكأنه من أهلها، وقطع علي أفكاري بقوله: الشخصية العربية تختلف عن الشخصيتين الألمانية واليابانية؛ هي شخصية - كما يسمونها في علم النفس - الاكتئابية المرحة؛ تتردد باستمرار بين المرح والاكتئاب، نحن لا نحتمل الحزن طويلا، ولا نحتمل المرح طويلا، في حالة حزن إذا مرحنا، وفي حالة مرح إذا حزنا.
أهم عيوب الشخصية العربية هو التعقل، نادرا ما تصاب بالجنون، تكتئب حقا حين تسوء الظروف، لكنها لا تجن، لا تجد عندنا أحدا ينتحر مثلا.
هذا العيب نفسه هو الميزة؛ نحن شعب عاقل جدا؛ لأنه متوازن، وهذا هو السبب الذي جعلنا نعيش كل هذه الآلاف من السنين - وتحت أسوأ الظروف - دون أن نفقد شخصيتنا، دون أن ننتحر. - ما رأيك في أن نعود إلى الأدب؛ كي يكون ختامها مسكا؟ - موافق. - ما الذي ينقص أدبنا ليصبح أدبا عالميا؟ - هذا السؤال أجاب عليه زميلي وصديقي الأستاذ الطيب صالح إجابة جميلة أوافقه عليها تماما؛ العالم ليس هو العالم الكبير الذي يشمل البشرية كلها، بل هو الذي يبدأ صغيرا ثم يتسع، والمفروض في الأديب أن يخاطب العالم الصغير، عالمه، فإذا نجح في مخاطبة عالمه فإنه يكون بمثابة من نجح في مخاطبة العالم كله.
وأقول لك شيئا: إن أهم ما في الأمر هو الصدق؛ هل نحن صادقون حقا في مخاطبة عالمنا؟! إن صدقنا سنصل إليه، وإذن، علينا أن نحاول الوصول إليه أولا، ثم نفكر بعد ذلك في الوصول إلى العالم الكبير.
لقاء حافل مع دورنمات
حين كنت طالب علم أقرأ المراجع الطبية، وأقرأ أحيانا كتبا لأساتذة الأدب في القرن التاسع عشر كانت صورة أولئك الأساتذة - سواء في العلم أو الأدب - تأخذ عندي طابعا مبالغا فيه تماما؛ كنت أتصور أن ذلك الرجل العظيم الذي باستطاعته أن يكتب هذا المرجع أو يحيط به، بل أحيانا يكتشف ويخترع تلك المعلومات لا يمكن أن يكون مثلنا أبدا، وكنت لا أفعل هذا عن تصور رومانسي لإنسان خرافي أو من عالم آخر كتب أو ألف، ولكن الكاتب أو العالم يعطينا فيما يكتبه خير ما عنده، أو بالأصح، معجزته الخاصة التي وصل إليها وحده، وقياسا على هذا نتصور نحن أن كل شيء فيه - مثل إنتاجه - معجزة هو الآخر ومن مجموع تلك المعجزات التي تكون شخصه يتبدى لنا في صورة أسطورية تماما، بل إني لأذكر أني بعد أن أصبحت كاتبا وصدر كتابي الأول «أرخص ليالي» كنت مدعوا إلى حفل في إحدى السفارات، ووجدت ضمن المدعوين الدكتور طه حسين يصطحبه سكرتيره الأستاذ فريد شحاتة، وكنت أعرف أن الدكتور طه حسين قد قرأ كتابي وأعجب به تماما، وأنه أوصى المرحوم الأستاذ سامي داود أن يخبرني أنه يريد أن يراني، وها هو ذا طه حسين أمامي لا تفصلني عنه إلا بضع خطوات، وما علي إلا أن أذهب إليه وأسلم عليه وأقول له اسمي، فلا حرج إذن ولا إحراج، ولا داعي للوجل، والرجل هو الذي يطلب لقائي، ومع هذا لم أستطع أن أخطو خطوة واحدة تجاه الأستاذ العميد الذي قرأت له «الأيام» و«المعذبون في الأرض» و«أديب»، والذي كنت أضعه هو والأستاذ توفيق الحكيم في برج فني خاص أقول لنفسي إنني أبدا لن أستطيع بلوغه، وهكذا مضت الحفلة وغادرها طه حسين ولم أقابله إلا بعدها بعام حين اصطحبني المرحوم سامي داود بما يشبه الإرغام للقائه في فيلته بالزمالك في ذلك الحين.
تذكرت كل هذا، وأنا في طريقي للقاء فردريك دورنمات أعظم كاتب مسرحي معاصر - في رأيي المتواضع - ذلك أني حين دعتني «البروجيلتسيا» وترجمتها: «من أجل سويسرا»، وهي الهيئة التي تشرف وتشجع وترعى الأدب والفن السويسريين، وكان رفيقي في الرحلة أستاذنا الدكتور لويس عوض، جعلوا لنا برنامجين مختلفين؛ فالدكتور لويس آثر أن يزور المتاحف والمكتبات والأماكن التاريخية، وأن يعتكف بعيدا عن الخلق يتأمل كل ما قرأ عنه في تاريخ سويسرا وأماكنها المشهورة حتى الصخرة التي كتب الشاعر الإنجليزي بايرون قصيدة مشهورة بجوارها، بينما كان اهتمامي الأول أن أتعرف على الناس؛ كتابا وفنانين، ومسرحيين من مختلف أنحاء سويسرا.
وهكذا افترقنا.
صفحة غير معروفة
وفي حفل عشاء صغير أقامه الكاتب السويسري أدولف موشك وزوجته الكاتبة لزوجتي ولي، وحضره عدد آخر من الكتاب، أسرني ذلك الجو الأسري البسيط الذي يحيا فيه الكاتبان: زوجة وزوج، ولم يخل الأمر من مداعبات أطلقتها عن التناقض الكامن بطبيعته بين الحياة زوجا وزوجة وبين الزمالة في العمل، فكلاهما كاتب ناجح، وحين انتهينا من العشاء ورحنا نتحدث جاءت سيرة «دورنمات»، وهنا وجدت حناجر الكتاب والكاتبات المجلجلة بدا وكأنها ازدردت لقمة كبيرة أوقفت الكلمات في الحلوق، وحين استؤنف الحديث استؤنف على هيئة كلمات متناثرة عن دورنمات، فمن قائل: لقد ماتت زوجته التي كان يعبدها وتزوج بأخرى وهو عجوز هكذا! ومن قائل: إن وزنه قد زاد كثيرا وإنه قليل الحركة جدا. ومن قائل: إنه يعاني من السكر ... أخبار محزنة على طول الخط، خاصة وقد كنت أتمنى أن ألقاه في هذه الرحلة إلى سويسرا، ولم أجد بدا من أن أبوح بأمنيتي تلك لهم، وجاءت الكلمات تترى تقول: إن دورنمات لا يقابل أحدا، إنه «سوبر ستار» الآن، ولا يقابل أحدا، كثيرون من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء يحاولون لقاءه، ولكنه باستمرار يرفض، لقد أصبح مغرورا تماما، ويوشك غروره أن يقتله في بيته المنعزل في نيوشاتل وابتسمت في سري، لكأننا في القاهرة أو في أية عاصمة عربية أخرى؛ لا رحنا ولا جينا! إن آراء الكتاب في بعضهم البعض، وإن اتخذت طابع «الموضوعية» حين تقال علنا، إلا أنه حين يصبح الأمر مسألة نميمة وآراء تقال في دائرة مغلقة، فإن كل مستور من الآراء يظهر أو بالأصح كل مستور من الغيرة أو الحقد يطفو على السطح وينطق به اللسان، ودورنمات كاتب موهوب جدا بالنسبة لبلد أوروبي صغير كسويسرا لم يعرف عنه إنتاج عباقرة الكتابة أو الموسيقى أو التصوير، وقد أخذ دورنمات طريقه إلى العالمية بسرعة شديدة، فهو يكتب بالألمانية، ومن السهل ترجمته، فقد كتب أول مسرحية له اسمها: «الأعمى والشهاب» عام 1948، وبعد عشر سنوات بالضبط كانت مسرحيته الثانية «زواج مستر مسيسبي» تقدم في برودواي في نيويورك عام 58، ناهيك عن مسرحيته المشهورة جدا «زيارة السيد العجوز» التي كتبها عام 56 (وعمره وقتها 35 عاما)، وقدمت أيضا في نيويورك، وفي كل عواصم الدنيا تقريبا، وترجمت إلى العربية، وقدمت هنا عدة مرات، كان آخرها الصيف الماضي، وإنتاج دورنمات في المسرح 18 مسرحية، فقد كتب أيضا «علماء الطبيعة»، وقدمت في مصر من ترجمة الصديق الكبير أنيس منصور، الذي زاره، وكتب عنه في الستينيات، و«روميلوس العظيم» عن آخر أباطرة الدولة الرومانية، و«هرقل ينظف إصطبل أوجياس»، و«فرانك الخامس»، و«آخر حرب الشتاء في التبت»، و«هكذا كتبت»، وأيضا اقتبس مسرحيات لشكسبير وجوته وغيرهما؛ تسع مسرحيات للآن، كتبها دورنمات، ولكنه أصبح بها أستاذ مسرح النصف الثاني من القرن العشرين؛ ذلك أن هذا الرجل يتمتع بموهبة القدرة على خلق الأسطورة الحديثة التي يحرك بها الواقع الآسن ويجعل منه فنا عظيما (وسنأتي إلى هذه النقطة في الحوار معه).
ودورنمات كروائي يأتي من الدرجة الثانية من موهبته ككاتب مسرح، وقد كتب عدة روايات؛ منها: «القاضي والمحكوم عليه» عام 55، و«الشك» 53، و«الإغريقي يبحث عن الإغريقية» 55، و«اللعبة الخطرة» 56، و «الالتماس» 58.
أجل ما بهرني في دورنمات ككاتب مسرح هو قدرته على اختراع حدوتة مسرحية معاصرة، بينما العادة جرت في معظم كتاب المسرح أن يلجئوا إلى الميتولوجيا الإغريقية مثل «أوديب» و«بيجماليون» و«إلكترا» و«الذباب»، يعيدون كتابتها برؤية حديثة ومبتكرة، أما أن «تخترع» أسطورة حديثة تماما، منتزعة من صميم عصرها ومتناقضاته، فتلك لا بد موهبة من نوع فذ تماما.
ومن هنا يختلف دورنمات عن معاصريه من كتاب المسرح العالميين مثل آرثر ميللر وتينيسي ويليامز وبيكيت ويونسكو وموروجيك وغيرهم.
إن لكل شيخ طريقته، هذا صحيح، ولكن هذا الشيخ نسيج وحده. •••
لم يفعل الحديث الذي دار بعد العشاء، إلا أن ثبط همتي تماما في لقاء دورنمات، مع أني لم أكن مشغوفا جدا بلقائه، فقد علمتني التجربة أن «سماعك بالمعيدي خير من أن تراه»، ثم إن خجلي الريفي الذي لم يزاولني أبدا فعل فعله فخفت أن أطلب من السيدة «زايفل» المسئولة عن زياراتنا موعدا مع دورنمات فتعتذر، ولو بلباقة، كدأبها مع كل من يطلب من الكتاب الذين يزورون سويسرا - هكذا قال لي الكتاب والكاتبات في حفلة العشاء.
صرفت النظر كما قلت، ولكن أثناء زيارتنا - زوجتي وأنا - لمنطقة سان مورتيز ولقائنا بممثل البروهيلفسيا هناك الذي اتضح أنه من الشعب الرومانشي الذي يقطن في منطقة جبال الألب، والذي له لغة خاصة وأدب خاص وحركة فنية ثقافية خاصة، والذي لا يتجاوز عدده المليون، وبعد جولة في قمم جبال الألب اصطحبنا المسئول لزيارة صديقة له وصديق يعيشان في واد صغير يقع بين جبلين بالقرب من سان مورتيز، والوادي صغير جدا والأرض والبيوت فيه غالية الثمن تماما، فلا يقل ثمن البيت فيه عن مليون فرنك سويسري، مع أنه لا يتعدى أي بيت من بيوت الفلاحين الذين كانوا يقطنون ذلك الوادي من زمن غير بعيد.
دخلنا المنزل، فهو بيت مثل بيوت الفلاحين في قرانا مصنوع من الخشب ومزود بفرن للتدفئة ولإعداد الطعام، كل ما في الأمر أن الأسرة لا تنام فوق سطح الفرن كعادتنا في الأرياف، ولكنها تنام في الحجرة التي تقع أعلى الفرن مباشرة، والتي تتكفل حرارة الفرن بتدفئتها طوال الليل والنهار، وعلى كوب الشاي الذي أعدته ربة البيت ورحنا نرتشفه بنهم بعد الجولة الحافلة في المناطق الجبلية الوعرة ذات الهواء البارد تماما، عرفها المسئول بنا، وعرفنا بها، وذكر لنا أن أخاها يعتبر من أهم الناشرين في اللغة الألمانية بسويسرا، وهنا، وفي التو، قرنت بين الناشر وبين الكاتب، وسألتها إن كان قد نشر شيئا لدورنمات؟ فقالت: أجل. قلت: إذن، تعرفين دورنمات؟! - بالتأكيد. - أأستطيع أن أعرف منك رقم تليفونه؟ - ها هو ذا، ولكن، لماذا؟
وهنا ذكرت لها رغبتي في لقائه والحديث الذي ثبط همتي، إلى آخر القصة.
ولمحت التردد على وجهها مخافة أن أطلب منها أن تحدد لي موعدا معه، فقلت لها على الفور: لا عليك، يا سيدتي، أنا لن أكلفك بالاتصال به، سأقوم أنا بهذا، وأجرب حظي.
صفحة غير معروفة
وحين عدنا إلى الفندق في سان مورتيز، أخرجت الرقم وطلبته، ورد علي صوت رجل يتحدث بالألماني، فسألته بالإنجليزية: مستر فريدريك دورنمات؟ - يا، يا (نعم بالألمانية). - (مواصلا بالإنجليزية) أنا اسمي فلان، وأنا كاتب مسرحي مصري، وأود لقاءك ليس لحديث صحفي، ولكن لحوار حول قضايا مسرحية تشغلني وتشغل كتاب المسرح المصري والعربي، أفهمتني يا مستر دورنمات؟ - متى أستطيع أن ألقاك؟
قال كلاما بالألمانية فناولت السماعة لمرافقنا الرومانيشي مندوب البروهيلفسيا، وظل يقول: يا، يا، يا.
وأخيرا نحى السماعة جانبا وأغلق فوهتها، وقال بالإنجليزية طبعا: إن مستر دورنمات يرحب بلقائك يوم الثلاثاء القادم، في منزله بنيو شاتل، وهو يترك لك حرية اللقاء على الغداء 12 ظهرا، أو على مشروب بعد الظهر في الثالثة، فما رأيك؟ - الثالثة يوم الثلاثاء، إذن.
وقد كان.
وكان عجبي شديدا أن تم الأمر بهذه السهولة! •••
قامت مدام زويفل المسئولة عنا بترتيب كل شيء: آلة تسجيل، كاميرا، ومترجم يجيد الألمانية والإنجليزية واللغة العربية، حتى كان عليه أن يلقانا في محطة نيوشاتل للقطارات في الساعة الثانية بعد الظهر.
ومن أعظم الأشياء الموجودة في سويسرا شبكة السكك الحديدية التي تحملك إلى أي بقعة من سويسرا رغم وعورة جبالها وكثرتها وتعدد أنواعها، نوع لصعود الجبال، ونوع للسهول، ونوع دولي يحملك إلى أي مكان في أوروبا، والأهم من هذا دقتها الشديدة، وقد كان علينا مرة أن نغادر سان مورتيز ونغير القطار الذاهب إلى لوشيانو في محطة ما لا أذكر اسمها، وكنا وحدنا، وسألت مدام زويفل عبر التليفون، كيف سأعرف المحطة؟ قالت: انظر في ساعتك؛ حين تصبح السابعة وثلاث دقائق استعد للنزول؛ فالقطار يصل إلى المحطة في السابعة وأربع دقائق. وفعلا، في السابعة وأربع دقائق كنا نهبط من القطار على رصيف المحطة التي فشلت في تذكر اسمها، لكأنه نوع من التعرف على المكان بالزمان، إن صناعة الساعات لم تنشأ في سويسرا عبثا، وأنا شخصيا لدي ساعة سويسرية دقيقة لا أحتاج إليها كثيرا في مصرنا الغالية، لم أحتجها تماما إلا هناك؛ فخطأ في نصف دقيقة قد يكلفك قطارا هاما يفوتك، أو موعدا لقيام طائرة.
في الثانية تماما كان المترجم هناك، بالضبط في بوفيه الدرجة الأولى واقفا على الباب، ودون أن نتبادل كلمة كنا قد تعارفنا.
كان المطر قد بدأ يتساقط، وما إن خرجنا من باب المحطة حتى أصبح سيولا، وكان العثور على تاكسي في هذا الجو مسألة صعبة تماما، ووجدنا أن خير طريقة هي أن ننتظر مسافرا قادما بتاكسي لنأخذه، وأفلحت الطريقة، وسألنا السائق عن العنوان، فأكد أنه يعرفه، وسار بنا في شوارع خلت من المارة تقريبا، إلى أن أصبحنا نسير في شارع مواز لبحيرة نيوشاتل، وبدأ السائق يعد أرقام البيوت، وبدأ يبرطم، فكل الأرقام موجودة إلا رقم منزل دورنمات، المطر والبرد والشارع المتعرج كالجبل الملاصق له لا تلمح فيه أثرا لإنسان أو لحياة، وتصورت أن السائق سرعان ما يزهق وينفض يده ويعود بنا إلى المحطة حيث كنا، ولكن يبدو أن الرجل أخذها مسألة تحد، فمضى يطرق الأبواب؛ بعضها يفتح له ويجيب بالتأسف، وبعضها يهز رأسه علامة اللاعلم، ويروح السائق ويجيء في الشارع المتعرج الطويل، وأخيرا جدا يطرق بابا نلمح من خلفه رأسا يهتز بالمعرفة، ويعود السائق متهللا وكأنه أرشميدس، يقول: وجدتها وجدتها! وبعد دقائق نكون أخيرا أمام باب دورنمات.
فتحت لنا الباب سيدة شابة حسبتها أول الأمر زوجة دورنمات الجديدة، ولكن اتضح فيما بعد أنها «شغالة» البيت، ومن ممر ضيق نفذنا إلى حجرة واسعة منخفضة بضع درجات، وكان دورنمات جالسا إلى مكتبه، قام وتقدم ناحيتنا مرحبا، ومسلما.
صفحة غير معروفة
الرجل في تمام صحته، قصير القامة، في الخامسة والستين يبدو نشط الحركة، ليس سمينا أو زائد الوزن كما قالوا، ولا يمشي على عكاز كما زعموا، أشيب الشعر يضع منظارا، على وجهه آيات ترحيب صادقة، ترحيب متواضع أشد ما يكون التواضع.
ولم يكن دورنمات أول كاتب ملأت شهرته الآفاق أقابله، فمن قبله لقيت سارتر وإيليا أهرنبورج في النمسا، وآرثر ميللر وجون إيدابك وسول بيللو من أمريكا، وكل منهم كنت أحس لديه بكم ما من الشعور المغتربة للذات وبالذات، إلا هذا الرجل الذي بدا لي شيخا صغيرا طيبا، فيه من ملامح الطفولة أكثر مما فيه من ملامح الشيوخ.
كان حائط بأكمله من حجرته مصنوعا من الزجاج ويطل من عل على بحيرة نيوشاتل والجبل المنحدر إليها، مكان عمل جميل جدا لفنان رسام وكاتب معا.
رحت أتأمل الرجل، هذا هو دورنمات إذن، الذي خلبت أفكاره لبي وجعلتني أتساءل عن كنه ذلك الكاتب المسرحي الذي «يخترع» تلك الأفكار. - أستاذ دورنمات، أنا شديد الإعجاب بمسرحك لسبب قد يخالفني فيه الكثير من نقادك، فنقادك يشيدون بك لأنك أحللت الصدفة محل القدر الإغريقي القديم، وجعلت التفكير العقلاني في أحيان كثيرة موجات من العبثية واللامفهومية، وفي مثل هذا الجو غير المعقول لا يمكن وجود الأبطال، ويقولون: إنك حطمت النظرة المنمقة المرئية للعالم المتمدين بما أدخلته عليها من النظرة النسبية للحقائق، وفي مكان البناء السليم المتكامل والقوانين الأخلاقية المطلقة، في مكان هذا حلت بيروقراطية المجتمع الحديث لتضع رؤية عينية للكون؛ حيث يستحيل فيها الإنسان ومأساته إلى سخرة (فارس) اجتماعية، نقادك يقدرونك لهذا، ولكني معجب بك لسبب آخر تماما.
أجاب دورنمات بابتسامة ماكرة: أي سبب؟
قلت: لأنك كمسرحي، خالق لما أسميه الأسطورة الحديثة، فالواقع كما هو، أنت تعرف وأنا أعرف لا يصلح بذاته كمادة مسرحية، لا بد من حيلة مسرحية يلجأ إليها كاتب المسرح ليجعل هذا الواقع إما أن ينقلب رأسا على عقب، وإما أن يعتدل إذا كان مقلوبا؛ لنستطيع أن نراه في ضوء جديد تماما وبرؤية جديدة تماما، فمثلا في مسرحية «زيارة السيدة العجوز» أنت تريد أن تتحدث عما يحدثه العامل المادي في النفوس البشرية، وكيف يتسلط عليها ويغيرها، غيرك كان يلجأ لعرض هذا الموضوع في قالب درامي مهما بلغت درجة إتقانه فسوف يكون مباشرا، أنت اخترعت قصة السيدة التي غادرت القرية منبوذة من حبيبها، والتي عادت إليها بعد أن أصبحت غنية جدا ورصدت مليون دولار لمن يقتل لها حبيبها السابق، هذه «الاختراعة» المسرحية جعلتنا نرى الموضوع بطريقة مسرحية مثلى، وجعلتنا نراه وكأننا لم نره من قبل مع أننا نراه كل يوم. أردت لقاءك إذن، ومناقشتك؛ لأننا في العالم العربي نعاني ككتاب مسرح (وأنا منهم) لخلق هذه الاختراعات المسرحية المصرية والعربية الحديثة لنرى واقعنا وواقع العالم اليوم على ضوئها.
قال: إنه لشيء غريب، ولكننا في خلقنا للأسطورة الحديثة، كما تسميها نجد أنفسنا في النهاية وقد عدنا إلى أساطير الأقدمين، إلى الميثولوجيا الإغريقية مثلا، إن النظرة الكونية الشاملة الكاملة كانت منذ خمسين عاما مضت لا يمكن الوصول إليها على وجه الدقة، ولكننا الآن نستطيع أن نقول: إننا نقف على أرضية نظرة كونية ثابتة، نحن لدينا اليوم فكرة شبه يقينية عن ماهية المادة.
قلت: إنني سعيد بسماع هذا، فأنا أحتاج وأنا أكتب مسرحياتي إلى أن أقف على أرضية كونية ثابتة، وحين كنت أكتب مسرحية لي اسمها «الفرافير» احتجت أن أعثر على قانون واحد يشمل كل مادة الكون من أصغر ذراتها وإلكتروناتها إلى أكبر مجراتها.
قال: وهل وصلت إليه؟
قلت: وصلت إلى ما تفضلت وأسميته أنت: «شبه اليقين» فبإمعان التفكير وصلت إلى أن المادة في حالة نبض مستمر، تتجاذب مكوناتها، من مكونات الذرة، إلى مكونات المجرة، وتظل تتجاذب إلى أن تصل إلى ما أسميته المسافة الحرجة لتبدأ قوى التجاذب تتحول فجأة إلى قوى تنافر منفجر هائل، وهذا القانون يشمل حتى العلاقات البشرية من تقارب وحب ثم تنافر وتباعد، ومن العلاقات داخل المجتمعات، وبين الدول، وهكذا.
صفحة غير معروفة
قال: وماذا دفعك للبحث عن ذلك القانون الجديد؟! أولم تكفك القوانين الحالية لتفسير السلوك البشري؟!
قلت: إن القوانين الحالية لعلم الطبيعة والكيمياء والبيولوجي والأنثروبولوجي لم تكن لتسعفني لتفسير العلاقة بين السيد والفرفور (وهنا تكفل المترجم بتلخيص مسرحية الفرافير التي يعرفها ودرسها، وقد سعدت بهذا؛ لأنني هنا أمام كاتب قد قرأت معظم وأهم أعماله، بينما هو بالكاد لا يعرف إلا أني مجرد كاتب مسرحي مصري، فكان ضروريا أن يعرف شيئا عن إنتاجي).
قال: أنا لا أستطيع أن أناقشك في تصورك عن هذا القانون الكوني الواحد، ولكني شخصيا أومن بقانون واحد آخر هو قانون الصدفة، إن العالم الذي نحيا فيه بما يحتويه من بشر ليس له قدر محتوم يسير إليه وينتهي بنهايته؛ ولهذا نحن لا يمكن أن نتنبأ بما سيحدث لهذا العالم غدا؛ لأن العالم يسير بطريق الصدفة العشوائية، ولا يمكن التنبؤ على وجه الدقة بما سوف يحدث؛ فالأمر متروك لقانون الصدفة المحضة.
قلت: هل تعتقد يا أستاذ دورنمات أن المسألة مجرد صدفة، حتى لو كانت قانونا؟
قال: نعم، أنا أعتقد أن الحتمية - حتى التاريخية منها - قد استبدلت بالاحتمالية، بمعنى أن هناك «احتمال» أن يحدث هذا الشيء أو ذاك.
قلت: ألا يمكن أن تكون الاحتمالية طريقا للحتمية، أو بالأصح، هل من الممكن أن تؤدي الاحتمالية إلى الحتمية؟ سألت المترجم: هل سؤالي مفهوم؟ قال المترجم: لا.
قلت: بمعنى آخر: الاحتمالية مهما كثرت فلها حدود، فهل يمكن أن تؤدي الاحتمالية في النهاية إلى الحتمية؟
سألته هذا السؤال وفي خلفية تفكيري ما يقوله النقاد عنه من أنه نظرا لما أصابه من إحباط نتيجة لانعدام العدالة الكونية، وثبوت أن الفلسفات كلها غير يقينية، أصبح يؤمن أن البطولة في العالم انحصرت في تمرد الفرد المعزول ضد النبوءة الميئوس منها؛ وعلى هذا الأساس بنى عملا من أعماله الفذة التي سنتحدث عنها فيما بعد وهو «التيه».
قال: لنعد إلى قانونك الذي تصورته عن الكون (قانون النبض الكوني أو التجاذب للتنافر) أنا آخذ هذا القانون مأخذا علميا جادا، أو بالأصح افتراضا علميا جادا، فمن المعروف أن الكون الآن في حالة تمدد (حسب نظرية أينشتين) أو ما نسميه مرحلة التنافر، فهل هناك قوة داخلية فيه تستطيع أن تبدأ مرحلة التجاذب؟
أسعدني أنه عاد ليناقشني في افتراضي ويأخذه ذلك المأخذ الجاد.
صفحة غير معروفة
قلت: إنه لا يتحدد - حسب افتراضي - من تلقاء نفسه، إنه يتحدد؛ لأنه بالضرورة ينجذب أو تنجذب أطرافه إلى أكوان بعيدة أخرى، بمعنى أن المادة الكونية كلها - من الذرات إلى المجرات - تتجاذب بنفس السرعة، بل وتقطع في انجذابها نفس النسبية من المسافة - إلى أن تصل إلى النقطة الحرجة فتنفجر متنافرة ثم تعود لتتجاذب، وهكذا.
فالقوة أو القانون الأساسي ليس شيئا من خارج الكون، ولكنه كامن داخله، التجاذب للتنافر.
قال: إنه احتمال وارد، بل هو في الحقيقة تفسيرنا نحن الكتاب، أو افتراضاتنا عما يجري داخل الكون ومادته، إن فكرة الكون نفسها هي تصورنا نحن عن الكون، إن فكرة جاليليو عن الكون كانت صحيحة في عصرها تماما، ولكنه لم يكن يملك الأدوات أو الأجهزة التي تمكنه من إثباتها عمليا والتأكد من صحتها، وصحة أن المادة تدور في حلقات وحول نفسها، ونحن الآن عائدون إلى تصورات أخرى عن الكون، وما الفن إلا تجسيد لتصورنا نحن عن هذا التصور.
قلت: لو أخذنا دورنمات حين بدأ يرسم ويكتب في أوائل بداياته أعوام 43، 44، 45، وأخذنا تصوره للكون، هل تغير هذا التصور؟
قال: أنا كنت أدرس الفلسفة، وكان اكتشافي للفيلسوف نقطة تحول في حياتي، فقد كان صاحب نظرية التلقي وصاحب نظرية التفرقة بين التفكير والوجود، وصاحب الرأي القائل بأن الإنسان يفكر في الكون مستعينا بالمفردات البشرية التي يراها ويحيا بها، وليس بالموجودات الحقيقية في الكون، بمعنى آخر هو لا يرى ولا يدرك حقيقة الكون، ولكنه «يتصوره» على هيئة أشياء يراها من حوله، وهكذا وصل إلى أن التفكير الرياضي والحسابي هو أنقى أنواع التفكير في الكون، فهي مجردات وأرقام (والأرقام أيضا مجردات) لا تحتك بالحقيقة من قريب أو بعيد، إن حقائق الطبيعة لا يمكن تجسيدها إلا الرموز الرياضية والرياضة فقط، وهذا في حد ذاته يحدد تلك الحقائق الكونية تحديدا كبيرا.
وواصل دورنمات قائلا: إن الحرية الحقيقية هي في إدراك محدودية القدرة البشرية على فهم الكون.
قلت: نعم، فلقد جعلت الصراع في مسرحيتي بين رغبة الإنسان العارمة في التحرر من النظام الكوني (السيد) وبين قدرته المحدودة على الفكاك من أسر هذا النظام نفسه؛ إذ لو فك منه تماما لفقد صفته البشرية ونظام وجوده.
قال: ولكن النظام ليس خارج الإنسان، إنه داخل الإنسان نفسه.
قلت: ولكن كنت أتحدث عن الوجود الإنساني في هيئة جماعة بشرية، فالإنسان لا يحيا بمفرده، ولا يوجد مكون من مكونات الكون بمفرده أبدا، حتى الذرات توجد في مجتمعات، ولا بد من نظام يحكم وجودها الجماعي.
قال: أنت تقول: إن الإنسان لا يمكن أن يعيش خارج نظامه الإنساني، وإن النظام لا يمكن أن يعيش خارج الإنسان، فكيف عالجت هذه المعادلة المستحيلة؟
صفحة غير معروفة
قلت: بالصراع حول من يكون السيد: النظام، أو الإنسان. وضحكنا، طويلا، وكثيرا.
دورنمات في مصر
قبل أن نستأنف هذا الحوار مع دورنمات، والذي سيقول فيه آراء عن الإسلام، وعن إسرائيل، وعن المسرح، والفلسفة، والفن، وحتى عن نفسه، قبل هذا أحب أن أقول للقراء خبرا، أن دورنمات سيزور القاهرة في نوفمبر القادم، فبعد الحوار الحافل الذي دار بيننا قلت له: هل تحب أن تزور القاهرة؟
وجدته يتردد.
فقلت: إنها ليست دعوة رسمية، إنها دعوة شخصية مني أنا، أو بالأصح هي دعوة من مجلس إدارة جمعية كتاب ونقاد ومخرجي المسرح التي أتشرف بكوني مسئولا عنها ونائبا لرئيسها شيخ كتابنا المسرحيين توفيق الحكيم، إنني باسم هؤلاء المسرحيين أدعوك لزيارة القاهرة، قلت له هذا رغم علمي أنه يكره السفر، ليس فقط إلى خارج سويسرا، وإنما حتى إلى خارج نيوشاتل التي يقيم فيها، وله سنون لم يسافر أبدا إلى الخارج، ولكني قلته اعتمادا على نوع من الفراسة الداخلية، ألتقط وأحس بها الناس أو بما في الناس بطريقة ما زلت لا أعرفها، تماما مثلما جاءتني فكرة زيارته وأنا عند أخت ذلك الناشر في أحد وديان جبال الألب.
وها أنا ذا لا أفاجأ - وإن كان مفروضا أن أفاجأ - حين قال: إني أتمنى زيارة القاهرة، فعلا، وكذلك زوجتي. الجديدة طبعا؛ فزوجته السابقة التي عاش معها أكثر من ستة وثلاثين عاما، والتي رسمها بأكثر من طريقة، والتي كانت معبودته، كما يقولون، وتوقعوا أن يموت أو على الأقل يتوقف عن نشاطه الفني تماما بعد أن ماتت، الذي حدث أنه تزوج بعدها من شابة ألمانية تعمل مخرجة في شبكة التليفزيون التي تغطي منطقة أوروبا الناطقة بالألمانية، ألمانيا والنمسا والجزء الألماني من سويسرا وبعض أجزاء يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.
قلت: سيكون رائعا لو صحبتك زوجتك، وأرجو أن نستطيع أن ندبر لها برنامجا خاصا باعتبار أنك ستكون مشغولا ببرامج أخرى.
قال: لا حاجة بك لأي تدبير؛ فهي تعشق مصر، وطالما صرحت لي بأنها تريد أن تصنع فيلما عن مصر، وأعتقد أنها ستفعل ذلك إذا ذهبنا.
وجهت له هذه الدعوة حتى لو كنت سأدفع تكاليفها كلها من جيبي المتواضع الخاص، فنحن في مصر منذ زيارة سارتر للقاهرة بدعوة من مؤسسة الأهرام، ومنذ زيارة جارودي بدعوة من الأهرام أيضا، لم نحاول أن ندعو كاتبا أو مفكرا عالميا لزيارة مصرنا التي يحبها العالم بقدر ما نضيق نحن - أحيانا - بها!
وحتى قلت لنفسي: لو وجدت المبلغ المطلوب كبيرا فسأحاول أن أقنع الأستاذ إبراهيم نافع بأن يقدم لي قرضا أو عونا أو تدفعه النخوة ليقول: بل الأهرام هو الذي سيتكفل بنفقات الزيارة.
صفحة غير معروفة
ولكني حين عدت إلى القاهرة - وطبعا لأسباب لا يجهلها القارئ - لم أشأ أن أعرض أمر هذه الزيارة على وزارة الثقافة، خاصة وهي مشغولة بالماضي تماما وترميمه، قابلت الدكتور ممدوح البلتاجي صدفة في افتتاح معرض الكتب الفرنسية التي كتبت عن مصر والعرب والمسلمين منذ العصور الوسطى إلى العصر الحاضر - موضوع سأعود إلى الحديث عنه فيما بعد، إن شاء الله - وزارات الثقافة والعلاقات الثقافية في البلاد الأخرى مشغولة تماما بإقامة علاقات ثقافية وثيقة بين بلادها وبين غيرها من البلدان، وبالذات بلدان العالم النامي، وفي مقدمتها بطبيعة الحال، قائدة هذا العالم الثقافي مصر.
لا يكاد يمر شهر إلا وثمة معرض أو فرقة موسيقية أو فرقة مسرح أو رقص قادمة من الهند أو كوريا، وبالذات من فرنسا، إن الفرنسيين يقومون بنشاط ثقافي هائل في القاهرة: معهد آثار، معهد لغة، ترجمة كتب مصرية إلى اللغة الفرنسية، معارض، دعوات للكتاب لزيارتها والاحتكاك ثقافيا وفنيا بها، مهرجانات أفلام، مؤتمرات كان آخرها مؤتمرا للعلاقات المصرية الفرنسية، مؤتمرا حافلا، كان على رأس المشتركين فيه المفكر الفرنسي العظيم مكسيم ردونسون، ذلك أن العلاقات الثقافية لم تعد في عالم اليوم ترفا أو دعاية، إنها هي الروابط الحقيقية التي تجذب الشعوب إلى حضارات الشعوب؛ وبالتالي إلى فهمها والتعاطف مع سياستها وخطواتها إلى التقدم، ومثل الفرنسيين هناك معهد جوته بنشاطه الهائل، ومعهد ليوناردو دافنشي الإيطالي، والمعهد البريطاني ينفق بسخاء على تعليم المصريين اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية، ناهيك عن النشاط الثقافي الذي تقوم به السفارة الأمريكية والجامعة الأمريكية، وكان تنافس هائل قائم بينهما لخلب لب المصريين ثقافيا وفنيا، وهذا هو في رأيي التنافس الوحيد المفيد لنا تماما، وقد كان مفروضا أن تقوم مصر - أقصد الوزارات والإدارات الثقافية الكثيرة المبعثرة بين وزارة الثقافة وإدارة العلاقات الثقافية بها، وإدارة العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية، والأخرى التي بوزارة التربية والتعليم أو التعليم العالي، لا أعرف، كان مفروضا أن توجد هذه كلها في مؤسسة ثقافية واحدة للعلاقات الخارجية وللثقافة الداخلية أيضا، كهيئة «البروهيلفسيا» السويسرية أو غيرها، ولكن تقول «لمين»؟! المهم، قابلت الدكتور ممدوح البلتاجي وذكرت له - عرضا - عزمي على دعوة دورنمات وقبوله الدعوة فوجدته بحماس منقطع النظير يصر على أن تقوم هيئة الاستعلامات باستضافة الرجل الكبير، وبمشاورات مع السيد صفوت الشريف وزير الإعلام تم الاتفاق على برنامج كامل للزيارة، وحتى حين ذكرت الفيلم الذي تريد زوجة دورنمات عمله عن مصر لعرضه في الشبكة الألمانية الأوروبية قال: إن إمكانيات الاستعلامات كلها ستسخر من أجل نجاح العمل.
وهكذا أرسلت هيئة الاستعلامات دعوة رسمية - عن طريق السفارة السويسرية في القاهرة - إلى دورنمات بها برنامج مفصل واتفاق مع الثقافة الجماهيرية على عرض مسرحية لدورنمات مما سبق عرضه له في القاهرة، ولست أدري لم الثقافة الجماهيرية؟! ولماذا لا يكون المسرح القومي الأب هو الذي يقدمها؟! وتحدد للزيارة بالاتفاق مع دورنمات نوفمبر القادم، إن شاء الله.
هذا هو الخبر.
ونعود الآن إلى ما كنا فيه الأسبوع الماضي ونتذكر الحوار حتى نحيط بالموضوع.
قال: إن الحرية الحقيقية هي في إدراك محدودية القدرة البشرية على فهم الكون.
قلت: بالضبط، ففي مفهومي أن الصراع الحقيقي هو بين رغبة الإنسان العارمة في التحرر من أي نظام «بما فيه النظام الكوني نفسه» وبين قدرته المحدودة على الفكاك من أسر هذا النظام؛ إذ لو فك منه تماما لفقد صفته البشرية ونظام وجوده كإنسان.
قال: ولكن النظام في رأيي ليس خارج الإنسان، إنه داخل الإنسان نفسه.
قلت: ولكني هنا أتحدث عن الإنسان ليس كفرد، وإنما كمجموعة إنسانية كمجتمع، فالإنسان لا يحيا بمفرده، ولا يوجد مكون من مكونات الكون بمفرده أبدا، حتى الذرات توجد في مجتمعات، ولا بد من نظام يحكم وجودها الجماعي، فالأصل في وجود أي شيء هو وجوده الجماعي.
قال: أنت تقول إن الإنسان لا يمكن أن يعيش خارج نظامه الإنساني، وإن النظام لا يمكن أن يعيش خارج الإنسان، فكيف عالجت هذه المعادلة المستحيلة؟!
صفحة غير معروفة
قلت: بالصراع حول من يكون السيد؛ النظام أو الإنسان، وضحك وضحكت، ولكني أردفت: إنني أعتبر أن الإنسان إنسان بقدر تمرده على نظام وجوده وبقدر قوة تمرده تكون قوته كإنسان، صحيح أنه تمرد ميئوس منه، إلا أن الاستسلام الكامل للنظام، لأي نظام موجود، هو الاستكانة، والسكون هو الموت.
قال (وكأنما يغير مجرى الحديث): رغم أن أرسطو يقول إن الإنسان كائن سياسي، إلا أنني أعتقد أن الإنسان كائن «ذكري - أنثوي» وأنا أرى أنك لم تتحدث عن الرجل والمرأة باعتبارهما النظام الأساسي للمجتمع البشري.
قلت: لو كان الرجل والمرأة وحدهما على سطح الكرة الأرضية لأصبح هذا هو النظام الإنساني، ولكنهما لم يوجدا هكذا بمفردهما إلا في قصة آدم وحواء، هما موجودان باستمرار داخل مجتمعات مثلهما مثل أدق الكائنات.
قال: ولكن هذا كما قلت لك مجرد تصورنا نحن لوجود المادة في هذه المرحلة من إدراكنا العلمي؛ ولهذا فأنا أفضل النظرة الفلسفية لأنها تقوم على افتراض منطق للوجود، وهي في نفس الوقت ليست حقيقة علمية، إنها خيال علمي واسع مثلها مثل الروايات والمسرحيات، مجرد افتراضات، وليست حقيقة علمية ممكنا إثباتها بالميكروسكوب أو التليسكوب.
قلت: أمعنى هذا أنك لا تعتقد أن هناك حقيقة موضوعية، حقيقة، موجودة خارجنا؟
قال: هناك حقيقة - هذا لا شك فيه - ولكننا لا ندرك إلا أجزاء من تلك الحقيقة، أي تلك الأجزاء ندركها؟ هذا هو السؤال: بل إنه مهما كان تفكيرنا حتى لو كان تفكيرا عبثيا فنحن بالضرورة نمسك بجزء ولو ضئيلا من الحقيقة، بالضبط كما لو كنا نمسك ببطارية كشافة نجول بها في أنحاء غرفة مظلمة فلا نرى في المرة الواحدة إلا أجزاء من محتويات الغرفة.
قلت: أو كما يقولون عن النملة حين لا يمكنها أبدا أن ترى الفيل كله، إنها ترى نتوءات وأشياء بارزة وهضبات، إنما لا يمكن أن تدرك - أو حتى تتخيل إذا كان باستطاعتها أن تتخيل - أن هذه كلها تشكل كائنا هائل الحجم حيا اسمه الفيل.
ولهذا دعني أسألك يا أستاذ دورنمات سؤالا سوف يبدو كأسئلة اللقاءات الصحفية: ألا تعتقد أن الإنسان، كتلك النملة كما قلنا، تكتسب كل يوم بتكنولوجيتها واكتشافاتها وإدراكاتها المتقدمة قدرات أكثر بكثير من حجمها الصغير؛ بحيث إنه من الممكن لهذه النملة أن تكبر تماما ويكبر خيالها وتكبر عيونها حتى تصل إلى درجة تستطيع أن ترى الفيل فيلا فعلا؟!
قال: ممكن أن تكبر النملة فعلا وتكبر حواسها كما قلت، ولكن الفيل أيضا لن يظل كما هو، إنه هو الآخر لن يظل نفس الفيل، سيظل يكبر ويكبر.
قلت في سري وله أيضا: هكذا يجيب الأستاذ المسرحي دورنمات. وأضفت لنفسي: لا بد أن جزءا كبيرا من موهبة الكاتب المسرحي أن يعرف كيف يسأل السؤال الصحيح ويعرف أيضا كيف يجيب - حتى على نفسه - الإجابة الصحيحة.
صفحة غير معروفة
ولكني كنت قد بدأت أتبين شيئا من ملامح ذلك الكاتب الداخلية، فهو قد درس الفلسفة وعشقها، وأنا قد درست العلم وعشقته، وصحيح أن الاثنين طريقان للحقيقة مختلفان تماما لا يتفقان إلا على النهاية الواحدة، ولكني - هكذا قلت لنفسي - أفضل طريق العلم، ومن قبيل حب الاستطلاع حاولت بجدية خطيرة أن أدرس الفلسفة، فلم يقنعني أيهما بالمرة، أجل، بدأت أتعرف على الكاتب الداخلي فيه، ومن لمعات عينيه بدأت أنا الآخر ألمح علامات تعرفه علي.
قلت: كما قلت لك يا أستاذ دورنمات لقد قرأت بعض آراء النقاد عن مسرحك، ولكني أنا شخصيا أعتقد أن أحدا منهم لم يكتشف خاصيتك الأصيلة، وهي قدرتك عن طريقتك في اختراع الفانتازيا والأسطورة العصرية لاختراق عالمنا الحالي بطريقة تعريه تماما، فهل أنت معي في هذا؟ وهل نستطيع أن نسمي مسرحك الفانتازيا «الخيالية» الحديثة؟
قال: إن الفانتازيا جزء لا يتجزأ من التركيب «العقلاني» للإنسان، إن الخيال في معظمه منطقي أيضا، إن الرياضة هي المعادل المتخيل الموجود الممنطق، ومع هذا فالرياضة أيضا فانتازيا لأنها تخيل للأشياء على هيئة أرقام أو رموز، إنك في الكتابة تحتاج إلى اكتشاف الرؤية المتخيلة الأولية سواء أكانت رؤية عظمى أو غير عظمى، ولكنها رؤية جديدة مختلفة، بعد هذا الكشف الأول تصبح عملية الكتابة للمسرح وكأنها لعبة شطرنج محسوبة خطواتها، ففي مسرحية مثل «أوديب» نجد الرؤية العظمى تهبط عليه على هيئة نبوءة من آلهة الأوليمب، تقول له إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه مثلا، ويريد أوديب أن يتجنب هذه النبوءة أو الرؤيا فيتجنبها بواسطة خطوات منطقية محسوبة مسرحيا أو تراجيديا، كما تحب أن تسميها، ثم نجد أننا قد وصلنا مع أوديب إلى نقطة لا تخضع للحساب، لماذا يذهب إلى تلك المدينة «طيبة» التي فيها أمه وأبوه على وجه التحديد، هذه المسألة تحدث صدفة؛ إذ هنا لا بد أن يعمل قانون الصدفة.
قلت: ولماذا لا تسميه قانون القدر أو الحتم؟!
قال: لأنه كان من الممكن ببساطة أن يذهب إلى مدينة أخرى، حتى لو أجريت عليه قوانين الحتمية كما تسميها، كان من الممكن أن يختار أقرب مدينة أو أجمل مدينة أو أشهر مدينة، أما أن يختار «طيبة» بالذات فهذا أمر لا يمكن أن تحكمه إلا الصدفة، والصدفة وحدها.
قلت: إنه أمر في رأيي لم يحكمه قانون الصدفة، ولكن حكمته إرادة المؤلف المسرحي الإغريقي الذي كتب «أوديب» الأولى.
قال: إن هذا الكاتب أيضا لم يكن يحكم نفسه وهو «يؤلف» هذه الصدفة.
قلت: إذن، أنت معي أن هناك قوة أو دافعا أكبر من الصدفة هو الذي جعله يختار هذا الاختيار.
قال: ولكنه اختيار يفرضه العمل الفني المسرحي.
قلت: ولكن الفن المسرحي ليس في حد ذاته قوة تستطيع أن تفرض قوانينها أو مسارها.
صفحة غير معروفة
قال: في الحقيقة أننا نحن الكتاب لا نعرف القوانين التي تحكم خلقنا للشخصيات والأحداث.
قلت: والمصادفات؟
قال: والمصادفات.
قلت: ماذا عنك أنت؟ ألم تحاول أن تتعرف على طريقتك التي بواسطتها تختار الأشخاص والأحداث والمصادفات؟!
قال: سأقول لك شيئا عن مسرحيتي «علماء الطبيعة» (وهي مسرحية في مفهومها العام جدا تقول إن بعض علماء الطبيعة الألمان ادعوا الجنون ولجئوا إلى مصحة أمراض عقلية خوفا من أن ننتزع منهم المعلومات عن القنبلة الذرية ويستعملها هتلر في إبادة الجنس غير الآري كله) استطرد قائلا: إن العلماء الأمريكان وصلوا مثلا إلى اكتشاف القنبلة الذرية لأنهم كانوا يعتقدون أن العلماء الألمان سيسبقونهم إلى اكتشافها، هكذا كان أينشتين الذي كان قد هاجر إلى أمريكا وأبو القنبلة الذرية أوبنهيمر وغيرهما، وصحيح كان هناك تجمع كبير من علماء الطبيعة النووية الألمان في ألمانيا، ولكنهم لم يكن في نيتهم أن ينتجوا قنبلة ذرية أبدا، وإن هتلر لم يكن يحفل كثيرا بجهود العلماء في الحرب، وكان يسميهم: «اليهود البيض»؛ لأنهم كانوا في معظمهم من تلاميذ وأتباع أينشتين اليهودي.
في مسرحيتي «علماء الطبيعة» يلجأ أحد أبطالها لمصحة الأمراض العقلية لأنه يعرف خطورة المعلومات التي اكتشفها ووصل إليها، وماذا يمكن أن يصنع بها هتلر وعصابته النازية، لقد تجنب ما أراد تجنبه باللجوء إلى ادعاء الجنون ودخول المصحة، ولكنه في المصحة يقع بين يدي طبيبة المصحة المتحمسة للنظام بنفس الطريقة التي يقع فيها أوديب «بالصدفة» في يد أمه «طيبة» وهذا هو ما يمكن أن نسميه ب «القدر» الذي لا يمكن للإنسان أن يتجنبه.
قلت: يسعدني هذا الحديث تماما يا أستاذ دورنمات، فقد كنت أرى إنتاجك وأنا أقرؤه وأشاهده، مجرد نصوص مسرحية رائعة أرى واجهتها الخارجية فقط، أما الآن فأنا أرى دورنمات الكاتب، دورنمات الداخلي وهو يعمل، وكيف يبدع فكرته، أراه حتى وهو يحرك أبطاله بطريقة ميكانيكية رياضية محسوبة مقدما كلعبة الشطرنج، ولكن لتسمح لي يا مستر دورنمات أن أختلف معك فالأبطال ليسوا أشياء تخضع تماما لقوانين الرياضة والحساب، إني أعتقد أنك تقلل من قيمة أبطالك بهذا الحديث، إني أراهم كائنات حية نابضة، أكثر حياة ربما من البشر العاديين، وهذا هو بالضبط المسرح، إننا لا نسمي الشخصية المسرحية «بطلا» عبثا، إنه بطل لأنه من المحتم قطعا أن يكون غير عادي حتى لو كان رجل شارع، أو على الأقل تكون عاديته غير عادية تماما.
قال: هذا طبيعي جدا، إن الأبطال المسرحيين مجرد نظريات على الورق تتحول إلى كائنات حية على المسرح، وهذا عمل كاتب المسرح.
قلت: أم عمل المخرج؟
قال بما يشبه الاستنكار: أرجوك لا تذكرني بالنجوم والمخرجين، إن تدهور المسرح الألماني الحالي سببه ارتفاع تكاليف الإنتاج المسرحي من ناحية، ومن ناحية أهم هؤلاء المخرجين النجوم فكل مخرج منهم يريد أن يكون هو «نجم» العرض المسرحي، وأن يحسب الجمهور رغم عدم ظهوره أنه هو النجم، وهذا بالطبع لا يحدث إلى على حساب المسرحية والممثلين.
صفحة غير معروفة
إني أقصد أن أقول: إن النص المسرحي يبدو كالنظرية على الورق، ولكن الكاتب المسرحي الحقيقي هو الذي يكتب بتصور أنه هو الذي سيخرج المسرحية، وهكذا ينبض النص بالحياة على المسرح.
قلت: بمناسبة «النبض بالحياة» لاحظ يا أستاذ دورنمات أن العلاقة بين الرجل والمرأة في مسرحك لا تحتل أهمية كبيرة في مؤلفاتك رغم ما ذكرته لي آنفا من أن الرجل والمرأة هما أساس النظام البشري.
قال: ذلك لأن الموضوعات (التيمات) التي أتعامل معها لا تحتل فيها قضية العلاقة بين الرجل والمرأة مكانا هاما، ولكن هناك أعمالا لي تحتل فيها هذه العلاقة مكانا بارزا، ولكني (وكأنما بعد تفكير) معك أن العلاقة بين المرأة والرجل ليست في المحل الأول من اهتماماتي.
قلت: لماذا؟
قال: لأنها ليست موضوعي الرئيسي؛ أنا لا أعاني من مشكلة في علاقتي كرجل بالمرأة، لقد تزوجت لمدة 36 عاما، وماتت زوجتي الأولى، وتزوجت مرة أخرى.
قلت: سمعت عن قصة حبك العظيمة تلك.
قال: أي قصة حب؟ الأولى أو الثانية؟
ووقعت في حيرة فقد ذكر لي الكتاب السويسريون، سامحهم الله، أنه كان يكاد يعيد ويكتب من أجل زوجته الأولى، أما الثانية فلم يأت لها ذكر بالمرة إلا أنها أصغر منه عمرا كثيرا، وها هو الرجل يؤكد أن القصة الثانية احتلت مكانة قصة استغرقت ستة وثلاثين عاما في بحر عامين أو أقل.
قلت: تقول يا أستاذ دورنمات أنك لا تهتم بعلاقة المرأة بالرجل لأنك رجل سعيد في حبك وفي زواجك، أمعنى هذا ألا نكتب إلا عن المواضيع التي لا تسعدنا؟!
قال: وهل كتب كاتب عن علاقة حب سعيدة؟! إننا لا نكتب عن العلاقة بين الرجل والمرأة إلا إذا كانت مأساة، وأنا لا أخترع مآسي لا أحسها، وليست علاقة الرجل بالمرأة مشكلتي.
صفحة غير معروفة
قلت: إذن، ما هي مشكلتك يا أستاذ دورنمات؟
قال: مشكلتي أننا نعيش في عالم جميل جدا، أو بالأصح ممكن أن يكون جميلا جدا، ولكنه في حقيقته قبيح جدا جدا.
قلت (وأنا أتلفت وأرى المنظر من حجرة مكتبه ومرسمه لوحة عبقرية تطل على بحيرة، كأنها من بحيرات الجنة، والبيت والمدينة والجبل وكل شيء جميل جدا): أنا لا أرى عالمك هذا قبيحا أبدا يا أستاذ دورنمات، فكيف تحس قبح العالم الخارجي وأنت هنا في كل هذا الجمال؟!
قال (ضاحكا): في الحقيقة أنا كنت أتحدث عن قبح الأفكار السائدة في عالمنا، إن دنيانا الحاضرة هي مصحة كبرى للأمراض العقلية في نظري، إن مسرحيتي الجديدة (مثلها مثل «علماء الطبيعة») تدور أيضا في مصحة أمراض عقلية؛ حيث يقوم كل مريض عقلي بتقمص شخصية تاريخية ما داخل المصحة؛ فأحدهم يعيش كنابليون ويتصرف ويفكر مثله، وهناك مريضة تتوهم أنها جان دارك، وتندمج إلى درجة أن تحس أنها مثل «جوديت» التي ورد ذكرها في الأساطير، وتحاول أن تعالج نابليون من تقمصه بالنوم معه كما فعلت جوديت، وهناك مريضان يتقمصان شخصية ماركس، أحدهما ماركس كما يحب أن يراه الروس، والآخر ماركس فوضوي، وهناك ماركس ثالث لا يظهر أبدا وهو الوحيد الذي قرأ «رأس المال» في «المراكسة» الثلاثة!
قلت: لقد حاولت قراءة رأس المال عدة مرات، ولكني كنت أتوقف فاشلا.
قال: حتى لنين نفسه لم يقرأه كله، بل أعتقد أن ماركس نفسه لم يكتبه كله، ولكن «إنجلز» ساعده في كتابته، ومن المضحك أنهم قد وجدوا أخيرا خطابا أرسله الناشر الذي كان قد تعاقد مع ماركس على نشر كتاب «رأس المال» وتأخر ماركس في تسلم أصول الكتاب وخطاب ينذره فيه الناشر بأنه إذا لم ينته من الكتاب في بحر شهر فسيعهد إلى غيره بكتابته.
قلت: وتصور لو كان أحد غير ماركس كتب «رأس المال»! كان الأمر يصبح مسرحية لدورنمات أليس كذلك؟! ولكن معنى هذا أنك درست الماركسية يا أستاذ دورنمات؟
قال: لقد قرأت كثيرا لماركس.
قلت: ودخلت مصحة نفسية (وضحكت).
قال: ولماذا تضحك؟! فعلا دخلتها، توجد مصحة أمراض نفسية قريبة جدا من هنا ومديرها صديقي، وكثيرا ما أذهب إلى هناك، وهي مصحة قديمة يرجع تاريخها إلى الوقت الذي كانت فيه هذه المنقطة تتبع بروسيا، ولقد دخلها كثير من الكتاب الأوروبيين المشهورين مثل «هيرمان هسه» و«كونراد ماير» و«لوبيدس»، ومن المضحك أن بيتر بروك (المخرج الإنجليزي المشهور أو بالأصح أشهر مخرج في تاريخ المسرح الإنجليزي) حين ذهبت معه لنتفقد المصحة تمهيدا لإخراج مسرحية «علماء الطبيعة» على المسرح، كانت مساعدة مديرة المصحة لها «قتب» وكانت عالمة طبيعة، وحين قدمتها إلى بيتر بروك قائلا: هذه هي عالمة الطبيعة، كادت تجن من الفرحة؛ لأنها ظنت أنها ستمثل الدور في المسرحية. •••
صفحة غير معروفة