حمى مخيفة أمامي ومن خلفي وعلى جانبي، وفي السيارة، والأتوبيس، ومع راكب التاكسي، وجلسات العائلات إن جلست، ونميمة الزائرات والزائرين كلما جاءوا (تنمو) حمى رهيبة وطوفان، حتى إني تصورت أني لو فتحت الحنفية لنزل منها وابل من الكوكايين والهيروين، وإذا فتحت النافذة ستهب علي عاصفة من دخان الحشيش، وإذا أكلت «محشي» في عزومة سأجده محشوا بالأفيون وجوزة الطيب!
ما هذا يا إخواني؟!
لقد هالني الأمر حقا، وظننت أننا أصبنا بضرر لا نجاة منه، ولي ولدان شابان في عمر الزهور، يرودان النوادي والجلسات، ولاحظت في المدة الأخيرة أني دائم النظر في عيونهما لأرى فيها أي احمرار طارئ حتى ابنتي الصغيرة سألتني: ما هو هذا الكوكايين يا بابا؟!
قلت لها: إنها مادة مخدرة.
قالت: أعرف هذا، ولكن شكلها إيه؟ طعمها إيه؟ لونها إيه؟
قلت: والله يا بنتي، أنا ما رأيتها في حياتي.
قالت: كيف وأنت قد ردست الطب والعقاقير ولا بد أنهم أروها لك؟!
قلت لها: الحقيقة أنه كان مفروضا أن أراها، ولكن قسم العقاقير كله وقسم المادة الطبية (الماتيرياميديكا) لم يكن به، بل في مصر كلها أي كوكايين أيامها (في الخمسينيات) ولا أي هيروين، هم أرونا فقط قطعة حشيش وقطعة أفيون وكانت كلتاهما موضوعة في برطمان مشمع بالشمع الأحمر، وعليه خاتم الأستاذ رئيس القسم (الدكتور شريف)، ولما سألنا عن السر في هذا الخاتم وعن ضرورة أن نتعرف على المادة ونلمسها ونشمها باعتبارنا من الممكن أن نمتحن فيها، قالوا: لقد كنا نفعل هذا منذ بضع سنوات، ولكنا كنا نلاحظ تناقص عهدة الحشيش بالذات، عقب كل فصل عملي، فأصر مساعد المعمل (حتى لا يروح في داهية إذا خلصت عهدته) أن نضعها هكذا بحيث لا يلمسها أي طالب، ولما جادلنا وقلنا: وماذا نعمل إذا جاءت لنا في الامتحان الشفوي ولم نستطع أن نتعرف عليها؟ قال لنا الدكتور شريف: اطمئنوا، إننا لا نأتي بها أبدا في الامتحانات، اعتبروها خارج المقرر، ونحن نريكم إياها فقط لتتعرفوا عليها - من بعيد لبعيد - ولأغراض الطب الشرعي فيما بعد حين تدرسونه، وليس لأغراض اللمس والشم والتعرف كما هي العادة مع جميع العقاقير الأخرى.
هذه الحملة الإعلامية الرهيبة أحدثت للأسف الشديد، أثرا عكسيا تماما حتى إن حب استطلاع الكاتب جعله يتساءل هو الآخر، ما هي بالضبط مادة الكوكايين؟ وكيف تستخلص؟ وما هو طعمها ولونها؟ وللأسف حين سألت بعض شبان أحد النوادي الكبرى في عاصمتنا كانت معلوماتهم عن «الأبيض» أي الكوكايين، «والأسمر» أي الهيروين وافرة تماما، وأيضا عن كيفية التعاطي، وأنواع التعاطي بالشم أو بالشد أو بالحقن في الوريد، وحين تساءلت عن هذه «الشيشات» الصغيرة التي تشبه «البيبة» تطوع واحد منهم طويل الباع وقال لي: إنها تستعمل لاستنشاق ما سماه «القاعدة الأساسية»، وهي أقوى أنواع الكوكايين.
أرأيتم ماذا يصنع الإعلام المغلوط؟!
صفحة غير معروفة