لاحظ دورنمات أني كثير التطلع - وهو يتحدث إلى المترجم بالألمانية - إلى اللوحات التي تكاد تملأ جدران المرسم، وكم كان بودي أن أتحدث عن دورنمات الرسام! فهو لا يقل موهبة عن دورنمات المسرحي أو القصصي، غير أنه بدلا من اختراع الأسطورة الحديثة في المسرح تموج رسوماته بالأساطير المستوحاة من التوراة والإنجيل، فقد كان أبوه قسيسا بروتستنتيا، وأمه مدرسة في مدارس الأحد التي تتبع الكنيسة، وطفولته مليئة بهذه الميتولوجيا التوراتية إلى درجة التشبع، واللوحة الموجودة هنا، هي واحدة من أكثر من مائتي لوحة صدرت في كتاب عن دورنمات الرسام، كتاب غالي التكاليف تماما إلى درجة أنه لم يطبع منه إلا مائتان وخمسون نسخة فقط في العالم كله، وكان كريما فأهداني في نهاية الزيارة النسخة رقم 59 من هذا الكتاب المرقوم.
لاحظ كثرة تطلعي، فقطعنا الحوار، وقام يريني بعض لوحاته، ويريني كيف يرسم، فمكتبه واسع جدا، منخفض بحيث يصلح للكتابة وللرسم، وعلى جانبه الأيمن دائما ورقة بيضاء (35 × 25سم) معدة لكي يبدأ فجأة، ربما في وسط كتابته، يرسم، ويتأمل ما رسمه ويمزقه ويعود فيرسم.
ليت المساحة وصبر القارئ يسمحان بحديث أطول عن هذا الفنان الغني الغريب، ولكن مرة أخرى أقول: «ما باليد حيلة!» •••
عدنا للجلوس وشرب الشاي والنسكافيه، وقلت لنفسي: آن الأوان لمحاكمة الأستاذ دورنمات.
قلت: هل ممكن أن أسألك بعض الأسئلة المحرجة؟ (لمحت الترحيب الكامل في ملامحه) ماذا فعلت أنت ككاتب من العالم الأول لعالمنا الثالث؟ كيف ترانا أنت أيها المواطن في العالم الأول؟
قال: أنا حقيقة مواطن في دولة أوروبية، ولكني دائم التتبع لما يحدث في عالمكم، أنا أعرف الكثير عن أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط، حين كنت في أمريكا صدمت تماما بما رأيته في مستوطنات الهنود الحمر، ولدرجات الفقر غير الإنساني التي يعيشها الهندي الأمريكي هناك، وقد جعلتني تلك التجربة أغير كثيرا من أفكاري حول التقدم، ومفهوم الحضارة، ودور أوروبا وأمريكا، أنا لم أقرأ كثيرا في تاريخ الشعوب الإسلامية والإسلام، ولكنني شديد الإعجاب بالحضارة الإسلامية في العصور الوسيطة، وما استحدثه العرب والمسلمون من اكتشافات في علوم كالرياضة والفلسفة، إلى درجة أن كثيرين من الأكاديميين الأوروبيين كانوا يعرفون العربية ويدرسونها ويتعلمون منها منطق أرسطو وفيثاغورس وأفلاطون دون أن يلموا بالإغريقية نفسها، ولقد كان الإمبراطور الألماني فردريك الثاني شديد الاهتمام بالدارسين للغة العربية والمستشرقين، وكثير من التراث الإغريقي وصل إلى أوروبا عن طريق ترجمته من اللغة العربية، وليس الإغريقية، أجل، في ذلك الوقت (حوالي القرن الحادي عشر الميلادي) كانت النصوص الإغريقية تقرأ في أوروبا في ترجماتها العربية وليس الإغريقية.
قلت: إنني سعيد أن أسمع هذا منك.
قال: إنني أعرف أن أوروبا أحدثت امتدادات حضارية وثقافية داخل عالمكم والعالم أجمع، ولكني أعرف أن تأثير الفكر الإسلامي والعربي كان قويا على أوروبا أيضا إلى درجة أن أثر في تفكير الفيلسوف العظيم سبينوزا نفسه، ذلك الذي وصل إلى أن الله (في كل الأديان) مبدأ واحد موجود في كل زمان ومكان، لقد تأثرت بتفكير سبينوزا تماما؛ فقد كان يهوديا، ولكنه ترك اليهودية وحوكم من أجل هذا، ولكنه لم يصبح مسيحيا أيضا، ونبذ العالم وعاش في قرية هولندية، وعمل كصانع نظارات ليأكل عيشه بعرق جبينه (إذ كان هذا هو المبدأ الذي وصل إليه)، بل إنه استغل قدرته العلمية واستطاع أن يحسب كم نظارة عليه أن يصنعها في اليوم لتكفي عيشه ويتبقى جزء يكفي لجنازته حين يموت.
قلت (ضاحكا من حكاية الحساب الدقيق للنقود هذا، خاصة السويسريين منذ قديم الزمان): لقد كان سويسريا تماما في هذا!
قال: ولكن المسألة بالنسبة إليه كانت أكبر من مجرد القدرة على الحساب والتدبير، كان هذا يعني لديه حرية الإنسان من كل قيد حتى قيد الوظيفة وأكل العيش، قد تستغرب، ولكني أعتقد أن هذا النوع من التفكير الذي وصل إليه سبينوزا كان هو الذي أدى في النهاية إلى ظهور أينشتين والنسبية، لقد بنى أينشتين نظريته «النسبية» مستفيدا من نظرية الكم التي اكتشفها ماكس بلانك ونيل بوهر، ونظرية الكم تعتمد على قانون الاحتمالات، أو قانون الصدفة، وكان أينشتين يعارض هذا تماما، باعتبار أنه يلغي فكرة الخالق الأول: الله.
صفحة غير معروفة