229

عصر المأمون

تصانيف

أما وقد انتهينا من كلمتنا الموجزة عن السياسة الداخلية في عصر المأمون، فقد حق علينا أن نتساءل: لماذا مكث المأمون شطرا طويلا من سني حكمه في خراسان دون بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية؟

أما أن نزعم لك أنا سنجيبك إجابة دقيقة مقنعة، فهذا ما لا نقبله لك ولا لأنفسنا؛ لأن المصادر التي بين أيدينا لم تكشف لنا القناع عن وجه الصواب في ذلك.

إذن فسنقدم لك آراء لنا في هذا الصدد يجدر بنا أن نعتبرها بمثابة افتراضات لا أكثر ولا أقل.

نفترض أن الفضل بن سهل وجماعة الفضل بن سهل، وحولهم حولهم وسلطانهم سلطانهم، آثروا بقاء المأمون في «مرو» عاصمة خراسان حيث تجبى أموال الدولة إليه؛ ليكون نصيب البقاع الفارسية والشيعة الفارسية من هذه الأموال أوفر.

ونفترض أن المأمون وجماعته كانوا يحسون إحساسا، ربما كان صادقا، أن كبار رجالات الدولة من العرب القاطنين بغداد لم يكن هواهم مع دولته الفارسية الطابع والميول، وأنهم كانوا لذلك يخشون النزوح إلى بغداد قبل لم شعثهم وتقوية سلطانهم.

ونفترض أنهم آثروا القرب من الولايات التي تمدهم بجندها ورجالها، كما آثروا أن يكونوا في أوساطهم الفارسية التي من مصلحتها نصرة المأمون وتوطيد دعائم ملكه، والعمل على خذلان مناوئيه.

هذه افتراضات رأينا أن نقيدها لك لتتأمل فيها، فربما كان بعضها سائغا معقولا، على أن تكون حذرا كل الحذر فلا تتورط في اعتبار كل فرض سائغ معقول لازم الوقوع في التاريخ، فكثيرا ما يقع في التاريخ غير المعقول من الحوادث. (3) السياسة الخارجية

نعتقد أن الوقت لم يأن بعد لدرس السياسة الخارجية في أيام المأمون وغيره من خلفاء المسلمين دراسة علمية محققة؛ ذلك لأن كل ما نعرف من أمر هذه السياسة إنما هو الروايات العربية التي تناقلها المؤرخون متأثرين بأشياء كثيرة.

فقد كان الكثيرون من هؤلاء الرواة يجهلون لغات الأمم الأجنبية التي كانت العلاقات متصلة بينها وبين المسلمين، كما كانوا متأثرين بالحرص على رفع شأن الدولة الإسلامية والتنويه بمجدها وسلطانها؛ فاضطرها هذا كله إلى الغلو حينا، وإلى التقصير حينا آخر.

ولم يظفر البحث بعد بنصوص تاريخية واضحة معاصرة كتبت في غير اللغة العربية، ومع أن الباحثين في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية «الروم» جادون في التنقيب على النصوص والآثار التي تجلو تاريخ هذه الدولة في القرون الوسطى، فهم لم يصلوا بعد إلى شيء ذي غناء فيما يمس علاقتها بالدول الإسلامية، فأما الأمم الشرقية الأخر التي كانت على اتصال بالمسلمين فلم تترك لنا شيئا، أو لم نظفر من آثارها التاريخية بشيء ذي قيمة، وإذن فنحن مضطرون إلى أن نعتمد اعتمادا مؤقتا ملؤه الاحتياط والتحفظ على ما كتبه العرب.

صفحة غير معروفة