سبب رابع رواه أحمد بن زهير، ونذكره لك هنا على علاته استكمالا للموضوع من كل نواحيه، يقول الطبري: إنه يظن أن المصدر للرواية هو زاهر بن حرب، قال: «إن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: تزوجها ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي. وتقدم إليه ألا يمسها ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلاما، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزال الأمر مستورا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه ومع من هو من جواريها وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه، فلما حج هارون هذه الحجة، سنة سبع وثمانين ومائة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد - فيما زعم - قتل الصبي ثم تحوب عن ذلك، وكان جعفر يتخذ للرشيد طعاما كلما حج بعسفان فيقربه إذا انصرف شاخصا من مكة إلى العراق، فلما كان في هذا العام اتخذ الطعام جعفر، كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار، فكان من أمره وأمر أبيه ما كان.»
أما نحن فلا نريد القطع بأن نكبة البرامكة كانت أثرا لسبب بعينه من هذه الأسباب، وربما كانت نتيجة لطائفة من الأسباب مجتمعة، منها ما نعرفه ومنها ما لم نعرفه بعد ، ونحب ألا يفوتنا هنا أن نفترض فرضا - نعترف بأنه فرض لا أكثر ولا أقل، ونعترف بأنه في حاجة إلى التحقيق العلمي، ولكنا نعترف أيضا أن عرضه على علاته لا يخلو من النفع - وهو أن البرامكة كانوا فيما يظهر متأثرين بالناحية السياسية لمذهب المعتزلة،
3
وهي الاعتدال بين أهواء الأحزاب السياسية المتطرفة وتلطيف الخصومة بين جناحي الحزب الهاشمي، فلم يرض الرشيد عن هذا النحو من السياسة، ومالأه على ذلك النفعيون من أنصار الجناح العباسي. وسنرى بعد قليل أن المأمون كان يرى رأي البرامكة في هذا النحو من السياسة المعتدلة الموفقة بين وجهات النظر المختلفة. •••
أما كيفية القبض على البرامكة، واحتياط الرشيد وحذره قبل قتلهم ومصادرته لأموالهم، وما قالته الشعراء في رثائهم، فحديث طويل يتطلب رسالة خاصة، وفقنا الله لدراسة موضوع البرامكة ونكبتهم وأثرهم في الدولة العباسية في موضوعنا «عصر الرشيد» في القريب العاجل إن شاء الله.
على أننا نرى من المستصوب قبل أن تتم هذه الفذلكة الموجزة أن نختمها بكلمة لابن خلدون لا تخلو من تحليل صحيح، ومذهب في الموازنة رجيح، وباب في التاريخ جميل المنهج، معقول التعليل.
قال ابن خلدون: إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم: من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم، يقال: إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح؛ لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد وخليفة، حتى شب في حجره، ودرج من عشه، وغلبه على أمره، وكان يدعوه: يا أبت، فتوجه الإيثار من السلطان إليهم ، وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وقصرت عليهم الآمال، وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء، وتسربت إلى خزائنهم، في سبيل التزلف والاستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء، وطوقوهم المنن، وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم، وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم، وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك، حتى آسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية، فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثيرة من الدولة عقارب السعاية، حتى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم الساعين عليهم، لم تعطفهم، لما وقر في نفوسهم من الحسد، عواطف الرحم، ولا وزعتهم أواصر القرابة، وقارن ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة، وانتهى بهم الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة.
هوامش
الفصل التاسع
الحياة العلمية في العصر العباسي
صفحة غير معروفة