الناس تراهم داخل آلة التليفزيون قردة داخل أقفاص. ولن يجديهم شيئا صوت كمواء القطط، كما لن يجديهم شيئا تصنع في النطق وتمشيط لشعر الرأس وترجيل للحواجب وحركات للأيدي مرسومة في تكلف بغيض وفتح للفم وإقفال له بمسطرة وبرجل ومنقلة، ولو دروا أنهم بهذا يقتربون إلى عالم القردة أكثر مما يقتربون إلى عالم الإنسان لكفوا، ولكن من أين لهم أن يدروا؟
أغلب الأمر أن القارئ الآن سيقول ألغزت فأفصح، ولكن المؤكد أن أغلب القراء من مشاهدي التليفزيون سيقولون أفصحت فاستر. وعهد علي لهم ألا أزيد الأمر إبهاما أو إيضاحا؛ فالقردة لا يقال عنها إلا قردة، والقرد لا يسمى. وإن كان له اسم فإني أربأ بقلمي أن يجمع من حروفه اسما.
ولكن كل ما أستطيع أن أقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل.
طويل ولكن!
حين يأذن الله لي بسفر إلى الخارج لا أتوقع في نفسي شيئا لا من الناس ولا من المكان. ولا أحب أن أرسم ما قد تستقبلني به الدول التي سأزورها، فلا أنا أتصور الفندق ولا أنا أحب أن أتخيل الأشخاص، وإنما أترك البلدة التي أضع بها حقائبي تطالعني هي بجديد منها في كل خطوة أخطوها.
وليكن هذا الجديد متمثلا في الناس وفي المكان، وفيما وهب لها الله من جمال معالم، وفيما حرمها الله من نعم.
وبقدر ما كان هذا البياض الذي أفرضه على مخيلتي يجعلني أتمتع بكل ما هو ممتع، كنت أفجع فجيعة مضاعفة فيما يواجهني مما لا إمتاع فيه.
ورحلتي هذه التي التقيت فيها بذلك الفتى الطويل الهايف كانت إلى دولة من أكبر الدول الغربية. ووجدت ذلك الطويل ضمن الذين يستقبلون وفدنا، وعرفت أنه أحد الذين يمثلوننا تمثيلا ثقافيا أو صحفيا أو شيئا من هذا القبيل. ولم أتبين مقدار هذه الهيافة في الفتى إلا حين بدأ يتكلم.
ولم يتكلم طويلا؛ فما هي إلا جمل قليلة حتى وضح أمره واستبان، ورددت في نفسي ذلك العنوان الذي صدرت به هذه الصورة؛ فأنا بحكم الطول الذي وهبه الله لي أحس ضعفا نحو الطوال، وأرجو إذا تعرفت بجديد منهم أن يقول خيرا إذا قال، أو يصمت فلا يقول شيئا، فيصبح طوله ستارا جميلا يخفي الفراغ الذي بداخله؛ فإن السذاجة التي يرمي بها الناس من كان طويلا تجعلني دائما حريصا ألا تجد مؤيدا عمليا لها من بين إخواني من الطوال.
ولهذا لم يكن عجيبا أن أفجع في هذا الفتى حين تكلم؛ فقد لقينا بالتحية التي يقدمها أي إنسان لقادم عليه من بلاده. حتى إذا استقر بنا المكان وتكلم بدأت دهشتي تتصاعد مع كل كلمة يضيفها إلى الفراغ الذي يبين عنه حديثه.
صفحة غير معروفة