تحية إليك
عاشق الليل
حين يشيخ البحر
زعيم من الوهم
الريح والبلاط
ملحق البهلوان
الثور المذءوب
ويل لشتاء بلا ربيع
بين الخطيئة والغفران
أمنية لن تتحقق
الخبرة والإدارة
لحظات مع المجنون
ملبس أجرب لزمن ممزق
قصة من بئر النسيان (السلطان والبهلوان)
عالي الصوت لم يزل
صورة من مرآة النفس (ترقية)
صورة ليست كاريكاتورية
سقط الصنم
الصوت المرتفع والتليفون والفن
قردة
طويل ولكن!
الناس والملائكة
حواديت
حواديت
تحية إليك
عاشق الليل
حين يشيخ البحر
زعيم من الوهم
الريح والبلاط
ملحق البهلوان
الثور المذءوب
ويل لشتاء بلا ربيع
بين الخطيئة والغفران
أمنية لن تتحقق
الخبرة والإدارة
لحظات مع المجنون
ملبس أجرب لزمن ممزق
قصة من بئر النسيان (السلطان والبهلوان)
عالي الصوت لم يزل
صورة من مرآة النفس (ترقية)
صورة ليست كاريكاتورية
سقط الصنم
الصوت المرتفع والتليفون والفن
قردة
طويل ولكن!
الناس والملائكة
حواديت
حواديت
عاشق الليل
عاشق الليل
صور قلمية
تأليف
ثروت أباظة
تحية إليك
كتابي هذا إليك تحية أحب أن أقدمها في ساحتك. وهي كما ترى في العنوان صور نقشها القلم بالحروف. ولا أحسب أن هذا النوع من الكتابة سبق أن تقدم به أحد بين يديك.
فهو باليقين ليس مقالات؛ فبناء المقالة وأسلوبها وموضوعها معروف لا يجهله قارئ، ولا يخطئه كاتب.
وهو أيضا ليس قصة؛ فالقصة تحتاج إلى كثير من التركيبات والتهويمات التي ما أحسب أنك واجدها بين دفتي هذا الكتاب.
إنه حكايات عن أشخاص عرفتهم وعرفهم الناس في مألوف الحياة وغمارها. وأحسب أن كثيرا سيتعرفون عليهم من ثنايا الكتاب الذي أهديه إليك. وقد وجدت في هذه الشخصيات نماذج فريدة جديرة بأن يتناولها فنان، وخليقة بأن يقرأها الناس.
وحين اخترتهم لك نفذت أو حاولت النفاذ إلى دخيلة طواياهم، والمحجب المستسر من بواعثهم. وحين بلغت، أو خيل لي أنني بلغت، وجدت أنني أستطيع أن أقدم إلى الفن الأدبي صورة لا يستطيع أن يرسمها إلا القلم؛ فالريشة لا يتاح لها أن تصل إلى البعيد من طوايا النفوس، وإذا وصلت فهي ترسمها وقد غشاها الكثير من الشك، حتى إن أمرها يستبهم على المشاهد وتختلط في عينه الصفات.
أما القلم فواضح صريح. أليس هو البيان؟
فإليك إذن ما صور القلم. إن كنت قد بلغت به من نفسك ما أتمنى أن أبلغ فما أعظم هذا لي وما أسعدني به! فإن الكاتب لا يهنأ بشيء قدر أن يعرف أن الشرارة التي انبعثت من قلمه قد لاقت شرارة مثلها عند قارئه. وفي هذا اللقاء يضيء مصباح ينير حياة البشر أجمعين.
أما إذا كان الطريق قد أكدى بي فحسبي عندك أنني حاولت، وكنت فيما حاولت أتمنى رضاءك. وفي هذا التمني وحده ما يمهد لي عندك أسباب الاعتذار، ويمهد لك عندي أسباب الشكر. والله من فوق الجميع هو ولي التوفيق.
ثروت أباظة
عاشق الليل
سبحان الخالق العظيم! جعل كل فرد من الناس نمطا مستقلا بذاته، له مشاعره الخاصة، وشكله الخاص، وأفكاره التي تتخلج في أعماق نفسه، لا يعرف أسرارها إلا الخالق سبحانه، ثم جعل لكل إنسان بصماته الخاصة التي لا يتماثل فيها اثنان في العالم؛ كأن هذه البصمة هي توقيع لفنان انتهى من عمله الفني.
من هذا الشتات من الأفكار ومن المشاعر ومن التركيب الخلقي والخلقي تتكون الشعوب، ومن هذه الشعوب تتكون البشرية.
فكل نظرية لا تدخل في حسبانها أن الإنسان مشاعر ورغبات وآمال وآلام وعواطف تضطرب بين الحب الجارف بلا حدود والكره القاتل لا يرده شيء، نظرية لم تخلق للإنسان، وقد تصدق على الآلة الصماء بلا مشاعر لها ولا آمال ولا آلام.
في قريتي أنماط الناس على كل صنف ولون، ولكن بعض أشخاص لا يستطيع النظر أن يعبرهم بغير إنعام وتمعن.
عبد الحليم حسون؛ عرفته أول ما عرفته خفيرا نظاميا في القرية، وكان عمدة القرية معجبا به أشد الإعجاب؛ فهو أول من يتسلم سلاحه في صفار الشمس وهو آخر من يسلمه بعد أن يصلي الفجر.
ولا يأتي جزء من الليل على عبد الحليم إلا وهو يقظ لا ينام؛ فعبد الحليم يحب الليل ولا يطيق أن يفلت منه لحظة دون أن يعيشها بأكملها، بأعماقها جميعا، ويستمتع بكل ما في الليل. وهو يستمتع بالليل على أي صورة له فهو يحبه أسود قاتم الظلمة معتما. وهو يحبه والنجوم على صدر سمائه. وهو يحبه والقمر يحيله إلى هذا اللون الأزرق الذي يشيع في النفوس الحب للحب، والهوى للهوى، والشفافية الشاعرة الرقراقة. ويسعد بغلالة القمر نسجتها يد الفنان الأعظم. ويلقي عبد الحليم نفسه في هذه الغلالة سعيدا لا يدري لسعادته سببا ولا يريد أن يدري. وكأنما أدرك بحسه كالبدائي الصادق أن التغلغل في أسباب السعادة يدمر السعادة. إنما هي لحظة إشراق تومض، فهو بها في نشوة، ولا يعنيه من بعد من أين جاءت هذه الإشراقة، وكم ستمكث، ومتى ستولي عنه. وإنما هو يلقي نفسه إليها بالدنيا جميعا. هي لحظته تلك، وليكن بعد ذلك ما يكون.
وما عرفت في حياتي شخصا يقدس الحرية مثلما يقدسها عبد الحليم.
أحب وتزوج وأنجب بنتا، وما إن جاءت البنت حتى تكشفت زوجة عبد الحليم على حقيقتها؛ لقد أرادت أن تفرض سيطرتها عليه فلا يفلت إلا من يدها، ولا يخرج إلا بإذنها، ولا يصادق إلا بأمر منها.
واتخذ قراره الحاسم.
الوقت شتاء ولكن لا يهمه. وهو يسهر الليل كله في درك الخفر. وللجسم حقوق لا بد أن تؤدى، فإذا خرج من بيته فإلى أين يأوي؟
لم يفكر، كان قد اتخذ قراره.
لم يعد بعد ذلك إلى بيته، والتمس من حقل شجرة ونام. وأصبحت الشجرة بيته.
وحاولت الزوجة أن تسترده بكل الوسائل التي تعرفها المرأة فلم تفلح، فحاولت أن تسترده بالوسائل التي تعرفها القرية ففشلت. - إن ما بيني وبينك ورقة الزواج. أستطيع أن أجعلها في أي لحظة ورقة الطلاق. وأنا لا أريد أن أفعل هذا من تلقاء نفسي من أجل بيتنا. لن أطلقك إلا إذا طلبت هذا. - عد، وافعل ما تشاء. - إن المرأة التي تحب أن تسيطر لا تصلح لي. - قلت افعل ما تشاء. - أنا لا أريد إلا أن أكون حرا. - فكن حرا. - لن أكون حرا إلا وأنا بعيد عنك. - وبيتك ؟ - ما دمت فيه فهو ليس بيتي. - وأنا كيف أعيش؟ - هذا شأنك. ما دمت تعرفين كيف تسيطرين فلا بد أنك تعرفين كيف تعيشين. - وبنتك؟ - لن ينقص ابنتي شيء إلا أن أكون أنا موجودا. - أنت تعرف كم تحبك. - أنا طول الليل في الدرك تستطيع أن تأتي إلي عندما تشاء. وهي تعرف كيف تجدني دائما. - أليس هناك أمل؟ - أما أنا فأملي كله أن أكون حرا، وقد صرت حرا. وهكذا اتخذ عبد الحليم قراره ونفذه. ولم يجد معه حديث زوجته ولا شفاعة أصدقائه. ولم تجد زوجته سبيلا إلا أن تلجأ إلى العمدة تستعينه على زوجها. - ارجع يا ولدي إلى زوجتك. - وما دخل هذا في عملي يا حضرة العمدة؟ - إنني آمرك. - سعادتك تستطيع أن تأمرني بما شئت فيما يتصل بعملي. أما ما يتصل بزوجتي فلا يأمرني أحد. - حتى ولا أنا؟ - وما دخلك أنت يا حضرة العمدة فيما بين الزوج وزوجته؟ - أنا عمدة البلد يا ولد، هل جننت؟ - يا حضرة العمدة، أبقى الله عليك العمدية، ولكن هل تستطيع بالعمدية أن تجعلني أقبل زوجتي؟ وإذا كانت كريهة إلي هل تستطيع أن تجعلها حبيبة يا حضرة العمدة؟ الله وحده هو الذي يملك القلوب، والصلة بين الزوج والزوجة لا يعرف أسرارها إلا الزوج والزوجة، إنها صلة لا مثيل لها في العالم، ولا تكون بين اثنين آخرين أبدا؛ فلا هي نفس الصلة بين الابن وأبيه، ولا هي الصلة بين الابن وأمه، ولا بين البنت وأمها؛ صلة عجيبة أنشأها سبحانه على نظام خاص، فكيف تتصور أن تتدخل فيها بأوامرك يا حضرة العمدة؟ - الله، الله، الله، ما كل هذه الفصاحة؟ - ولكني على حق. - إذن فأنت مرفوت. - سبحانه! لا يترك أحدا جائعا.
لم يكن المرتب يعني عبد الحليم؛ فهو يعرف أنه سيعيش، ولكنه حزين أنه حرم من الليل. ولم يقم حزنه طويلا. لقد كنت أسهر لأني خفير فماذا بي لو سهرت لأني حر؟ سيضحك مني الناس، ولكن ما شأن الناس بي؟! لقد رفتني العمدة لأعود إلى بيتي، ولكن ما الحرية إذا أنا لم أغتصبها اغتصابا؟
ومنذ ذلك اليوم وعبد الحليم لا ينام في البيت أبدا. في الشتاء العاصف والريح تعوي فيختلط صوتها مع صوت الذئاب، والمطر ينهمر فيدق الأرض، وكأنه عديد من العصي الغليظة، وطرقات القرية وحقولها لا يبدو فيها أنس أو وميض من نور، تجد عبد الحليم في العراء، كل ما فعله لنفسه ليتقي لذعة البرد كيس فارغ من أكياس القطن مبطن بقش الأرز، يغمر عبد الحليم نفسه في داخله، وينظر إلى الليل؛ فهو يحبه أيضا حين يعصف وينهمر مطره وتعوي ذئابه ورياحه.
وتمر الأيام لتصبح سنوات، وتكبر ابنة عبد الحليم، ويأتي لها من يريد الزواج بها. وتتزوج في بيت عبد الحليم مع زوجها حتى لا تترك أمها وحيدة.
وتمر أيام أخرى. وتموت زوجة عبد الحليم، وتقصد البنت إلى أبيها. - أبي، قد كبرت. ولم تعد تستطيع أن تظل على هذه الحال. - وما هذه الحال؟ - تحتاج إلى لقمة طيبة وهدمة نظيفة ونومة هادئة. - أما اللقمة فأنا، كما تعلمين، لا يغريني الطعام. وأما الهدمة ... - أعرف، أعرف أنك أنظف إنسان في القرية، ولكنك يا أبي أنت الذي تغسل جلبابك كل ليلة. - من يريد أن يكون حرا لا بد أن يكون نظيفا. - والنومة الهادئة؟ - أتحسين يا ابنتي أني أنام في العراء لأني لا أجد بيتا؟ - أتحب أن تنام في العراء؟ - قولي لي، كيف أعيش منذ تركت الخدمة؟ - تؤدي الطلبات لأصدقائك في البلاد الأخرى وفي البندر مقابل أجر ضئيل. - يكفي لقمتي وسيجارتي. - وما شأن هذا بنومك في العراء؟ - هل أعدم سقفا عند أصدقائي هؤلاء؟ إنما أريد أن أرى الليل وأقيم فيه. إنه يخيل لي أن الليل نفسه لا ينام إلا إذا رآني أنام تحت سمائه. أنا يا ابنتي مخلص لأصدقائي كما تعرفين. الليل هو أحب أصدقائي إلي، وهو أيضا أوفى الأصدقاء لي.
حين يشيخ البحر
مرت بنا في الإسكندرية أيام خيل إلينا فيها أن البحر قد شاخ، وأنه أصبح عاجزا عن أن يموج ثانية. كانت المياه منه تصل إلى الشاطئ عاجزة لاهثة، كأنها حيوان أخذ منه الجهد مأخذه؛ فهي ترتمي على الرمال ارتماء من يتشبث بالحياة، وينشب فيها أظافر يائسة مرتعشة توشك أن تموت.
وكان الهواء قد مات فعلا، حتى لقد خيل إلينا أنه يبتسم أبدا.
وإذا كان هذا حالنا ونحن على شاطئ البحر في الإسكندرية، فالله في عون البعيد عن الشاطئ.
في هذا الجو يجمل بنا أن نتناول حديثا بعيدا عن السياسة؛ فالسياسة إن أعجبت قوما أغضبت آخرين، وإن رضي بحديثها بعض ضاق به بعض أكثر.
والأخذ في غير حديث السياسة أمتع للقارئ وأيسر للكاتب، وخاصة إن كان الكاتب مثلي مرن على كتابة الرواية والقصة، وعرف بهذا اللون بين الناس، وأصبح عذره بين يديه إذا هو قدم إلى قارئه من حين إلى آخر حكاية. وقد يسأل من يسأل: فما لك لا تصوغ هذه الحكاية قصة قصيرة تضاف إلى مجموعة جديدة، أو رواية طويلة تضاف إلى ما كتبت من روايات؟
وأيسر إجابة على ذلك أن أبطال هذه الحكاية يفسدون الحبكة الروائية، ويدمرون الصدق الفني؛ فهم بأعمالهم الخارقة للعادة يحولون دون جعل قصصهم أعمالا فنية؛ لأنها أعمال يرفضها التصديق ويأباها المنطق، ولا بد للعمل الفني أن يتسم بالصدق جميعا.
ومع كل هذا فالحكاية التي أقدمها قد وقعت في الحياة فعلا؛ ذلك أن الحياة لا يعنيها في كثير أو قليل أن يصدق الناس ما تؤلفه من قصص وروايات، وإنما يعنيها أن تؤلف، وليس يعنيها من يستقبل العمل الفني. •••
ولعل أبيات شوقي في قصيدته الخالدة مصاير الأيام خير دليل على ما أذهب إليه.
قطيع يزجيه راع من الده
ر ليس بلين ولا صلب
أهابت هراوته بالرفاق
ونادت على الحيد الهرب
وصرف قطعانه فاستبد
ولم يخش شيئا ولم يرهب
أراد لمن شاء رعي الجديب
وأنزل من شاء بالمخصب
وروى على ريها الناهلات
ورد الظماء فلم تشرب
وألقى رقابا إلى الضاربين
وضن بأخرى فلم تضرب
وليس يبالي رضا المستريح
ولا ضجر الناقم المتعب
وليس بمبق على الحاضرين
وليس بباك على الغيب
وهذه القصة - مع كل المقدمة التي قدمتها عن السياسة - ما زلت لا أدري أهي سياسة أم غير سياسة. •••
تبدأ القصة حيث تنتهي الأفلام المصرية بزواج فتى مهندس شاب بفتاة ثرية واسعة الثراء.
ولكن المهندس بارع في النفاق فهو يضع رجله دائما حيث ينتفع من وضعها، ويمد يده دائما لينال مالا أو منصبا. وهو لم يعمل نفاقه على ذوي السلطان فقط، وإنما أعمله وأجاد إعماله على زوجته الغنية، حتى استطاع أن يحول أموالها كلها إلى حوزته، فأصبح مالكا لكل ما كانت تملكه.
ولما كان النفاق يجهده غاية الجهد، فقد تعرف بسيدة أخرى أخذت عليه مسالك تفكيره كلها، فأصبحت تأمر فينفذ أمرها. وكانت السيدة متزوجة. ولم يكن طلاقها سهلا، ولكنها - لأنها قادرة - استطاعت أن تجعل زوجها يطلقها. وصورت هذا الطلاق للمهندس المنافق على أنه تضحية من أجله كبرى. ولم يكن المهندس محتاجا لإقناع؛ فقد استنفد أغراضه من زوجته بعد أن أصبح المال كله ماله هو. طلق زوجته وتزوج السيدة الأخرى.
وكما تدين تدان.
استطاعت السيدة الأخرى أن تبتلع ماله هو جميعا؛ أقصد المال الذي استلبه من زوجته الأولى استلبته منه زوجته الثانية جميعا.
وكان في هذه الفترة قد بلغ منصبا تستطيع هي أن تنتفع به، كما استطاع هو أن ينتفع. وبمعرفة قادرة استطاعت أن تصبح السيدة الجديدة مستأجرة لخمس وثلاثين شقة خالية من الأثاث؛ أثثتها هي وأصبحت تؤجرها جميعا مفروشة. والشقق جميعا باسمها. وهكذا أصابت المال والشقق جميعا. ولم يبق للمهندس إلا منصبه. ولكن متى دامت المناصب حتى تدوم له؟ ما هي إلا دورة زمن حتى أبعد عن منصبه. وحينئذ وجدت الزوجة المخلصة - المخلصة لنفسها - أن الأوان قد حان ليطلقها. وإذا كانت قد استطاعت أن تحصل على طلاقها الأول فهي على طلاقها الثاني أكثر قدرة. وطلقها.
وهو اليوم رهين المحبسين من فقر وبطالة.
أما هو فقد نال جزاءه وهو بعد على قيد الحياة. أما هي فأغلب الأمر أن جزاءها سيكون في الحياة الثانية، و«إن ربك لبالمرصاد».
ترى أوجدت النغمة السياسية الخافية في هذه القصة؟ ما أحسب أنها فاتت ذكاءك.
فقد صنع هذا المهندس ماله وشقق زوجته ومنصبه في عهد كان النفاق فيه هو البضاعة الوحيدة في السوق.
وأخشى أن أمضي في الحديث إلى أبعد من هذا، فأجد القلم قد انغرس في أسماء الأشخاص، وتنقلب الحكاية إلى نميمة. وما أشتهي هذا لنفسي ولا لقلمي.
ترى هل استطعت أن أخفف عنك وطأة الحر. إن لم أكن فاذكر أن هذا عهد قد مضى وأنه لن يعود. وحين تذكر هذا ستحس نسمة من أمن ومن ريح طيبة رخاء ترطب حولك أعباء الحياة.
زعيم من الوهم
وهل حياة الإنسان إلا ذكريات تنداح في خفايا النفس متحفزة متوفزة تترقب من الحياة منفذا تثب منه إلى الوجود، فإذا هي تنقلب من مجرد ذكرى إلى واقع يحياه الإنسان وكأنه ما بارحه في أمس البعيد.
وهذه الصورة قفزت إلى واقعي بعد أن استخفت في أطواء نفسي قرابة أربعين عاما، وكنا تلاميذ في المدارس الثانوية، وفوجئنا بزميل لا يمشي كما نمشي ولا يتكلم كما نتكلم؛ ففي مشيته بطء وخيلاء، فاشل واضح التصنع، وفي صوته رنين يريد أن يكون رنين التعالي، فلا يتم له ما يريد. وتحلقنا حوله - ماذا بك يا أخي؟! كنا عرفنا اسمه، كما عرف كل منا اسم الآخر.
فقد كان أول أستاذ في العام الدراسي الجديد يدخل إلى الفصل، وينادي الأسماء اسما اسما، ويطلب من التلاميذ أن يقف كل منهم حين يسمع اسمه، فما هي إلا دقائق حتى عرفنا من لم نكن نعرف من الأسماء، ممن لم تجمعنا وإياهم سنوات سابقة. وكان اسم هذا الزميل هو عبد الشكور عبد النبي. وقد وقف حين وقف في عظمة ولكنها مفتعلة. وجلس حين جلس في نفس العظمة المفتعلة. وأدركنا نحن من هيئته أننا وقعنا في عامنا هذا على مادة للسخرية لا مثيل لها في حياتنا جميعا.
كان عبد الشكور يرتدي من الملابس ما يدل على أنه ليس ذا ثراء. وكان قصير القامة؛ فتراه يشب على أطراف أصابعه ليبدو أطول من حقيقته. وكان يلبس الحلة ذات صفين من الأزرار، ويميل الطربوش إمالة واضحة إلى اليسار مثل محمد محمود باشا، ويضع يده اليسرى في جيب الجاكتة مثل صدقي باشا الذي كان يفعل هذا ليخفي الشلل الذي أصاب يده، ولكن عبد الشكور ظن أن صدقي باشا يفعل ذلك على سبيل العظمة. وكان يضع وردة حمراء في صدره مثل النحاس باشا.
وهكذا أصبح أخلاطا من الزعماء كلهم عدو للآخر، جمعهم هو في ملبسه ومظهره وحركته ومشيته. بدأنا نناوشه: ماذا تريد أن تكون؟ - أنا زعيم عصركم. - ماذا قلت؟ - لا بد لكل عصر من زعيم، وقد هيأت نفسي أن أكون زعيم عصركم لأخرج الإنجليز من مصر.
وقع المسكين في شر أعماله ولم يجد من يسمي عليه. أصبح مسختنا وسخريتنا وملهاة المدرسة وتسلية التلاميذ، ولكن العجيب أنه كان لا يتحرج ولا يهتم، فإذا اجتمع الطلبة وهتفوا ساخرين بحياة الزعيم العظيم حياهم بيده في عظمة يقصر عنها الزعماء شهرة وزعامة.
وكان أستاذ التاريخ في فصلنا من أعظم المدرسين الذين عرفناهم في سنوات حياتنا جميعا. ولولا خشيتي أن أكشف بذكر اسمه شخصية بطل هذه الصورة لذكرته أطال الله حياته ومتعه بالصحة والعافية.
وقد رأى أستاذ التاريخ أن يعد كل تلميذ درسا من دروس المنهج ويلقيه على إخوانه، ويناقشه الإخوان في الدرس. وهكذا تثبت المعلومات في أذهاننا نابضة بالحياة، ويكتب لها البقاء إلى الأبد.
وحدث أن اختار الأستاذ لدرس من دروس المنهج أخانا عبد الشكور عبد النبي. ووقف بيننا عبد الشكور عبد النبي وانفجر يخطب وكأنه مصطفى كامل باشا في عنفوان أيامه. وأعلننا أنه منذ اليوم سيتولى زعامتنا لنخرج الإنجليز من مصر، وأنه هو وحده القادر على أن يخرجهم. وانفجرنا في ضحك ساخر مجلجل صاخب لم يستطع على رغم اندفاعه أن يصيب منه أي وتر من خجل، ولكن الذي خجل من أجله أستاذ التاريخ، الذي لم يجد بدا من أن يقول له في أدب جم: طيب. ادخل أنت إلى درجك دلوقت يا عبد الشكور. ودخل عبد الشكور مرتفع الهامة ثابت الخطوة متعاظم المشية، يشب على أطراف أصابعه ليبدو أطول من حقيقته. وراح الأستاذ يكمل الدرس.
ولكن أستاذنا كان شاعرا رقيق الحس مرهف المشاعر. وخيل إليه أن عبد الشكور قد أصيب في كرامته فأراد أن يرد إليه ما تصور أنه سلب من كرامة، فاستدعاه.
وجاء عبد الشكور إلى مكان الأستاذ. وإذا به يواصل خطابه الذي أوقفه عنه الأستاذ، ويعلن زعامته مرة أخرى في صفاقة أشد من المرة السابقة. وفي هذه المرة لم ينفجر الفصل وحده، وإنما انفجر معه الأستاذ الحليم الذي لم نره ثائرا في حياتنا إلا في ذلك اليوم، وصاح به: يا عبد الشكور أنت غير معقول. امش ادخل مكانك، امش.
وأصبح ما حدث في الفصل حديث المدرسة كلها. ووجدنا أنفسنا نحن تلاميذ الفصل موضع الأسئلة المتزاحمة علينا من زملائنا في الفصول الأخرى.
وفي اليوم التالي فوجئنا بعبد الشكور يوجه الدعوة إلى الشاي في منزله لبعض تلاميذ الفصل، وعجبنا لأمره.
ولكننا قبلنا الدعوة لنصل إلى كل ما نستطيع أن نبلغه من حقيقة الزعيم.
البيت لموظف رقيق الحال في أربعينيات القرن. واضح أن اعتماده الوحيد على مرتبه دون أي عون آخر. والبيت نظيف، والمواد المقدمة في الشاي هزيلة، ولكن الجهد الذي وراءها واضح المعالم. وبدأ أبو الزعيم الحديث فعرفنا عجبا.
لقد كان عبد الشكور من الوقاحة وكان أبوه من السذاجة بحيث استطاع عبد الشكور أن يقنع أباه أنه زعيم المستقبل، وأننا نحن أعوانه ورجال حزبه وعناصر التأييد لزعامته؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن نجد الأب سعيدا بابنه سعادة غامرة لا عقل فيها ولا تفكير ولا تدبر.
ومع أننا كنا في تلك السن القاسية التي لا تعبأ كثيرا بشعور الآخرين، إلا أننا - وكنا ستة طلاب - أجمعنا دون اتفاق على ألا نجرح مشاعر الأب الساذج في ابنه، الذي يثق وثوقا كاملا أنه زعيم فترته.
وانصرفنا.
وفي اليوم التالي كنت قد نظمت أبياتا في عبد الشكور تفرج عن غيظي الذي كتمته في مجلس أبيه. والعجيب أنني أذكر هذه الأبيات، وهي أول ما نظمت في حياتي:
على رغم المظاهر والغرور
صغير أنت يا عبد الشكور
أترجو أن تكون زعيم قوم
لتنظر في الصغير وفي الكبير؟
فدع عنك الزعامة واجتنبها
فلا في العير أنت ولا النفير
والأبيات كما هو واضح بالغة الضعف، ولكن التلاميذ تلقفوها، وراحوا يتغنون بها كلما مر بهم عبد الشكور.
وأراد أن يدبر لي بذكائه السياسي مصيبة، فجاء إلى الدرج الذي أجلس فيه، وأخذ مكانه بجانبي وقال: أنا أريد أن أقابل والدك.
قلت: وما له! تحت أمرك؛ فهو أيضا ممن يعملون في السياسة، وقد ينضم إلى حزبك.
قال: لا. أنا جاد فيما أقول.
قلت: ومن قال لك إنني تحت أمرك؟ ولكن فيم تريد أن تقابله؟!
قال في جدية شديدة: إن صلتك بالفتاة حسنية أصبحت على كل لسان، وأحب أن أخبر الوالد لأخلص ذمتي أمام الله.
أدركت ما يقصد إليه؛ فأنا لم أعرف في حياتي فتاة بهذا الاسم. وقد كانت حياتي جميعا بعيدة كل البعد عن المغامرات النسائية. وكان أبي أعلم الناس بذلك.
قلت لعبد الشكور: والله تشكر يا عبد الشكور. أنت فعلا أخ؛ فإن حب هذه الفتاه يسد علي أقطار الحياة، وأنا أخشى أن أخيب بسبب حبها. وربما لو أخبرت أنت أبي الذي لا أجرؤ أنا على إخباره يزوجني من الفتاة أو يردعني بسلطان الأبوة، وتكون قدمت لي خدمة العمر.
فإذا عبد الشكور ينتفض غاضبا باكيا لأول مرة في حياته صائحا: أنت مش معقول، أنت مش معقول.
وانصرف عني وهو يرقأ مدامعه بمنديله.
ومضت الأيام وغاب عبد الشكور عن الذاكرة، وذكرته هذه الأيام.
لم يصبح عبد الشكور زعيما، ولكنه أيضا يأبى أن يتخلى عن فكرة الزعامة، فإذا هو يصطنعها في مكان لا يصلح مطلقا للزعامة، ومن يحاول الزعامة فيه يصبح إنسانا أخرق الرأي ضائع التفكير سقيما غاية السقم في حكمه على الأمور.
صورة من الماضي أبى الحاضر إلا أن يردها إلى الحياة. ويا ليتها ظلت حيث كانت في طوايا الذكريات الخفية، ولكن متى كانت «ليت» ذات نفع؟! إنها كلمة الحسرة، لا تنفع الحسرة. والأمر لله من قبل ومن بعد.
الريح والبلاط
كانت حقيبته خاوية أو تكاد وهو قادم إلى القاهرة، ولكن وعاء تاريخه كان حافلا بكل الهوان؛ فقد كان أبوه الوحيد في القرية الذي لا يستطيع أن يقول إنه فلاح. ثم هو لا يستطيع أيضا أن يفصح عن وظيفته الحقيقية. والقلم أيضا لا يستطيع أن يكتب هذه المهنة؛ فإن سنه لم يتعود أن يخط حروف هذه الصنعة متلاصقة. وللقلم مثل الإنسان حد يقف عنده لا يعدوه، وهو قادر أن يقف بصاحبه حيث يشاء؛ فإن للقلم جفوة لا يملك الممسك به إلا أن يخشاها؛ فإن العلاقة بين القلم وصاحبه لا بد أن يسودها الوئام والتوافق؛ وإلا فويل لكل منهما من صاحبه؛ فحياة كل منهما تعتمد على الآخر كل الاعتماد، فلا حياة لممسك القلم بغير القلم. ولا حياة للقلم بغير صاحبه.
ولهذا أراني مضطرا أن أصف لك موقف القرية من العزوني، دون أن أذكر المهنة التي يمتهنها.
فكل رجل في القرية يحرص أن يكون حديثه إلى العزوني في خفية عن الأعين، وويل للرجل من زوجته كل الويل إذا هي سمعت أن جملتين من حوار اكتملتا حديثا بين زوجها وبين العزوني.
وقد نشأ حنفي بن العزوني وهو يرى أباه منبوذا من القرية جميعا، قصيا عن أهلها، لا يحادثه أحد منها إلا همسا، وفي غيبة كل العيون. وحين كان حنفي طفلا لم يكن يدرك سر أبيه. وحين ذهب إلى المدرسة وجد نفسه منبوذا من أطفالها، يعرضون جميعا عنه، ويرفضون حديثه إذا توجه به إليهم فرادى أو جماعات. وكان المدرسون أشد قسوة من التلاميذ في معاملاتهم له. وتعلم القراءة والكتابة، وسر أبيه ما زال مجهولا بالنسبة إليه. وأصبح الطفل صبيا يملؤه نشاط الصبا ولا مكان لمنشطه ولا ملعب له مع الأطفال، فيجري في الحقول لغير غاية، ويقف لا يدري لماذا وقف، ويجلس ولا يدري لماذا جلس. ويقصد إلى ملاعب الأطفال في الأجران فيقف منهم بمرقب، لا يجرؤ أن يعرض عليهم المشاركة في اللعب، طالما حاول ذلك فواجهه الصدود والرفض.
وأخيرا اطلع الفتى على سر أبيه، ثم ما لبث أن أصبح أبوه يجعله يقوم بالعمل عنه. وأتقن الصنعة بكل ما يحيط بها من احتقار ومذلة. وخلا بنفسه يوما، كم هو غبي أبوه العزوني هذا! إن الصنعة التي يمارسها لا تصلح في قرية؛ فالقرية مجتمع مقفل، كل شخص فيها مكشوف الجوانب للجميع، وعائد هذه الصنعة في القرية ضئيل الشأن؛ فأي معنى إذن لبقاء أبيه في هذه القرية؟! ربما قال أبوه لنفسه إنه في القرية محقور الشأن ولكنه أيضا يعرف زبائنه، وسيصبح من العسير عليه أن يتعرف على زبائن في المدينة. والمهنة تقوم على معرفة رغبة عند قوم تجد قبولا عند قوم آخرين؛ فمعرفة أصحاب الرغبة وأصحاب القبول هي أساس المهنة. وهذا أمر ميسور في القرية عسير في المدينة. ورأس مال هذه المهنة أن يرضى الذي يمتهنها أن يكون موضع احتقار الجميع في الظاهر وملتقى أموالهم في الخفاء. ولكن حنفي ما زال يعجب، ما دام أبوه قد تخطى مرحلة المحافظة على الكرامة إلى مرحلة الذلة والاحتقار، فلماذا يصحب رأس ماله الضخم هذا إلى المدينة؛ فهناك ينماع احتقاره في تيارها وأمواجها الصاخبة، وهناك كل إنسان له شأن يغنيه. وهناك لا يسعى كل إنسان إلى معرفة أسرار الآخرين. وإن حاول فنصيب محاولته - أغلب الأمر - الفشل والإخفاق.
لقد ذهب حنفي مرات إلى القاهرة، وأقام فيها عند خالته، فوجدها لا تدري عن مهنة أبيه في القرية شيئا، وجد زوج خالته يجهل شأن أبيه كل الجهل. وقد انساب حنفي في الجموع، وعرض صداقاته على الجلساء في المقاهي فما وجد إعراضا، وما صده رفض، وما سأله أحد ما صناعتك أو صناعة أبيك. وعرف حنفي في القاهرة مكتبات سور الأزبكية، واشترى ألف ليلة وليلة، وقصص عنترة وأبو زيد الهلالي سلامة، والأميرة ذات الهمة، ولم يرتفع مستواه إلى أعلى من ذلك.
وصحب هذه الكتب إلى القرية، وانغمس فيها يكب عليها في الأوقات التي لا يقوم فيها بعمل أبيه. ومن الطبيعي أن تكون أوقات القراءة متطاولة متسعة لأن أوقات العمل بطبيعتها ضئيلة منكمشة.
وهكذا لم يكن غريبا أن ينكر على أبيه بقاءه في القرية. ولم يكن عجيبا أن يصحب حقيبته وليس بها إلا شبه ملابس ويتجه إلى القاهرة.
ذهب إلى خالته. وأدركت أنه ينوي الإقامة، وفدحها الأمر. وأدرك أنه غير مقبول، وأن الترحيب الذي كان يجده في زيارة يومين أو ثلاثة أو أسبوع لن يجده في إقامة غير نازح.
ونزل إلى الطريق يحس أنه بالصنعة التي أتقنها وتلقاها عن أبيه أقوى الناس جميعا. ومن يستطيع أن يباري منعدم الكرامة في القوة والمتعة؟ إن الناس - سائر الناس - لديها بقية من حياء أو أثارة من خشية أن تذل لهم كرامة أو يوجه إليهم سباب، ولكنه هو بما وهبته صنعته وصنعة أبيه وبما احتقره الناس جميعا في مأمن كل مأمن أن يستطيع أحد النيل من كرامته؛ فلا كرامة له حتى تنال، أو الغض من شأنه؛ فلا شأن له حتى يغض منه إنسان.
ذهب إلى مقهى وجلس إليه، ولاحظ أن الباب المجاور للمقهى مفتوح على مصراعيه يلفظ الناس ويبتلعهم، لا يمل؛ فهو في حركة دائبة وفي شغل شاغل. ترك كرسيه ونظر إلى اللافتة المعلقة بجانب الباب «مجلة الفنون والسياسة». تقدم إلى رجل جالس على دكة بجانب الباب: ألا تحتاجون لعمال؟ - أي نوع من العمال؟ - أي نوع تريد؟ - هل تجمع الحروف؟ - أتعلم. - ومن سينتظرك حتى تتعلم؟ - أنا خدام نعليك. أي شغلة وأجرك عند الله. - تسمع الكلام. - قبل أن تقوله. - تعمل قاهيا؟ - وأقل من ذلك نعمة. - تعرف كيف تعمل القهوة؟ - والشاي. - ادخل.
وعمل قاهيا بالجريدة. وما هي إلا أيام حتى أتاحت له مهارته أن يمارس صنعته وصنعة أبيه. وما هي إلا شهور حتى فرض نفسه كاتبا بعد أن أصبح يملك في يديه أسرار كثير من المحررين والمحررات أيضا. وما هي إلا شهور أخرى حتى أصبح على صلة بسلاطين العصر، ومارس معهم الصنعة التي يجيدها. وكبر شأنه وطغى وتجبر وأصبح هو وحده من يتحكم في الجريدة. وكان أول شيء صنعه أن طرد البواب الذي مكنه من الدخول إلى الجريدة. •••
وتغير العهد. ووجد حكام العهد الجديد مخزيات تدور حوله، تتصل بالأمانة أول ما تتصل، ووجدوه أيضا قد تآمر على سلامة الدولة، وقبضوا عليه ومثل أمام المحققين، فكان أول شيء قاله: ماذا يأخذ الريح من البلاط؟ - أنت أمام النيابة ولست في كباريه. - أنا لم أقل شيئا. - فما هذا الريح والبلاط؟ - يا بك، أنا أسفل إنسان في الدنيا، وليس يهمني أي شيء ممكن أن تحكموا به. المؤكد أنني لن أشنق لأنني لم أقتل أحدا. - بل قتلت. - أنا؟
قتلت كرامة مهنة المفروض أن تكون أشرف مهنة. - هذا الكلام لو كان عندي شرف. ومن أين؟! أنا يا بك مهنتي هي قتل الشرف. ولما كان الشرف معنى وليس شخصا، فلا يمكن أن تكون العقوبة هي الإعدام، وما دمتم لن تطالبوا بإعدامي فافعلوا بي ما شئتم، ليس شيء في الوجود يستطيع أن ينال مني.
لم تجد النيابة شيئا تستطيع أن تفعله؛ فوكيل النيابة الذي كان يحقق معه قديم. ومر به من المتهمين أنواع وأنواع، ولكنه لم ير في حياته مثل هذا الشيء الذي يقف أمامه.
في قرف شديد وجه التهمة. وصدر الحكم، وسجن حنفي العزوني، وخرج من السجن كأنه لم يدخله، فإن يكن السجن تأديبا وتهذيبا وإصلاحا فهو كذلك لبني آدم الذين مر الشرف ببيوتهم، أو عرفوا الكرامة في يوم من الأيام، أما حنفي العزوني فبلاط. وهيهات لرياح العالم جميعا أن تنال من البلاط شيئا ملحوظا، ولكن في يوم من الأيام ومع كثرة مرور الرياح لا بد أن يصبح البلاط رمادا هشا عدما من العدم؛ فمهما يكن البلاط قويا بحقارته فإن الحياة أقوى بسموقها.
ملحق البهلوان
لعل القارئ لا يعرف من هو هذا المداح وكيف كان شكله. والحقيقة أنه نموذج بشري قديم مغرق في القدم، شهدته أنا في طفولتي الباكرة، وكان في ذلك الحين بقية من فئة أوشكت على الاندثار.
وكان دأب هذه الفئة أن تمر وفي يدها طبلة تدقها على منازل الأعيان في الريف، تنشئ في مديحه القصائد المرتجلة الهزيلة التي تتغنى بكرمه وجوده وأصله وعراقته. وطبعا ليس يهم المداح أن يكون قريبا من الحقيقة أي قرب، أو بعيدا عنها غاية البعد. إنما المهم فقط أن يمدح ويبالغ في المديح ثم ينال بعد ذلك ما قدر له أن يناله، ثم ينصرف مادحا على أية حال. سواء كان ما أصابه وفرا وغدقا، أم كان صبابة هينة لا تساوي ما بذل من جهد ومن نفاق. كان هكذا شأن المداحين. وأحسب أن بعض الناس أسموهم في دارج الحديث المطيباتية. وأصبحت هذه اللفظة تطلق على كل منافق في الجلسة أو في الحياة. وهكذا فإنه إن تكن جماعة المداحين قد اندثرت على شكل جماعة فقد انتشرت أفرادا تجوب بنفاقها المجتمعات، وتجوب أيضا الأجيال والأزمان.
وربما تسألني ما الذي ذكرك بهؤلاء جماعات كانوا أو أفرادا. وربما لا تسألني وإنما أسأل أنا نفسي ولا أبحث عن الإجابة؛ فهذه نماذج من الناس تذكرك بنفسها في إلحاح وإصرار مهما تحاول أن تنشغل عنها، ولكن قد يكون الباعث لي إلى الكتابة عنها اليوم شخصا بذاته، كلما طالعني اسمه ذكرت فئته وأصولها وفروعها، شاهت أصولا وذلت فروعا.
مسكين هو؛ فقد كان في زاوية هينة من زوايا الجهل لا يعرفه أحد، وإن كان يسعى إلى معرفة كل أحد. وكان يبذل في سبيل تعرفه بالناس ماء وجهه الذي سرعان ما نضب؛ فما هي إلا شخصية أو شخصيتان حتى أصبح بلا ماء وجه على الإطلاق.
وماء الوجه حين يراق ويجف يصبح صاحبه السابق وقد تملك سلاحا لا يملكه من الناس إلا قلة في العالم نادرة؛ هذا السلاح السفاك الباتر النفاذ هو الصفاقة والقدرة على بيع كيانه البشري ليكون مطية لكل من يريد يركب.
وقد تعرف من لا أسميه هذا على مهرج في السيرك ما لبث أن عرف سره.
وبلغ إلى الخوافي الحقيقية في حياته؛ فهو في السيرك مهرج وهو في الحياة مجرم سفاح لص قاتل يستبيح كل الحرمات، ويستهين بكل ما هو كريم في الإنسانية. وقد وجد من لا كرامة له خير ملجأ له عند من لا ضمير له. وتلازما في الحياة. المهرج يسرق ويقتل ويثري ويهرج في السيرك، وناضب ماء الوجه يطيب له، ويكيل المديح، ويبرر له كل ما يصنعه من اعتداء على الحياة وعلى الكرامة من سلب للأعراض، وقتل لكل نبيل في الحياة، واستيحاء لكل خسيس عفن من جوانبها، بل كانا يبتدعان من الخسة والعفن ألوانا لم تشهدها البشرية ولم تسمع بها، ولم يتخيل أبناء البشر أنهم سيسمعون عنها في يوم من الأيام. واستطاع المهرج أن يجد لمن لا حياء له وظيفة في سيرك، فكان يهيئ للمهرج الساحة، ويفرش له الرمال، ويضع له معدات التهريج. وتعلم من لا حياء له أن يقفز في بعض الأحيان قفزات بهلوانية تخيب في أغلب الأمر، فينال عليها الضحك والسخرية والتصفيق الذي يعني الاستهانة والاحتقار، ولا يعني - على أية حال - إعجابا أو استمتاعا، ولكنه كان يفرح بهذا التصفيق والصيحات المستهجنة المصاحبة له. وصار من لا حياء له ملازما لمن لا ضمير له عند مشاهدي السيرك؛ فإن ذكروا أحدهما ذكروا الآخر دون تفكير. وإنما كلاهما تهريج يذكر بتهريج، وسخف يوحي بسخف، وسقوط حياء يرادفه سقوط كرامة.
وتعود من لا حياء له هذه الحياة، وجنى منها مالا ما كان يحلم أن يصيبه؛ فميدان النهب أوسع الميادين مجالا للغنى. وانعدام الضمير من أعظم شباك الثراء نجاحا، فإذا واكبه انعدام الحياء أيضا أصبحت الأموال غدقا وصار الغنى فاحشا.
وجاب السفاح المهرج والمداح الصفيق أقطار الحياة، وساحا في أرجائها، وأصبح اسم كل منهما على ألسنة رواد السيرك جميعا. وراح يذكرهما في غير تصريح كل من أصاباه في ماله أو عرضه، أو أصابا أحدا من أقاربه في حياته. وتدور الأيام وإن الأيام دائما تدور. وذلك أعظم سنن الكون وأرفعها شأنا وأعلاها دستورا. ومات المهرج. والمهرج هو الأصل، والمداح نبات عليه متسلق، لا يحيا بدونه، ولا يعيش بغير وجوده.
ولكنه صفيق. أصر أن يبقى في حلبة السيرك، وحاول أن يتقافز كما كان يتقافز، ولكن الجمهور في هذه المرة ثار عليه ثورة جادة لا هزل فيها. وأعاد هو المحاولة في يوم تال، ثم في أيام توال، ولكن الجمهور أصر أن يظل ثائرا عليه، لا يريد أن ينظر إليه، ولا يجد في وجوده بالحلبة أي معنى؛ فقد كان قطعة صغيرة مكملة لآلة مضحكة. وقد هلكت الآلة، فما معنى بقاء هذه القطعة المكملة لها؟! كان يمكن أن تصلح الآلة بغير القطعة، ولكن هيهات أن تصلح القطعة بغير آلة.
رفضت الحياة وجهه الصفيق، وأبعدته عن الحلبة قصيا زريا كالكلب الأجرب، لا يحب أحد أن يراه، ولا يشتهي أحد أن يذكره.
ولكن المسكين كان قد تعود أن يتقافز في الحلبة، ونزل عليه إبعاده عنها نزول الصاعقة، وإن كان من ماله الذي انتهبه في بحبوحة وغني، ولكن المسكين كان قد تعود مع المال التصفيق الساخر والصيحات المستهجنة.
وهو اليوم يريد أن يتقافز ولكن الحلبة الكبرى قد أغلقت دونه. وهكذا لم يعد غريبا أن يراه الناس في بعض الحارات والأزقة يقوم بحركاته البهلوانية الفاشلة ويتجمع حوله بعض المارة، فأما من يتبين ماضيه فينصرف عنه راضي النفس سعيدا أن الزمن دار، وأن ملحق البهلوان قد صار إلى هذا المصير. وأما من لا يعرفه وهم الكثرة فما هي إلا نظرة عابرة يلقيها إليه ثم ينصرف عنه وكأنه ما رأى شيئا.
الثور المذءوب
سعار أصاب الرجل منذ البواكير الأولى من حياته، أنفق عمره يتعلم لغات غير لغته العربية وله من الوقاحة ما يحاول به أن يكون أديبا في اللغة العربية، وانتهت حياته أو أوشكت ولكن المسكين فشل أن يكون بين قومه أديبا، وفشل أن يكون في اللغات التي تعلمها وأتقنها شيئا مذكورا أو غير مذكور.
إنه ثور أصابه سعار الذئاب المفترسة يريد أن يحطم الحياة من حوله، ولكن لأنه ضئيل القدر هين الشأن حقير النفس وضيع الفكر لم يحطم إلا نفسه.
هم أول ما هم باللغة العربية والتراث العربي، وراح يحارب كل ما هو أصيل في أدبنا وتراثنا، ونظره الكليل المنحرف مصوب على أن اللغة العربية هي لغة القرآن. وهو يظن بما ركبت عليه نفسه من اجتماع الثور والذئب أنه يستطيع أن يحطم اللغة ليبعد الناس عن القرآن وعن الدين ، واستقبله فيما تكالب عليه الفشل الوبيل. وأحس الناس بما في هجمته من سعار فرفعوا المصاحف على الرءوس، وألجموه بما لا يطيق، وانهالوا عليه رجما، فإذا الثور فيه والذئب جميعا يتمحضان عن كلب أجرب يضع ذيله بين فخذيه الخلفيتين ويسارع في تلصص المجرمين، يعدو باحثا عن مخبأ أمين يلعق فيه جربه وجراحه، ويصمت حتى يهدأ ما ثار من الناس وحتى ينثني عنه الراجمون، وينساه الذين يقولون لا إله إلا الله، محمد سيد الخلق رسول الله.
فإذا هذا الضجيج عاد إلى الميدان مرة أخرى يحاول في غباء الثور وفي سعار الذئب أن يبحث عن قنص آخر بعد أن عزه أن يهاجم لغة القرآن. ورأى بشائه بصره ومريض بصيرته أن يهاجم من يجله المسلمون من عمالقة العلماء وأشراف الفقهاء، وراح يرمي عليهم سخائمه، ويختلق عنهم تهما لم يسمع أحد أنها يمكن أن ترقى إلى أعتابهم، ولكن ذنبهم الوحيد أن العرب المسلمين يذكرون أسماءهم في إجلال وإكبار وتقديس. وذنبهم الأكبر عنده أن كل الفقهاء الذين جاءوا بعدهم تتلمذوا عليهم وعلى تلامذتهم، بل إن أعلام الوطنية والإخلاص القومي ينتسبون بأفكارهم إلى تعاليمهم؛ وهذه ذنوب عند الثور المذءوب لا غفران لها، فماذا عليه لو أنه صدم فيهم مشاعر الجماعة، وحاول أن يزيل هذه الهالة عن أفذاذ لم يذكرهم التاريخ إلا بما يشرف الرجال ويرفع صوتهم على أحقاب الزمان.
ومرة أخرى تداولته الحجارة، وانهال عليه المسلمون والعرب والوطنيون بسهام الحق يردونه عن قوم يكنون لهم الاحترام والتوقير.
ويحاول الثور المذءوب أن يلجأ إلى حرية الرأي، وإلى أن كل إنسان ينبغي أن يتمكن من إبداء رأيه مهما يكن شأن هذا الرأي. وهو قول حق، ولكنه يستر عند هذا الرجل بالذات باطلا فادحا؛ فأولئك الذين يجرح مشاعرهم بهذه الوحشية ويسب لهم أعلام دينهم لا يستطيعون أن يمنحوا أنفسهم الحرية في مهاجمة ما يقدسه هو وأمثاله من الذين يحاولون أن يحطموا المساجد وأشياخها على رءوس مرتاديها ومريديهم؛ لأن ديننا ينهانا أن نثير الفتن بين الناس، والفتنة عندنا أشد من القتل ، بينما هي عند الثور المذءوب هدف حياة ونشيدة عمر وهب نفسه لها لا يريم عنها ولا ينثني.
وبلغت به الوقاحة أن هاجم القرآن نفسه، وحاول أن يرد آياته إلى عصور سابقة عليه، وحاول أن يفسرها وهو أبعد ما يكون عن دراسة أعماقها أو لغتها أو مفاهيمها أو أسباب نزولها.
والحرية هي كرامة الإنسان ولكن من قال إن الحرية في تحطيم الأديان، وامتهان كرامة الجماعة، والاعتداء على مقدسات الشعوب وما آمنوا به؟
فصلة الإنسان بربه صلة لا يعلمها إلا الإنسان نفسه وعالم الغيب والشهادة. والاعتداء على هذا الحرم تحطيم للحرية نفسها، إلا أن تكون الفتنة هي بغية المعتدي، والوقيعة بين الأديان هي هدفه الذي يتغياه ويرصد حياته لبلوغه. ومرة أخرى يفر الثور المذءوب كلبا أجرب يلوي ذيله بين فخذيه، ويتلمس مخبأ يرد عنه عاديات الهجوم.
ولكن هل من ينتهي؟ هيهات. إذا كان قد خاب فأله وحبط مسعاه مع الدين وجها لوجه ومع فقهاء الدين، فما له لا يحاول أن يهاجم شعراء العربية وكتابها أجمعين، ويجعل من ذكراهم عفنا؟ وحينئذ يقول هذا رأيي وما علي من بأس أن أرفض كل هذا الشعر وكل هذا الأدب. وهذا حقه لا شك في ذلك، ولكن كشأنه يستر به باطلا حقيرا.
فإن الناقد حين يرفض شاعرا عملاقا أو كاتبا شامخا يتعين عليه أن يذكر عيوب هذا الشاعر أو ذلك الكاتب، وما الذي يدعوه إلى رفضه ولماذا هو أكذوبة في أدبنا. وإلا كان الرفض وليد أغراض أخرى وخبيئات نفس مريضة ترمي برفض الشاعر أو الكاتب إلى رفض اللغة التي أكبرها هذا الشاعر أو ذلك الكاتب فأكبرته، والذي أكرمها فأكرمته، ورفعها فرفعته.
إن الأفذاذ من شعراء الأمة وكتابها هم تاريخ أدبها، وهم الرايات الخفاقة التي تسافر عبر الأجيال تحمل الخلود لبلادهم على مر العصور، وتحمل أجيالهم على أعناق الزمن إلى سائر الأجيال. وقد كان تشرشل الزعيم الإنجليزي على وعي عظيم بشأن الشعراء حين قال: «لو لم يكن لبريطانيا فضل إلا أنها ولدت شكسبير لكان حسبها.»
وما زال الفرنسيون يتيهون فخرا بكورني وراسين وهيجو وبودلير وبكتابها من أمثال بلزاك ودوديه وأناتول فرانس وغيرهم. وما زالت ألمانيا ترفع علم جيته وزفايج وعظماء شعرائها خفاقا على كل الأجيال، وكذلك تفعل كل الدول.
فما بال هذا الثور المذءوب يريد أن ينكس أعلام العمالقة من شعرائنا وكتابنا ويرفض أي شاعر أو كاتب لم يشهد هو ميلاده، ولم يعلن هو شاعريته ويمنحه هو صك الوجود! إلا أن يكون متشبثا بتحطيم لغتنا في وهم منه كبير، أنه سيستطيع أن يحطم بها ديننا وقرآننا، ولكن ربنا قال:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
وهو طبعا لا يؤمن بما قال ربنا، ولكن ألا يؤمن بما تم فعلا، وبما يرى من أن القرآن بقي ألفا وأربعمائة سنة ونيفا لم يتغير منه حرف واحد! ولكن على قلوب أقفالها وعلى البصائر منه مغاليقها، فليمكر ما شاء له المكر، فإنا نحن المؤمنين نعلم كل العلم أن الله خير الماكرين.
ويل لشتاء بلا ربيع
عرفتها وهي تبدأ حياتها في العمل رقيقة، تحسن إدارة الحديث في ذكاء ولباقة، يعينها لسانها الفرنسي بالتعليم، والعربي بالمولد والنشأة والثقافة؛ فهو يعرف كيف يعرض الأمور في حلاوة وفهم وبيان.
ومضى بها العمل ومضت به. وطغى على الجهة التي تعمل بها ما طغى على كثير من المرافق من رشوة وشراء ضمائر وهوان نفس، ولكنها ظلت هي بعيدة عن مظنة تمس نزاهة يدها من قريب أو بعيد.
ومن طبيعة الأمور أن تصبح مثلها كريهة عند اللصوص. ولما كان اللصوص هم المسيطرون على أقدر الناس في هذه الفترة الحالكة من حياة مصر فقد استطاعوا أن يقصوها عن كل مسئولية. وأصبح أمرها كبورصة النقود في أحيان تتصدر وفي أحيان تنطوي، تظهر فتصبح ذات شأن وسلطان، وتختفي فتصبح نسيا من الناس والزمان.
وكنت أراها في هذه الفترات وتلك فأرى عجبا. إذا طوحت بها أيدي الرؤساء إلى زوايا الخفاء تصبح وديعة تسيل رقة وعذوبة، وتعود إلى تلك الفتاة التي شهدت بدايات حياتها العملية صورة مشرفة لحواء، إذا ما تثقفت حواء.
وإذا عادت إلى مكان فيه مسئولية أو بعض مسئوليتها كشرت عن أنياب ذئب وشمرت عن سواعد نمر، وانقلبت من مثقفة إلى طاغية ومن رقة وادعة إلى خشونة مقيتة.
حتى ملامح الوجه منها تنقلب، فلا ترى في قسماتها وجه سيدة تكتهل فتثير الأنس، وإنما وجه وحش تقلصت قسماته.
مسكينة هذه السيدة؛ فإن مثيلاتها يجمعن من أغصان الربيع وزهوره دثارا يضفي عليهن الدفء والأنس عند الشتاء. وهي لم تستطع أن تجمع هذه الأغصان ولا هذه الزهور وإنما خمشتها بأظافر حداد فجفت في الربيع وازدادت جفافا مع الأيام؛ فهي في شتائها المتربص بها من قريب بلا دثار يهيئ لها الدفء؛ فقد استطاعت في مهارة شرتها أن تحطم أيضا قلوب أسرتها كما حطمت قلوب أصدقائها وزملائها. ومن لا أسرة له ولا صديق ويل له من الشتاء ... لهفي عليها، لكم أحزن كلما ذكرت الغد الذي ينتظرها، لكم أحزن! فإن الكثيرين والكثيرات ينتظرون وينتظرن هذا الشتاء ليكون لهم ولهن أنسا وهناء ويجنون منه ما زرعوه على مدى الأيام ... أما هي فلم تزرع إلا البغضاء. وكم أرجو ألا تجني ما زرعت، ولكنني واثق على كل أنها في شتائها لن تجد الهناء.
بين الخطيئة والغفران
مسكين ذلك الإنسان، يبدأ حياته طفلا فالدنيا حوله نور وطهر ونقاء، وتتزاحم عليه من الكبار دعاوى الشرف والزهد والعدالة. ويتعرف على دينه فيجده ضياء وإشراقا وسموقا، ثم يدلف إلى باب الحياة، وويل له حين يدلف إلى باب الحياة تحيط به مغريات الجسد وحاجات الإنسان إلى الغنى، ويجد أن الإنسان لا يصيب مالا وافرا إلا إذا فقد طهرا أو كرامة أو نقاء. وتلح عليه الحياة بسعارها، ويتمزق بين أضواء الطفولة وبراءتها وبين مغريات العصر وسفالاته. والاختيار له وحده؛ فالله سبحانه في علياء سمائه هدى عباده النجدين، وألهم النفوس فجورها وتقواها، وجعل لكل إنسان طائره في عنقه، وترك له حق الاختيار؛ فهو إما جانح إلى قويم من النجدين أو جامح إلى معوج منهما.
ويشفق رسول الله على أمته جميعا، ويقول في شموخ الإنسان الصادق وعظمة الأنبياء: «حفت الجنة بالمكاره.» فالذي يختار الطريق إلى الجنة يكره نفسه أن تختار غير ما تهوى، ويلويها أن تميل إلى ما تهفو إليه من متعة عاجلة محققة. وتتكالب المغريات على الإنسان الضعيف فيزل ثم يثوب إلى رشده فيطلب الغفران. ويقول الشاعر:
وإني لأرجو الله حتى كأنني
أرى بجميل الظن ما الله فاعله
فهو واثق من الغفران؛ لأن الله سبحانه شرع الغفران للخطائين. ولو لم توجد الخطيئة ما سمى الله نفسه بالغفور.
ويقول أبو نواس:
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ولكن الإنسان لا يقمع نفسه عن الخطيئة بل يظل متعلقا بها؛ تغريه متعتها ويطيبه إغراؤها وتجتذبه نشوتها، فإذا وزعه من الإيمان وازع رده بالأمل في المغفرة. ويمضي إلى خطيئته لا يلوي على شيء، حتى إذا انحسر خمارها، وثاب إلى نفسه اللوامة تاب وآب، وعاد يرجو الله سبحانه الغفران. وهل هناك أوسع من مغفرة الله؟ سبحانه هو بارئ النفوس وهو العليم بما يصنعه الشيطان من تجميل الشر، ومن جعل الشين زينا والمقبوح من الفعل مكسوا بالرواء والبهاء والجاذبية.
ويظل الإنسان بين شد وجذب وبين إقبال على المحرمات وانصراف عنها. ويبلغ أحدهم الكبر وتحيط به الشيخوخة، ويضطره العجز إلى الاستقامة، ولكنها استقامة هو مرغم عليها، ولم يقصد إليها عن اختيار؛ فهو تائب في غير عفة. ولا يقعد به الكبر أن يصرح بذلك، فيقول ذلك البيت الشهير:
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت
أم الله إن لم يعف عنها يعيدها؟
وما رأيت بيتا يجمع التوبة والفجور في شطريه كما يفعل ذلك البيت؛ فهو يرجو الله أن يغفر له، وهو في الوقت ذاته لا يخجل أن يقول للذات العلية إذا كان لا بد من العقاب فلا بأس، ولكن أرجو أن تتاح لي القدرة على إتيان ذنوبي مرة أخرى لتتوافر لي المتعة ما دامت المغفرة غير متاحة. وهكذا نجد أن الفجور قديم قدم الصلاح، وأن الفجور لا يقف به أمد ولا ينتهي عند حد، كما أن الصلاح عميق الأغوار بعيد المدى. والإنسانية تتأرجح بين الجانبين بغير حيرة وإنما عن بصيرة ووعي، وفي الوقت نفسه بين رغبة عاجلة في متعة عابرة وبين إيمان عميق الجذور يرجو وجه غفور رحيم.
والإنسان ظالم لنفسه، هو الذي اختار أن يحمل الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها. حتى إذا استجاب الله لسؤال الإنسان، وألقى على كتفيه أمانة الاختيار، تخبط في حياته هذا التخبط، وراح يضرب في الأرض ونظره إلى السماء؛ فهو بين رغبات الأرض وبين إيمانه بالسماء في شد وجذب وإقبال وإدبار.
ويضيق بعض الناس فيعلن إلحاده وكفره مختارا اليأس، مفضلا له عن رعب الانتظار، موهما نفسه أن اليأس إحدى الراحتين، ولكن هيهات؛ فالملحدون أشد الناس عذابا؛ لأنهم في البعيد من نفسهم يعلمون أنهم على باطل، وهم في أعماقهم يتمنون أن يحظوا بالجنة التي وعد الله بها المتقين من عباده، ولكنهم يدركون أيضا أنهم أبعد الناس عنها بما كفروا وألحدوا، ويظلون مع أنفسهم في صراع مرير بين ما أعلنوا من إلحاد وما تشعر به قلوبهم من أن صاحب هذا القرآن لا يقول إلا الحق. وما تزال أفئدتهم بين يأس وأمل وبين إقدام وإحجام فعل اللص المبتدئ يمد يده للسرقة برغبة الغنى، حتى وإن كان عن طريق محرم، ويكف يده بأمل التوبة والغفران من الرحمن الرحيم، الذي وسع غفرانه ذنوب البشر، وشملت رحمته المؤمن والعاصي والعابد والعربيد والقانت والزنديق. ويقول شوقي الخالد في رثاء إسماعيل أباظة باشا:
إلى الله إسماعيل وانزل بساحة
أطل الندى أقطارها والنواحيا
ترى الرحمة الكبرى وراء سمائها
تلف التقى في سيبها والمعاصيا
لدى ملك لا يمنع الظل لائذا
ولا الصفح توابا ولا العفو راجيا
ويعربد أبو نواس ما شاءت له عربدته، ويقول شعرا ملحدا يتناقله الناس على مر العصور، ويمعن في الفسوق والمروق متخذا من التطرف ستارا يحتمي فيه، ثم تطالعه السن، ويدرك أنه أوشك على النهاية، ويصبح صارخا بنفسه: «يا كبير الذنب.»
وتمر أمام عينيه حياته جميعا، فيرى نفسه محاطا بالنار لا يموت فيها ولا يحيا، ويتبدل جلده كلما احترق له جلد، ويأخذه الهول ويلتاع ويدرك أي عذاب هو ملاقيه، ولا يجد لنفسه الهالعة ملاذا إلا عفو الله. ويكمل البيت:
يا كبير الذنب عفو
الله من ذنبك أكبر
ويتفكر ويصيح:
كن مع الله يكن لك
واتق الله لعلك
لا تكن إلا معدا
للمنايا فكأنك
إن لله لسهما
واقع دونك أو بك
ويصيح الزمان فإذا الصوت الذي سمعه ملحدا كافرا زنديقا يعود فيملأ الدنيا إيمانا ومناشدة للمرحمة، ودموعا تخضب الأرض في طلب غفران السماء.
فالله غالب على أمره. والملحد من دنياه في عذاب وبيل، وهو في الأخرى لدى عالم الغيب والشهادة، وهو سبحانه وحده العالم بمصيره ومنقلبه.
أمنية لن تتحقق
أقرأ لكتاب كثيرين، وأتحسر على حظهم العاثر الذي فرض عليهم أن يكونوا كتابا يعرضون عقولهم وثقافتهم وأسلوبهم وعرضهم على الملأ وعلى الأجيال. وأتمنى لو أنهم قرءوا ما يكتبون بعد كتابته. وأتصور أن الله لو كان يريد لهم الستر لكان هؤلاء الكتاب كتاب أرشيف في إحدى الوزارات؛ يقيد الواحد منهم الصادر والوارد في دقائق معدودات، في تلك الغرفة الرطبة المتهالكة التي تعود الأرشيف أن يختارها لمقامه، والتي تقوم جدرانها من الدوسيهات التي كومتها السنون.
وينتهي الكاتب من قيد الصادر أو الوارد ثم يفرغ لزملائه ويقول، وحينئذ يتاح له ما لا يجوز أن يتاح لكثير من الكتاب الذين أقرأ لهم في الصحف؛ لأنه إذا كان موظف أرشيف فإن من حقه أن ينتقد ما حلا له النقد دون أن يكون في حاجة إلى تبرير نقده. وما حاجته إلى التبرير إنما المهم أن يقول وأن ينتقد ويدش، حتى إذا انتهى من النقد والشتم والسب والتهجم، تكلم في كل المواضيع التي يطيب له أن يبدو أمام زملائه أنه على علم بها، فيتكلم في الذرة وبقايا الذرة وكيف ينبغي أن تدفن، ثم يتكلم في الأيونات، ثم يعرج إلى القمر والصعود إليه، وكيف ينبغي لمصر أن تسارع باعتلائه. ولا بأس عليه إذا تكلم أيضا عن الصعود إلى الشمس. وليس يعنيه معقولية ما يقول أو عدم معقوليته. ثم يتكلم عن الاقتصاد وكيف نعالجه في مصر؛ وحينئذ سيتكلم بطبيعة الحال في الاقتصاد في جميع أنحاء العالم؛ فهو والحمد لله يتكلم إلى إخوان له ليس يعنيهم من كلمة الاقتصاد إلا التوفير ليزوج الواحد منهم ابنته ويسترها، أو ليدفع مهر ابنه ويؤدي واجبه نحوه كما أدى أبوه هو واجبه؛ فهو إذن حين يسمع زميله يتكلم عن اقتصاد بولندا لن يناقشه، وإنما سيتركه يقول ما يشاء دون أي معارضة.
ولكن الوقت طويل، والسنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وأحيانا ستة وستون، وهذه المواضيع كلها لا تكفي لقطع الوقت، على الرغم من الإجازات الكثيرة التي تنفرد بها مصر دون سائر بلدان العالم، مثل عيد الوحدة الفاتح من سبتمبر، وأعياد النصر الذي تم في وسائل الإعلام وحدها، وغير ذلك من أعياد الأحزان في مصر. على الرغم من كل هذه الإجازات تبقى الأيام متطاولة، وحينئذ لا يجد كاتب الأرشيف مناصا من أن يتكلم في الدين ويفسر القرآن كما يفهمه هو. وليس الكاتب محتاجا أن يقول إن من حق كل إنسان أن يفسر القرآن؛ فإن أحدا لن يطالبه بالمراجع حتى يقول هذه المقالة؛ فهو سيفسر وهم سيصمتون، فالوقت المتطاول عليه متطاول عليهم أيضا، وما داموا لا يجدون شيئا يصنعونه، فما عليهم لو أنهم استمعوا إلى أي حديث، حتى إذا انتهى من تفسير القرآن بادئا من الفاتحة وسورة البقرة منتهيا إلى سورة الناس، دلف إلى السياسة الدولية، فإذا ضاقت به سبلها بدأ يتناول وزارات مصر الواحدة تلو الأخرى، وراح يفيض في مقترحاته، ولا عليه إن كانت هذه المقترحات كفيلة بمشيئة الرحمن أن تكون قاصمة الظهر لمصر، ولكن لا بأس عليه؛ فإن شيئا من مقترحاته لن يخرج من باب الأرشيف.
وأتصور هذا الموظف متزوجا من سيدة تظل طوال النهار تطهو له طعامه، حتى إذا عاد تصدرت هي مكان الحديث، فتروح تكلمه عن أسعار الخضار واللحم والأدوات التي استلفتها من جاراتها وما استلفنه منها. وأذكر شطر البيت: «وما من ظالم إلا ويبلى بأظلم». فزوجته بالعدل الإلهي تنتقم لزملائه بالديوان منه، ويظل هو صامتا طوال غدائه، ثم ينام قليلا ليرتاح من حديثه الذي قاله، ومن حديث زوجته الذي استمع له أو لم يستمع، حتى إذا صحا من القيلولة ذهب إلى المقهى ليلعب الطاولة، راحت زوجته تلف على الجيران تجمع الأخبار والأسرار، ويلتقي الزوجان في الموهن الأول من الليل، وتروح زوجته تنفض على مسمعه حصيلة دورانها على الجارات، حتى إذا تعبت من الحديث راح هو يحدثها عن الأيونات وينتقد لها الساسة والسياسيين في شرق وغرب، ويفسر لها القرآن ويشتم إليها الوزراء، ويعرض عليها مقترحات التغيير، وهي تتفوق على زملائه في الأرشيف بأنها دائبة على الإعجاب به تحصنه بالحي القيوم، وتذود عنه العين باسم رب الفلق، وتحرسه وتضمنه باسم النبي.
كاتب الأرشيف هذا أحسده على النعيم الذي يقضي فيه صباحه وعصره ومساءه. وأتمنى للكتاب الذين يعرضون آراءهم على الناس لو كانوا جميعا هذا الموظف حتى لا يذيع جهلهم، ولا يفشو بين الناس ما ينبغي أن يستر من عيبهم وعجزهم، ولكن الله سبحانه وتعالى لحكمة لا يعلمها إلا هو كتب عليهم أن ينشروا ما يخطون على الورق، وأن يطبع هذا الذي يخطون ويقرأه الناس فيما يقرءون. والأمر من قبل ومن بعد لصاحب الأمر. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الخبرة والإدارة
صديقي رجل عالم تخرج في كلية العلوم وكان فيها من النابهين، فأبى أن يقف به العلم عند شهادة التخرج فأخذ سمته إلى إنجلترا. ظل بها حتى حصل على الدكتوراه في صناعة الأقمشة وعاد إلى القاهرة.
إلى هنا وأخالكم ستكملون أنتم القصة وتقولون أي جديد فيما ستروي، لا بد أنه عاد ليجد نفسه معينا بمصنع للسيارات، أو في الإدارة القانونية لإحدى المصالح الحكومية أو الشركات.
والعجيب أنني سأخلف ظنكم؛ فإن صاحبي قد عاد ووجد مكانا في شركة من شركات النسيج. وسيادته عين خبيرا فنيا فيما تخصص فيه. وقد شاء الحظ أن يقف إلى جانبه مرة أخرى، فوجد رئيس الشركة زميلا له رافقه في المدرسة الثانوية، ثم انشعبت بهم الطرق، فدرس صاحبي في كلية العلوم ودرس زميله في كلية الآداب قسم تاريخ.
طبعا اندهش صاحبي حين وجد شركة النسيج تضع على رأسها متخرجا في كلية الآداب قسم تاريخ؛ فهو فيما تعلم في القاهرة أو إنجلترا لم يدرس أن هناك صلة ما بين التاريخ وصناعة الأقمشة. ويقول لي:
حتى إذا كان هناك تاريخ لصناعة النسيج فأنا أعتقد أنه ليس ضمن برنامج كلية الآداب قسم التاريخ؛ فما أعتقد أن قسم التاريخ يدرس تاريخ الصناعات وإنما يدرس تاريخ الدول.
المهم أن فرحتي بوجود زميلي جعلتني أتغاضى عن هذا التناقض، وفرحتي بعملي جعلتني أنصرف إليه بكل خبرتي.
بدأت عملي، وإذا بصديقي ورئيسي يريد أن يتدخل في أدق خصائص عملي، ودهشت أول الأمر.
نعم هو أنيق. وهو لا شك ذو خبرة واسعة في اختيار لون القماش الذي يفصل منه حلته، واختيار لون القميص الذي يتماشى مع هذه الحلة، ثم هو ذو خبرة فائقة في اختيار الكرافتة التي تواكب الحلة والقميص جميعا، ولكنه من المؤكد لا يستطيع أن يعرف مما صنعت الحلة أو القميص أو الكرافتة.
ولا تقل لي أي عجيبة أن يتدخل رئيس في أعمال شركته؛ فهو يعلم كما نعلم - وإن ظن أننا لا نعلم - أنه وصل إلى منصبه هذا بوسائل بعيدة كل البعد عن إتقان صناعة النسيج. وهو يعلم - ويظننا لا نعلم - أنه عين أول ما عين بهذه الشركة لأسباب لا تتصل مطلقا بخبرته في النسيج، وإن كانت وثيقة الصلة بخبرات أخرى يستطيع كثير من الناس أن يتقنوها، ويعف كثير آخرون أن يتخذوها وسيلة في الحياة؛ فصديقي خبير من أكبر خبراء النفاق، وهو في نفاقه يستغني تماما عن الحياء. ولم يكن عجيبا أن يجد آذانا تصغي لنفاقه؛ لأن هذه الآذان نفسها كانت معينة في مناصب وصلت إليها بخبرة النفاق وامتهان الكرامة، ولا صلة لها بإتقان العمل أو الخبرة فيه.
وأرى في عينيك سؤالا، أي عجيبة فيما تروي. نعم أنا أحس أنك تسخر مني في نفسك قائلا لقد غاب الفتى فترة خارج البلاد وعاد إليها لا يدري من أمرها أمرا. هون عليك ولا تعجل بالتذاكي والتحليل.
كل هذا الذي رويت ليس عجيبا، ولكن كان من المنتظر أن يعرف صديقي حقيقة خبرته، ويترك الأمور تسير في شركته بخبرة الآخرين. وهذا يتمشى تماما مع بعض الذكاء الذي يجب أن يتوافر عند المنافقين.
وأحس رئيسي ما يدور في نفسي من سخرية بجهله فزاد على جهله التعالي والتعاظم، مصرا أن يذكرني دائما أنه رئيسي وأنني مرءوس؛ فسكرتيرته تمنعني من الدخول، وحين أحتال على ذلك وأطلبه بالتليفون تأبي أن توصلني به، مدعية أنه مشغول بوفد أو اجتماع، أو بما شئت من هذه الحجج التي لا تتقن السكرتيرات غيرها مع الابتسامة الأكليشية الباردة، فإن رجوتها أن يطلبني حين يفرغ من وفده أو اجتماعه أو ما شاءت أن تختلقه له من معاذير، وعدت في أدب مصطنع ثم لا طلب. والعمل يحتاج إلى التشاور، ولكن كرامة العالم تحول دون ذلك. وأنا في حيرة.
وانصرف صاحبي بعد أن ألقى إلي بحيرته، وتسألني أنت أيها القارئ ما اسم الشركة وما اسم الرئيس. لا إله إلا الله. أتريدني أن أصرح لك بكل شيء، ألا تعرف الأدب الرمزي أيها القارئ؟ لا شك أنك تعرفه فقد مرنت عليه سنوات طوالا، وما عليك لو أنك وضعت كلامي هذا في إطار الأدب الرمزي؛ فإنك بذلك تستطيع أن تطبقه على من شئت.
لحظات مع المجنون
الرحلة من لوزان إلى إفيان متعة في ذاتها بين المدينتين أو إن شئت فقل بين القطرين؛ فأنت إذا عبرت من لوزان إلى إفيان لا تعبر من مجرد مدينة إلى مجرد مدينة، وإنما تعبر أيضا من دولة سويسرا إلى دولة فرنسا؛ ولهذا فأنت في نهاية الرحلة في ذهابك وإيابك تمر بجمرك، والمرور بالجمرك في هذه البلدان مثل دخول السينما في مصر أو أكثر يسرا. والقيام بهذه الرحلة التي تستغرق نصف الساعة في ذهابك ومثلها في إيابك لا يهب مجرد المتعة، وإنما تجد الأسعار في فرنسا أقل كثيرا من سويسرا. ومع ذلك فهي في ارتفاعها بالنسبة للقاهرة مثل قمة الجبل وسفح الوادي؛ فما زالت القاهرة، وعلى الرغم من شوارع الشواربي أكثر البلدان التي أعرفها رخصا في أسعار حاجاتها، لا أستثني من ذلك اللحم أو المستورد مما لا تدعو إليه الحاجة قدر ما يدعو إليه التظاهر.
ذهبت وزوجتي إلى إفيان، ولا بد حين نذهب أن نقدم الساعة ساعة لا عن اختلاف جغرافي وإنما عن اختلاف وطني فيما أعتقد؛ فلوزان تتبع سويسرا في ميقاتها حين تتبع إفيان فرنسا. وزوجتي تعلم أن جهدي في المشي ليس كبيرا؛ فلهذا فقد وضعتني في أحد المحلات أشتري منه بعض الأشياء وذهبت هي لتجوب محلات المدينة جميعا، وإلا فما ذهابنا إلى إفيان.
ومر الوقت ونظرت إلى الساعة وأدركت أن السيدة زوجتي نسيت فرق الساعة؛ فهي دقيقة دائما في مواعيدها، بل هي دائما حريصة أن تذهب إلى القطارات أو الطيارات أو المراكب أيضا إذا ركبنا قبل الموعد بساعات. ولم تذكر الساعة الصحيحة إلا وهي واقفة أمامي وقد ارتحلت عنا السفينة التي كنا ننوي أن نعود بها، وأصبح علينا أن نبحث عن شيء نعمله ليستغرق ثلاث ساعات تفصلنا عن موعد السفينة التالية.
وفي أوروبا، في أي مدينة في أوروبا المتحضرة تستطيع ألا تصنع شيئا لساعات وتظل سعيدا. ركبنا قطارا صغيرا يسير على ساحل البحيرة، ويستعرض بنا إفيان كلها أو أغلبها، وتناولنا غداء رمزيا، واشتريت بعض أشياء مكتبية، ثم بقيت ساعة قلنا نقضيها في استراحة المرفأ. وتذكرت شيئا تريد أن تشتريه، ووجدنا الوقت يسمح فذهبت إليه.
والآن أنا أكتب لك هذه المقالة؛ فما كانت كلها تستحق أن تكتب لولا ما رأيته أنا في فترة غيابها تلك ولم أخبرها به لسبب سوف تعرفه أنت وتعرفه هي أيضا في آخر هذا الفصل.
كان من الطبيعي وأنا وحدي أن أجيل البصر فيمن حولي، فإذا برجل في اكتمال الرجولة ونضجها يتحدث وحده وكأنه يناقش أمرا خطيرا ذا بال، ثم تبدر منه عدة جمل لها نغمة الخطابة، ثم يعود إلى النقاش الرصين المجنون في وقت معا، ومن يدري فربما كان كلامه معقولا لا ينقصه ليكتمل العقل فيه، إلا أن يجد من يسمعه.
وإلى هنا أيضا لا غرابة؛ فإننا لو أنعمنا النظر حولنا لوجدنا المجانين أكثر من العقلاء. وحسبك لتقتنع بما أقول أن تلقي نظرة على بعض الرؤساء في الدول العربية أو الأفريقية أو الأسيوية. من المؤكد على كل حال أن وجود مجنون طليق السراح أمر لا غرابة فيه ولا عجب.
ولكن لا غرابة أيضا أن أظل أختلس إليه النظر كلما واتتني فرصة أدرك أنه لا يراني فيها؛ فإن المرء يستطيع أن يكون شجاعا مع العقلاء، أما مع المجانين فإن الأمر يحتاج إلى كثير من التفكير. وقد عشت عمري أرفض الدخول في معركة مع أحد هؤلاء المجانين وأنا في بلدي، فماذا أنا صانع وأنا هنا غريب بعيد عن حماية الوطن.
في نظرات متداركة سريعة، أدركت سبب جنونه، وقد كان معلقا على صورة أنه إطار مستدير في حجم الميدالية الكبيرة، وفيه صورته أمام الميكروفون.
مسكين. لا ذنب له في جنونه، وإنما أصابه من حوله بالجنون وهم لا يدرون، وأفهموه أنه زعيم أو خطيب أو أنه أديب عظيم أو سياسي داهية، ثم تخلوا عنه حين واجه الناس.
إن ما أصاب هذا الرجل هو ما جعلني أمسك القلم؛ فقد ذكرت الأدباء الشبان وما يريد البعض من كبار الأدباء ومن الجمعيات الأدبية أن يصنعوه لهم.
وقد تعجب أين الصلة بين الجانبين؛ رجل مجنون من ناحية وشباب ممن يراد لهم أن يكونوا أدباء من ناحية أخرى.
هي المصير الواحد؛ فلو أن الأديب الكبير شجع كل من يريد أن يكون أديبا، حتى ولو لم يكن متمكنا، لأصيب هذا الناشئ بالجنون؛ فليس في الأدب واسطة. وقد كان أستاذنا توفيق الحكيم في لجنة القصة في المجلس الأعلى القديم يطلب إلى الأعضاء عند اختيار رواية أو مجموعة قصصية أو مسرحية في مشروع الكتاب الأول ألا نقبل إلا الموهبة الفذة لأن الفن لا يعرف التوسط. ومن الإجرام أن تقنع شخصا بغير موهبة أنه أديب ثم يفجعه الجمهور في حقيقة أمره.
إن مصيره المؤكد أنه سيسير في الشارع معلقا الميدالية التي نالها من الأديب الكبير ولن يلتفت إليها أحد؛ فمرة أخرى ليس في الأدب وساطة، والجمهور مع الفن جميعا لا يعرف رحمة ولا شفقة، وإنما هو يريد الأحسن ولا يحتاج في ذلك إلى شفاعة. والموهبة تفرض نفسها على الجمعيات الأدبية وعلى الأدباء الكبار وعلى الجمهور إذا كانت موهبة حقا، ولم تكن مجرد بهلوانية وهدايا وكلمات معسولة تلقى هنا أو هناك. ذكرت هذا وأنا أختلس النظر إلى الخطيب الذي علق الميدالية وعاش عمره بعدها يخطب لنفسه. ولله في خلقه شئون.
ملبس أجرب لزمن ممزق
ما هذا الزمان الذي أصبحت فيه القذارة هي مظهر الأناقة، والصعلكة هي التطور، والملابس الممزقة هي مجاراة العصر، ومظهر إشراقه وجماله؟ لقد تمزق العصر وظهر تمزقه على الملابس، وأصبحت القيم هي الأخرى جرباء فأصبح الملبس أجرب.
رأيت نساء حليقات الشعر كأنهن الرجال، بل رأيت في التليفزيون الفرنسي امرأة ملونة بلا شعر على الإطلاق. وما زال كثير من الشباب - وإن كان أقل من ذي قبل - يطلقون شعورهم، فما أثار منظر اشمئزازي قدر منظر المرأة بلا شعر، ومرأى الرجل يطلق لشعره العنان.
ورأيت في لوزان آنسة كان يمكن أن تكون جميلة، ولكنها راحت تحارب ما وهب الله لها من جمال بشتى الوسائل والحيل حتى نجحت فيما قصدته، وبلغت من أهداف القبح ما سعت إليه؛ فشعرها منفوش يوحي بالقذارة، وملبسها مترهل عن عمد لا عن فقر، فواضح أنه قد كلفها من المال كثيرا وإن كان لم يكلفها من الذوق شيئا.
ورأيت شبابا لحاهم مهملة؛ فلا هي حليقة ولا هي مطلقة وإنما شيء بين الاثنين، لا أدري كيف يحافظون عليه على حاله هذه دون تغيير.
وأرى كثيرا من مدعي الفن يطلقون لحاهم علم الله أنهم يريدون أن يلفتوا إليهم الأنظار، وقعدت بهم مواهبهم أن يلفتوا الشهرة إليهم بأعمالهم، فحاولوا ذلك بلحاهم، ولن يهب الله فنا لمجرد لحية.
وإن كانوا يحتجون بالحرية فإن أحدا لا يمنعهم أن يصنعوا بشعورهم وملابسهم ومظهرهم ما يشاءون، ولكن ما داموا يرون أنهم مارسوا حريتهم بهذا القدر فليسمحوا لنا أن نقول نحن أيضا رأينا مستعملين حقنا في الحرية نفسها.
إنكم تثيرون القرف والاشمئزاز والتقزز وإن كان هذا ما سعيتم إليه فبشراكم قد بلغتم من الدنيا مناكم وبئست المنى.
وهنيئا لكم زمنكم الأجرب الذي اغتال الزعيم الوحيد الذي حقق نصرا للعرب في العصر الحديث، وبأيدي أقوام يدعون حرصهم على دين العرب.
وعلم الله ما دعاهم إلى القتل إلا التكالب على الفانية وليس النظر إلى الباقية، والحرص على الدنيا والرفض للعليا، والسعي إلى المنصب والرئاسة والتحكم في عباد الله بما لا يرضي الله.
وهنيئا لكم زمنكم الأجرب الذي سمح لهنات الناس وبغاثهم أن يهاجموا الأثمة الشم الذين أدوا رسالاتهم أكرم ما تؤدى الرسالة وأوفى ما يكون القيام بالأمانة.
فهذا عميد الأدب العربي الذي تخرج الأدب الحديث على يديه «طه حسين» يواجه حملة ضارية من المجاهيل الضائعين يريدون هدم مجده ونسف ركنه ومحو الشامخ من بنائه. ويصيح بهم الحق أن ما سطره التاريخ لا يمحوه الصغار ولا حتى الكبار.
وهذا شاعر الأجيال الحديثة جميعها «شوقي» يعتدي على عرشه الهوف والحمقى ومدعو الشعر، يريدون أن ينزلوه عنه ويجذبوه من قمته التي لم يقتعدها شاعر قبله ولا شاعر بعده هناك في ذؤابة الشعر العربي كله. ووسيلتهم إلى ذلك كلام لا هو من الشعر ولا هو من النثر، ولا هو شكل ولا هو معنى. وإنما ترجح بين السقم والضحالة، وبين العي والفهامة، وبين العجمى والفصحى، وبين العربية باللفظ والغربية بالفكر والانتماء.
زمان أجرب اتخذ الملبس الأجرب لقيم جرباء ولفظ أكثر جربا.
الفن فيه صوت لا يؤدي معنى، ونغم ناشز، وصخب في غير حلاوة، وضجة في غير طرب.
يقول المغني الهذاء والسخف والألفاظ التي لا تركب جملة، والحروف التي لا تكون لفظا فتنسكب عليه أموال الإعجاب ويصبح اسمه علما على عصره ... وقد وافق شن طبقة، وتلاءم غناؤه وتفاهة الزمن، وتواكبا واصطحبا، واشتهر غليظ الصوت بجمال النغمة، وأصبحت الحشرجة طربا والقبح حسنا والخرف فنا.
زمان سقطت فيه القيم وعلا فيه الانحطاط. وهان فيه الرفيع من شيمنا، وساد فيه الدنيء من أخلاقنا.
وسقطت المثل الرفيعة، ليحيا المال وحده بغير عنان من شرف يلوي به عن السرف أو مسكة من ضمير توقف جبروته وطغيانه؛ فهو وحده المعبود وهو وحده السيد المتصرف. بطانته الجهل والجنس والجبروت والتكبر بلا كبرياء والترفع بلا رفعة والتطاول بلا طول والاعتداء على كل مقدس، والقتل لكل فضيلة أو فاضل، والبعد كل البعد عن المرحمة والحب والإنسانية، ولا أقول النورانية، فهيهات.
لهم الله المؤمنون المحسنون من أبناء العصر؛ فلولا إيمانهم بالله عميق لم يبق فيها من خير، ولتركوها مختارين رافضين أن ينتظروا حتى يطويهم ما أصبحوا يتوقون إليه لينقلهم هناك عند عزيز رافع السموات صاحب العرش والكرسي؛ حيث ترعى عنده، وعنده وحده سبحانه، حرمات شاء أن تصان، وإنها ببعض قليل من عباده مصونة وإن رغم أنف الزمن الأجرب.
قصة من بئر النسيان (السلطان والبهلوان)
هذه قصة طوتها يد النسيان من قصص ألف ليلة وليلة. ربما رواها الرواة ولكنها لم يكن لها حظ الإثبات بين دفتي كتاب، ولست أدري أسمعتها فأرويها أم شهدتها فأحكيها أم تخيلتها كما يتخيل المؤلفون فسعيت إليك بها. أقصها عليك فيما تعودت أن أقص عليك.
يحكى أنه في زمن من الأزمان ولي الحكم سلطان طاغية جبار، لا يطيب له الحكم إلا بالحديد والنار. يقتل الناس لأهون الأسباب، ويغتصب الأموال فهي له أسلاب. ويستحل كل حرام، ويعامل الناس بالإجرام. نشر جواسيسه في كل مكان، وبث عيونه بجميع الأركان. والويل والثبور لمن قال لا إله إلا الله، فالموت ينتظر كل أهله وذوي قرباه. أمر السلطان ألا يغادر أحد البلاد ومعه أمواله، فاضطر كل فرد في الشعب أن يرضى بحاله. وأقفل جميعهم فمه حتى لا يريق الجبار دمه. وصار الناس لا يتكلمون إلا همسا، فإذا مررت بالديار فلن تسمع حسا. وامتنع عن الاجتماع في الأماكن العامة؛ فقد كانوا يخشون إذا اجتمعوا أن تقع عليهم الطامة. وكان المكان الوحيد الذي يضطرون أن يحتشدوا فيه هو السوق، وهو مكان مرموق. لا يجرؤ فيه أحد أن يتكلم في غير التجارة ؛ فقد كانوا يعلمون أن الجواسيس قد تكون في جداره، وأن عيون السلطان تحصي أنفاسهم، تكاد تمسك الكلمة التي تدور في أذهانهم.
وكان للسلطان وزير على شاكلته، يحبب إليه كل ظلم، ويجمل له كل قبيح، فإذا حرم الله فهو يبيح، وإن منع الشرع فهو يتيح. كان كلبا عقورا، ويظل طول ليله مخمورا. حتى إذا صحا الصباح لا يشعر به الوزير إذا لاح؛ فهو من خمر الأمس سكران، وإن بدا وكأنه يقظان؛ فهو مفتوح الأجفان، ولكن بعقل نعسان. يلوح لمن يراه كأنه يفهم ما يقال، بينما هو من السكر في شر حال.
نزل السلطان والوزير إلى السوق متخفيين، يريدان أن يريا الناس رأى عيان. ولم يطل انتظارهما؛ فسرعان ما شهدا الناس لا تقول إلا ما يسر الطاغية، وما يجعل نفسه راضية. ولم يحاول واحد منهما أن يشهد الحزن الذي يتحرك فيه الناس، ولا البؤس الذي يسيطر عليهم من شدة اليأس؛ فعين الطاغية ومعاونيه لا ترى إلا ما يرضيها ويرضيه.
وبينما السلطان والوزير يتخذان من مكانهما ستارا خفيا، رأيا بهلوانا يطوي السوق طيا. ويقف إلى جانب حصان هزيل، له صاحب أشد منه هزالا فهو في وقفته يميل. واقترب رأس البهلوان من المالك المتهالك، ثم اعتدل الرأسان وقد وضحت أمامها المسالك. وبدا البهلوان يصيح، مفتريا صفات البطولة للحصان القبيح؛ فهو الأسد الواثب، وهو في الميدان هو الغالب. وتقاطر الناس من كل حدب، وتجمعوا حوله من كل صوب. وراح هو يجمل الحديث في كذب مفضوح ويسويه، حتى وجد الحصان من يشتريه. وفرح البائع أي فرح، وأعطى البهلوان نصيبا من الثمن فأكرم وسجح.
ثم رأى السلطان البهلوان ينتقل إلى حمار شأنه شأن الحصان الواهن الضعيف، ويقول عن الحمار فيزيل من هزاله وإلى قوته يزيد ويضيف. ويباع الحمار، ويجني البهلوان الثمار. ويتكرر فعل البهلوان، والسلطان والوزير مندهشان.
قال السلطان لوزيره: أريد هذا البهلوان.
وقال الوزير: لك الأمر وعلي الطاعة، ولكن هل لي أن أسأل سؤالا حائرا في نفسي لا يجد إجابة.
وقال السلطان: القاعدة الأصيلة أنك لا تملك السؤال فهو ليس حقك، ولكن وقد قلت ما قلت فإنك أثرت في نفسي حب الاستطلاع، فاسأل سؤالك على سبيل الاستثناء لا القاعدة، والاستثناء كما تعلم لا يقاس عليه ولا يتوسع فيه. - فيم تريد هذا البهلوان الحقير، وهو إنسان لا قيمة له لم نسمع منه إلا كذبا، ولم يقل إلا الزور والبهتان؟ - كنت أحسب أنك فهمت. - لا وحياتك ما فهمت. - لو لم تكن طول ليلك سكران ما فاتك ما قصدت له ولا غبيت ما هدفت إليه. - أنا الآن على الأقل لست في حالة سكر. - بل أنت في حالة خمار دائم من مخلفات السكر ومما تصنعه بك الخمر؛ فشراب المساء تبدو عليك آثار منه شديدة في الصباح. - لا أستطيع أن أعارضك. - ولا يستطيع أحد. - ولكنني ما زلت لا أدري فيم تريد البهلوان. - ألم تر كيف هو ماهر في إتمام الصفقات؟! - ولكنك يا مولاي السلطان لا تعقد صفقات؛ فإنك إذا أردت شيئا من ملك غيرك أخذته بالأمر من غير شراء، وإن أردت أن تبيع فرضت الثمن ونلته، ففيم انتفاعك بالبهلوان وأنت لا بيع عندك ولا شراء. - ففيم إذن؟ - إذا خالط هذا البهلوان الناس، ودخل البيوت وراح يمتدح السلطان جعل الناس يصدقون مديحه ولا يكرهون السلطان ولا يبغضونه. - ومنذ متى يا مولاي تهتم برضاء الناس أو سخطهم؟ - أليس من الأحكم أن أصنع بهم ما أشاء ومع ذلك أجعلهم يمدحون بدلا من أن يذموا. - وهل يجرؤ أحد على ذمك؟ - إنهم جميعا يذمون السلطان في دخيلة نفوسهم. - وماذا يهمك من دخيلة النفوس؟ - أن تكون راضية خير من أن تكون ساخطة. - وهل تظنها سترضى؟ - ربما. - أيستطيع هذا البهلوان أن يصل إلى خافية الصدور؟ - يستطيع على الأقل أن يجعلهم يلتمسون العذر لأنفسهم، فلا تبدو نفوسهم أمامهم مهينة ويهيئون لأنفسهم أنهم يقبلون حكمي وهم به راضون، وأنهم ليسوا جبناء ولا ضعفاء مهازيل.
قلت الصواب يا مولاي السلطان. - فالتمس لي هذا البهلوان. - سأحضره من فوره، ولكن هل أخبره من يريده؟ - بل اكتم حقيقتي عنه. - فماذا أقول؟ - قل تاجر من كبار التجار واسع الثراء، موفور المال. وانصرف الوزير الوسنان، وما لبث أن عاد بالبهلوان، ووضعه بين يدي السلطان. - ما اسمك أيها البهلوان؟ - عبدك يا مولاي. - أوعرفتني؟ - منذ شرفت السوق يا مولاي. - يا لك من داهية! - دهائي كله ملكك. - إذن؛ فأنت تعرف فيم أريدك. - إذا لم أكن قد عرفت من أول وهلة فلست جديرا باستدعائك لي. - فهل تستطيع أن تقوم بما انتدبتك له؟ - وأكثر. - قبل أن تذهب إلى الأكثر، قل لي فيم أردتك لأختبر مقدار ذكائك. - تريدني أن أجعل الناس يمتدحونك في دخيلة نفوسهم، كما يطيعونك في جهير أقوالهم. - أصبت، فهل تستطيع؟ - لك أن تجربني. - وما الأكثر؟ - أن أجعلك أنت دائم السرور موفور الحبور. - بالكذب والتحايل؟ - بل برواية دخائل الناس ومجنون أسرارهم وكل ظريف طريف من أحوال معيشتهم. - هل أنت أيضا صاحب حكاية؟ - لن أقول لا أو نعم حتى تشهد لي. - ولكنك لم تقل ما اسمك. - خادمك الأمين حسونة هنداوي. - ومتى تبدأ عملك؟ - لقد بدأته فعلا يا مولاي.
وضحك السلطان في سرور واستظراف. واستأذن حسونة في إلطاف. وما لبث أن بدأ العمل في غير تأخر ولا مهل. وراح يندس بين الجموع، ويختلق المحامد للسلطان ويذيع. ولم يلحظ الأبله الموهوم، أن الناس تستمع إليه في وجوم، وأنها تدعو للسلطان في الظاهر؛ لأنها لا تملك أن تقول ما يدور بالخاطر. وكما فشا حسونة في الشعب، أضحك السلطان من القلب. وجهل أنه قد يستطيع أن يضحك سلطانا، ولكنه لا يستطيع أن يخدع إنسانا.
ومر الزمان واستدار. وجاء موعد السلطان لملاقاة الجبار القاهر فوق عباده، والذي لا يخرج شيء عن مراده.
وانقلب الحال إلى حال جديد، وانتهى زمن حسونة والوزير غير الرشيد. وذهب الوزير إلى كسرة من زاوية النسيان، ولكن حسونة أراد أن يغالب الزمان، فنزل إلى الناس في السوق، فإذا هم يضربونه ضربا لم يذقه مخلوق، وهو يجري أمامهم مذعورا، ويتخاضع لهم مذلولا مدحورا.
وأصبح دأب حسونة منذ ذلك اليوم أن يظل قابعا في بيته بعض الوقت، ثم يعود إلى الناس آملا في أن يكونوا قد نسوا ما أحاطهم به من وهم، ولكنهم كلما عاد أثخنوه ضربا وشتما، وحملوه ما يطيقون ولا يطيق غما وهما. وظل هذا حاله وسنته، حتى توارى في تربته.
وهكذا ترى أن دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
قصة وقعت في يدي بعد أن أخطأت طريقها إلى مؤلفي ألف ليلة وليلة. نقلتها إليك راجيا رضاءك، آملا أن تقع من نفسك في خير مكان.
عالي الصوت لم يزل
رأيته شابا يافعا في أروقة حزب الأحرار الدستوريين. لم تكن سنه قد بلغت العشرين بعد. وكان متحمسا للحزب حماسا جنونيا مندفعا، حتى لقد كان رجالات الحزب لا عمل لهم معه إلا كبح جماحه والحد من اندفاعه. وكان في الاجتماعات هو دائما البادئ بالهتافات، وكان يظل يهتف حتى يضطر الخطيب إلى أن يرجوه أن يعطيه فرصة ليكمل خطابه.
حتى إذا انتهى الخطباء تجده وقد بح صوته حتى لا تستطيع أن تسمع منه كلمة إلا إذا ملت بأذنك حتى تلتصق بفمه.
وفي هذا السيل الجارف من التحمس المندفع المتدفق عرفنا أنه يذهب إلى الهيئة السعدية، وأنه يبدي من الحماس لمبادئها نفس ما يبديه لمبادئ حزب الأحرار الدستوريين، وأنه يهتف لزعماء الهيئة السعدية كما يهتف لزعماء حزب الأحرار الدستوريين.
وكان الحزبان مؤتلفين في الوزارة وأغلب الأمر، بل من المؤكد أن أعضاء الهيئة السعدية عرفوا أمر اتصاله بحزب الأحرار الدستوريين، كما عرف حزب الأحرار أمر اتصاله بالهيئة السعدية.
ومن المؤكد أيضا أن رجالات الهيئة كانوا يكفكفون من غلوائه ويعقلون المندفع من تهوره.
ظل هذا حاله حتى سقطت الوزارة المؤتلفة، وتألفت الوزارة الوفدية. وكان الفتى قد أصبح في الجامعة، فإذا هو في سهولة ويسر يهجر حزب الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية جميعا، وينقل تحمسه إلى الحزب الوفدي؛ فهو عضو في لجان شبابه، وهو هو المتزعم للهتاف حتى يبح صوته، وهو هو المتصدر في احتفالات الحزب - وما أكثرها - يوزع الأدوار على الهاتفين، ويؤلف كلمات الهتاف ويخص كل وزير من الوزراء بفيض من الثناء، ويغمر كلا منهم بموفور من المديح.
والفتى مرن على الهتاف مرانا قل أن يجيده أحد في مثل سنه، وتلك ميزة ليست قليلة الشأن في مكان توجد به تجمعات أو اجتماعات أو خطباء.
وكان الفتى يستفيد من هتافاته هذه فوائد ليست بالهينة الشأن ولا الضئيلة العائد؛ فهو قد حصل على مدى سنوات هتافه على كل الإعانات التي تقدمها الوزارات لمن ضاق عليهم الرزق.
نال من وزارة الأوقاف ومن وزارة الشئون الاجتماعية، وعمل في كل صحف هذا الزمان لا كمحرر؛ فلا شأن له هو بالتحرير، وإنما عمل كمورد للإعلانات من الحكومة. وناهيك بإعلانات الحكومة من مورد لا ينقطع سيله، ولا ينضب غمره، ولا يغيض ماؤه.
وقد كانت أغلب الصحف والمجلات تكاد تعيش على هذه الإعلانات. وهكذا استطاع الفتى أن يصلح شأن نفسه، أما شأن ذويه فهو غير مسئول عنهم؛ فقد كان أبوه موظفا ضئيل الدخل هزيل المرتب، وكان له إخوة ثلاثة فلم يفكر يوما أن يعين أهل بيته بما يجعل الحياة معقولة أو ممكنة، بل إنه يرغم أباه على أن يشتري له الملبس أيضا. أما أنه يطعم بالبيت فهذا أمر يراه طبيعيا؛ فما دام أبوه قد أتى به إلى الحياة فهو مسئول أن يطعمه حتى يتخرج. وهو لا يرى أن هذه القاعدة يمكن أن يرد عليها استثناء مهما يكن هو موفور الدخل، ومهما يكن أبوه مجهدا قليل المال كثير النفقة.
ومع المران والأيام صار يسافر إلى بلدته يبحث عن طلاب الحاجات ويتشفع لهم، وينال من جدواهم ما يعتبرونه رشوة وما يعتبره هو حقا لا شك فيه ولا مناقشة.
وما هي إلا زيارة أو اثنتان إلى البلدة حتى أصبح الفتى مقصد قريته والقرى المجاورة جميعا، وأصبح أمره مشهورا، وأصبحت أسعاره معلومة لا يجهلها أحد. وما لقصاده لا يكثرون وكل من يقصده بمعضلة يحلها له؛ فشفاعته عند ذوي الشأن مقبولة، وهو دائما عندهم موضع ترحيب.
وأركان الصفقة معروفة واضحة المعالم. يستجيب الوزير للشفاعة من الفتى، ويهتف الفتى باسم الوزير في حفلات الحزب. ومن الناحية العكسية لا يستجيب الوزير لشفاعة الفتى، فلا يهتف الفتى باسم الوزير.
وحتى أكون صادقا مع نفسي ومعك لم يكن كل الوزراء في العهد الوفدي أو غيره من العهود يهتمون في كثير أو قليل بهتافات الفتى أو صراخه. فإذا استجابوا لشفاعة منه فهي استجابة حزبي كبير لشاب من شباب الحزب. والفتى لا يهمه الباعث عند الوزير، وإنما كل ما يهمه أن يحقق ما كلفه به دافعو الرشاوى. وليكن الباعث بعد ذلك ما يكون فهو لا شأن له به.
واحترقت القاهرة.
وراحت الوزارة تنتقل تائهة من عهد إلى عهد، فما استقرت على رئيس، ولا تريثت عند وزير. وزاغت أعين الفتى، فأصبح لا يدري باسم من يهتف، ولا بمن يصل أوشاجه، ولا إلى أي كرسي يمد حباله.
وجاءت الثورة، واتضحت المعالم، ووضحت له الأمور وضوحا تاما.
كان صوته بالمران والممارسة أعلى الأصوات في الهتاف من رئيس إلى رئيس، في مثل السهولة واليسر التي كان ينتقل بها من حزب إلى حزب فيما قبل الثورة.
وحين استقر الحكم كان الفتى الذي أصبح شابا ذا خبرة واسعة بمعرفة الطريق الذي يختار أعظم الهاتفين شأنا وأعلاهم صوتا.
انضم الشاب إلى هيئة التحرير، وما هي إلا لفتة زمن حتى أصبح من أعظم أعضائه نشاطا، فكان طبيعيا أن يرشح نفسه لمجلس الأمة. وكان غريبا أن ينتخبه الذي قضى مصالحهم فهم ينتخبونه على الرغم من أنهم هم أنفسهم كانوا يقدمون له الرشاوى في جميع العهود.
وحين أصبح في هذا المكان المرموق رفع أسعاره في القيام بالشفاعات، ثم ضاعفها عدة أضعاف وقال - ووجد من يصدقه - إنه لا يأخذ لنفسه، وإنما هو يشرك معه الكثيرين الذين يعاونونه في قضاء الحاجات.
وبصورة تلقائية انتقل الشاب من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي. ورفع أسعاره مرة أخرى.
ثم أصبح في مقدمة العاملين في الاتحاد الاشتراكي، وكان من المعقول جدا أن يصبح عضوا في التنظيم الطليعي.
وكان عضوا في المجلس الذي رقص للهزيمة. وكان تصفيقه يومذاك واضح المعالم بين السمات، وذهب عهد بأكمله وجاء عهد آخر. تسلل إليه في أناة وخبرة ، فإذا هو عضو في منبر مصر، ثم هو عضو في حزب مصر ثم هو عضو في الحزب الوطني. وهو دائما عضو بمجلس الشعب. وهو دائما يحصل على معظم الأصوات من الناخبين.
وما دام قد صفق للهزيمة فقد أصبح من الطبيعي، بل من المحتم، أن يصفق تصفيقا مضاعفا عشرات المرات للنصر الرائع الذي لم يشهد العرب له مثيلا في العصر الحديث، وصفق في حماس لا مثيل له لما أعقب النصر من خطوات السلام الخالدة.
ولكن العجيب في أمره أنه إذا جلس في جماعة يهاجمون كامب دافيد وافق المهاجمين في رأيهم.
فإذا انتقل إلى جماعة يؤيدون كامب ديفيد كان أشد منهم حماسا في تأييدها.
ظاهرة عجيبة هذا الفتى.
أم ترى أنه لم يصبح ظاهرة ولا عجيبة. لست أدري؟ وتسألني ولا أشك إلى أنك ستسألني من هو؟ أهو هذا الرجل أم هو ذاك؟ وكيف لي أن أعلم، ربما كان هذا وذاك جميعا؛ فقد تشابه الخلق علينا.
ومن أين لي أن أدلك عليه وأنا أروي لك قصة تمتد جذورها نيفا وأربعين عاما؟ وما أحسب أنني مقصر فالملامح المحددة قد انماعت في عيني ولم يبق أمامي منها إلا الخطوط العريضة أقدمها إليك وأنا واثق أنك أنت. أنت أيها القارئ ستعرف الملامح بكل وضوح، وستتبينها بكل دقة؛ فإن ذاكرتك أنت أكثر نشاطا وأعظم تركيزا، فما علي بأس أن أترك لك أنت أن ترى من ألمحت إليه وأن تتعرف أنت على اسمه وسماته، بل إنني واثق أنك ستصل من الأمر إلى أبعد من ذلك؛ فإنك قادر لا شك أن تذكر لي اسم أمه وأبيه، واسم زوجته وبنيه. ما ساروا فيه جميعا من دروب وما ارتادوا من طريق؛ فأنت دائما أيها القارئ أعظم الناس علما بمن حولك وما حولك، فشأنك وهذا الفتى الذي أصبح شابا، ثم صار كهلا يأخذ طريقه إلى الشيخوخة ولكن بخطوات نشطة وصوت عال مرتفع الضجيج، لم تنل السن منه وما أوهنته السنون.
صورة من مرآة النفس (ترقية)
كان صاحبي موظفا من خيرة الموظفين الذين عرفتهم المصلحة التي يعمل بها. وكان رؤساؤه دائما يعجبون به ويكلفونه بما يشاءون من مهمات وهم مطمئنون أنه سيؤديها على أحسن وجه. وكان صاحبي على أحسن علاقة بكل الرؤساء الذين توافدوا على المصلحة. وكانوا هم أيضا يراعون ألا يكلفوه إلا بما يتناسب مع خبراته؛ فقد كان خبيرا بشئون الموظفين وترقياتهم وعلاواتهم.
وكان صاحبي أيضا على أحسن علاقة بكل الموظفين الذين يعملون معه في المصلحة؛ فكلهم يحبه. والظرفاء منهم يطيب لهم دائما أن يرووا له ما سمعوا من نكات، كما كانوا يتمتعون بما يرويه لهم وبتعليقاته الضاحكة وإن كانت ساذجة. هو حريص دائما أن يرى ابتسامة على وجه زملائه، وكان حديثه دائما قادرا على أن يجعل البسمة تثب إلى شفاههم حتى وإن كانت ابتسامة متشحة بالتكلف.
وكنت أزوره بالمصلحة فيستقبلني زملاؤه أحسن استقبال لحبهم له. وكان صاحبي من القلة النادرة التي أوشكت تنعدم، التي ترضى عما هي فيه؛ فهو لا يشكو من الزمن عثار حظ، أو قلة مال، أو إرهاقا في الإنفاق، كان يقبل من الدنيا ما وهبت له، ولا يسخط منها على شيء حرمته منه؛ فهو لا يطمع في أكثر مما نال، ولا يتوقع أحسن مما أصاب. تقف آماله في هذه الساحة الرحيبة من القناعة التي لا تريد إلا الستر، وإلا أن يكرمها الله في أبنائها.
وكان صاحبي يعرف أن للحياة سنتها الطبيعية التي لا تتغير، وأنه لخاضع لهذه السنة راض بها؛ فهو يتقبل المرض في أبنائه لأن من طبيعة الأمور أن يمرض الأبناء، وهو ينفق على علاجهم في صبر ويستقبل شفاءهم وكأنه أعجوبة لم يكن يتصور أنها ستحقق؛ فقد كان يحتفل بالمناسبات السعيدة احتفالا رائعا قل أن تجده المناسبة السعيدة عند غيره من الناس؛ فلو أن هذه المناسبات كانت ذات عقل أو كانت صاحبة منطق لما انقطعت عن زيارته أبدا.
وكان يعلم أن السن حين تتقدم به أو بزوجه التي تقاربه فمن الطبيعي أن يواجها هذه السن بما يتفق وإياها من تكاسل أو مرض.
وهكذا كان صاحبي يمثل في نظري نموذجا فريدا من الإنسان الرضي الخلق الهادئ المؤمن بالله المتقبل لكل ما يوافيه به القدر، في غير جزع عند الشدة وفي نشوة عارمة عند الخير.
حتى كان يوم قرأت في الجرائد أنه رقي رئيسا للمصلحة التي يعمل بها، ففرحت له فرحة تتناسب وما أكنه له من حب وتقدير. وسارعت فألغيت ما كان مقدرا ليومي هذا من مواعيد، وذهبت إلى المصلحة لأهنئه.
كان كل الموظفين في سعادة غامرة، حتى لقد رأيت البشر يلف المصلحة جميعا. ولأول مرة لا أدخل إلى مكتبه مباشرة، وإنما قصدت قصدا أن أطلب الإذن من السكرتير، مع أن الساعي الواقف على بابه أراد أن يفتح لي الباب النافذ إليه مباشرة. أحسست في مروري بالسكرتير لذة أحببت أن أتمتع بها. وحاول السكرتير أن يدخلني دون إذن ولكني رجوته أن يستأذن وأصررت، ودخل السكرتير فإذا بصاحبي يخرج معه وهو يهتف بي: ما هذا؟! أهذا معقول؟! تفضل. واحتضنته وقبلته ودخلنا إلى غرفته وجلست معه أنتظر القهوة. عرفت أنه كان يرجو أن ينال هذا المنصب ولكنه كان أملا ألقى به إلى سحيق من جب نفسه لا يطفو ولا يقترب من الهواء ولا يتنشق نسمة من الحياة. حتى إذا لاحت الفرصة سعى سعيه وهو يائس؛ فهو يعرف نفسه كل المعرفة أنه يتغلف بالنفاق دائما إذا كان الحديث مع صاحب شأن، ولكنه يقول إنه كان ينافق لا ليصل إلى منصبه هذا، وإنما ليبقي على نفسه الوظيفة التي كان يشغلها، ولم يكن يدري أن النفاق مصعد صاروخي إلى هذا الحد الذي شق به هو الطريق إلى سماء المصلحة.
كان صاحبي سعيدا وهو يحدثني، فربما كنت، بل إني أنا فعلا الشخص الوحيد الذي يحادثه بلا نفاق وبلا تحيط أو حذر ... جمعتنا الأيام الطويلة، وتعود أن يلقي إلي بسره، فأنا مطلع بعد الله على مرآة نفسه بلا ستار ولا غلائل ولا خفاء ... ولهذا رأيت في عينيه شعورا أكاد أثق أن أحدا لم يره إلا أنا ... كان القلق يعدو على بريق الفرح في عينيه. وعجبت أن يبدأ القلق مسيرته في نفسه في اليوم الأول لتوليه الوظيفة.
ومرت الأيام وكنت أزوره في غير انتظام وفي غير إكثار. رأيت على وجوه الموظفين قترة وكمدا. وأحسست أن ترحيبهم بي أصبح أكثر حجما مما كان، ولكن الإخلاص فيه منعدم والصدق غائب، حتى لا تستطيع ألفاظهم أن تخفي سخطهم المتستر وراء زواق الكلام. وما أنا منهم ولا تربطني بأحد فيهم رابطة إلا صداقتي برئيسهم. وألقاه. أين النفس الرضية؟ أين القلب المطمئن؟ أين الابتسامة المنطلقة في غير حذر تشق ظلام الحياة لتسفر عن راحة الضمير وسعادة الإنسانية إذا قدر للإنسانية يوما أن تكون سعيدة؟!
لم أسأله، وإنما أقللت من زيارتي حتى لأوشكت تنقطع ... وفي يوم بينما أنا في القيلولة إذا بصديقي قادم على غير موعد، ورأى دهشتي فلم يحفل بها، وانفردت بنا الحجرة.
صمت، ثم هم بحديث ثم صمت ... ثم اندفع في بكاء متواصل لم أجد معه أنا إلا الصمت، ثم رفع وجهه فرأيت صديقي الذي كنت أعرفه قد عاد إلى وجهه مرة أخرى، ثم تكلم: لقد استقلت، بلغت من مرتب المعاش أقصاه فاستقلت، لقد مرت بي فترة الرئاسة فقلبتني من إنسان إلى لا إنسان. ولا أعرف صفة أقولها لتغنيني عن هذا التركيب اللفظي، كرهت إخواني جميعا في العمل، كنت أحس أنهم يعرضون علي الورق وظلال سخرية تغلبهم على أمرهم، وتثب إلى شفاههم، ثم كنت أنظر إلى أقفائهم وأنا واثق أنها تخفي عني السخرية الصريحة. كنت أحس أنهم مجمعون على أنني آخر من يصلح لهذا العمل. وربما كانوا على حق؛ فلماذا يصبح هذا الشخص الذي عاش عمره بلا رأي ولا موقف ولا مبدأ ولا قيمة رئيسا لهم؟
كنت أعتقد أنهم يرون النفاق الذي بذلته هو الدرج، ولكنهم مع ذلك - فيما أظن - كانوا يتصورون أنه لا يكفي وحده لكل هذا المجد الذي نلته.
الحقيقة التي لا أستطيع أن أخفيها عنك لأنك ستعرفها دون أن أقولها؛ أنني أنا نفسي لم أكن مقتنعا أنني رئيس فعلا. كنت أحس نفسي شيئا تائها في الكرسي الذي أجلس عليه، حتى لقد كنت أنا نفسي أفتش عن نفسي في الكرسي إذا خلوت به وخلا بي. حتى إذا دخل مرءوس لي كان زميلا انتفشت عن نفخة كنت أضحك منها في داخلي، ثم أنا أوجه إليه أبشع النقد في أقسى لفظ، حتى إذا خرج واجهت صغري واقفا أمامي وداخلي يأخذ علي أقطار الحياة خارجي، وأقطار كياني في داخل كياني.
وكنت أحيانا أحب أن أتطرف وأبحث عن هذه الابتسامة التي كنت أرسمها على وجه زملاء الأمس ومرءوسي اليوم، فإذا الابتسامة قهقهة عالية أدرك افتعالها وأحار أهي مفتعلة لأنني رئيس ينافقونه، أم هي مفتعلة لأنها تفرج عن السخرية مني التي يحبسونها أمامي.
وكنت في كل يوم أنظر إلى المرآة أحس أنني أصبحت صورة حية لرسم دوريان جراي. كانت مرآتي هي صورة دوريان جراي؛ ففي كل يوم تختفي منها بسمة طيبة لتحل محلها تكشيرة وحش. كنت أفقد نفسي نأمة نأمة وشعاعا شعاعا، وتنطمس في نفسي يوما بعد يوم عواطف الطيبة والحب والرضا والقناعة والسعادة وقبول الحياة لتشتعل نفسي بنيران القدر والحقد والسخط والطمع والشقاء ورفض كل شيء في الحياة حتى ما هو جميل فيها.
أولادي. أولادي. كنت أتخيلهم يسخرون مني إذا خلا بعضهم ببعض. زوجتي. لم أقتنع يوما أنها قبلت أمر ترقيتي كشيء مسلم به. كنت دائما أحس أنها تشك أنني حقا رئيس، وأنني أصبحت مستقبلا للتملق بعد أن كنت مصدرا له.
تاهت نفسي من نفسي، ونفرت حياتي من حياتي. اسمع يا أخي، هناك ناس خلقوا ليكونوا أي شيء إلا رؤساء لأعمال، وأنا منهم. وتلك هي الحقيقة.
اليوم قدمت استقالتي وجئت إليك قبل أن أذهب إلى البيت؛ لأن حياتي التي أحببتها تركتها عندك في تصورك لي وفي معرفتك بي. وقد جئت إليك لأصحب نفسي الأولى، وحياتي التي أحببتها ولم أحب غيرها، وأعود إلى الدنيا بما أحب أن تراه مني وما أحب أن ألقاها به. سلام عليك.
صورة ليست كاريكاتورية
بطاقات هنداوي
كان يلم ببيتنا رجل في خمسينات عمره. وكان قوي البنية أحمر الوجه، يهتم بأناقته ما أتاحت له موارده القليلة أن يتألق فشعره الأشيب دائما مصفف في انتظام وهدوء وحلته قديمة، ولكن أثر الكواء عليها أكبر من أثر الزمن، ورباط عنقه رخيص، ولكنه يعنى بكيه ويعنى بربطه. فقد كان رخصه يحتم عليه أن يكويه ما أمكنته الفرصة، فكانت المكواة لرباط العنق أشد فتكا من الزمن ومن دقة الربط.
وكان هنداوي يتحدث دائما عن أيام شبابه الذهبية؛ فقد كان حامل أثقال. وقد أصاب في هذا المنحى نجاحا، إن لم يصل به إلى الشهرة، فقد وصل به إلى أن يجعله هو ذكريات مشرقة لشبابه في الشيخوخة، ومنجم حديث باللسان بعد أن عجزت الذراعان أن تتحدثا.
ولكن أطرف ما كان يطالعنا من هنداوي بطاقاته؛ فقد كان له في كل فترة بطاقة جديدة. وبهذه البطاقات كان هنداوي يتفرد بين زوار بيتنا الكثيرين. وقد كنا جميعا حريصين أن ننال هذه البطاقات، نعلق عليها هذه التعليقات الخبيثة التي يتقنها من هم في مثل ما كنا فيه من سن في تلك الأيام. وكان هو يعتبر هذه السخرية مديحا ويسعد به كل السعادة. العجيب أن هذه البطاقات كانت تحمل دائما صورته التي كان وضعها يتغير في كل بطاقة، وكانت تحمل دائما بيتا أو بيتين من عيون الشعر العربي في الفخر. وكانت الأبيات أحيانا تكون في الهجاء إذا أراد أن يشتم أحدا تطاول عليه، ولم تسعفه قوته العجوز أن يرد التطاول باللكمات.
وما زلت أذكر بعض الأبيات التي كان يختارها ويضعها تحت صورته فهو مثلا يكتب:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أو هو يضع:
نحن الذين إذا هاجت مواكبنا
ترتد أعداؤنا من خوفها جزعا
أو يكتب:
نحن قوم تذيبنا الأعين النج
ل على أننا نذيب الحديدا
فترانا لدى الكريهة أبطا
لا وفي السلم للحسان عبيدا
أو يكتب من معلقة عمرو بن كلثوم:
وأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
وكتب مرة حين مات قريب عزيز عليه:
إذا مات منا سيد قام سيد
قئول لما قال الرجال فعول
ويكتب في الهجاء الأبيات الشهيرة:
أما الهجاء فدق عرضك دونه
والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه
عرض عززت به وأنت ذليل
وكان هنداوي حين يوزع هذه البطاقات يحس أنها انتشرت في العالم أجمع، ويهدأ نفسا، ويحس أنه ذلك البطل الذي كان يصارع الحديد فيصرعه.
وكانت أهنأ أيامه أيام المآتم وهي كثيرة بطبيعتها. وقد كان يحرص أن يقدم بطاقته للمعزين جميعا. وفي هذه الأيام كان يحس أنه بلغ بشهرته الأرض والسماء معا.
ولم يكن جنون هنداوي يتجاوز هذه البطاقات فهو فيما عداها رجل هادئ طيب سهل القياد لا يثور أبدا، ويفهم الحديث إذا دار أمامه.
ومضت الأيام وأنا أحسب أن الزمان لن يجود بمثل هنداوي ثانية، ولكنني فجأة وبغير إعمال فكر مني وجدتني أذكره بإلحاح يأبى أن يتخلى عن فكري أبدا، ورحت أبحث أسباب تذكري له فما طال بي البحث، ولا أعياني التنقيب.
لقد وجدت الغالبية العظمى من حكام العرب كلهم هنداوي، إلا أن هنداوي كان يكتب ما يريد على البطاقة لأنه لم يكن يملك آبار بترول يصدر بها المجلات، ويشتري بها من بضاعتهم الضمير لا القلم، ومن تجارتهم الوطن لا الخلق، ومن عدوهم الدين والإيمان لا الأفراد ولا المبادئ.
إن هنداوي الجديد أصبح بعض حكام. وبطاقات هنداوي أصبحت بعض مجلات. وأبياته التي كان يحسن انتقاءها أصبحت مناسبة للعفن الذي نبت فيه تجار الأقلام والضمير والوطن وأعداء الدين والبشرية والسلام؛ فليس عجيبا أن يكون غثاؤهم بديلا عن عيون الشعر التي كان ينتقيها هنداوي من قراءته أو من قراءة أصدقائه من الأدباء والشعراء.
وفي لفتة أخرى وجد لون آخر من هنداوي هنا في مصر متمثلا في أولئك البهلوانات الذين يسيرون على الحبال في طرقات الصحف وفي جحور الجرذان وفي ظلمات الخفافيش يوزعون المنشورات حافلة بكره مصر وبالاعتداء على مشاعر الإيمان فيها. وإن كان بهلوان السيرك يضع على وجهه بياض الطيبة وحمرة الخجل، فقد لطخوا هم وجوههم بدماء أبنائنا على أرض سيناء، وعشيرتنا في الإسلام على جبال أفغانستان، وإخواننا في البشرية على ثلوج سيبريا وأرض المجر. وبدلا من أن يهاجموا الغاشم يريدون أن يحرقوا السلام في مصر. وبدلا من أن نسمع من تجمع أعداء الدين رأيا في غزو أفغانستان وقتل المسلمين فيها؛ الأمر الذي رفضته جميع الأحزاب الشيوعية في الدول الحرة، نجد الإلحاد هنا يدور ببطاقات هنداوي خالية من الشعر الرصين ومن صورته الطيبة الودود، مخضبة بدم الشرف والخلق والوطنية.
ونجد منهم - وما بغريب أن نجد منهم - من التحى بلحية الإسلام يدرأ بها عن نفسه شبهة الإلحاد، ولكن ما تلبث أفعاله أن تكشفه، وما أسرع ما تسفر أعماله عن حقيقة الكفر الذي يؤمن به.
في هذا الجنون الذي أحاط ببعض حكام العرب وبالخونة في مصر أذكر هنداوي وبطاقاته، وأقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة. لكم ظلمناه حين اعتبرناه مجنونا، ولو أن العمر امتد به لأصبح بين مجانين اليوم من أعظم العقلاء. يرحمه الله.
سقط الصنم
ولم تسقط القاعدة
أتصور أنه في عهد الأصنام هناك فريق من الناس لا عمل له إلا أن يجلس بجوار هبل وغيره من الأصنام يرفع عقيرته بمعجزات الصنم وما يناله قصاده من خير على يديه، داعيا الناس أن يزيدوا من الأموال التي يقدمونها للتمثال، مؤكدا أنهم كلما زادوه مالا زادهم خيرا ومعجزات ومنجزات.
وأتصور أنه حين أشرق النور، وتهاوى الصنم؛ لأن الأصنام لا تعيش في النور. أتصور أنه بقي من الصنم قاعدة. وهذا الفريق الذي كان يعيش على النصب، والأكاذيب، والادعاء الباطل، والشعار الزائف، والاحتيال المقيت. ويجد هذا الفريق نفسه بلا مورد يعيش عليه، ولا ناس يحتال عليهم، إلا قلة قليلة لا ترى إلا في الظلام، ولا تحيا إلا في السراديب، ولا تتنفس إلا العفن، ولا تأكل إلا لحم البشر، ولا تشرب إلا الدماء الآدمية.
ويدور فريق الصنم المنهار حول القاعدة المهيضة المحطمة، يطلقون المباخر ويرفعون العقائر، ويستجدون النفع الذي زال عنهم؛ فهذه القاعدة هي كل ما بقي منهم، وبغيرها لا حياة لهم؛ لأن حياتهم قامت أول ما قامت على هذا البهتان. ولو كانوا يملكون صنعة غير طبولهم ومزاميرهم التي كانوا يدقونها وينفخونها هتافا للصنم، وأصبحوا يدقونها وينفخون فيها نواحا عليه، لذهبوا إلى صنعتهم تلك، ونسوا ما كان من أمر الصنم والقاعدة، ولكن من أين وهم عجزة إلا عن الهتاف، جهلة إلا عن الاحتيال، أغبياء إلا عن السلب والزور والغش والسرقة؟
ولكل فترة زمن صنم يقيمه الناس من الدماء، ثم لا يلبث الناس أن يتبينوا مقدار ما امتص الصنم من كيانهم؛ ولهذا فلا بد لكل صنم أن يسقط وينهار. ولا بأس أن تبقى القاعدة حينما يلف حولها هذا الفريق من نفاية البشر. ويمر الزمن بالنور فتمحى القاعدة كما أمحي الصنم، وتصبح النفاية عدما من العدم. ولا يبقى إلا الإشراق والنور والضياء؛ فإنه يمكث في الأرض وفي السماء.
الصوت المرتفع والتليفون والفن
تعود أبناء الريف أن يرفعوا صوتهم إلى أعلى الدرجات حين يتكلمون في التليفون. ولا شك أن هذه العادة قد لازمتهم من أيام تليفونات المركز المتصلة بالعمدة. وهي - بالمناسبة - ما زالت موجودة حتى اليوم. وكان الخفير لا يكاد يسمع محدثه حتى كان يرفع عقيرته إلى القمة. وأغلب الأمر أنه كان حين تنتهي المكالمة يرتمي إلى أقرب مقعد أو مصطبة مقطوع الأنفاس وكأنه جرى مائة كيلو بغير توقف.
وكان المرحوم أحمد عبد الغفار «باشا» فلاحا لم تتخل عنه أخلاق الفلاحين ولا عاداتهم رغم تعلمه في أكسفورد ورغم كرسي الوزارة الذي تبوأه.
وفي يوم كان أحد الزوار يجلس عند سكرتيره في الوزارة، وكان صوت الوزير عاليا جدا حتى كان الزائر يسمع كل كلمة يقولها صارخة في أذنه، وأحس السكرتير بحرج فنظر إلى الزائر وكأنه يعتذر. - أصل الباشا بيكلم تلا.
فرد الضيف بسرعة ذكية. - ولماذا لا يكلم الباشا تلا عن طريق التليفون؟
هذا الصوت المرتفع نلتقي به كثيرا في الأعمال الأدبية، وهو عيب أجمع النقاد على أنه ينال من العمل الفني ويغض من قيمته.
فالعمل الفني بطبيعته همسة تتسلل في ذكاء شديد ولباقة إلى أبعد أغوار النفس الإنسانية، وترسي فيها ما يشاء أن يرسيه الكاتب من معان.
والصوت المرتفع لغة المقال وليس لغة العمل الفني؛ فحين يعلو صوت الفنان في عمل أدبي ينقل عمله من قصة أو رواية إلى مقالة أو خطبة.
ولكننا مع ذلك نجد أعمالا كثيرة لأدباء يرتفع فيها صوتهم إلى درجة الإزعاج. وتسقط هذه الأعمال وتمنى بالفشل. والكتاب الذين ترتفع أصواتهم غالبا ما تكون كتاباتهم بتوجيهات صادرة إليهم فيرتفع منهم الصوت ليسمعوا من أصدر التعليمات؛ لأن هؤلاء المصدرين للتوصيات لا يحسنون أن يسمعوا الفن؛ فصلتهم بالفن مقطوعة، وإلا فكيف يصدرون الأوامر إلى الفنانين؟
الشعر وحده هو الذي نستطيع أن نسمح له باللغة المباشرة والنغمة العالية؛ لأن الشعر العربي يعتمد في تراثه على المدح والذم والغزل والهجاء وغير ذلك من أبواب الشعر المعروفة، فحين يأتي الشعراء المحدثون ويسيرون على نفس النهج الذي سار عليه الأوائل فلا جناح عليهم، بل إننا قبلنا هذه النغمة المباشرة في المسرحيات الشعرية التي قدمها شوقي ومن بعده عزيز أباظة، فحين يقول:
اسمع الشعب ديون
كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافا
بحياتي قاتليه
أثر البهتان فيه
وانطلى الزور عليه
يا له من ببغاء
عقله في أذنيه!
يقبل الناس منه هذا الكلام ويرددونه من بعده إلى اليوم. وحين يقول عزيز أباظة في العباسية:
شعور الشعب يا جعف
ر حق لا هوى فيه
يحس الكره والبغض
فيجريه على فيه
يميز بوحي فطرته
عداه من محبيه
له من وعيه الساذ
ج مصباح فيهديه
نقبل منه هذا الكلام ونردده من ورائه.
وحين يرتفع صوت الشرقاوي في رواياته يقبل منه الناس هذا الصوت المرتفع في مسرحياته؛ الفتى مهران، ووطني عكا، والنسر الأحمر، وغيرها، وينظرون إلى مسرحه في تقدير.
والواقع أن الشعر الحديث في المسرحية يقع في المكان الذي خلق له؛ لأنه يضفي على الحوار نوعا من الموسيقى والجرس، مع تحرر الشاعر من القافية، وإطلاق يديه في تنويع الحوار، والسير إلى حيث تبتغي المشاهد والمواقف.
ولهذا لم يكن عجيبا أن تنجح مسرحيات الشرقاوي، ويتخلج الشعر الحديث على الطريق ولا يستطيع أن يبلغ من نفوس الناس ما بلغه الشعر.
وعودا إلى الصوت المرتفع. أعتقد أن القراء أنفسهم يحبون في العمل الفني أن يصلوا إلى خوافي معانيه بشيء من الجهد يبذلونه مع الكاتب، حتى إذا أغناهم الكاتب الروائي أو القاص عن هذا الجهد انصرفوا عن العمل جميعا في غير احتفاء ولا تقدير.
قردة
يأتي على القرد لحظات يخيل إليه أنه أصبح إنسانا أو قريبا من الإنسان. وتعاود هذه الحالة بالذات القردة المعروضة في حدائق الحيوان؛ ذلك أن الأطفال وأحيانا الكبار يتحلقون حولها، ويلقون إليها بأصابع الموز إن أرادوا إكرامها، وبحبات الفول إن أرادوا أن يشهدوا حركاتها وهي تقشره وتأكله.
فإن زادت حلقات الناس خيل لبعض القرود أنهم أصبحوا على قدر من الأهمية، فترى القرد منها يشيح عن الإنسان الذي أكرمه، ويصرف عنه وجهه واهتمامه، واهما أنه أصبح أعظم منه شأنا وأرفع منزلة.
وترى القرد منها يتقافز على أعراف الشجر الصناعية وينط على أسياخ الحديد، فإذا هو في أعلاها، وحينئذ يخيل إليه أنه أصبح أعلى قامة من الإنسان. ولو لم يكن قردا لأدرك أنه مهما يتقافز ينط فسيظل قردا، ويظل الإنسان إنسانا، كما يظل أيضا النجم نجما والقمر قمرا.
وفي عالم الأدب نجد شاشة التليفزيون قد جعلت بعض القرود يظنون أنفسهم آدميين. ولو راغوا إلى أنفسهم من أعين الناس ومن عقولهم لأدركوا أن الناس لا تراهم إلا قردة مهما يتقافزوا وينطوا، ولكنهم هم يرون أنفسهم من داخل أنفسهم ومن عيون ذواتهم، ولكم تخادع نفسها النفس، ولكم تكذب العين صاحبها فتوهمه أنه أصبح شيئا وما هو بشيء، وأنه يستطيع أن يصدر الأحكام ويقسم الأقسام، وهو هو نفسه لا يجوز أن يكون موضوع حكم؛ لأن الحكم لا يكون إلا على موجود وهو غير موجود، والأقسام لا تكون إلا بين كيانات قائمة وهو لا كيان له وكينونة.
الناس تراهم داخل آلة التليفزيون قردة داخل أقفاص. ولن يجديهم شيئا صوت كمواء القطط، كما لن يجديهم شيئا تصنع في النطق وتمشيط لشعر الرأس وترجيل للحواجب وحركات للأيدي مرسومة في تكلف بغيض وفتح للفم وإقفال له بمسطرة وبرجل ومنقلة، ولو دروا أنهم بهذا يقتربون إلى عالم القردة أكثر مما يقتربون إلى عالم الإنسان لكفوا، ولكن من أين لهم أن يدروا؟
أغلب الأمر أن القارئ الآن سيقول ألغزت فأفصح، ولكن المؤكد أن أغلب القراء من مشاهدي التليفزيون سيقولون أفصحت فاستر. وعهد علي لهم ألا أزيد الأمر إبهاما أو إيضاحا؛ فالقردة لا يقال عنها إلا قردة، والقرد لا يسمى. وإن كان له اسم فإني أربأ بقلمي أن يجمع من حروفه اسما.
ولكن كل ما أستطيع أن أقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل.
طويل ولكن!
حين يأذن الله لي بسفر إلى الخارج لا أتوقع في نفسي شيئا لا من الناس ولا من المكان. ولا أحب أن أرسم ما قد تستقبلني به الدول التي سأزورها، فلا أنا أتصور الفندق ولا أنا أحب أن أتخيل الأشخاص، وإنما أترك البلدة التي أضع بها حقائبي تطالعني هي بجديد منها في كل خطوة أخطوها.
وليكن هذا الجديد متمثلا في الناس وفي المكان، وفيما وهب لها الله من جمال معالم، وفيما حرمها الله من نعم.
وبقدر ما كان هذا البياض الذي أفرضه على مخيلتي يجعلني أتمتع بكل ما هو ممتع، كنت أفجع فجيعة مضاعفة فيما يواجهني مما لا إمتاع فيه.
ورحلتي هذه التي التقيت فيها بذلك الفتى الطويل الهايف كانت إلى دولة من أكبر الدول الغربية. ووجدت ذلك الطويل ضمن الذين يستقبلون وفدنا، وعرفت أنه أحد الذين يمثلوننا تمثيلا ثقافيا أو صحفيا أو شيئا من هذا القبيل. ولم أتبين مقدار هذه الهيافة في الفتى إلا حين بدأ يتكلم.
ولم يتكلم طويلا؛ فما هي إلا جمل قليلة حتى وضح أمره واستبان، ورددت في نفسي ذلك العنوان الذي صدرت به هذه الصورة؛ فأنا بحكم الطول الذي وهبه الله لي أحس ضعفا نحو الطوال، وأرجو إذا تعرفت بجديد منهم أن يقول خيرا إذا قال، أو يصمت فلا يقول شيئا، فيصبح طوله ستارا جميلا يخفي الفراغ الذي بداخله؛ فإن السذاجة التي يرمي بها الناس من كان طويلا تجعلني دائما حريصا ألا تجد مؤيدا عمليا لها من بين إخواني من الطوال.
ولهذا لم يكن عجيبا أن أفجع في هذا الفتى حين تكلم؛ فقد لقينا بالتحية التي يقدمها أي إنسان لقادم عليه من بلاده. حتى إذا استقر بنا المكان وتكلم بدأت دهشتي تتصاعد مع كل كلمة يضيفها إلى الفراغ الذي يبين عنه حديثه.
ثم قال عجبا. لقد كان لي من أقاربه زميل لولاه ما عرفت اسم أسرته. وقد عرفت من هذا الزميل أن أسرته ذات مكانة في قريتهم، ولكن هذه المكانة لم تصل بها أن يصبح العمدة منهم؛ فهي أسرة ميسورة الحال في حدود ضيقة يمكنها مالها أن تستر ماء وجهها؛ فهي تستطيع أن تعيش دون أن تمد يدها لطلب عون، ولكنها أيضا لا تستطيع أن تمد يدها لتهب عونا.
دخل أحد أبنائها كلية البوليس، وتقطعت به الأنفاس حتى أصبح مأمورا في مديرية بها أسرة كبيرة العدد منتشرة في إقليمها وغير إقليمها.
ويأتي الفتى الهايف إلى جواري يبالغ في تحيتي وينبسط به الحديث فيقول إن قريبهم المأمور حين ذهب إلى المديرية التي تقيم بها هذه العائلة استدعى كبيرها وقال له أنا لا أخاف عائلتكم، وإذا لم تسيروا كما أريد فلن أؤدبكم بالوسائل البوليسية، وإنما سأطلب رجالي من المجرمين في عزبتي وأجعلهم يضربونكم. ويزداد الفتى الهايف تبسطا فيقول إن هذا الكبير خاف وارتعش وأذعن وسار طوع أمر المأمور البطل.
فهمنا طبعا أن الكلام يرويه الفتى الهايف عن أيام الثلاثينيات. ويفترض أننا سنصدقه. وليس يعنيني من أمر هذه الحكاية إلا التفاهة التي بلغها هذا الأستاذ وهو يتشدق بهذا الحديث في سبعينيات القرن العشرين.
ليس يعنيني ما يقوله الفتى في ذاته، وإنما أن يتشدق رجل ملء هدومه يعيش في بلد من أعظم بلدان الغرب منذ سنوات، ويرى الحضارة وهي ترقى إلى القمر، ويظل الفخر عنده بإجرام أسرته وقوتها؛ فهذا أمر يجعل الإنسان حائرا مع البشر. إذا لم يتفاخر هذا الفتى الذي تفترض فيه الثقافة والتحضر الإنساني بالعلم أو الفن أو الخلق فمن يتفاخر به؟ كيف يعيش في هذا القرن الباذخ العلم الشاهق الحضارة؟! فمتى حصل على شهادة تعليمه العالي وعاصر هذا العلم وتلك الحضارة في أرقى منابعها، ثم يتفاخر بالإجرام بلغة جاهلية قضى عليها الإسلام منذ أربعة عشر قرنا؟!
فالبشرية إذن عند هؤلاء جامدة متحجرة لا تتطور ولا تنمو مع العصر، ونحن إذن قوم نعالن العالم أن حضارته وثقافته لم تصل بعد إلى أغوار نفوسنا، وأن فينا - لا نزال - هذه البداوة الجاهلية، وأننا حتى نختلق أحداث الإجرام لنضفي بها على أنفسنا وأسراتنا الجلال والهيبة. وبدل أن نبحث لهذه الأسرات عن أثر في الفن أو الحياة العامة أو الوطنية أو الأخلاق الرفيعة أو المثل العليا نختلق لها الفخر من أحقر ما ينبغي أن ينتسب إليه الإنسان. وهل هناك أحقر من الإجرام؟
ليكن هذا الفتى نفاجا أو فشوشا، وهو الأحمق كما يقول القاموس، ولينسج لأسرته من الأمجاد ما شاء، ولكن أن يختار الإجرام بدلا من الفضيلة في القرن العشرين فوا ضيعة الحضارة إذن! لو كان جاهلا بعيدا عن الحياة التي تطورت فتسنمت قمة التاريخ الحضاري لحاولنا أن نجد له العذر، ولكن وهو خريج الجامعة، وهو من عاش في هذا البلد المتحضر سنوات طوالا، فهيهات هيهات لنا أن نجد عذرا، بل هيهات هيهات أن نختلق هذا العذر.
ثم هو غبي؛ فكل الذين كان يروي لهم أمجاد أسرته يعرفون الحقيقة، فإذا كان يتبجح بها مع من يعرفونه فماذا هو فاعل إذن مع القوم الذين يمثلنا عندهم؟ لا أستطيع أن أتصور.
ولكن لا بأس؛ فقد قرأت منذ قريب أنه رقي في وظيفته، فاطمأن خاطري وهدأ جزعي؛ فقد سارت أمور فيما تعودت أن تسير فيه. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الناس والملائكة
حين يرتفع الإنسان إلى مسابح السماء وتدف له أجنحة كأجنحة الملائكة يحقق جانبا في الإنسانية أصبح معطلا غائبا عن الحياة.
وقديما قيل إن الحيوان صنع من الشهوة، وإن الملائكة صيغت من الروح، وإن الإنسان ركب من كليهما، فمن غلبت شهوته على روحه كان شرا من الحيوان، ومن غلبت روحه على شهوته كان خيرا من الملائكة.
ومنذ عهد ليس قريبا اتهم أحد الضباط بأنه يتآمر على قلب نظام الحكم وزج به إلى المعتقل دون محاكمة، وما لبث أن جاءه من جاءه. - اعتذر يفرج عنك في الحال. - أعتذر عن ماذا؟ - عما فعلت. - فإذا كنت لم أفعل شيئا. - اعتذر والسلام. - إذا اعتذرت فقد اعترفت أنني صنعت شيئا. - أنت تريد أن تبقى في السجن. - أنا لا أريد أن أعتذر عن شيء لم أصنعه. - حتى لو أدى ذلك إلى أن تبقى في السجن سنين لا تعرف لها عددا. - أن أبقى في السجن وأنا مرتاح الضمير خير من أن أكون خارج السجن وقد صنعت شيئا لا يرتاح إليه ضميري. - محاولة بطولة. - بل محاولة شعور بالرضا عن النفس. إن نفسي إذا أغضبتها أصبح عذابها لي أكبر من أي سجن أو قيد. إن نفسي هذه لا تتركني في الصباح أو مساء، وستظل تنغص علي عيشي، فإرضاؤها عندي خير من تركي للسجن ألف مرة.
ورفض الضابط أن يعتذر، وظل في المعتقل إلى أن فتحت جميع المعتقلات.
ولو كان هذا الضابط صنع هذا فقط ما اهتممت بهذا الحديث عنه؛ فالذي يرضي ضميره ليس ملاكا، وإنما هو إنسان يقارن بين حرية النفس والحرية من القيود ويختار حرية النفس.
ولكن الذي وقع لهذا الضابط في السجن هو الذي جعلني أقدم قصته.
مرت على السجين فترة فإذا هم يأتون له بزميل في السجن، وتقوم بينهما صلة أقرب ما تكون بصلة الابن البار بالأب صاحب المثل الرفيعة.
أما الابن فمهندس في بواكير عمره، وأما الأب فهو من عرفت. أما التهمة التي دخل بها المهندس إلى السجن فليس لها أي أهمية؛ فقد لا تكون هناك تهمة على الإطلاق.
أعجب الضابط بالمهندس وأحبه، وأحب المهندس الضابط حتى كان يوم سمعا فيه أن المهندس أوشك على الخروج من السجن فتقدم المهندس إلى الضابط. - لقد عاشرتني وعرفتني كما يعرف الأب ابنه. - وأحببتك أيضا كما يحب الأب ابنه. - وإني أريد لهذه العلاقة أن تتوطد. - ليس من سبيل؛ فليس هناك علاقة أوطد من علاقة الأب بابنه. - إن لك ابنة وأريد أن أخطبها. - لكم أحب ذلك! - لقد عرفتها وعرفتني من زيارتها لك، وما أظنها ترفضني. - اسمع. إن ابنتي في الجامعة. - أعرف ذلك. - إن أردت أن تقدم لي معروفا فاخطب ابنة أختي. - أخطبها. - إنها لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ولن تجد شخصا يكرمها، فكن أنت هذا الشخص. - سأكونه.
وهنا ارتفع الإنسان إلى مسابح الملائكة. كلاهما كان عظيما؛ أما الأب والخال فآثر مصلحة ابنة أخته على مصلحة ابنته، وفضل أن يخطب الشاب الذي عرفه وأحبه وأعجب به، والذي يستطيع أن يطمئن على فلذة كبده إذا هي عاشت في حماه، ابنة أخته وليس ابنته. وأما الشاب فقد قبل في سبيل الصداقة والإعجاب بالمثل الرفيعة التي رآها في الضابط أن يخطب فتاة كل ما يعرفه عنها أنها تجهل القراءة والكتابة وهو من هو علما وثقافة.
وخرج المهندس من السجن وخطب ابنة أخت الضابط، ولم تنته القصة.
بدأ المهندس يعلم الفتاة، ثم انتظمت في الدراسة، واليوم.
المهندس في بعثة في أمريكا والفتاة معه تعد نفسها لتنال الدكتوراه في الأدب.
إن السماء دائما تحب الملائكة.
حواديت
الحر شديد شديد، والحديث الجاد ثقيل على المتحدث والمستمع معا، فما علي لو حكيت لك بضع حواديت، وما عليك لو أنك قرأت ما أكتبه لك للتسلية ولإزجاء الوقت.
هاتان حكايتان من صنع الحياة، ولعلك تريد أن تسأل فلماذا لا تصوغهما في قصتين وهذه بضاعتك؟
يبدو أني لا أجد فيهما شيئا أستطيع أن أصوغ منه قصة.
فالحياة قد صاغت كلا منهما، ولم تترك لي مجالا لاجتهاد.
ثم أنا أخشى إذا صغتهما أو صغت واحدة منهما أن تسألني بطريقتك المعهودة «ماذا تريد أن تقول بقصتك؟» وأنت محق؛ فإنه لا بد لي أن أريد شيئا من قصتي، أما الحياة فإنها تؤلف كما تشاء، ولا يجرؤ أحد أن يسألها ماذا تريدين؛ فهي غير حريصة على إرضائك، ولا على إرضاء أحد. وهي ليست ملزمة أن تقدم لك حكمتها عن كل قصة تؤلفها؛ فللحياة حكمتها الكلية الخالدة وليس يعنيها أن تكون كل حكاية صغيرة لها حكمة قائمة بذاتها.
الحكاية الأولى: صداقة ساعات
عن صديقنا علي. كان منذ أيام في النادي وتعرف هناك بصديق جديد هو خيري، وحدث بينهما هذا الشيء الذي يحدث كثيرا بلا معنى ولا تبرير، أحس كل منهما أنه يعرف الآخر منذ سنوات، وفي لحظات أصبحا صديقين حميمين. - أين تسهر الليلة؟ - عند عصام. - الله! أنا الآخر مدعو عنده. - نذهب معا.
وذهبا وظلا رفيقين طوال السهرة، وازدادت الصداقة بينهما قوة، حتى قارب موعد الرحيل فقالت ربة البيت: إلهام ستأتي الآن.
وقال خيري لعلي. - أظن أنه حان موعد قيامنا.
وقال علي: مستحيل، لا بد أبقى. - لماذا؟ - لأرى إلهام هذه. - أتعرفها؟ - دون أن أراها. - كيف؟ - إنها صديقة لصيقة لابن عمي. - ماذا تقصد بصديقة لصيقة؟ - أي معنى تريد أن تفهمه. - ولكنها متزوجة. - وتريد أن تترك زوجها لتتزوج ابن عمي المجنون بها، والذي ينفق عليها عن جنون أيضا. - هل أنت واثق؟ - أقول لك إنه ابن عمي.
ومرت صاحبة البيت بالصديقين. - علي. أريدك.
وقام إليها وهمست: ماذا تقول لخيري عن إلهام؟ - حكايات. - سمعتك تتكلم عن إلهام. - من ضمن الحكايات. - ماذا قلت له؟ - أروي له عن حكايتها مع شريف ابن عمي. - نهارك أسود. - لماذا؟ - لأنه هو زوجها، وهما مختلفان في هذه الأيام. - ماذا؟ - ما سمعت. - أين باب الخروج؟
وهكذا لا تستغرق الصداقة الجديدة أكثر من ساعات في حياة الصديقين، أي حكمة في هذا لا أدري. أستطيع طبعا أن أستخرج لك بعض حكم سخيفة، لا تتحدث عن النساء إذا كنت لا تعرف من تتحدث إليه معرفة وثيقة، أو حكمة أخرى أكثر سخافة؛ لا تتعجل بالصداقة أو ما شئت، ولكن المؤكد أن الحياة تقصد إلى أي حكمة تريد أن تسمعها، أو أحاول أنا أن أفتعلها افتعالا.
الحكاية الثانية: الزواج والقدر
لعلني لم أعرف في حياتي شخصا أحب زوجته قدر ما كان عبد الحميد يحب زوجته؛ فقد كان دائم الفخر بها والإكرام لها. وكان سعيدا أنها تفصل له قمصانه، وأنها أيضا تعاونه على العيش والتدبير. وكان يرى فيها الجمال الذي لا يراه في أحد سواها.
ولم يكن عبد الحميد ساذجا ولا عبيطا. وإنما مارس الحياة ومارسته وعرف فيما قبل الزواج كل ما يعرفه الشباب قبل الزواج من لهو ومتعة، بل ولعله بالغ بعض الشيء في لهوه ومتعته. وحتى إذا تزوج أصبح لا يعرف غير زوجته وعمله والصلاة والصوم والعبادة أعمق ما تكون العبادة.
وكنا حين نلتقي بعبد الحميد نصبح على ثقة أن الحديث لن ينقضي أو يأتي بذكر زوجته مرتين أو ثلاثا على الأقل. ولما كان يكبرنا في السن فقد كنا نخجل أن نعلق على حديثه هذا بغير ما يحب.
حتى كان يوم سمعنا فيه عجبا. لم تكن زوجة عبد الحميد أهلا لهذا الحب وهذا الوفاء.
وقد اكتشف هو الحقيقة المروعة ولكنه ظل ثابتا كالطود يجد في صلاته وصيامه ملاذه الذي يلوذ به من النكبة النكباء التي تزلزل الجبال الشم.
كانت زوجته في ريعان العمر، ولم يكن هو يسبقها في العمر بسنوات كثيرة، فكان عدم وفائها لا تبرير له إلا أنها نوع من النساء لا يعرف كيف يكون وفيا. طلق زوجته ومشت الحياة.
وعرفت سيدة فاضلة تصلح زوجة لعبد الحميد، إلا أنني أخشى أن أتدخل في مثل هذه الأمور؛ فإن الصلة بين الزوج وزوجته صلة لا مثيل لها في الصلات، وأخشى أن تكثر بينهما المشاجرات فيلعنني كل منهما في كل مشاجرة، وأنا لا أحب أن ألعن بغير مناسبة.
إلا أنني استخرت الله وقلت أقوم بالتجربة.
عرضت الأمر على عبد الحميد فرحب، وعرضت الأمر على السيدة وأهلها فقالوا لا بد للعريس أن يعلم أنها لا تنجب؛ فقد تزوجت من قبل ولم تنجب.
سألته فقال: وأنا أيضا تزوجت من قبل ولم أنجب، ولا حاجة بي إلى الإنجاب. وتزوجا منذ خمسة وعشرين عاما. وقبل أن ينقضي العام الأول جاءني عبد الحميد: لن تصدق! - ماذا؟ - زوجتي. - ما لها؟ - حامل. - غير معقول. - تلك إرادة الله. - أجاد أنت؟ - تلك إرادة الله.
ثم أنجبت فتاة أسمياها اسما حبيبا إلي وكأنهما أرادا أن يشيرا إلى أنهما يلعنانني كثيرا، والفتاة الآن في السنوات الأخيرة من الجامعة.
ولكن الحكاية لم تنته بعد.
لم يمر على زواج عبد الحميد عام وبعض عام حتى جاءني: لن تصدق! - ماذا؟ - زوجتي الأولى. - ما لها؟ - ماتت. - كيف؟ - مسكينة. ماتت لأن زوجها رفض أن يأتي لها بطبيب. - زوجها! - نعم؛ فقد تزوجت الفتى الذي كانت تعرفه. - إذن. - مسكينة. يرحمها الله.
وانحدرت من عينه دمعتان؛ فهو وفي غاية الوفاء حتى لمن لم يف له. في هذه الحكاية انقلبت الحياة إلى قصاص ميلودرامي، الحكمة عنده يقولها بصوت جهير حتى لا تحتاج مني إلى توضيح. ومع ذلك لو كنت أنا الذي ألفت هذه القصة لما نجوت منك، ولظللت تقول ما لهذا الكاتب أصبح ساذجا لا يعرف حتى كيف يروي قصته في فنية أو بعض إتقان؛ لهذا تركت الحياة تقدمها إليك لم أتدخل أنا، وهل ترى أني أستطيع أن أتدخل؟
حواديت
كل سلام عندهم حرب
أعرفهم. وشاء قدري أن أعرف خبيء حياتهم. وجميعهم يدين بغير الله، ويصرف ولاءه لغير الوطن. ولكل منهم متجه في الحياة ومنحى. ولكل منهم نحلة أو مهنة تختلف عن مهنة الآخر أو نحلته. ولست أدري كيف تتابعوا إلى ذهني يشد كل منهم الآخر إلى تفكيري، ويقف أمامي فأرى عجبا.
وأنا اليوم أحاول أن أقدم بين يديك هذا العجب، فلا أدري أأذكره بادئا أم أذكره منتهيا، أم لا أذكره مطلقا، وأتركك تصل إليه وحدك وأنا واثق أنك بهذا خليق.
ولكن هذه الصورة التي لا أدري ما الذي جعلني أحاول أن أرسمها لك نوع من الكتابة يجمع بعض ملامح القصة وبعض ملامح من المقالة. وإذا أنا قدمت لك هذه الصور التي أريد أن أقدمها لك اليوم، ولم أكشف لك عما جعلها تتتابع إلى ذهني ممسكا بعضها برقاب بعض، أكون قد جنحت بقلمي إلى الشكل القصصي الذي يشير ولا يصرح، ويومض ولا يكشف، ويهمس في خفاء ولا يجاهر في علن.
وأنا أحب - ولا أدري لماذا - أن أحتفظ لهذه الصور بطابعها هذا الذي لا يجعل منها قصة ولا يجعل منها مقالة. دعني أعرض عليك هذه الأشكال. •
أما الأول فقد كان جده يعمل في بيت، وكان أهل البيت يعتبرونه واحدا منهم، حتى إن الأبناء كانوا لا ينادونه باسمه إلا إذا سبقوه بكلمة عم. وظل هذا حالهم وحاله حتى كبر الأبناء وتزوجوا فكانوا يزدادون له احتراما وتوقيرا كلما مرت بهم السنون وعلت بهم السن.
وقد لقي هذا الجد ربه بعد أن أصبح ابنه موظفا بالحكومة بشهادة متوسطة. واستطاع هذا الأب بجهد جهيد وكفاح مرير أن يعلم ابنه موضوع هذه الصورة، فتخرج في كلية.
مسكين هذا الفتى. لقد شب في زمن الحقد فهو ينظر إلى ماضي أسرته في فزع وفرق وإشفاق، ويخشى أن يعلم الناس حقيقة هذا الماضي. والمجنون لا يعرف أن الناس تعرف هذا الذي يخشاه، وأنهم يقدرون جده أكثر مما يقدرون أباه، وأنهم يحتقرونه هو مع أنه يحمل هذه الشهادة التي حصل عليها؛ فقد كان أبوه وأسرته جميعا قوما شرفاء يحبهم الناس ويقدرونهم لأنهم عاملوا ربهم في تخشع المسلم الصادق، وعاملوا الناس في ود وإيناس يسعون لهم ويسعون بينهم بالخير والحب والصفاء؛ فجده وأخو جده كانا في زمانهما صفحة مضيئة مشرقة من صفحات الحياة، يراهما الناس فيحمدون الله أن بينهم مثل هؤلاء القوم الأتقياء والأنقياء. وليس يعني الناس في كثير أو قليل بهذه الشهادة التي يحملها هذا الغر ما دامت شهادته لم تستطع أن تجعل نفسه شفيفة، ولا استطاعت أن تجعل في قلبه حبا.
مسكين هذا الفتى يأكله الحقد فتشتعل النار في نفسه، ولكنها نار لا تأكل إلا صاحبها؛ لأن صاحبها أهون كثيرا من أن تحس به الحياة.
هو ملحد، ولكن إلحاده يغريه وحده كما يغري الضياع صاحبه، فإذا كانت الأرض لا تحس به أو بإلحاده فكيف بالسماء.
كل حسن في عينيه قبح، وكل سلام في نفسه حرب. وكل الدنيا في عينيه قاتمة كنفسه، كئيبة كإلحاده لا دفء فيها ولا إيناس. ومن أين وهو غريب أشد الغربة عن أهله وهم أهله، وعن وطنه وهو وطنه، وقبل كل هؤلاء عن دينه وهو دينه؟
مسكين هذا الفتى. اختلت موازين الحياة في نفسه وانقلبت؛ لأنه يظن أنه ينتسب إلى جد وأسرة لا تشرفانه، وهو في هذا حقير ساقط الرأي. ولأن أسرته تراه أنه ملحد ويأبون أن تمس أيديهم يد الإلحاد فيه، كما يأبون أن يمدوا حياته بدفء الأقارب وحب الأهل وهم في هذا محقون.
من هذا التناقض نبت في نفس الفتى سرطان الشيوعية. •
وفي صورة أخرى بعيدة في جذورها كل البعد عن هذه الصورة قريبة منها في حقيقتها.
كان أبوه ثريا غاية الثراء، وبقدر ثرائه كانت سخافته وتفاهة تفكيره. وكان رحمة الله عليه جاهلا كل الجهل. والجهل في اللغة له معان كثيرة؛ المعنى المعروف الذي يجعل صاحبه حيوانا أعجم لا يفهم عن أحد ولا يفهم أحد عنه. لا يقرأ في الكتب ولا يقرأ في الحياة فهو جاهل. وهناك معنى آخر كانت تستعمله العرب فيقال جهل فلان على فلان؛ أي أساء إليه وتهجم عليه. ويقول عمرو بن كلثوم في معلقته:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وأب هذه الصورة فيه من الجهل معنيان، بل ربما كانت فيه معاني الجهل كلها إذا كانت له معان أخرى.
والرجل في البيت المصري هو رب الأسرة وقيمها ومثلها الأعلى، فحين شب صاحب الصورة عن سن الطفولة وبدأ لقاءه بالصبا والشباب وجد هذا الأب التافه الجاهل وقد اجتمع عليه أيضا البخل. والبخل عند الفقير مسبة ولكنه عند الغني كارثة. وكثيرا ما يختلط البخل بالخسة والدناءة فيصبح البخيل بين الناس أهزوءة، ويصبح بين أهله مسخرة.
وحين يصبح عماد البيت مسخرة فليس غريبا أن يصبح صاحب الصورة شيوعيا. •
أما الصورة الثالثة فهي عن أب هذه الصورة أيضا. وقد كان هذا الرجل جديرا بأن يكون موضع احترام وتوقير، ولكن شاء الله فجعل منه موضع احتقار وامتهان. وأكمل هو أسباب احتقاره فسرق شركة كبرى كان يرأسها، وشب الفتى وأبوه في سجنين من الحديد والاحتقار معا.
وكان من الطبيعي أن يصبح الابن رافضا للمجتمع كله الذي امتهن أباه واحتقره، وما دام المجتمع قد فعل فهو يرفض الله وهو شيوعي. •
أما الرابع فهو ملحد بسبب آية كريمة تخاطب الإنسان وتقول له: إن الله خلقه فسواه فعدله. ولكن صاحب الصورة يعتقد أن الله خلقه فقط وما سواه ولا عدله. وهو يصدر في ذلك عن غباء مطلق؛ فالله سبحانه وتعالى حين يقول هذا للإنسان إنما يريد - عزت مشيئته - أن يميز الإنسان عن الحيوان. أما إذا كان الإنسان قبيح الوجه مشوه القوام غير معتدل القامة غير متناسق الأطراف فهو لا يخرجه بذلك عن الإنسان الذي ينتسب إليه، وإنما هو امتحان من الله سبحانه وتعالى الذي قال:
ولنبلونكم . وفي هذا الاختبار يكرم الله سبحانه عبده ويتيح له أن يقترب منه بروحه إذا كانت سليمة ولم يسمح لها صاحبها أن تلتوي بالتواء ظاهره. وحين يصل الإنسان، هذا الإنسان إلى ربه يجد نفسه أجمل الناس جميعا؛ فالذي يعرف الطريق إلى السماء تصبح الأرض عند كبريائه هينة لا تساوي أن يقيم لها وزنا، ولكن صاحب الصورة شوه داخل نفسه أكثر مما شوهته الطبيعة فحقد، وألحد.
وما دام قد حقد وألحد فما بغريب عليه أن يكون شيوعيا.
والصورة شتى ولكن المرآة ازدحمت، ولكنني ما زلت أعجب كيف جرت كل صورة من هذه الصور الصورة الأخرى. ويزداد عجبي أنني كلما ذكرت شيوعيا وجدت هذه البؤرة العفنة من الحقد رسبت في أصله، أو ثبتت في نفسه، أو تجلت في سحنته. سمة واحدة لا يخطئها البصر ولا تغيب عن البصيرة.
هل هي خيال؟
اللؤلؤ والذرة
فكرة راحت تلح على ذهني في إصرار. أقاومها فتعود إليه أشد عنفا وإيغالا ولمعانا. أما لماذا تلح فأمر لا أدريه، ولا أستطيع النفاذ إلى أسبابه ودوافعه.
أما لماذا أقاومها فأنا أعرف السبب. إنها فكرة بعيدة كل البعد عن الواقع. تأباها الحقيقة وتأباها طبيعة الأمور كما ترفضها الحياة؛ لأن العناصر التي تكونها شخوص وأشياء، هيهات لها أن توجد منفردة؛ ومن ثم فهيهات لها ثم هيهات أن تجتمع لتكون الصورة التي تريد أن تتشكل بها في رأسي وعلى قلمي.
وأنا لست كاتبا عفويا أقبل أي شيء على ذهني. ولست أيضا متسرعا أنشط إلى الكتابة بمجرد أن تلوح في خاطري أطياف فكرة، وإنما أصر على ألا أمسك القلم إلا بعد أن أنعم النظر في هذه الومضة التي يعرفها الكتاب، وأمعن التفكير في أعماقها وأبعادها.
وأنا أيضا لا أرغم القلم على الكتابة كما لا أرغم الفكرة أن تتشكل في إطار أفرضه عليها، وإنما أترك الفكرة نفسها تشكل هذا الإطار وتختاره في حرية كاملة من داخلها هي؛ فأنا من الذين يؤمنون أنه لا أحزاب في الأدب. وكم أضحك من تصنيف النقاد لكتاب حين يقولون إن هذا الكاتب رومانسي وذاك كلاسيكي وذاك واقعي وآخر رمزي. إنما الكاتب هو كل هؤلاء.
فليست هذه المذاهب أحزابا ولا آراء مبدئية يتحتم على من يعتنق مبدأ منها أن يكون عدوا للمبدأ الآخر.
ألست تراني أحاول ما وسعني الجهد أن أروغ من هذه الفكرة التي ما تزال تلح علي والتي ما زلت أحاول أن أقصيها عني.
ولكن متى استطاع الإنسان أن يهرب من قدره أو يروغ مما تفرضه عليه مشاعره؟
أتصور أن شخصا ما يملك حمارا يحبه ويريد أن يهيئ له كل وسائل الراحة، فهو يعين له شخصا خاصا لا عمل له إلا أن يقوم بشأن الحمار.
وأتصور أن صاحب الحمار عنده أكوام من اللؤلؤ يكيلها كيلا ولا يعدها عدا. وأتصور أن الفتى الذي يقوم بشأن الحمار لا يعرف الفرق بين الذرة وبين اللؤلؤ - فهو يكتال اللؤلؤ ويضعه أمام الحمار لأنه يظنه ذرة. والحمار لا يأكل اللؤلؤ ولا يقبل طعمته ولكنه ما دام قد رآه أمامه فهو يمضغه فيطحنه ولكنه لا يبتلعه وإنما يبصقه.
ولكن اللؤلؤ مع ذلك يأبى أن يترك الحمار؛ فلا بد أن كميات منه وفيرة بقدر سعة الفم عند الحمار قد ذهبت إلى معدة الحمار.
وما دامت معدة الحمار تستقبل شيئا لم يكن من المفروض أن تستقبله فمن الطبيعي أن يموت الحمار.
أرأيت؟ هي خيال كلها. كلها خيال ولكنها مع ذلك تلح علي.
المخطئ لا شك هو ذلك الرجل الذي يملك الحمار، والذي استأجر له الفتى، والذي ترك اللؤلؤ يلهو به من لا يعرف قيمته.
وقد دفع صاحب اللؤلؤ والحمار ومستأجر الفتى الثمن، ففقد اللؤلؤ وفقد الحمار، ولكن هل هذا هو كل ما يخسره.
المؤكد أن الذين يبيعون اللؤلؤ سيرفضون كل الرفض أن يتعاملوا مع هذا الرجل؛ لأن الذين يبيعون اللؤلؤ لا يهمهم أن يبيعوه، وإنما يهمهم أولا وقبل كل شيء أن يفهم مشتريه قيمته. أما إذا كانت الذرة عنده تستوي مع اللؤلؤ فهو لا يستحق أن يملك لؤلؤة واحدة، بل هو حتى لا يستحق أن يرى اللؤلؤ، فليس هناك أي معنى أن يرى شخص ما شيئا لا يعرف قيمته.
تصورت هذا جميعه. وتصورت لماذا تختفي اللآلئ في كثير من الأحيان ويعتز بها أصحابها أن يعرضوها خشية أن تصادف في سوق الجواهر أشخاصا كأصحاب الحمار، أو تشتريها الحمير أنفسها في غفلة خلط فيها بين اللؤلؤ وحبات الذرة.
خطاب في موعد
هي فتاة في ريق العمر ونضرته، وكان فتاها شابا يعمل في مطبعة، وكان يكسب ما يقوم بشأن بيته. وتم بينهما الزواج ومشى بهما العمر رضيا هانئا تلك الهناءة التي تخلو من الأحداث الكبرى، ولا تخلو من الخلافات الصغيرة التي تنشأ بين زوجين في أول حياتهما الزوجية، فالزوج ذو عادات وتربية خاصة، والزوجة لها بداوتها وتربيتها الخاصة. وحين تصطدم التربية بالتربية والنشأة الغريبة بالنشأة الغريبة لا بد أن تنشب هذه الخلافات الصغيرة. وربما كانت الحياة تحلو بهذه الخلافات؛ فهي آخر الأمر لرباط الزوجية، أقدس ما خلق الله من صلة ومن عقود.
وأنجبت الزوجة الشابة ولدين، ولكن حدث أمر ليس بعجيب ولا شاذ. وقد يسأل سائل ففيم اهتمامك به وكتابتك عنه وإنك تعلم أنه ليس بعجيب ولا شاذ.
وربما راق لي أن أجيب على هذا التساؤل؛ فالواقع أن الكاتب يكتب وهو لا يعرف لماذا يكتب، وإنما كل الذي يدريه أن شيئا ما لا يدري مأتاه هزه هزا عنيفا، ودفع به إلى الكتابة. وليس يعنيه في شيء أن يكون هذا الذي يكتبه جديدا على الناس أم قديما.
وقال عنترة قبل ظهور الإسلام وفي غروب الجاهلية «هل غادر الشعراء من متردم» فوحقك ليس بين الناس من جديد؛ فالشر قديم قدم قابيل وهابيل، والخير قديم قدم آدم ومن أعقبه من أنبياء.
كان جار الزوجين شابا في مقتبل العمر ينتمي إلى أسرة عريضة شهيرة بين الناس. وكان للشاب سيارة وضيئة وابتسامة آسرة. وأهم من هاتين كانت له سمعة أنه ثري، وأنه يحب أن ينفق من ثرائه هذا.
ولم تهتم الزوجة أن هذا الشاب جاهل لم يكمل تعليمه. وكان من الغباء بحيث لا تستطيع أن تستبين غباءه.
بالغ الفتى في إظهاره محاسن سيارته. وبالغ أيضا في إطلاق ابتسامته على قلب الزوجة، وترك سمعة ثرائه تنساب إليها من سيل جارف، حتى إذا أيقن أنه وقع من نفسها حيث يريد أن يقع بدأ حديثه.
ولم يكن هذا التخطيط عن ذكاء - لا قدر الله - وإنما هو مران تعود به أن يصاحب الفتيات. وفيم ينشغل الجاهل الجميل إلا بالنساء؟
وقد تجد بين الناس أغبياء وإنما يتقنون من حياتهم جانبا واحدا. وهم في هذا الجانب الذي يتقنون يصبحون أعلاما متمرسين، حتى ليبدو الفرد منهم كأنه ذكي شديد الذكاء.
أشار إليها فرفضت، فألح فامتنعت، فأغراها بنزهة بريئة بالسيارة فتمنعت تمنع الراغبات. وأدرك الفتى بخبرته أنها أصبحت من أولئك الراغبات فأعاد الإلحاح.
فقبلت ونزلت إلى السيارة. - أتعرفين كم أحبك؟ - إنني متزوجة. - أعلم. - وأم لطفلين. - وأعلم. - فما إصرارك هذا؟ - وهل للحب أسباب؟ - أنت غني وجميل. - أرأيتني جميلا؟ - وأنت تعلم. - إذن. - تستطيع أن تجد غيري كثيرات. - ولكني أريدك أنت. - وماذا تريد لعلاقتنا هذه؟ - ما تريدين أنت؟ - أنا لا أعرف إلا الزواج. - فليكن ما تريدين. - كيف؟ - تتركين زوجك. - هل هذا معقول؟ - وكيف يمكن أن يتم زواجي؟ - لا يمكن. - لم تقتنع في النزهة الأولى بالسيارة، ولكنها في الثانية والثالثة والعاشرة اقتنعت.
وحين تريد الزوجة أن تترك زوجها لا يمنعها شيء، خاصة إذا كان الزوج شريفا، ولا يقبل أن يعيش مع زوجة لا تحبه.
طلقت الزوجة من زوجها، وتركت طفليها له، ومكثت شهور العدة في بيت أبيها، ثم تزوجت السيارة والابتسامة الآسرة.
كانت قد ورثت عن أمها نصف بيت فباعته؛ فهي لم تعد في حاجة إلى رأس المال يؤمن حياتها فليس بعد غنى زوجها أمان. وهي تريد ثمن نصف البيت هذا لتشعر أنها غنية أيضا.
وكان أبوها رجلا في أخريات عمره يعيش مما يتقاضاه من معاش.
ويبدو أن الأب لم يكن راضيا عن تصرف ابنته، ويبدو أن الموت قد حلا له أن يختطفه دون إبداء أسباب؛ فالموت غير محتاج إلى تقديم أسباب.
وأصبحت الزوجة القديمة الجديدة ولا عائل لها إلا زوجها.
وما هي إلا شهور قلائل حتى اتضحت الأمور جميعا. الابتسامة تكشير عن أنياب وليست ابتسامة؛ فالفتى ذو الأصل العريض كثير الشجار كثير المطالب لا يرضيه شيء.
والسيارة كانت آخر ما يملك، وكان لا بد أن يبيعها فهو لم يعد لديه ما ينفقه عليها، بل لم يعد لديه ما ينفقه إلا ثمنها. - ومن أين ستعيش بعد ذلك؟ - سأسافر إلى السعودية. - وإن لم تسافر؟ - المسائل منتهية.
وأنفق ثمن السيارة، ولم يبق شيء إلا ثمن نصف البيت ينفقان منه، وأوشك هذا المال أيضا أن ينفد.
ولكن مشروع السفر إلى السعودية اكتمل، فاشترى تذكرة السفر من مال زوجته، واتفق معها أن يسافر ويرسل إليها ما يمكنها من اللحاق به.
وفي الطريق إلى المطار. - هل بقي معك شيء من النقود؟ - خمسون جنيها. - هاتها. - وأنا كيف أعيش؟ - في ظرف أسبوع سيكون عندك ما تشائين من مال. - وماذا أعمل في هذا الأسبوع؟ - ليس صعبا أن تدبري أمرك لمدة أسبوع. - أمري إلى الله.
وأخذ الخمسين جنيها.
وبعد أسبوع فعلا وصل إليها خطاب من زوجها لم يكن به مال، وإنما كان به ورقة طلاق.
وتسألني فيم أقص هذه القصة وهي في كل يوم على شاشة السينما، ولكنني اليوم أنقلها إليك من الحياة لا من السينما. وأنا مع كل ذلك لا أدري لماذا أحببت أن أقصها عليك.
الإنسان ودون كيشوت
في الرحلة من مدريد إلى الأندلس مررنا في أول المطاف بقرية صغيرة نزلنا فيها بمقهى لا أقول أنيق وإنما هو ذو طابع خاص، وفي صدر فنائه تمثال لدون كيشوت بطل الروائي الرائد سرفانتس. وعلى لافتة بالمقهى تبين لنا أن هذه البلدة كان يعيش بها سرفانتس، وأن أهلها يخلدونه بإطلاق اسم بطله على هذا المقهى الذي يقال فيما يقال إن سرفانتس كان يعيش فيه. والعهدة في ذلك على الراوي.
وقالت الدليلة التي تقود الرحلة إن رواية دون كيشوت من أعظم الروايات العالمية. ثم ذكرت ما قاله بعض النقاد عنها، ولم يكن ما قالته جديدا علي؛ فقد قيل إن رواية دون كيشوت يقرؤها الطفل فيضحك ويقرؤها الشاب فيبتسم ويقرؤها الشيخ فيبكي. ولما كان الطريق طويلا فقد لذ لي أن أفكر في هذا الذي قاله النقاد أو بعض النقاد؛ فالنقاد أحيانا يطلقون أحكامهم مبهورين بصياغة أحكامهم - دون أن يقدموا الحيثيات لهذه الأحكام - ويتركون لنا بعد ذلك أن نفسر نحن ونبحث عن الحيثيات.
أما أن الطفل يضحك إذا قرأ دون كيشوت فهذا أمر طبيعي؛ فمواقف دون كيشوت وخادمه تثير في ظاهرها الضحك كل الضحك، والطفل يأخذ من الأمور ظواهرها، ولا شأن له بما وراء هذه الظواهر من معان متخفية. وكم تمنينا حين امتد بنا العمر وشببنا عن طوق الطفولة إلى ريق الشباب وحين دلفنا من نضرة الشباب إلى الكهولة لو ارتد بنا العمر إلى هذه الأيام النضرة الساذجة من حياتنا أيام كنا نقرأ الأعمال فإذا قراءتنا متعة خالصة؛ فلا نحن نبحث عن الهدف ولا عن المضمون ولا نحن نستقصي ما أراد الكاتب وما لم يرد، وإنما هو انطباع عام يتسرب إلى دخيلة نفوسنا لا ندري مأتاه ولا مصادره. ولست أنسى أيام كنت أقرأ للمازني وأنا في حجرة منفردة فإذا أنا أقهقه ضاحكا حتى ليصيب الذعر أهل بيتي، ويحسبون أنني أرى من النافذة ما لا يرون، ويسارعون إلى الحجرة يفتحونها فإذا أنا قصي عن الشباك، بعيد، لا صلة بيني وبين الحياة إلا هذا الكتاب، فيتولاهم العجب والدهشة، وينصرفون عني يمصمصون شفاههم من عبطي، وأظل مع كتابي، نافذتي الكبرى التي هي عوالم من المتعة، فقدناها منذ أصبحت القراءة والكتابة حرفة لا هواية، ومنذ أصبحنا نبحث عن المضمون والهدف والشكل والفورم.
فليس عجيبا إذن أن يضحك الطفل وهو يقرأ دون كيشوت؛ فهو يتلقى العمل بمرآة صافية جديدة من نوع خاص، تختزن كل ما تراه، فإذا غاب عنها أصل الصورة بقيت منها على صفحة المرآة ظلال وانطباعات ليس يمحوها الزمان.
أما ابتسام الشباب حين يقرأ دون كيشوت فليس غريبا أيضا؛ فالشباب هو زمن الحكمة الزائفة حين يظن الفتى أو الفتاة وهو في هذه السن الرائعة أنه أحكم الحكماء وأنه أعقل الناس وأغزرهم علما وأكثرهم تجربة، وأن ما يعرفه هو لا يعرفه أحد، وأن التجارب التي مرت به هيهات لغيره أن يتعرض لها. فما له إذن لا يبتسم ابتسامة سخرية من دون كيشوت هذا الذي يحارب طواحين الهواء، والذي يعرض نفسه لمواقف لا تستدعي إلا الهزء والاستخفاف بصاحبها، وإنزاله إلى درك من البشرية بعيد كل البعد عن الإقدام. ومع ذلك يصر هو دون كيشوت على أنه بطل الأبطال، وأنه رجل فذ لم تلد الأمهات له مثيلا، فمن الطبيعي إذن أن يبتسم الشاب ابتسامة الحكماء وابتسامة الهزء أيضا؛ فهو واثق أنه لا يمكن أن يصنع ما يصنعه هذا الأبله دون كيشوت، ولا يمكن أن يسمح للناس أن يسخروا منه سخريتهم من ذلك البطل الحالم الذي يحارب الجماد ويعترك في غير معترك، ويجيش من الوهم جيوشا ليحارب بها من لا وجود له. للشباب إذن أن يبتسم.
أما الشيخ فهو أجدر الثلاثة بما يفعل؛ فإنه يقال إن الشيخ إذا قرأ دون كيشوت يبكي. وحق له البكاء؛ فإن الشيخ حين يصير شيخا، ويصل إلى سن النضج، وينظر إلى ما مر من أيامه وإلى طول حياته ما يلبث أن يتبين عبث الحياة جميعا، ويصبح ولا أمل له إلا الحياة الأخرى تتعلق بها آماله وتهفو إليها روحه. وعندما تنعقد المقارنة بين دنيا الخلود عند ملك لا يمنع الظل لائذا والصفح توابا ولا العفو راجيا، وبين دنيا يسود فيها البطش والجبروت والانتقام والخسة. وحين تنعقد المقارنة بين خشية الله وخشية الناس، وبين الورع والنفاق وبين العليا والدنيا وبين الخالدة والفانية تهمي دموع الشيخ؛ فإنه سرعان ما يتبين له أن حياته كلها كانت مثل حياة دون كيشوت، وأنه حارب ما حارب ولم يخرج من الدنيا إلا بحطام وأوهام وآلام وسقم. ونذكر رواية العجوز والبحر لهمنجواي فنجدها إعادة بارعة عملاقة لبدايات الرواية العالمية المتمثلة في دون كيشوت لسرفانتس.
والعجوز في خالدة همنجواي خرج من جهاده كله بنظام، ودون كيشوت عند سرفانتس لم يخرج بشيء. والرجل العجوز حين يقرأ هذه أو تلك لا بد له أن يبكي؛ فإنه سرعان ما يتبين له أنه ظل طوال حياته يحارب طواحين الهواء، وأنه عاد من الحرب بهيكله هذا الفاني، وأنه مسافر إلى الناحية الأخرى، وليس له من زاد إلا وجه ربه، وهو سبحانه العدل المطلق، وويل للإنسان من العدل المطلق، وما أضيع الإنسان إن لم يدركه سبحانه برحمته إلى جانب عدله وبغفرانه يكسو به محكم أحكامه!
الصعود ببطء
ألم أقل لك إن الحديث في غير السياسة أجدى علي وعليك، أو هو لا شك أمتع لي ولك؟ وما البأس بنا نطرح السياسة أويقات من حياتنا، بدلا من أن تظل ناشبة فينا أظافرها حتى لا نفكر إذا فكرنا إلا فيها، ولا نكتب مقالاتنا إلا داخل إطارها، بل إنها في حين من الدهر سيطرت حتى على الروايات التي نكتبها والفن الذي نعيش في ظلاله.
في ذلك العهد كانت الكلمة الحرة ميتة لا نستطيع إحياءها إلا إذا لفقناها بتلافيف الرمز والرواية، فظهرت روايات كثيرة سياسية في ذلك الحين. ويبدو أن فرحة الانطلاقة قد سيطرت على أقلامنا حتى أصبحت لا تريد أن تكتب في غير السياسة، فهونا هونا أيها القلم؛ فإن الاندفاع بك لا يليق وقد شاب صاحبك وابيض فوداه، والصمت به أليق، والعودة إلى الفن أحمد، فإذا عزنا أن نقول المقالة السياسية، فما البأس في قصة، وإن لم فحدوتة مما يرويه الرفاق في جلسات التسلية والترفيه؛ فالسياسة بقدر ما هي هامة وبقدر ما هي خطيرة، فإن الترفيه أيضا هام وخطير. ولعلك بعد أن تستمتع بقصة مما يرويه الناس في جلسات الترفيه تستطيع أن تعود إلى السياسة تعمل فيها قلمك، فإن استعصى عليك الأمر فلتعمل فيها فكرك. وليس من الحتم أن تقول كل فكر؛ فبعضه يكفي.
حديثي إليك اليوم عن قصة رويت لي، وما أظن شأن الراوي يعنيك؛ فإني أحسب أن القصة نفسها هي التي تعنيك. وإنما لعلك تريد أن تثق أنها وقعت، أم تراك أيضا في غنى عن هذا الوثوق؟ إنما شأنك معها أن تقرأها، فإن أعجبتك فبها ونعمت، وقد بلغت من نفسك ما أريد أن أبلغ. وإن لم تعجبك فالأمران عندك يستويان، ولا يهمك من بعد إن كانت قد وقعت أو هي محض خيال.
ولكنني على أية حال مبادر فمطمئنك أنها وقعت، وأني عرفتها ممن أثق فيه أنا، وممن لو عرفته معرفتي به لوثقت به أنت أيضا.
وإني أرويها لك كما وقعت تماما، لا أهذبها بخيال لي أو بتحريف. ولو كنت أشاء أن أقدمها كقصة فنية لكان شأني في روايتها لك غير هذا الشأن ولكان لي في كتابتها لك طريقا آخر غير هذا الطريق. والذين يكتبون القصة ويقرءونها يعرفون أن هذا الذي أفعله الآن أبعد ما يكون عن القصة المبتدعة في فنها الحديث، وإن كان قريبا غاية القرب من أسلوب لبسته القصة في عهودها الأولى، ثم اندثر هذا الأسلوب مع الزمان وتغيرت به الأيام إلى غير هذا، بل ما يناقض هذا كل التناقض، ويختلف عنه كل الاختلاف.
القصة تروى عن زوج وزوجة تزوجا في بواكير الشباب الأولى، ومر على زواجهما خمسة وعشرون عاما. أما الزوج فأصبح يحوم حول الخمسين من عمره، وأما الزوجة فتصغره بسنوات ثلاث، ولكنها فتية المظهر، شابة التجاعيد جميلة الملامح، على الرغم من أولادها الأربعة الذين تخرج منهم من تخرج. وبقي منهم من بقي في الجامعة أو على مشارفها.
أصيب الأب بذبحة صدرية مفاجئة، لحسن حظه أصابه المرض وهو في بيته، واستدعى له الأطباء، ولكن - لسوء الحظ - تقطن العائلة في الدور السادس من عمارة ليس بها مصعد، ولم يستطع الصعود إلى المريض إلا الشباب من الأطباء.
وتم علاج الرجل، واستطاع أن ينزل ويذهب إلى طبيب كبير أجرى عليه الكشوف والرسوم والأشعة. - أنت الآن بصحة جيدة. - الحمد لله ... ولكن هناك مشكلة. - وهي؟ - إني أسكن بالدور السادس. - هذا خير لك. - ماذا تقول؟ - الطب الحديث ينصح مرضى القلب بالحركة وصعود السلالم. - ستة أدوار؟ - لو عرفت كيف تصعدها لكان هذا في مصلحتك. - وكيف أصعدها؟ - دون أن يحمل القلب عبئها. - وكيف؟ - أولا تصعد ببطء شديد. - وثانيا؟ - تجلس في الدور الثاني، وفي الدور الرابع. - كيف؟ - تبحث عن صديق في الدور الثاني، وآخر في الدور الرابع. - البركة في الست؛ فالعمارة جميعها أصحابها. وخرج الرجل إلى زوجته. - البركة في سميرة. - سميرة؟ من سميرة؟ - سميرة الزوجة التي توفي زوجها العام الماضي وسعيت لها في المعاش. - آه، تذكرت. - تسكن في الدور الثاني. - والرابع؟ - صديقك عبد الكريم أفندي. - آه صحيح، إنما اسمعي. - قول. - أنا لن أتهجم على الناس في بيوتهم. - لا تهجم هناك. - كلمي أنت سميرة هانم والأستاذ عبد الكريم. - من عيني.
وهكذا أصبح الرجل يصعد السلم ببطء شديد. وأصبح يستريح في الدور الثاني عند سميرة هانم، وفي الدور الرابع عند عبد الكريم أفندي.
والعجيب أنه كان يجد نفسه يحتاج إلى راحة أكثر في الدور الثاني من تلك التي يحتاج إليها في الدور الرابع.
والعجيب أن صحته تحسنت تحسنا ملحوظا إلا أن شيئا عجيبا كان يحدث في مشاعره، وما لبث لسانه أن ترجم هذا الشيء العجيب الذي كان يحدث في مشاعره.
فسميرة هانم أصبحت سميرة. يوما بعد يوم خطب الرجل سميرة وتزوجها ... ألم أقل لك إنه شفي تماما. وهل أدل على الشفاء من أنه أصبح زوجا للدور الثاني والدور السادس في وقت معا.
حيرة مع مليم ناقص
كانت المدارس تبدأ قبل أن يجمع الفلاحون القطن، فكان أبي يرسلنا إلى القاهرة ويبقى هو في القرية ليشرف على جمع القطن . وكانت مديرة منزلنا سيدة كبيرة السن وكان زوجها صديقا لأبي، فحين مات عنها عاشت هي معنا ترعى أمري أنا وإخوتي. وكانت مصاريف المنزل ومصاريف أيدينا في يدها. وبطبيعة الحال فرتكت أنا مصروفي في لحظات، وأصبحت يا مولاي كما خلقتني. وجاءني صديقي إحسان عفيفي وهو اليوم الدكتور إحسان عفيفي، وقال إن فيلما جديدا ظهر للوريل وهاردي ومعروض في سينما متروبول، وعملت الحسبة وتبينت أنني أريد خمسة قروش لأذهب إلى السينما وأركب الترام ذهابا وإيابا؛ فتذكرة السينما صالة درجة أولى ثلاثة قروش ونصف القرش والترام ستة مليمات ذهابا ومثلها إيابا ويبقى معي ثلاثة مليمات.
ذهبت إلى أم عبده وطلبت منها القروش الخمسة، وطبعا سألتني فيم تريدها، فقلت لها أشتري كتابا - وكانت بعض الكتب في ذلك الحين تباع بخمسة قروش. وتظاهرت أم عبده أنها صدقت، ونفحتني القروش الخمسة.
بكرنا في يوم الجمعة أنا وإحسان ذاهبين إلى السينما، وركبنا ترام 33 إلى العتبة، ودفع إحسان تذكرة الترام، وحين حاولت أن أحتج قال ادفع أنت لي عند عودتنا، فابتلعت احتجاجي. كنت يومذاك في الابتدائية بمدرسة العباسية. وكان إحسان بالسنة الأولى الثانوية بمدرسة فاروق الأول الثانوية. وهكذا كنت لا أعرف أحدا من أساتذته.
وقفنا عند شباك التذاكر فرأى أستاذا له مع آنسة يقفان عند شباك البلكون، فطار عقله، وهتف بي في جنون فرحان أستاذ الإنجليزي معه واحدة ويقطعان بلكون، لا بد أن نقطع بلكون معهما. - تقطع معهما؟! - نعم. - كيف؟ - كذا. - بكم تذكرة البلكون؟ - بأربعة قروش ونصف. - وكيف أرجع؟ تذكرة الترام بستة مليمات ولن يبقى معي إلا قرش تعريفة. - ولا يهمك. أنا أقطع لك تذكرة الترام.
كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها القلق. قطعنا تذكرة البلكون وظللت طول الفيلم والهواجس تنهش عقلي، وأحاول أن أردها بضآلة الفرق بين ما معي وما أحتاج إليه من أجل تذكرة الترام.
لم أتمتع بالفيلم مع أنه كان من أحسن أفلام لوريل وهاردي. وانتهى الفيلم وأضيئت الأنوار والتفت إلى إحسان. ليس هناك إحسان، امحى. ألغاه الوجود. أصبح كأنه لم يولد. لا إحسان على الإطلاق.
وقفت بباب السينما حتى أغلقوا الأبواب ولا إحسان. ماذا أفعل؟
الأتوبيس بقرش تعريفة، ولكنني ساكن جديد بحي العباسية، ولا أعرف إلى بيتي طريقا إلا من محطة الترام. أما أين ينتهي بي الأتوبيس وكيف أذهب إلى بيتي لا أعرف. مشيت إلى شارع فؤاد لأسأل عن محطة الأتوبيس فوجدتها.
هل الأتوبيس الذي يقف هنا يذهب إلى شارع فاروق؟ - لا، ولكن ترام 33 هو الذي يذهب، ومن محطة الترام هذه تستطيع أن تركبه.
المصيبة أن محطة الترام كانت أمام محطة الأتوبيس مباشرة في شارع فؤاد نفسه. ووجدت نفسي أقول في بلاهة: ولكني أريد أن أركب الأتوبيس. ونظر إلي محدثي يبحث عن لهجة أجنبية في كلامي فلا يجد؛ فليس من المعقول أن يفعل هذا إلا سائح ولست به، لا كلامي ولا منظري يدلان على ذلك طبعا. لم يخطر له على بال أن معي تعريفة وليس معي ستة مليمات؛ فالمليم لا يستطيع أن يكون فرقا بأي حال وعلى أية صورة.
وجدت على محطة الأتوبيس صديقا لي من مدرسة المنيرة، ولكن ماذا أقول له هات مليما. أهذا معقول؟ تواريت عنه حتى لا يراني، وجاء الأتوبيس وركبت وسألني الكمساري: أين تريد أن تذهب؟ - العباسية. - أي عباسية؟ - العباسية القريبة من شارع الجنزوري. - تحتاج إلى قرش صاغ.
مصيبة، لم تقدر على المليم، فكيف تقدر على التعريفة كاملا؟ - اذهب بي إلى آخر محطة يوصل إليها هذا التعريفة. وأدرك الركاب الأزمة، وللأسف لم يكن الأتوبيس مزدحما، فكان كلامي يرن في أسماعهم جميعا. والتفتوا إلى صبي يرتدي من الملابس ما يدل على أنه ميسور الحال وليس معه إلا تعريفة. أي شعب عظيم هذا؟ في لحظة واحدة سرت في الأتوبيس معان كثيرة كلها رفيعة وشريفة وجميلة؛ فأنا عند الكبير منهم ابن وعند الصغير أخ، وتسارعوا جميعا إلي، منهم من يريد أن يدفع لي فآبى خجلا شاكرا، ومنهم من يريد أن يصحبني إلى البيت فيزداد خجلي، وأطلب إليهم في لعثمة أن يدلوني على طريق البيت فقط.
ويصل الأتوبيس عند شارع أحمد سعيد، ويأتي إلي الكمساري أن أنزل هنا، وينزل معي بعض الركاب ويقومون جميعا بإرشادي إلى الطريق.
وأسير وأصل إلى شارع الجنزوري، وألتقي في منتصفه بإحسان عفيفي. عاد إلى الحياة من جديد بعد أن حلت المشكلة، كانت على وجهه ابتسامة معتذرة لا تغني شيئا. - أين أنت؟
واحتجزت دمعي حتى لا يراه، وذهبت إلى البيت، وتلقاني أم عبده. - أنا أعرف أن القروش الخمسة التي أخذتها لم تكن لكتاب. أنت ذهبت إلى السينما.
لم يكن ينقصني إلا أم عبده أيضا. النهاية، ترى هل استفدت شيئا من البحث عن المليم؟ لا أظن.
اثنين فلاج ... وهات مليم
أنا من جيل يشرف اليوم على خمسينات حياته. مظلومون نحن جيل الأربعينيات. ولدنا في أواخر العشرينيات. وحين جاءت الثلاثينيات التي كان الجنيه فيها يشتري عمارة، ويبقى منه ما يشتري بيتا. كنا نحن أطفالا، وكان الحصول على القرش في ذاته عملية تحتاج إلى مناورة ومداورة.
وكنا في هذه السنوات نحب أن نتفرج على السينما. وكان أهم ما فيها حلقات التشجيع تومكس وغيره من مشاهير الأبطال. وكنت أظل الأسبوع كله حريصا أن أبقي على قرش لي وقرش لزميل طفولتي إبراهيم، الذي جاء من البلدة خصوصا ليكون رفيق ملعبي.
ثم نتعرض بعد ذلك للرعب الشديد أن يلحظ أحد تغيبي وتغيبه عن البيت فترة الساعات الثلاث التي نقضيها بالدرجة الثالثة في سينما الأهلي. حتى إذا كبرت بعض الشيء ولم أعد أحتاج لمن يلاعبني دخل إبراهيم إلى المطبخ سالكا طريقه إلى أن يكون واحدا من الطهاة في الأسرة.
وحين ألم بنا الشباب في بواكيره الأولى التقينا به شبابا أسود لا نور فيه؛ فقد أقبلت الحرب العالمية الثانية وأطفئت أنوار القاهرة وأطفئ معها نور شبابنا. ولولا أن رمت بنا الهواية إلى الأدب والقراءة لقطعنا شبابنا فارغا لا تداعبه أي متعة ولا صخب، ولكننا نحن الذين أحببنا الأدب وانصرفنا إلى قراءته وجدنا متعتنا وضجيجنا جميعا في القراءة. وكنا نجتمع في بيت أحدنا نناقش ما قرأنا، ويمتد بنا النقاش حتى الوهن الأخير من الليل، فنقوم إلى بيوتنا وننقلب إلى أهلنا وقد أوهمناهم أننا كنا نذاكر.
وفي ليلة سهرنا في بيت صديقنا الأستاذ عثمان نويه الذي كان بمثابة الأستاذ لنا، ولكن حبه للأدب كان يجعله يشاركنا في حديث طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد والدكتور حسين هيكل، تاركين مربع أرسطو والمنطق والفلسفة والجغرافيا.
وأوغل بنا الليل والوقت صيف والنسمة رخاء، وقمنا وقام معنا صاحب البيت للمشي على غير هدى.
ولم أجد معي سجائر. وقد كان العثور على سجائر في هذه الأيام ضربا من المعجزات؛ ولهذا ظللت بخيلا بها حتى اليوم.
ووجدت دكانا يتخفى وراء الظلام ينير مصباحا خجولا يحوطه بأسطوانة ورقية من بقايا علبة سجائر قديمة. وكان باب الدكان لا يزيد عن ربع ضلفة من ضلف الأبواب العادية. - عندك سجاير نمرة ثلاثة؟ - لا. - عندك بحاري؟ - لا. - كرافن إيه؟ - لا. - ملك مصر أو سفير. - لا.
وانغمست في حديثي مع صاحب الدكان ونسيت أمر من معي، حتى وجدت يدا تنبعث من الظلام تحمل نصف قرش وتضعه على منضدة البائع لتقول في حسم: اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.
أدرك الأستاذ عثمان أنني أحادث الرجل بلغة لن يفهمها؛ فلو كان عنده شيء مما ذكرت لما سهر إلى آخر الليل ليهتبل ربحا لن يزيد عن ملاليم. وأراد الأستاذ عثمان أن يعلمني اللغة الصحيحة التي يمكن أن يفهمها. اثنين فلاج وهات مليم؛ أي إنه يعرف الثمن تماما. وقد تعلمت الكثير من هذه الجملة البسيطة التي طالما ضحكنا منها بعد ذلك.
لمن أتكلم وماذا أريد أن أقول وكيف أصل بما أريد إلى فهم من أكلمه؛ تلك هي مشكلة المشاكل أمام الكاتب أو المتحدث.
تستطيع أن تكون أستاذا عظيما في الأدب، ولكن هذا لا يجعلك بالضرورة تعرف اللغة التي تخاطب بها من تخاطبهم؛ فهناك كلام يقال في المدرج بأسلوب معين، وألفاظ بذاتها. وهناك كلام يكتب في المجلات المتخصصة. وهناك كلام يكتب للجرائد اليومية. وهناك حديث خاص للندوات العامة. ومعرفة كل مجال وما يتطلبه من كلام هو الأساس الذي نستطيع به أن نصل إلى الناس .
ولكن كثيرا من الأساتذة يكتبون في الجرائد اليومية ما لا تحتمله إلا المجلة المتخصصة، وكثير منهم يكتب في الكتب كلاما لا يسوغ إلا في الجرائد اليومية. وتختلط الأمور عليهم وعلى قرائهم ويقعون في أحابيل «الأستذة»، ويقع الجمهور في أحابيل الخوف من التصريح بعدم الفهم، حتى لا يقال عنهم جهلاء، ويصبح الكلام في الهواء لا قيمة له، ولا يجد له فاهما. كم يحتاج الأساتذة إلى عثمان نويه ليقول لهم اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.
لم يتسع الوقت
حين تقرر أن يسافر إلى السعودية لأعمال الشركة البولندية التي يعمل بها لم يفكر في شيء آخر إلا أن يزور الأماكن المقدسة ويطوف حول الكعبة المكرمة ويقف أمام شباك النبي.
ولم يكن توقه إلى العمرة عن أي شعور بالإيمان، بل كان كل ما يفكر فيه هو تحدي هذه الرواسب التي تسيطر على أفكار المسلمين، والتي يرى أن انصياعهم لها ما هو إلا تعلق ببقايا الأبوة وعهود الصبا والطفولة.
وكان واثقا أن الإنسان المتحضر لا يمكن أن يؤمن بفكرة الدين أو التعلق بأوهامه.
وهو واثق من نفسه وأفكاره قد ازداد بها وثوقا حين اختار المذهب الشيوعي مذهبا وانسلك في قالبه، وواجه كل ما واجهه أصحاب المذهب من عقاب، كما نال كل ما ناله هؤلاء من ثواب.
والوظيفة التي يرتع فيها الآن ما هي إلا نهلة من فيض البحر الذي انسكب على أبناء مذهبه؛ فما كانت الشركة البولندية لتعينه لو لم يكن شيوعيا غارقا في الشيوعية، وهب لها نفسه وإلحاده، ويقدم إليها أيضا فقره لترده عليه غنى ووفرة ورفاهية ورخاء.
وقد استطاعت الشيوعية أن توفر له ما لم تسطع الرأسمالية أن توفره لأحد من أمثاله؛ فسيارته كاديلاك من آخر طراز. نعم السيارة رأسمالية ولكن ما دام الشيوعي قد استخدمها فإن سيارته هذه الكاديلاك بالذات تصبح شيوعية.
ومنزله من أفخم منازل الزمالك، وأثاث بيته غالي الثمن غلاء فاحشا. ولا يهم من بعد إن كان يتسم بالذوق السليم أو لا يتسم، ما يهمه أن يكون غالي الثمن .
أما ملابسه فهي في الحق مضحكة؛ فإنه فيما يبدو مصاب بعمى الألوان، فتراها تختلط على جسمه كقصة غير معقولة، أو كموسيقى صاخبة يعزفها قوم لا قائد لهم ولا نوتة تجمع بينهم. ولكن كل وحدة من وحدات ملابسه ثمينة في ذاتها. واضح أنه بذل المال الكثير فيما يركب أو يسكن أو يلبس.
وكان يتيه دائما بين الناس بأنه لا يمد يده لأي دولة شيوعية، وأنه شيوعي بالمبدأ لا بالجيب. وهو بطبيعة الحال يرى وظيفته هذه التي يشغلها والتي تسكب عليه المال حقا طبيعيا له لا صلة لها بالشيوعية.
هو يرى ذلك أمام الناس حين يخاطبهم، ولكنه في دخيلة نفسه يعرف تماما أنه لو لم يكن شيوعيا لما زاد دخله عن دخل زملائه الذين تخرجوا معه، والذين يعجز مرتبهم أن يطاول عشر مرتبه.
هو واثق كل الوثوق أن ذلك الخير الذي يمرح فيه سببه الوحيد الذي لا سبب غيره أنه شيوعي، ويعلم أن الكلية التي تخرج فيها قد منحت الحياة الآلاف من أمثاله، أغلبهم أكثر منه علما ودربة على العمل وإتقانا له.
ولكن الشيوعيين وحدهم من هؤلاء الآلاف هم الذين يستطيعون أن ينالوا ما تهبه له الحياة من حظوة. وأصحاب الجرأة فيهم هم الذين يستطيعون أن يواجهوا الناس أنهم لا يمدون يدهم لأي بلد أجنبي. وهو من أصحاب الجرأة هؤلاء.
حين نزل إلى جدة قصد فندق الرياض؛ حيث كانت شركته قد حجزت له حجرة فاخرة ذات غرفة ملحقة وتلفزيون. وبعد أن أودع الحجرة حقيبته ونظر إلى المرآة واطمأن على القصة غير المعقولة التي يضعها على نفسه نزل إلى بهو الفندق ينتظر أصحاب العمل الذي جاء من أجله.
ولكنه فوجئ بصديقه رفعت جالسا في البهو. - أنت؟ أنت في السعودية؟ - عمل. - فقط؟ - طبعا سأعمل هذه العمرة التي تحكون عنها في دينكم. - وأنت؟ ألك دين آخر؟ - أنت تعرف. - فعلا، أنت مسكين. أنت بلا دين على الإطلاق. - أحمد الله على ذلك. - بل احمد الشيطان إن شئت. - المهم أنت ماذا تفعل هنا؟ - أنا جئت من أجل هذه العمرة التي نؤمن بها نحن المسلمين. - وهل قمت بالعمرة؟ - ليس بعد. أنا على موعد مع الأصدقاء أن نقوم بها. - أذهب معكم. - ألا تخاف؟ - أخاف مم؟ - ألا تخاف أن تؤمن؟ إن للكعبة روعة، وإن لقبر الرسول ضياء لا تراه العين، وإنما ينفذ إلى القلب وإلى حنايا المشاعر، فيرج الإنسان رجا عميقا، وترى روحك حلقت إلى عليين تطوف مع النبي في رحلة آخر دين أرسل إلى الناس وتراه معذبا في سبيل عقيدته، ثم تراه في خطبة الوداع أتم دينه وبشرنا أن الله رضي لنا الإسلام دينا، يخطب في أصحاب حجه؛ إن دماءكم وأموالكم حرام بينكم حرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في عامكم هذا.
ويهتف بهم وهو يختم رسالته إلى البشرية: اللهم هل بلغت؟ ويصيحون: نعم. ويهتف مرة أخرى: اللهم فاشهد.
أتحتمل هذا جميعه؟ - قد لا يحتمله السذج من أمثالك، أما أنا فأحتمله. إني واثق. - لكم أخشى أن أجدك أكثر سذاجة مني ومن أصحابي المؤمنين. - لقد جربت نفسي مع الإيمان. - حقا؟ - ووجدت نفسي غير قابل للإيمان على الإطلاق. - هل أنت واثق؟ - كل الثقة. - وكيف عرفت؟ - تعرضت لمحنة فلم أذكر الله. - ما نوع المحنة؟ - هل يهمك هذا؟ - كل الأهمية. - كنت راكبا سيارتي وغفت عيني لأجد نفسي غائصا بسيارتي في الماء. حاولت أن أفتح باب السيارة فاستعصى علي. ورحت أحاول وأنفاسي تختنق بي تشدني إلى الموت في جذب آسر عنيف، ولم أجد أمامي إلا أن أحاول الخروج من شباك السيارة، فرحت أدفع جسمي خلاله دفعا، ثم لم أدر بعد ذلك من أمر نفسي شيئا. - أنقذت وأنت مغمى عليك؟ - نعم. - ومتى كنت تريد أن تذكر الله؟
إننا نحن المؤمنين نذكر الله حين نصبح عاجزين؛ فإن الله يأمرنا أن ندبر نحن أمر أنفسنا ونتوكل عليه ولا نتواكل.
وقد كنت أنت مشغولا بإنقاذ نفسك وحين جاءت اللحظة التي يجب أن تقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كنت مغمى عليك. يا صديقي، إن هذه التجربة لا تصلح دليلا تطمئن إليه أنك محصن ضد الإيمان. - أترى ذلك؟ - لا شك في ذلك. هيه، أتأتي معنا؟ - لا، سأذهب وحدي.
وأثار الحديث الكثير من الوساوس في ضميره. ما مصيري إذا اهتزت مشاعري من الإيمان، واستيقظت من سباتها تلك البذرة القديمة التي ألقى بها في نفسي أبواي، وسقتها البيئة والتقاليد وتاريخ أجدادي الطويل ذاك في ظل العقيدة.
وما البأس أن أومن وأظل في عملي؟ هراء. إن عملي متوقف على إلحادي. ولماذا ألقي بنفسي إلى صراع أنا في غنى عنه؟ وما لي لا أبعد مشاعري عن هذا الامتحان؟ قد أجوزه وأظل على إلحادي، أو قد أرسب وأعود إلى الإيمان، ويومئذ وداعا للكاديلاك، والملابس الأنيقة والعيش السعيد.
وبعد أيام التقى الصديقان في بهو الفندق. - أراك تنهي إقامتك بالفندق. - عائد إلى بيتي. - هل أديت العمرة؟ - لم يتسع الوقت.
الألغوزة
حاول الكثيرون من الناس أن يرضوا كل الناس فكان نصيبهم الفشل الذريع. كان بعض أولئك المحاولين من أصحاب المناصب. وكان بعض منهم آخر من أصحاب الأقلام. وكان بعض آخرون لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، ولكن الأمر الغريب أن جميعهم على اختلاف أماكنهم أصابهم الخذلان كل الخذلان والفشل غاية الفشل.
فإنه لم يحدث في تاريخ أمة ولا في تاريخ العالم أن أجمع الناس على رأي واحد؛ ولذلك لم يكن عجبا أن يسخر الساخرون من التسعات المتلاحقة التي كانت تظهر في نتائج الاستفتاءات التي كانت تجرى في مصر.
فإنه لا بد أن يكون كل إنسان صاحب رأي، فإن حاول أن يموه في هذا الرأي ويخادع الناس عنه أدرك الناس بحسهم الملهم الموهوب أن المتحدث إليهم لا يحادثهم من قلبه، وإنما يحاورهم بمنفعته ولسانه في وهم منه ساذج، أنه قادر على أن يدخل في روع الناس أنه صادق ولكن هيهات.
الرحاب الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يرضيه هو رحاب الله، وفي هذه الساحة القدسية لا يستطيع إنسان ما مهما يكن يظن نفسه عبقريا أن يميل عن الحق قيد شعرة؛ فهناك الذي يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وكلما كان الإنسان غبيا ظن أنه يستطيع أن يماكر رب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي خلقهم وملكهم بكل خلجة من خلجاتهم، وكان معبودهم الذي لا معبود لهم غيره.
وهكذا إذا كان الإنسان جديرا بأن يكون إنسانا تحتم عليه أن يصدق الله فيما يقول أو يفعل، وهو لن يكون صادقا مع ربه إلا إذا كان صادقا مع نفسه، يقول رأيه الذي يعتقد ثم يتوكل بعد ذلك على الله. وليكن على ثقة أن رأيه هذا سيغضب قوما ويرضي قوما آخرين. ومن لا رأى له قيمة له. وما دام صاحب رأي فلا بد أن يكون هناك رأي آخر يعارضه.
لعلك سائل نفسك فيم هذه المقدمة الطويلة، ولعلك أدركت فيم أسوقها.
لقد تم تعديل في الوزارة وهي الهيئة التنفيذية للدولة، فإذا حاول الوزراء الكثيرون الذين بقوا أو الوزراء القليلون الذين وفدوا على المنصب أن يرضوا الشعب جميعه على حساب الشعب فإنهم بهذا يكونون أشد خصومة لأنفسهم من المعارضين. إنما ينبغي أن يراعوا الله في كل ما يصدرون عنه، وأن تكون أعينهم مثبتة على المصلحة العليا للبلاد. وقد يؤدي هذا بهم إلى إغضاب بعض فئات، ولكنهم إذا توخوا الرأي السديد واستشاروا أصحاب الضمائر النقية والعلم الثابت والرأي النزيه فإنهم لا شك سيرضون الأغلبية، والأغلبية هي مصر، ولن تكون الأغلبية في يوم من الأيام قلة هنا أو جماعة ضئيلة هناك.
فكم يحز في نفوسنا نحن المصريين أن نجد الحمير تسير وهي تحمل أبشع ما تراه العين، ونسأل، وإذا الجواب أن أصحاب الحمير سيغضبون، وكم يحز في النفس أن نسمع أن العامل المصري لا يعمل أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات، وعمال العالم الغني يعملون ثماني ساعات. وكم يحز في نفوسنا أن نرضي القلة على حساب الكثرة، لا لشيء إلا لأن أصحاب السلطة التنفيذية ينظرون إلى الأفراد ولا ينظرون إلى المجموع. وهيهات لمن كان هذا شأنه أن يصل إلى ما ينشده من نجاح أو فلاح.
وإنه ليملأ النفس حسرة مريرة قاتلة أن نجد الحكومة تدعم السجائر وتيسر للناس أن يشربوا السجائر بمعونة من الشعب الذي لا يشرب، وتكون النتيجة العجيبة المحزنة المخزية أن يقدم العاقل الذي لا يدخن عونا للمستهتر الذي يدخن - وعلى فكرة أنا للأسف أدخن وإن كنت قليل التدخين - ولكن لا أستطيع على أي عرف وتحت أي مذهب ولا بأي منطق مهما يكن معوجا أن أتصور أن يشرب الإنسان سما تعينه الدولة على شربه وتكون الحجة أن في هذا تخفيفا عن الناس! على أي ناس يقع هذا التخفيف؟ على قوم يقتطعون من أقوات عيالهم ليحرقوا صدورهم. ويا ليتهم يفعلون ذلك من حر مالهم أو من مال الوزير، وإنما هو من مال الشعب الكادح الذي يتعب ليأكل أطفاله، وإذا الأمر يتضح أنه يتعب لكي يدخن الآخرون كدحه وكده وشقاءه وتعبه.
ولما كانت بعض المصائب تدعو للضحك بل يقولون إن شر المصائب هي تلك التي تضحك، فإننا نجد السجائر مكتوبا عليها أن ضررها وبيل وخطير.
ومضحكة أخرى أنهم منعوا الإعلان عن السجائر في التليفزيون، وهكذا أصبح الأمر مجموعة من المتناقضات كلها يضحك وكلها يبكي في وقت معا.
فبدلا من أن أتقاضى من الشركات الأجنبية أموالا تنتفع بها الدولة لأعلن عن سجائرهم، أمتنع عن ذلك محافظة على صحة الشعب.
فأنا إذن رفضت المال في سبيل صحة الشعب، وهذا شيء رائع عظيم.
ولكن الدولة نفسها التي صنعت هذا، والتي تعففت في اعتزاز الحريصين على مصالح شعبهم، تبيع للشعب نفسه وليس لشعب عدو، ولا لشعب آخر سجائرهم مدعومة بأموال الشعب.
إنني أتحدى أي اقتصادي أو عالم اجتماعي أو طبيب أو إنسان يستقيم فكره بعض الاستقامة أن يشرح لي هذه الألغوزة التي تتشابك سوانحها وموانعها وبلواؤها وأضاحيكها بهذه الصورة التي لا صلة لها بعقل آدمي.
ونسمع عن شركات أجنبية عرضت أن تقوم بأعمال النظافة في مصر، فإذا بمن يقول إن هذا تدخل أجنبي. وتلك عجيبة من عجائب الزمن يزيدها سخرية أن نجد المطار قد عهد في نظافته إلى شركات أجنبية.
أيكون المطار ليس مصريا، أم هو ذلك الرعب من أصحاب الحمير حاملي القمامة؟
إن الشعب إذا لم يشعر أن حكومته رشيدة، وأنها تصدر في كل ما تفعله عن الرأي السديد الذي يؤدي إلى المصلحة العليا استهان بها، وويل لحكومة يستهين شعبها بها.
ولقد رأيت السعودية وهي تعهد لشركات أجنبية لتتولى النظافة فيها، وشهدت النجاح الباهر الذي حققته تلك الشركات. وما سمعنا أن هناك غزوا حدث من هذه الدول للسعودية. وبعد؛ فكل هذا الذي نقول قديم، والذي لم نقله أكثر مئات المرات، ولكن ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! وقد تعدلت الحكومة فمن حقها علينا أن نذكرها ببعض ما نفكر فيه، ومن حقنا عليها أن تكون صادقة مع ربها ونفسها لتكون صادقة مع شعبها. وأذكر قول الشاعر:
منى إن تكن حقا تكن أعذب المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
لا يشبهه جيل
رحم الله العقاد الشامخ. كانت له جوامع الكلم في شعره، إلى جانب مكتبته العملاقة التي أفاضت على العالم العربي علما أصيلا وعمقا وتحليلا لم تعرف لهما العربية من قبله مثيلا. أذكره اليوم باكيا عليه في ذاكره، وأذكره اليوم وأنا أقرأ كتابا جليلا للأستاذ صبري أبو المجد عن أحد الشامخين من رجال ثورة 1919، هو الأستاذ أمين الرافعي. وقد وثبت إلى ذهني وأنا أقرأ الكتاب أبيات العقاد الخالد وهو يرثي أحد أعلام ثورة 1919 فيقول:
سلوا الأوطان ينبئكم
بما يعلمه النيل
يحيي ناصر المصري
والمصري مخذول
وأول رافع صوتا
وسيف الحرب مسلول
له في برها جيش
كجيش النمل موصول
وفي البحر أساطيل
وفي الجو أبابيل
إذا لم ينعه الأحيا
ء والدنيا أباطيل
نعاه في العزيزي
ة مدفون ومجدول
وجيل في حمى التاري
خ لا يشبهه جيل
ألا ما أصدق العقاد! أي جيل ذاك الذي أنبت كل هذه الأشجار السامقة الوارفة؟ اختر أي ميدان شئت وانظر تجد جيل أمين الرافعي هو علمها ومنارتها وجبالها الشماء وروحها ونبضها. لقد أذكى فيهم الاحتلال روح التحدي، وصمموا أن يصيحوا في وجه المحتل بعلمهم لا بصوتهم. اخرج من بلادنا فما نحن بحاجة إلى حضارتك؛ فنحن أعمق منك في أغوار التاريخ حضارة، وما نحن بحاجة إلى علمك فنحن قادرون على أن نكون أعظم منك علما وفنا وثقافة. والعجيب أنهم أثبتوا القول بالعمل وبلغوا ببلادهم وهي في ظل الاحتلال وفي فترة قصيرة ما تتقاصر أن تبلغه كثير من الدول الحرة وإن تطاولت بها السنون.
وقد كان أمين الرافعي واحدا من هذا الجيل المذهل، والحقيقة أن سني لم تسمح لي أن أعرف الرجل، ولكنني نشأت وأنا أسمع أبي يمتدحه بما لم يمدح به إنسانا آخر؛ فقد كان رحمه الله يرى فيه مثلا أعلى في الرجولة والوطنية وشرف الكلمة وعمق الرأي والزهد في الدنيا، والوقوف إلى جانب الحق وإن كان الموت هناك له بكل مرصد.
وقد جاء كتاب الأستاذ صبري أبو المجد مفصلا لما كان يجمله رأي أبي. وقد كتبه في لغة أخاذة وفي استطراد مشوق، فنجد الأحداث فيه يأخذ بعضها برقاب بعض في غير عنت عليك، وفي تعمق للأحداث حتى يبلغ من حقائقها أقصى ما تستطيع أن تعطي.
يغري بعض الناس صحفيا ممن كانوا يعملون بجريدة الأخبار أن يذهب إلى دار السفارة البريطانية ليحصل على أخبار السودان. ويذهب مندوب الأخبار ويقول إنه قدم بطاقته ليدخل إلى السكرتير الشرفي بها، فإذا هو يقدمه على كل الصحفيين الآخرين. ويروح السكرتير يطري الرافعي وينوه بشرف خصومته، ثم يسأل الصحفي عما يريده فيخبره، فيقول له إذن أنت تريد أخبارا. - نعم. - ولكنك مراسل جريدة خصيمة عنيدة تتهم الإنجليز بأنهم كلاب قذرة، ونحن لا نعطي هذه الأخبار إلا للصحف الموالية لنا، فهل لك وقد جئت إلى دارنا أن تبلغ الأستاذ الرافعي أن هذه العبارة التي كتبها إبراهيم عبد القادر المازني تستحق الاعتذار حتى لا تتعرض الأخبار للمحاكمة.
ويخرج صحفي الأخبار ويبلغ الرافعي رئيس التحرير بما كان من أمر السكرتير الشرفي، فإذا الرافعي يبدأ حملة جديدة أشد في ألفاظها وأقسى من السابقة، ويقول فيها بمنطق لا يقبل الجدل: «إن الإنجليز يرون في الكلمات شيئا يستحق المحاكمة، ولا يرون في ضرب الأبرياء الآمنين السودانيين ما يستحق المؤاخذة.»
وفي عام 1914 يشعر الرافعي أن إنجلترا ستعلن الحماية على مصر، وأنها ستمنع الخديو عباس حلمي الثاني من العودة إلى مصر، وأنها تستعين بدلا منه بالأمير حسين كامل. وكان من الطبيعي أن يدرك أن قرار إعلان الحماية لا بد من نشره في الصحف عند صدوره بسبب وجود الأحكام العرفية والرقابة على الصحف. وينتظر الرافعي إعلان الحماية، وقد بيت أمرا؛ فما إن صدر الإعلان حتى أعلن هو إغلاق جريدة الشعب التي كان يصدرها حتى لا ينشر هذا الإعلان في جريدة مصرية تحمل اسمه. ويصف الدكتور عبد العزيز رفاعي هذا القرار في كتابه ثورة مصر سنة 1919 بقوله: إن قرار أمين الرافعي بوقف إصدار جريدة الشعب هو أول احتجاج مصري على الحماية البريطانية.
وهكذا كان الرافعي بذلك هو صوت مصري احتج على إعلان الحماية البريطانية، وكان من الطبيعي أن يكون من أوائل المعتقلين.
وفي أثناء ثورة 1919 يقول الأستاذ صادق عنبر عن دور أمين الرافعي في لجنة الوفد المركزية: بقي أمين يدير دفة الحركة الوطنية في لجنة الوفد المركزية التي كان روحها وقوامها، فكان يحرر قراراتها ونداءاتها، ويدير حركاتها لمصلحة القضية الوطنية بإخلاص ونزاهة، وهو الذي كتب المقالات الشهيرة الوطنية «ديننا والاستقلال» هاتفا باسم أحد أعضاء الوفد سنة 1919 وسنة 1920 فأحدثت تأثيرا كبيرا في الرأي العام، وهو أول من دعا إلى مقاطعة لجنة ملنر في أنحاء القطر المصري، ووافقه الوفد على فكرته، فكانت هذه الحركة موضع إعجاب العالم بما أظهرته الأمة من الاتحاد وتماسك الصفوف وصدق النظر. واستأنف جهاده في الصحافة بإصدار جريدة الأخبار، فنالت من المكانة لدى الجمهور ما كان للشعب واللواء من قبل.
ويقول الأستاذ أحمد وفيق: ما كان أمين الرافعي في أثناء وجود الوفد في الخارج إلا محور اللجنة المركزية ومديرا لدفتها وقائدها الأعلى إلى الأمام، ودائما إلى الأمام في سبيل التمسك بالحق الكامل لمصر.
وبعد فإني أهنئ الأستاذ صبري أبو المجد لاختياره هذه الشخصية الرائعة لكتابه العظيم، ولو كان الفنانون السينمائيون مصريين حقا لأرخوا لتاريخ مصر بهؤلاء الأعلام الأفذاذ وليس بتاريخ المواخير ورائدات الفجور عفا الله عنهم وعنهن . ولست بمستطيع أن أختم مقالي هذا ولا أذكر أبيات أمير الشعراء في رثاء أمين الرافعي:
يا أمين الحقوق أديت حتى
لم تخن مصر في الحقوق فتيلا
ولو اسطعت زدت مصر من الحق
على نيلها المبارك نيلا
تنشد الناس في القضية لحنا
كالحواري رتل الإنجيلا
ما تبالي مضيت وحدك تحمي
حوزة الحق أم مضيت قبيلا
ويقول فيها:
أخذ الموت من يد الحق سيفا
خالدي الغرار عضبا صقيلا
من سيوف الجهاد فولاذه الحق
فهل كان قينه جبريلا
لمسته يد السماء فكان ال
برق والرعد خفقة وصليلا
وإباء الرجال أمضى من السي
ف على كف فارس مسلولا
ألم يقل لك العقاد إنه جيل لا يشبهه جيل.
هذه الجدران
الأمر الذي لا شك فيه أن صوتي جميل غاية الجمال؛ فأنا أستطيع أن أرفعه حتى أبلغ به عنان السماء، وأستطيع أن أوشوش به كعاشق يلقي بكلمات الشوق والهيام إلى محبوبته.
وإذا أنا ارتفعت به أطربت وأشجيت وجعلت الحجارة الصماء تتفطر من الإعجاب والتفرح والهناء. وأنا إذا شوشت أسمعت وبلغت ما أريد أن أبلغ من القلوب مهما تكن قلوبا غلفا عليها أقفال.
هكذا خلقني ربي؛ فالصوت الجميل موهبة ليس ينالها أحد إلا بأمر السماء. وقد أمر سبحانه فكنت. ولا راد لأمره، ولا معقب على مشيئته.
ولكن الإنسان الذي ينسكب عليه فضل السماء مكتوب عليه أن يصبح مثار أحقاد البشر ممن لم ينعم الله عليهم بسابق نعمه.
ولو تمثل هذا الحقد في النيران التي تلتهم قلوب الحاقدين لهان الأمر، واستمتعت به متعتي بجمال صوتي وبروعته، ولكن الحقد عند الحاقدين علي يتمثل في سلاح قتال يكاد يقضي على مستقبلي جميعا؛ فالحاقدون يقفون حائلا بيني وبين الناس، فلا يسمعني أحد لأنهم لا يسمحون لأحد أن يسمعني. ربما سألت نفسك الآن: ما دمت لم تسمع أحدا صوتك فمن أين جاءتك هذه الثقة أن صوتك جميل؟ ولكن يا صديقي الثقة تنبت في النفس كالشجرة المباركة، لا تعرف من أين نبتت ولا كيف تشاهقت غصونها وطاب ثمرها واشتدت ساقها، وضربت جذورها في أعماق الأعماق.
وهكذا هي ثقتي بنفسي. هي ثقة مؤيدة بروح القدس، وما لها من نهاية وليس في يقينها ذرة من شك.
ولقد تواضعت وذهبت إلى بعض هؤلاء الذين يطلقون عليهم كبار الملحنين، وما كنت في حاجة إليهم لأنني ألحن أنا لنفسي أغنياتي، وأنا أيضا الذي أكتب كلماتي، ولكن لا بد لي أن أتواضع حتى أقيم صلة بيني وبين هؤلاء الذين أخذوا مكان الصدارة في الأغنية العربية في حين غفلة من الزمان. ذهبت إلى الملحن الكبير سعيد زياد: أريدك أن تضع لي لحنا يا أستاذ. - هكذا مرة واحدة. - ومستعد أن أعطيك أجرك مضاعفا.
فقد فاتني أن أقول لك إنني موفور المال، والغناء بالنسبة لي ليس مصدر رزق وإنما هو إعلان لفضل الله علي. وأنا أيضا لا تهمني الشهرة. كل ما في الأمر أنني واثق من جمال صوتي وأريد أن أمتع الناس ولا أرجو منهم جزاء ولا شكورا.
ولكن الغريب أن الملحن المرتزق قال في كبرياء وتعال: أنا يا ابني لا ألحن لأي أحد. - كيف؟ - لا بد أولا أن أسمعك. - تسمعني إن شاء الله. - وأريد أن أعرف ما هي ثقافتك الموسيقية. - ثقافتي، لماذا؟ - ألم تسمعني؟! - المدهش أنني سمعتك. - وما وجه الإدهاش فيما سمعت؟ - الكلمة غريبة على أذني. - كيف؟ - الذي أعرفه أن الصوت موهبة. - هذا حق، ولكن الموهبة لا بد أن تثقف. - وكيف تثقف الموهبة؟ - بالدراسة. - هل يدرس الغناء؟ - كما ندرس الموسيقى. - ولكنني أنا أغني وألحن وأؤلف الأغاني بغير دراسة. - هكذا بعلم لدني؟! - بعلم لدني أو لدنك لا أدري، وإنما أنا أغني وكفى. - غن.
وما كدت أكمل الكوبليه الأول حتى وجدت الملحن يثور بي ثورة شيطانية. - قم. امش. ملعون أبوك وأبو من قال لك إنك تغني.
وتمالكت نفسي. - لا أسمع صوتك، قم امش.
وحاولت أن أقول شيئا فعاجلني: ولا كلمة، اخرج.
وحين خرجت رجعت إلى نفسي، ما الذي جعل هذا الرجل يثور هذه الثورة المحمومة، أنا أعلم أن صوتي جميل، ولكن لم أكن أعلم أنه جميل إلى هذا الحد. لقد أفقد الرجل عقله واتزانه. وما ثورته هذه إلا رعبه وهلعه أن يصل صوتي إلى الآذان بلحن من ألحاني فيصبح هو ضائعا لا قيمة له؛ فإني واثق أن الجمهور إذا سمع صوتي فسينصرف عن كل الأصوات الأخرى وسيرفض ألحان جميع الملحنين، فلم يكن عجيبا إذن أن يثور الملحن هذه الثورة، بل كان العجيب ألا يثور.
حاولت أن أتقدم للإذاعة، وذهبت إلى هناك وسجلت اسمي ضمن من يرغبون في اختبار أصواتهم. وتحدد الموعد، وذهبت فيه. ما هذا؟ إن اللجنة جميعها من الملحنين والمغنين. قلت: لعل الجماعة تكون أكثر عدلا من الفرد. وغنيت. أكملت الجزء الأول من الأغنية، وقيل لي كفى. وظهرت النتيجة؛ لا يصلح. عجبت! ثم سرعان ما زال عجبي، وعجبت من نفسي. كيف ظننت أن أجد العدالة عند هؤلاء؟ كيف توهمت أن أجد العدل عند الجماعة حين أفقدها عند الفرد؟ وهل الجماعة إلا مجموعة أفراد؟
إن كل ملحن من هؤلاء أدرك بخبرته السر الإلهي الذي أتمتع به ملحنا ومغردا. ضاقت بي المسالك ولكنني أبيت لظل من الشك أن يتسرب إلى يقيني أنني أتمتع بأعظم موهبة موسيقية عرفها التاريخ.
فكرت أن أذهب إلى شارع محمد علي؛ فقد رأيت في أفلام مصرية كثيرة أن أغلب المشاهير من المطربين بدأ حياته هناك.
ظللت أتردد على مقاهي الشارع الضيق حتى كان يوم جلست إلى أحد المقاهي وسمعت جاري يقول لرفيق جلسته: ألا تعرف لي مغنيا لاطشاه الشمس يحيي لي فرح الليلة؟ - ماذا؟ أنت الذي تسأل هذا السؤال؟ وكل المغنين الذي لطشتهم الشمس صبيانك. - كثرت الأفراح وكلهم الليلة مرتبط. - إذا كنت لا تعرف فلا تنتظر أن يعرف أحد. ودون ريث تفكير قلت بصوت مرتفع: أنا.
ويبدو أن جاري لم يتصور أن الكلام موجه إليه فراح يكمل حديثه. - أي مطرب حتى وإن لم يطرب. وصحت من جديد: أنا. أنا يا أستاذ.
والتفت إلي جاري وقال: أتكلمني يا أخ؟ - نعم يا أستاذ. - أنت تغني؟ - أنا مطرب لا مثيل له، لا ينقصني إلا الجمهور. - وأنا عندي الجمهور. - ألا تسمعني؟ - أسمعك في الفرح إن شاء الله. - أمرك.
وذهبت إلى الفرح. كان في شقة ببيت قديم بحي شبرا، ولكن أصحاب الفرح أقاموه في سطح المنزل. وكان السطح كبيرا مزدحما بالناس من شتى الأعمار. ويبدو أن صاحب الفرح كان من مدمني الشرب؛ فالخمر الرخيصة متناثرة بقوة على الموائد، والحضور يتوقون إلى السرور فهم على استعداد أن يختلقوه اختلاقا إن لم يتوافر لهم.
وهكذا كان استقبالهم للراقصة رائعا فالأصوات جئير وصراخ. وأغلب الظن أنها كانت أصوات الحيوان في الإنسان كشفها سعار الخمر فانفجرت زئيرا أو نهيقا أو عواء، أيها شئت؛ فكلها أصوات حيوان.
وأعقبها الفتى الذي يلقي المنولوجات والنكات، وقد كان استقباله مزيجا من السرور والغضب؛ فقلما ترضي النكتة جميع المستمعين لها، وخاصة إذا كانوا جمعا حاشدا وجمهورا غفيرا، ولكن على أية حال مر الأمر بسلام، وانتهى المنولوجست من نمرته ونزل دون أن تحدث خسائر في الأرواح.
وقدمني متعهد الحفل بالموسيقار العبقري وصاحب الصوت الملائكي. وراحت الفرقة تعزف الموسيقى التي اتفقت معها عليها وبدأت الغناء.
لم أكد أغني البيت الأول حتى سمعت صياحا في السطح جميعا. إعجاب لا شك. هدأ الصياح قليلا ... ليرتفع صوت منفرد: أضعت الكاسين، الله يخرب بيتك.
قلت في نفسي إنه إما ملحن أو مطرب يحقد علي. ومضيت في الغناء وإذا صوت آخر: أهذا كلام؟ أدعينا هنا لكي نتهزأ؟
وتصورت أن الكلام موجه إلى شخص آخر، ولكن ما هي إلا لحظة حتى رأيت الكراسي تتطاير في الهواء، وقبل أن أرى وجهتها غبت عن الوعي.
أفقت على المقهى الذي التقيت فيه بالمتعهد، ولم يكن أحد معي لأسأله ما الذي حدث. ولكني أدركته.
لقد خرج الناس عن وقارهم، وأصابهم صوتي بالنشوة المجنونة العارمة فراحوا يقذفون في الهواء كل ما تصل إليه أيديهم، وكانت الكراسي أقرب شيء إليهم. ولم يدركوا في غمرة السعادة التي داخلتهم من غنائي أنهم قد يصيبون مصدر السعادة نفسه، فهوت الكراسي على رأسي ورءوس العازفين لي.
وانتهز المتعهد فرصة الغيبوبة التي أسلمتني إليها الكراسي التي هوت على رأسي فألقى بي على المقهى حيث لقيني أول مرة وتخلص مني. وأنا لا يهمني المال، ولكنني كنت أرجو أن يكون إعجاب الناس بي أقل مما كان حتى يقبل وكلاء الفنانين الاتفاق معي وأصل إلى الناس وأمتعهم. هذه القصة التي لم يعرفوا لها مثيلا في حياتهم، ولن يعرفوا.
والآن ماذا أنا صانع، وما سبيلي الذي ينبغي علي أن أتخذه حتى أحقق هذه الأمنية التي وهبت نفسي لها؟
انطويت على نفسي وعيناي تراقبان في حدة الأخبار الفنية. رحت أقرأ أنباء الحفلات بعيني نمر متربص لا يفوتني من أمرها شاردة ولا واردة، حتى كان يوم قرأت في جرائد الصباح أن النادي الرياضي سيقيم حفلة غنائية بمناسبة فوزه بالكأس، فطرأت على رأسي فكرة حاسمة.
فقد جاء في النبأ أن المطرب الشهير فوزي المعلاوي سيغني في الحفل، فأدركت أن تلك هي فرصتي، وأنني لن أجد خيرا منها لأحقق للناس ما لا يحلمون به من سعادة وطرب.
لبست خير حللي، وكانت حلة سوداء بها خطوط بيضاء ناصعة البياض من قماش إنجليزي فاخر نجح الترزي أن يفصلها علي تفصيلا رائعا يزيد من مظهر رشاقتي التي لا مثيل لها، ورجلت شعري عند أعظم حلاق. وحين نظرت إلى المرآة داخلني الخوف أن يراني الناس فيحسدوا جمالي ورشاقتي واتساق طلعتي وقامتي وأناقة ملبسي، التي زاد منها رباط العنق الذي اشتريته مستوردا من أعظم بيوت الأزياء في باريس، وقد انعقد حول ياقة قميص مستورد من سويسرا.
وسارعت إلى بيتي أرد عن نفسي عيون الحاسدين، ولم أنس قبل أن أقصد إلى المنزل أن أشتري تذكرة في الحفلة.
وقبعت في المنزل أترصد الساعة حتى أصبح الموعد مناسبا، ونزلت من بيتي وذهبت إلى مقر الاحتفال.
فوزي المعلاوي لا يدخل مع الفرقة الموسيقية، ولكنه يترك الفرقة تعزف جزءا كبيرا من المقطوعة ثم يدخل حتى يضمن التصفيق له أن يكون واضحا في الإذاعة، ولا يضيع صداه في زحمة فتح الستار والتصفيق المتخاذل للفرقة.
وانتظرت حتى أعلن مذيع الحفل عن فقرة فوزي المعلاوي، وفتحت الستارة، وصفق الحشد الهائل تصفيقا هينا للفرقة وبدأت الموسيقى العزف، ولكنها لم تكد حتى رآني الناس أتسلق المسرح من الصالة، ورحت من فوري أغني أغنية المعلاوي. وما له، لا بأس؛ فما دمت لا أستطيع أن أغني أغنيات من شعري ومن تلحيني فلأتواضع وأغن كلمات لشاعر آخر وبلحن لم أؤلفه. لا بأس أن تكون هذه هي البداية.
بهت الجمع الحاشد، وارتسمت الدهشة في كل الوجوه، واضطرب أعضاء الفرقة الموسيقية، وأصبحوا لا يدرون ماذا يفعلون؛ فقد كانوا يتوقعون أي شيء إلا هذا الذي صنعته. توقف بعضهم عن العزف واستمر بعض آخرون، ولكن ضابط الإيقاع الذي ينقر الطبلة كان أسرعهم إلى العمل؛ فقد كان رجلا ضخم الجثة قوي البنيان، ولا شك أنه خبير موسيقي. وقد أدرك في اللحظات القليلة التي استمع إلي فيها أنني سأمحو فوزي المعلاوي من الوجود، بل وسأمحو معه كل المغنين السابقين منهم واللاحقين.
هي فقرة واحدة غنيتها، ثم وجدت نفسي طائرا في الهواء، ثم لم أعلم من أمري بعد ذلك شيئا.
وحين أفقت وجدت نفسي ملقى بجانب سور الصالة، مثل لقمة وجدها مؤمن في الطريق فأزاحها إلى جانب حائط ليمنع الناس أن يدوسوا النعمة.
صفحة غير معروفة