يقع المكتب - مكتب الناشر أو بمعنى أصح الوكيل (حبذا لو أصبح لنا في بلادنا العربية وكلاء يتولون عن الكتاب والفنانين كل المهام التي لا يجيدها أبدا أي كاتب أو فنان، ومهمة الطبع والنشر والاتفاق والمطالبة بالحقوق) يقع المكتب في الدور الخمسين ربما من عمارة هائلة الارتفاع في قلب نيويورك.
وفي غرفة اجتماعات تقليدية، كراسي عالية الظهور، حيانا ميللر وحاول أن يستعمل فرنسيته مع أدونيس الذي لا يتكلم الإنجليزية، وسألنا عن إنجليزيتي وأين تعلمتها، واستغرب تماما أن أكون قد أجدتها على أيدي مدرسين مصريين. وشكرا لجهاز التسجيل الذي سجل المحاورة وإلا لكانت قد ضاعت من الذاكرة تماما. وبما أن المسألة كانت لقاء حوار، فقد وجدت أن علي أن آخذ صفة السائل، وها أنا ذا أورد نص الحوار:
أنا: اعذرني يا مستر ميللر، ولكن ظاهرة الكتابة للمسرح تحيرني دائما، أنا أعرف أن من يحب المسرح يحب بالدرجة الأولى أن «يمثل» ويتقمص، أو على وجه أصح «يظهر» على خشبة المسرح. ولكن هذا الكاتب أو ذاك لماذا يجب أن يكتب للمسرح وهو دائما خلف ستار أو داخل «كمبوشته» الخاصة؟ بمعنى آخر أن تكتشف نفسك ككاتب شيء، أما أن تكتشف أنك تريد الكتابة للمسرح فتلك قضية أخرى. متى حدث لك هذا وكيف؟
بصوته العريض الأجش، وبقامته المنتصبة فوق الكرسي ذي المسند العالي، وبطريقته التي تشبه طريقة الفلاحين الصرحاء الأقوياء، قال ميللر: أستطيع أن أخبرك كيف حدث هذا. كنت طالبا في جامعة متشجان في سنة 1930 أو 35، أي منذ مائة عام (قالها دون أن يضحك وضحكنا نحن) كانت لدينا إجازة لمدة أسبوع، وفي ذلك الوقت تكون الجامعة كلها في إجازة. وكنت في السنة الأولى في الجامعة، ولكني قبل الالتحاق بها كنت قد اشتغلت كعامل في نيويورك، ثم كسائق تراكتور، وأيضا في مصنع صغير، وكجرسون في مطعم؛ فقد كان علي أن أوفر النقود التي تمكنني من دخول الجامعة. وحين جاءت الإجازة قررت لسبب مادي محض أن أجرب كتابة مسرحية؛ ذلك أن جامعة متشجان كانت تعقد في ذلك الوقت مسابقة سنوية في القصة القصيرة والمسرحية ويعطون للفائز مبلغا من المال، في تلك الأيام كانت أمريكا تمر بأزمة اقتصادية شديدة وكان الحصول على النقود أمرا صعبا للغاية. - ولكن لماذا اخترت الدخول في مسابقة المسرحية بالذات؟
ميللر: لا أستطيع الآن أن أحدد بالضبط، ولكن ربما اعتقدت أنها الأسهل في نظري، مع أنه لم تكن لدي أي فكرة عن كتابة المسرحية. ربما اخترتها اختيارا غريزيا؛ فلم أكن قد دخلت المسرح أكثر من ثلاث مرات في حياتي كلها، ولم أكن قد عرفت أو قابلت ممثلا أو أحدا ممن يعملون بالمسرح، بل حتى لم أكن أعرف ما هو طول الزمن الذي تستغرقه أي مسرحية «!» ولكن لأنه كان أمام مسكن الطلاب في الجامعة شخص يقوم بصنع الملابس لمسرح الجامعة ومسرحياته، فلقد ظللت أكتب لمدة يومين أو ثلاثة ثم ذهبت إليه لأسأله: ما هو الوقت الذي تستغرقه أي مسرحية، قال لي: حوالي ساعتين. وهكذا عدت إلى حجرتي وأحضرت ساعة ورحت أقرأ ما كتبته فوجدته تقريبا حوالي ساعتين. وهكذا قدمت المسرحية في المسابقة، ولم أحصل على جائزة الجامعة عنها فقط، ولكني حصلت على أكثر من خمس جوائز أخرى أيضا. - للنقود أيضا.
ميللر: وأيضا للمتعة؛ فقد كانت الكتابة أيامها شيئا عظيما، وممتعة مثل الذهاب إلى صالة الجمنزيوم. - هل طبعتها بعد هذا؟
ميللر: لا، ولكن أعجبتني المسألة فرحت أكتب كل عام مسرحية. - وهل مثلت بعض المسرحيات؟
ميللر: أجل. في متشجان. - وكيف كان إحساسك بكلماتك وهي تخرج من أفواه الممثلين تحمل معانيك وجملك؟
ميللر: كان انفعالي هائلا، فقد أعجبتني الطريقة؛ طريقة أن أكتب الخطبة. - الخطبة؟
ميللر: أجل. إن الكتابة للمسرح هي فن كتابة الخطب الرنانة الجوفاء، وإنها الفن المخطوب؛ فالكتابة للمسرح هي أساسا فن شفوي للأذن وليس للعين. - ولكنهم الآن يحاولون أن يجعلوها فنا للعين أيضا.
صفحة غير معروفة