عن عمد … اسمع تسمع‎

يوسف إدريس ت. 1412 هجري
68

عن عمد … اسمع تسمع‎

تصانيف

ميللر: الضياع. ضياع الوقت، ضياع الناس، ضياع الحياة في القلق، ضياع العقاقير، ضياع القدرة ... هذه مأساة. وأحيانا تجد أفرادا يدركون هذا، مدمنو العقاقير يدركون هذا ولكنهم لا يستطيعون شيئا. - أتعتقد أن هذا نتيجة لدراما شخصية أو هو نتيجة لأوضاع عامة؟

ميللر: أعتقد أن هذا سببه أنه لا توجد أهداف عليا موحدة للمجتمع الأمريكي. هناك مثلا إحساس أنهم ضد الحرب وضد الكوارث الاقتصادية، ولكنهم ليسوا «مع» أهداف عليا محددة.

وكنت أريد أن أسأله كيف ولماذا تزوجته مارلين مونرو؟ ولكن زوجته كانت موجودة، وكان اليوم عيد ميلادها، ولم أشأ أو نشأ أن نكون قليلي الذوق. كل ما في الأمر أنني أحسست أن مارلين اختارت هذا الرجل بالذات لأنه يعطي الإحساس الغريب بالأب أو بالأخ الأكبر الفرح المثقف الذي يمكن الاعتماد عليه والثقة به، وأنه رجل. ولقد كانت مارلين مونرو امرأة حقا.

حوار مع زوج مارلين مونرو

وليعذرني القارئ لهذا العنوان؛ فمارلين مونرو أكثر شهرة بكثير من زوجها عميد المسرح الأمريكي المعاصر آرثر ميللر! وكنت وأنا سائر معه في الشارع الخامس بنيويورك، وهو طويل - أطول مما يجب - وجهه ظاهر لأي عيان، وبالكاد يتعرف عليه أناس قلائل تماما، ودائما بعد أن نمضي أقارن (بيني وبين نفسي) وأقول: لو كنت سائرا مع مارلين مونرو، ألم يكن الشارع كله قد وقف تماما عن حركته؟ هكذا الكتاب المساكين، دائما يعملون من وراء الستار - بل أحيانا ستائر كثيفة - ودائما أسماؤهم أشهر من أشخاصهم، وأدوارهم لا تعرف قيمتها الحقيقية إلا بعدما يرحلون عن هذا العالم إلى الأبد.

وأنا لا أحب في العادة لقاء الكتاب الأجانب أو المشهورين حين أسافر؛ ذلك أني أعلم تماما أن الفنانين الأصلاء غالبا ما يكونون منطوين على أنفسهم، لا يحبون أن يفتحوا ذواتهم لأغراب، وأكثر ما يضايقهم أنهم ما يكادون يلقون أحدا إلا وينهال عليهم بأسئلة واستجوابات يتعلمون من أجلها ابتسامات المجاملة التقليدية، وتدفعهم شدة أدبهم أحيانا - معظمهم مؤدبون - إلى أن يضغطوا على أعصابهم كي يجيبوا وأمرهم إلى الله. صحيح أني قابلت الكثير منهم، ومن الكبار أيضا، سارتر (ذلك الذي لم أرد أن أراه أبدا في القاهرة حين جاء) قابلته بالصدفة المحضة في مطعم شبه شعبي في باريس، وقبل هذا قابلته أيضا في فيينا في مؤتمر للسلام، وقابلت معه هناك إيليا أهرنبرج، وسيمون دي بوفوار، قابلت بالصدفة أيضا، أوسبورن وبنتر في إنجلترا، وإيفنشنكو وسيمونوف وناجيبين «الذي كتب مقدمة لبعض كتبي التي ترجمت إلى الروسية.» قابلت كثيرين ربما لا أذكرهم الآن في إيطاليا واليونان وتركيا، ولكن المهم رغم رغبتي الشديدة أحيانا في اللقاء، إلا أني أبدا - وللسبب الذي ذكرته - لم أسع أبدا للقاء حتى كتابنا المصريين الكبار لم أشأ أن ألقاهم إلا بعد أن أكتب وأنشر؛ فالمهم هو «كارت» الزيارة الحقيقي؛ الإنتاج. أما شخصية الكاتب فربما لا تكون هي خير ما عنده. وربما لأجل هذا أيضا كنت أتحاشى لقاء الكتاب في أوروبا وأمريكا، فأنا أعرف إنتاجهم ولكنهم هم لا يعلمون إلا القليل جدا عنا وعما نكتب؛ ولهذا فسوف يكون الحوار دائما من جانب واحد، وهذا أمر يدفعني دائما إلى الخجل.

ولكنها الصدف، وأحيانا المؤتمرات، وشكرا للندوة التي عقدها نادي القلم الدولي في نيويورك والتي دعيت لحضورها منذ بضعة أشهر، وكان يرأسها آرثر ميللر ويديرها الروائي الأمريكي - أو أهم روائي أمريكي معاصر - جون إبدايك. شكرا للندوة فقد أتاحت لي - دون سعي - أن أقابل عددا من الأسماء التي كنت أقرأ لها ولا أعرفها، وفي نفس الوقت أتاحت لها أن تعرف شيئا عن الأدب العربي لم تكن تعرفه.

وفي الحقيقة كان لقائي بميللر عاصفا، هكذا شاءت الظروف. فقد ألقى ميللر في كلمة الافتتاح خطابا قصيرا كاد يملؤني بالغضب؛ فقد كان تساؤلا غريبا عن أهمية ودور الكلمة في عالمنا المعاصر كاد ينتهي فيها إلى أن الكلمة لم يعد لها دور، أو إذا كان لها دور فهو ثانوي تماما وبلا أي فاعلية. وبالصدف المحضة كنت قبل سفري قد كتبت في هذا الباب مفكرة بعنوان: لماذا لا نزال نكتب؟ كانت انطباعا كله إيمان بأنه لم يعد حقيقي في هذا العالم إلا الكلمة الصادقة الطيبة، الكلمة التي تغير لأنها تصدر عن متغير، التي تؤثر لأنها تصدر عن متأثر، التي تميت وتحيي لأنها صادرة عن إنسان يأخذ قضية قولها وكتابتها مسألة حياة أو موت.

كنت قد أعددت كلمة في الافتتاح، ولكن حين جاء دوري نحيت الكلمة جانبا، ورددت من وحي اللحظة على ميللر، ولا أدري لماذا تحمس الحاضرون كثيرا لما قلته؟ حتى إن الجرائد في اليوم التالي نشرت المسألة وكأنها مشكلة. كل ما في الأمر أن الظروف كانت تخبئ لي مفاجأة، فقد كان مفروضا أن نتناول الغداء - بعد الافتتاح - في ناد لا أذكر اسمه الآن. وجاءت جلستي بالصدفة بين آرثر ميللر والروائي جون إبدايك. وتحدثت مع إبدايك إذ كان قد زار القاهرة وكتب عنها قصة حاولت أن أناقشه فيها؛ فبدا عليه بعض الانزعاج، وقال لي إنها قصة «غريبة»، وهو استعمال مخفف لما تحويه القصة من تصوير لجو خاص شاذ لم أكن أعرف أن له وجودا في قاهرتنا العزيزة. وتدخل ميللر في الحديث مبديا رغبة قديمة لديه أن يرى القاهرة، وهكذا نشأ حوار ثلاثي عن الموضوع الذي أثير في الصباح عن دور الكلمة. ودعاني ميللر لزيارته في مزرعته التي تبعد عن نيويورك ثلاث أو أربع ساعات، ولكنه كان كريما في اليوم التالي ودق لي تليفونا يطلب فيه أن يكون اللقاء في مكتب ناشره في نيويورك حتى لا يكبدني مشقة الانتقال إلى بيته البعيد . كان شاعرنا العربي أدونيس حاضرا فاتفقنا أن نذهب معا.

وكما قلت قبلا فإن حماسي للفكرة لم يكن كبيرا؛ ذلك أني لا أومن بإجراء هذه الأحاديث الكتابية أو الصحفية، وخاصة إذا كانت من جانب واحد. إني أقرأ الكاتب وأحاسبه على ما يقوله هو إنتاجا ومن تلقاء نفسه، وليس بناء على إلحاح أو سؤال. ولكن ثمة حب استطلاع كان يدفعني لهذا اللقاء، أو بالأصح، حب استطلاعين أحدهما كبير ولكنه غير مهم وهو مناقشة المشكلة المسرحية في العالم الآن، والآخر صغير ولكنه هام بالنسبة لي كرجل وهو أن أعرف آرثر ميللر من قرب، وأعرف بالذات كيف اختارته مارلين مونرو - رمز الجنس في القرن العشرين - لتتزوجه، تلك التي صاحبت دون جوانات، ورؤساء جمهوريات، وسناتورات، ماذا أغراها في هذا الكاتب المسرحي، حتى لو كان ميللر، لتختاره وتعاشره؟ مشكلات المسرح أعرفها ولي رأي فيها، ولا أعتقد أن رأي ميللر سيغير من رأيي كثيرا. ولكن هذا الاختيار محير لي تماما؛ حيرني حين قرأت عنه، وحيرني وأنا أتابع حياتهما معا، ثم انفصالهما، ثم هذه المسرحية التي كتبها ميللر عن تلك العلاقة وأسماها «بعد السقوط». •••

صفحة غير معروفة