أعان عليا يوم حز الغلاصم؟
وأشار كذلك بقتل قيس بن سعد في جيشه الذي كان معه من بقايا حزب علي، بعد نزول ابنه الحسن عن الخلافة، وكان قيس رجلا صعب المراس مقداما على الخطر، لا يؤمن قتاله، والدولة الأموية في أوائلها بين الشك واليقين، فأعرض معاوية عن مشورته وبذل الأمان لقيس ومن معه، وأرضاهم بالمصانعة والعطاء.
ولم يكن معاوية يسلك معه غير هذا المسلك، أو يضمر له غير هذا الضمير، فكان يحتفي به ويجلسه معه على سريره، ويظهر له الركون إلى رأيه والمشاركة في أمره، ثم يقبل منه ما يقبل، ويمضي على نيته التي انتواها، وقد هم أن يخلف له موعده من ولاية مصر، لولا أنه توقع الشر منه، وعلم أنها ولاية عام أو أعوام قلائل، ثم تصير إليه يعطيها من يشاء، وقد مات عمرو بعد أعوام فضم معاوية خزائن أمواله إلى بيت المال، وخالف رجاءه في تولية ابنه عبد الله مكانه، وأسند الولاية إلى أخيه لأبيه عتبة بن أبي سفيان.
وربما ثقل عليهما وقر الرياء، فتصارحا بما في الطوايا صراحة هي أشبه بالصراع الذي يجمع فيه الندان بين اللعب والخصومة، سأله معاوية وهو في حالة من حالات النقمة والطمع : ما أعجب الأشياء؟ فقال: أعجب الأشياء غلبة المبطل ذا الحق على حقه، فما أبطأ معاوية أن ردها عليه قائلا: بل أعجب من هذا أن تعطي من لا حق له بحق من غير غلبة!
وربما داعب معاوية في أمر آخرته ودنياه مداعبة الرجل الذي يعلم أن المداعبة هنا مقبولة؛ لأنهما في الحظ سواء قال له يوما: لقد رأيت البارحة في المنام كأن القيامة قد قامت ووضعت الموازين، وأحضر الناس للحساب فنظرت إليك وأنت واقف قد ألجمك العرق، وبين يديك صحف كأمثال الجبال، فعاجله معاوية ساخرا: وهل رأيت في الميزان شيئا من دنانير مصر؟
ودخل على معاوية في مجلسه، فضحك معاوية حين رآه، قال عمرو: «ما يضحكك يا أمير المؤمنين، أضحك الله سنك؟» قال: «أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب، أما والله لقد وافقته منانا كريما، ولو شاء أن يقتلك لقتلك.» فلم يبرح عمرو أن أشركه معه في عاره، وجعل يقول له ويمعن في وصف فزعه: «أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولت عيناك، وربا سحرك - أي صدرك - وبدا منك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أو دع.»
فالرجلان كانا فيما بينهما على صراحة وتفاهم واحتراس.
وكانا يعلمان ما يريدان، ويعلمان أنهما لا يتعاونان لأنهما على ثقة من إخلاص كل منهما لصاحبه وإيثاره لنفعه، ولكنهما يتعاونان لأن التعاون أنفع لهما من التخاذل والشقاق، ولن يتعاونا إذا تبدلت الحال وأصبح لهما أو لواحد منهما نفع في تخاذل أو شقاق!
وكانا يفهمان أن هزيمة علي هي سبيلهما معا إلى ما يريدان فعملا متفقين، ولعلهما عملا مخلصين لتحقيق هذه الهزيمة، وكانت معونة عمرو لمعاوية في نضاله مع علي كبيرة الخطر، محسوسة الأثر في مآزق كثيرة، ومعضلات متوالية، أهمها حرب صفين ومؤتمر التحكيم وانتزاع مصر من والي علي وأتباعه فيها، وهم غير قليلين.
وكانت جهوده العظمى في حرب صفين جهود الداعية المحرض، لا جهود المقاتل المستبسل، فكان يثير الحفائظ ويستدرج الأنصار بالأطماع، ويمحو الوساوس والشكوك التي تثني عزائم القوم عن القتال، ويشيع الفتاوى التي يقبلها من هو مستعد لقبولها، ومنها - حين قتل عمار بن ياسر - إن أصحاب معاوية تلجلجوا فيما بينهم، وساورهم الريب في حقهم؛ لأن النبي
صفحة غير معروفة