1 - نشأة عمرو بن العاص
2 - التعريف بعمرو بن العاص
3 - من التجارة إلى الإمارة
4 - فتح مصر
5 - البلاد والسكان
6 - المقوقس
7 - الحالة الدينية
8 - الحالة الإدارية والسياسية
9 - بين الإمارتين
10 - من كلامه
11 - خاتمة مفسرة
1 - نشأة عمرو بن العاص
2 - التعريف بعمرو بن العاص
3 - من التجارة إلى الإمارة
4 - فتح مصر
5 - البلاد والسكان
6 - المقوقس
7 - الحالة الدينية
8 - الحالة الإدارية والسياسية
9 - بين الإمارتين
10 - من كلامه
11 - خاتمة مفسرة
عمرو بن العاص
عمرو بن العاص
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
نشأة عمرو بن العاص
نشأ عمرو بن العاص في بطن من البطون القرشية المشهورة، وهم بنو سهم.
والبطون القرشية كثيرة، تتفاوت في الضعف والقوة، والقلة والكثرة، ولكن البطون التي انتهى إليها الشرف - كما قال النسابة الكلبي - عشرة، اتصل شرفها في الجاهلية والإسلام، وهم: هاشم، وأمية، وعبد الدار، وأسد، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم.
والظاهر من بعض أنباء «سهم» أنهم كانوا على كثرة في العدد، وإن لم يحسبوا من ذوي الصدارة في قريش، إلى جانب بني هاشم أو بني أمية أو بني عبد الدار.
فلما انقسمت قريش إلى حزبين، في أحدهما بنو عبد مناف، وفي الآخر بنو عبد الدار، عبئ بنو سهم لبني عبد مناف، وهم أكبر هؤلاء الأحلاف، كأنهم ند لهم كثرة وقوة في الصلح والخلاف.
وتفاخر بنو سهم وبنو عبد مناف مرة، فقال كل حي منهما: «نحن أكثر سيدا، وأعظم رجالا، وأكثر قائدا ...» فكثر بنو عبد مناف بني سهم بعدد الأحياء، ثم تكاثروا بالأموات، فجعلوا يشيرون إلى القبر فيقولون: أفيكم مثل هذا؟ أفيكم مثل هذا؟ ويذكر كل منهم أنه أكثر مالا وأعز نفرا، كما جاء في القرآن الكريم، ونزلت في ذلك الآية:
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر
على إحدى الروايات.
فعمرو بن العاص ينتمي - على هذا - إلى بطن يعد من أكبر بطون قريش، ويطمح إلى مساواة بني عبد مناف بوفرة الرجال والأموال وكثرة السادة والقادة، ويوصل شرفه في الجاهلية بشرفه في الإسلام.
أما حصتهم من شرف الجاهلية؛ فقد كانت إليهم الحكومة، والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم، وهي أموال حبسوها على الأرباب والمعابد وخيراتها، كأنها الأوقاف في العصور الإسلامية، وكان الرؤساء من بني سهم طائفة من نظار الأوقاف يعرفون بحسناتهم أو سيئاتهم التي اتصف بها نظار الأوقاف في جميع الأزمان.
ولا نعلم على التحقيق ما هي تلك الحكومة التي وكلت إلى بني سهم في الجاهلية، كما وكلت الشورى والرفادة والسقاية وغيرها من مهام الحجاز إلى البطون القرشية الأخرى.
ولكننا نستطيع أن نقيسها إلى بعض ما ندب له ابن العاص في الإسلام، على حكم العادة الموروثة التي قلما تتغير في مأثورات القبائل المحفوظة، ويؤخذ من هذه المهام أن المرجع في حكومة بني سهم إلى اللباقة في تناول الأمور، والتلطف في حسم الشقاق، والتغلب على حرج النفوس في الشئون الدقيقة التي تتصل بالمصاهرة ومعاذير الراغبين فيها أو الراغبين عنها من الرجال والنساء، كما تتصل بالإقناع فيما يمس المروءة والعقيدة، أو يرد الإقناع فيه على النفس من طريق التهوين والتسويغ على سنن الدهاة من الساسة بين سائر الأمم وفي سائر العصور.
وجماع ذلك كله أن الحكم على هذه الطريقة هو الرجل «الأريب» الذي يعرف «من أين تؤكل الكتف» ويترفق بعلاج النفوس وتناول الأمور.
خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب، فأجمع على تزويجه، فشق ذلك على عبد الله بن عمر، وشكاه إلى عمرو بن العاص ... فها هنا مسألة دقيقة بين أب وابنه في تزويج رجل لا تحسن الإساءة إليه بعد وعده، ولا بد للحكم فيها من رفق وإربة، حتى يرضى الأب والابن والخطيب وما منهم من يسخط على زميله، قال عمرو لعبد الله بن عمر: علي أن أرده عنك راضيا، وأتى سلمان فضرب بين كتفيه بيده، ثم قال: هنيئا لك أبا عبد الله! هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك ...! فالتفت سلمان مغضبا وقال: أبي يتواضع؟ والله لا تزوجتها أبدا.
وخطب عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت أبي بكر إلى أختها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقالت له: الأمر إليك! ثم سألت أختها فأبته وهي تقول: لا حاجة بي إليه، فزجرتها قائلة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت : نعم، إنه خشن العيش، شديد على النساء ...!
وهنا مسألة دقيقة من قبيل ما تقدم: أمير المؤمنين ترفضه أم المؤمنين.
ولا ينبغي أن يواجه بالرفض، وإن كان لا سبيل إلى إكراه أم كلثوم على قبوله.
فلجأت السيدة عائشة إلى عمرو بن العاص ليحتال في الأمر برفقه ودهائه، فجاء عمر وفاجأه قائلا: بلغني خبر أعيذك بالله منه، قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر؟ قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني! قال: لا واحدة، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟ كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك!
ولا شك أن عمر قد فطن إلى ما وراء هذه الوساطة، وفهم أن ابن العاص لا يقدم عليها من عند نفسه، فسأله كأنه يستطلع ما وراءه: كيف بعائشة وقد كلمتها؟
قال: أنا لك بها، وأدلك على خير منها: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بنسب رسول الله.
فهي إذن حكومة الإرضاء والتناول الرفيق لكل شائك محرج من العلاقات التي يصعب الحكم فيها بغير هوادة وحنكة ...!
وشبيه بهذا - وإن لم يكن من شئون المصاهرة - إيفاد عمرو إلى نجاشي الحبشة لإقناعه بتسليم من قبله من المسلمين إلى مشركي قريش، وهو أمر فيه من المساس بأصول الضيافة ما تصعب المفاتحة فيه فضلا عن الإقناع به، إلا أن تكون لباقة ورفق مدخل وقدرة على التخلص السريع.
وشبيه بهذا أيضا إيفاد عمرو إلى أخوال أبيه في عهد الإسلام لإقناعهم بالخروج من دينهم والدخول في الدين الجديد.
ويتفق مع هذا وذاك أن تكون الوساطة على النحو المعهود بين طلاب الوساطات في جميع قضايا الخلاف، فيتخاصم الرجلان على ضيعة أو حق مغصوب، ويرجعان إلى حكومة الحكم المختار لعلمهما بقدرته على فض الخصومات واستلال الأضغان.
ومن ذلك حكومة عمرو بين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام حين اختلفا على واد يدعيان ملكه بالمدينة، فقال عمرو لهما:
أنتما في فضلكما وقديم سوابقكما ونعمة الله عليكما تختلفان! لقد سمعتما من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مثل ما سمعت، وحضرتما من قوله مثل ما حضرت - فيمن اقتطع شبرا من أرض أخيه بغير حق إنه يطوقه من سبع أرضين! والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه؛ وذلك لأن الحكم إذا جار رزئ دينه، والمحكوم عليه إذا جير عليه رزئ عرض الدنيا، إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما.
فاصطلحا وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا.
فهذه حكومة معهودة في قضية من القضايا الشائعة التي لا تمس المحرجات النفسية ولا تشوك اليدين في تناول الدعوى بين الطرفين وما هما بعد بخصمين، ولكننا نتأمل هذه الحكومة أيضا فنلمح فيها حب الاستعانة باللباقة والكيس قبل الاستعانة بالعدل والإنصاف، كأنما كان الخصمان يريدان الوفاق بغير غضاضة على أحد منهما، فاختارا الحكم الذي يمنع هذه الغضاضة وييسر لهما سبيل الوفاق.
وقد جاء في الأثر أن النبي - عليه السلام - أمر عمرا بالفصل بين رجلين اختصما إليه، فكأنه عرف بهذه المقدرة وبقيت له شهرتها في حضرة النبي - عليه السلام. •••
وليست حكومة القهر والإكراه على أية حال بالحكومة التي كان العرب يرتضونها ويسعون إليها، فهم إذا لجئوا إلى الحكم لم يلجئوا إليه لأنهم ينتظرون منه أن يقهرهم على سماع حكمه، ويلزمهم أن يتبعوه في قوله وفعله، بل لعلهم يتعمدون أن يختاروا لحكومتهم رجلا لا يخشى ولا يهاب، ولا يقع العار على من يخضع له بالخوف والإذعان، فإذا أطاعوه قيل: إنهم يطيعون كلمتهم وينزلون باختيارهم على الحكم الذي ارتضوه، ولم يقل قائل: إنهم مطيعون عن ذلة، ومستمعون لأمره مسوقون إلى استماعه.
فالحكم الذي يختارونه - على هذا - إنما يكون على خصلة من خصلتين: رجل يأنسون إلى عدله وإنصافه، أو رجل يأنسون إلى لباقته وحيلته وحسن بصره بمواقع الأهواء وذرائع الإرضاء. والثاني ببني سهم أشبه وأمثل؛ لأنهم لم يشتهروا بالعدل والإنصاف، بل كان من زعمائهم من يمطل أصحاب الحقوق، ويلوي الضعيف بديونه ويلج في ذلك لجاجة حملت السادة من قريش على التحالف فيما بينهم ليردن المظالم ويأخذن للضعيف حقه حيث كان، وسموه حلف الفضول المشهور، وهو الحلف الذي قال عنه النبي - عليه السلام: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول: ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي إليه في الإسلام لأجبت!»
وسبب هذا الحلف غير بعيد عن عمرو بن العاص نفسه؛ لأن الذي مطل الدين أبوه العاص بن وائل من أغنى السهميين وأشهرهم بالعزة والعصبية، وكان رجل من بني زبيد في اليمن قد وفد إلى مكة معتمرا، ومعه بضاعة طيبة، فاشتراها العاص ولواه بحقه ولم يجبه إلى رجائه حين سأله ماله أو متاعه، فقام الرجل في الحجر ينشد:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض عمرته
بين المقام وبين الحجر والحجر
أقائم في بني سهم بذمتهم
أو ذاهب في ضلال مال معتمر
فخف لنجدته أقطاب قريش، وكان ذلك من أسباب حلف الفضول. •••
تلك جملة المعروف في شأن بني سهم الذين نبت فيهم عمرو بن العاص من بطون قريش.
أما أسرته القريبة فأبوه هو العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، يرتفع بنسبه إلى الذؤابة القرشية.
ويقال في متواتر الروايات: إنه كان من ذوي اليسار، وكان يتجر بين الشام واليمن، ويحتشد لرحلة الصيف ورحلة الشتاء.
وقد كان عمرو بأبيه جد فخور، حتى لقد كان يفخر به على الخلفاء كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان.
فلما أرسل إليه عمر بن الخطاب من يحاسبه ويشاطره ماله، غضب وقال للرسول: «قبح الله زمانا عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها! وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه! والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزررا بالذهب ...» ثم خشي العاقبة، فاستحلف الرسول ليكتمن عليه ما قال بأمانة الله.
ولما عزله عثمان من ولاية مصر، دعاه فأنبه ... وقال له: استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك، فقال عمرو: قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض. واحتدم الجدل بينهما، فهم عمرو بالخروج مغضبا وهو يقول: قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك ... فوالله للعاص كان أشرف من عفان، فما زاد عثمان على أن قال: ما لنا ولذكر الجاهلية!
وقد أدرك العاص الدعوة المحمدية، ومات بعد الهجرة بقليل وهو في الخامسة والثمانين، ولكنه - في أشهر الروايات - لم يسلم، ولم يزل يناصب النبي وأصحابه العداء، ويكيد لهم في الجهر والخفاء، وهو الذي قال عن النبي - عليه السلام - حين مات ابناه القاسم وعبد الله: إن صاحبكم هذا لأبتر، فنزلت فيه الآية:
إن شانئك هو الأبتر
وكأنما كان التكاثر بالذرية والاعتزاز بالعصبية شنشنة غالبة على هؤلاء السهميين! •••
وعلى قدر ذلك الفخر بأبيه كان خجله من نسبه إلى أمه، واجتراء الناس عليه بمسبتها كلما تعمدوا الغض منه والإساءة إليه.
فكان حساده والنافسون عليه يلاحقونه بذكرها وهو على دست الإمارة ومنبر الخطبة، وخاطر بعضهم رجلا أن يقوم إليه وهو على المنبر فيسأله: من أم الأمير؟ ... فأمسك من غضبه وقال: النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان، ووهبها للعاص بن وائل فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه!
ويؤخذ من بعض هذه المعايرات أنها كانت تؤجر للغناء بمكة، فإن عمرا شتم أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بمجلس معاوية، فانتهرته قائلة: «وأنت يا بن النابغة تتكلم، وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لأجرة؟
اربع على ظلعك واعن بشأن نفسك، فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك، فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به!»
ومن كلامه عنها في بعض ما نقل عنه: «أنها سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عنزة ، ثم أحد بني جلان، أصابها رماح العرب، فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل.»
ويروى أنها كانت على صلة بالعاص وأبي لهب وأمية بن خلف وأبي سفيان، فولدت عمرا فألحقته بالعاص، وسئلت في ذلك فقالت: إنه كان ينفق على بناتي.
وأيا كان شأن المبالغة في لغة الثلب والتعبير، فالمتفق عليه أنها كانت سبية مغلوبة على أمرها، فلم تقارف البغاء سقوطا منها وابتذالا لعرضها، ومثل هذه لا تحسب عليها زلاتها كما تحسب على المرأة التي تزل ولها مندوحة عن الزلل، وتهوي وهي في موضع الصون والكرامة، وإنجاب هذه ومثيلاتها للنوابغ من البنين ليس مما يخالف المألوف من سنن النسب والوراثة. •••
ولا يظهر من أخبار عمرو أنه تلقى مالا كثيرا من أبيه، فقد كان يحترف الجزارة ويعمل بمال غير وافر في تجارة الأدم والعطر بين اليمن والشام ومصر، على ما جاء في إحدى الروايات.
إلا أن القصة التي روت لنا خبر سفرته إلى مصر تروي لنا كذلك أنه خرج في تلك السفرة إلى بيت المقدس، وقصارى ما يرجوه أن يصيب ما يشتري به بعيرا فتكون له ثلاثة أبعرة.
وقد حاسبه عمر - رضي الله عنه - فقال له في كتابه إليه: «... فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك ألا مال لك!» فلم ينكر عمرو أنه لم يكن له مال، بل قال: «... أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك لا مال لي وإني أعلم أمير المؤمنين أني بأرض السعر فيه رخيص وأني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة.»
فإذا صدقت الرواية عن ثروة العاص بن وائل، فمن العجيب ألا يبقى لعمرو من هذه الثروة نصيب موفور وهو أكبر ولديه، وليس لأبيه ذرية كثيرة من الذكور فيقال: إن الثروة الكبيرة تبددت بالتوزيع والتقسيم، وقد أسلم عمرو بعد موت أبيه فلا يقال: إنه حرمه الميراث لإسلامه غضبا عليه.
نعم، إن هشاما - أخاه الأصغر - كان أحب إلى أبيه، وكانت أمه بنت هشام بن المغيرة من كرائم قريش وليست سبية مشتراة كأم عمرو، وكانت إلى هذا محببة إلى زوجها، وباسم أبيها سمى ولده على غير الشائع المألوف في تسمية الأبناء بين القبائل العربية، ولكننا لم نعرف من أخبار العاص ولا من أخبار ولديه أن هشاما استأثر بالميراث دون أخيه، والأشبه إذا كان أحدهما قد حرم ميراثه أن يكون هو هشاما؛ لأنه أسلم في حياة أبيه.
ولا تفهم قلة المال عند عمرو - مع ما اشتهر به أبوه من الثراء - إلا على فروض كثيرة يصح الأخذ بها جميعا؛ لأن الاكتفاء بواحد منها غير معقول، وهي أن ثروة العاص كانت أقل من شهرتها، وأنه كان ينفق ولا يمسك، وأنه أصيب في تجارته قبل موته، ولا سيما بعد قيام المسلمين على طريق الشام، وأن عمرا كان كأبيه من المنفقين ولم يكن من المقترين، وقد يؤخذ هذا من ظهور شكواه بعد عزله من ولاية مصر بأقل من عام، فقال له عثمان وقد سبه لما بلغه من تحريضه عليه: «ما أكثر ما قمل جربان جبتك - أي طوق جبتك - وإنما عهدك بالعمل عاما أول!»
فلا يبعد أنه أصاب شيئا من الميراث فأنفق منه ما أنفق بعد يأسه من تجارة الحبشة والشام، ولم يبق له عند ولايته على مصر إلا اليسير. •••
والاهتمام بنسب المترجم لهم واجب لازم في كل سيرة من السير، وهو في سيرة عمرو أوجب وألزم؛ لأن أثر الوراثة فيه أقوى من المعهود الشائع في العظماء عامة، وليس الأثر الذي استفاده من تلقين البيئة وفعل الرياضة النفسية بأقل من أثر الوراثة التي لا اختيار له فيها.
فمن أثر الوراثة مشابهة عمرو لأبيه في الخلقة والخليقة، ولولا قوة الشبه في الخلقة لما عرفت نسبته إلى أبيه وهو وليد.
ومن المشابهة في الخليقة حبه للمال والسيادة، واعتداده بالعصبية ونخوة القبيلة.
إلا أن المغمز الذي كان يؤلمه من نسبه إلى أمه قد كان له من قوة الأثر في تكوين فكره وتوجيه نفسه ما يعدل الوراثة، أو يزيد.
فاحتياجه إلى مداراة هذا المغمز، والغلبة على من يفاخرونه بكرم الأمومة، هو الذي أغراه فبالغ في إغرائه بالمال والرئاسة.
وشعوره بهذا المغمز هو الذي أعز أباه عنده، وعلقه بفخره وألهجه باسمه وسمعة ثرائه.
وكان لاعتداده بأبيه دخل في تعويق إسلامه وتأخير شهادته للدين الجديد إلى ما بعد موته، وقد كان يعلم ذلك من نفسه ويجهر به إذا فوتح فيه، فسأله رجل: «ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟!» فقال: «إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم، وكانوا ممن يوازي حلومهم الجبال، فلما بعث النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأنكروا عليه فلذنا بهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين، فوقع في قلبي الإسلام!»
بل أصبح اعتداده بأبيه اعتدادا للعصبية بالقبائل الأولى، كمن فيه من أيام جاهليته إلى ما بعد إسلامه، وعالجه أحيانا فلم يستطع أن يجتثه من أصوله.
وقع بينه وبين المغيرة بن شعبة كلام فسبه المغيرة، فقال: يا آل هصيص! أيسبني ابن شعبة؟ وكان ابنه عبد الله حاضرا، وهو من أتقى المسلمين وقد أسلم قبل أبيه، فقال: إنا لله! دعوت بدعوى القبائل وقد نهي عنها! فأعتق عمرو ثلاثين رقبة.
وسمع معاوية مرة يأذن للأنصار، فأحب أن يأذن للناس بأسماء قبائلهم ويردهم إلى أنسابهم.
وكان من إعزازه لأبيه وحضور العصبية في ذهنه أنه فكر في الانتقام من عمارة بن الوليد المخزومي لاجترائه على تقبيل زوجته أمامه، فلم يقدم على الانتقام منه - وهما في طريق الحبشة - حتى بعث إلى أبيه أن يخلعه لكيلا تحيق به أو بأحد من أهله ترات العصبية التي تدين بها القبائل فيما بينها.
وعصبيته هذه هي التي أنسته أن الإسلام ينهى عن كراهة الذرية من البنات، فأنف أنفة الجاهلية حين رأى معاوية يقبل ابنته عائشة، قال: من هذه؟ قال معاوية: هذه تفاحة القلب! فقال له: «انبذها عنك، فوالله إنهن ليلدن الأعداء ويقربن البعداء ويورثن الضغائن!»
ولا شك أن الألم من ذلك المغمز في نسبته إلى أمه كان من أشد الحوافز النفسية تغلغلا في سريرته، وأصلحها لتفسير ميوله وبدواته ومنها الحسن والمفيد.
فقد كان خوفه من التعيير به عقل لسانه عن فحش القول، ويلزمه سمت الجد والتوقر في مخاطبة الناس.
ولم يبالغ حين اعتذر لمسلمة بن مخلد، وقد ناله بلسانه في ساعة حدة، فقال له يسترضيه: «ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات، مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا ندمت وما استحييت من واحدة منهن أشد ما استحييت مما قلت، ووالله إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة.»
كذلك كان يتحرج من إسقاط هيبته ونسيانه سمته، حتى قال عمر بن الخطاب وقد نظر إليه وهو يمشي: «ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا!»
فهي بلوى في طيها نعمة كما قال أبو تمام:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
ولم يجزم المؤرخون بتاريخ مولد عمرو ولا قاربوا الجزم فيه، فهو عند بعضهم عاش سبعين سنة، وعند بعضهم بلغ المائة.
وإذا صح أنه كان يذكر الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب، وأنه كان له يومئذ من العمر سبع سنين فالأرجح أنه ولد قبل الهجرة بنحو أربع وأربعين سنة، حوالي سنة 580 للميلاد.
على أن المؤرخين مختلفون في سن عمر بن الخطاب يوم وفاته، فبعضهم يؤكد أنه قتل وله من العمر خمس وخمسون سنة، وبعضهم يؤكد أنه كان يومئذ في الثالثة والستين، ونحن نميل إلى الاقتراب من التاريخ الثاني؛ لأن عمر - رضي الله عنه - كان يشكو الكبر في سنة وفاته، ويسأل الله أن يقبضه إليه؛ لأنه شاخ وانتشرت رعيته، والمرء في بنية عمر وقوته لا يشكو الهرم في الرابعة والخمسين أو الخامسة والخمسين، فذلك بما بعد الستين أوفق وأقرب إلى القبول.
وعلى هذا تكون السنة التي رجحنا ولادة عمرو فيها هي أقرب التواريخ إلى المعقول، ويكون عمرو قد جاوز الثمانين بسنوات ولم يرتفع إلى المائة؛ لأنه عاش بعد عمر عشرين سنة، وولد قبله بسبع سنين، فإذا كانت سن عمر عند وفاته حوالي الستين فقد عاش عمرو بن العاص إلى قريب من السابعة والثمانين.
وإذا شككنا في سن عمرو يوم مولد عمر، وحسبناها دون السابعة فهو إذن قد جاوز الثمانين بقليل.
ويدعونا إلى الشك في هذه السن أن اعتذار عمرو من تأخر إسلامه باتباع كبار قومه لا يقبل من رجل في نحو الخمسين، وهي سنه عند إسلامه وإن كان مع ذلك ليستغرب حتى ممن بلغ الأربعين.
وليس في نشأة عمرو من تاريخ يستوقف المترجم له بعد سنة ميلاده غير سنة زواجه، ويظهر أنه كان من المبكرين بالزواج؛ لأن ابن قتيبة يقول: «إن الفارق في المولد بينه وبين ابنه عبد الله اثنتا عشرة سنة.» وهو فارق غير معقول، ولكنه يدل على صغر سنه حين بنى بأم عبد الله، وهي فتاة من قبيلته اسمها ريطة بنت منبه بن الحجاج.
الفصل الثاني
التعريف بعمرو بن العاص
التعريف بنشأة عمرو بن العاص، تمهيد لازم للتعريف بصفاته وطباعه، والتعريف بهذه الصفات والطباع تمهيد لازم للتعريف بأعماله ومساعيه؛ لأن الأعمال والمساعي لن تفهم على حقيقتها إلا بفهم الطباع التي توحيها والنيات التي تسبقها والغايات التي ترمي إليها، وقد تتشابه الأعمال والمساعي في ظاهر الأمر وهي في الحقيقة مختلفة أشد اختلاف، مفترقة كما يفترق الخير والشر أو تفترق الرفعة والضعة، وإنما مناط ذلك كله بالفرق بين باعث وباعث، والاختلاف بين نية ونية.
وأدنى إلى القصد في هذه السبيل أن نلم بالصفات والطباع، ثم نتتبع الأعمال الصادرة عنها مفهومة واضحة البواعث والأغراض، من أن نلم بالأعمال مبهمة متشابهة، ثم نعود إلى تفسيرها بما نستخلصه من طباع صاحبها ونياته.
لهذا بدأنا قبل سرد الأعمال بهذا التعريف الذي يسبغ الدلالة على تلك الأعمال. •••
والمحفوظ لنا من صفات عمرو الجسدية قليل، ولكنه كاف إذا لم يكن بد من الاكتفاء منها بقسط له دلالة.
فهو كما يؤخذ من جملة الأقوال التي وصف بها: «أدعج، أبلج وافر الهامة، ربعة، أقرب إلى قصر القامة، يخضب بالسواد» عليه مهابة وشمائل نباهة وسيادة، كما يدل عليه ما تقدم من قول عمر فيه «ما ينبغي أن يمشي أبو عبد الله إلا أميرا ...»
وإذا جاز أن يكون لهذا التكوين الجسدي أثر في أخلاقه ودخائل طبعه، فذلك أثر آخر يعين أثر النسب المغموز من جانب أمه، وهو التماس «التعويض» بكل ما في النفس من حول وحيلة، وحفز الهمة إلى مكان يسطع فيه المرء سطوعا يداري المغمز في النسب والنقص في المظهر، فيروع القلب بالسطوة والشارة إذا اجترأت عليه العيون أول نظرة، أو اجترأت عليه الألسنة بالثلب والمهانة: رجل متهم النسب قصير، ولكنه لا يضار بذلك في مقام الفخر بين ذوي الحسب والبسطة من عظماء الرجال.
وإذا اعتزم الرجل هذه العزمة، وكان من أصحاب الهمة والشهامة، أو ما نسميه اليوم بالقوة الحيوية، فأخلق به أن يبلغ ما يصبو إليه وأن يذهب بعيدا في مسعاه الذي توفر عليه!
أما أن عمرا كان من أصحاب «القوة الحيوية» فذلك ظاهر من احتفاظه بحضور ذهنه ومضاء عزمه، إلى تلك السن العالية التي تجاوز بها قوم التسعين، ولم يهبط بها أحد إلى ما دون السبعين، فإنه ليجيش به هذا الطبع وقد أناف على الخامسة والأربعين إلى فتح البلاد وتقليب الدول، وافتتاح المساعي إلى المجد والرئاسة، كأنه ناشئ لما يزل في بادرة الشباب ومستهل المغامرات والمجازفات في سبيل الشهرة والسلطان!
وقد وصفت لنا شارة عمرو هنا وهناك، فإذا هو في كل صفة من هذا القبيل عظيم العناية بما يروع الناس من هيبته وفخامة مرآه، وليست مشيته التي أشار إليها الفاروق بأقل ما احتفل به لتلك الشارة والفخامة.
قال أبو مخنف: «حج عمرو بن العاص فمر بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا بن عباس! مالك إذا رأيتني وليتني القصرة، وكأن بين عينيك دبرة!» (أي: أعرضت وازوررت عني) ... فأجابه ابن عباس جوابا مقذعا فيه من الجرأة مثل ما فيه من الدهاء، وانتهى منه قائلا: «حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطع بحلمه وتسمو بكرمه .»
ولم يشأ عمرو - وقد ذهب دور المفاجأة - أن يبزه ابن عباس في الدهاء، فعاد يقول: «أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟»
قال ابن عباس: «حيث مال الحق ملنا وحيث سلك قصدنا!»
ووصفه بحير بن ذاخر المعافري وهو مقبل إلى المسجد يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: «... فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس، فذعرت ... فقام عمرو بن العاص على المنبر ... وعليه ثياب موشية، كأن به العقيان يأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة ...»
فهذه الأبهة المقصودة - ولا سيما قبل استقرار السلطان له - هي أثر من آثار ذلك النسب المغموز وتلك القامة المحدودة. •••
أما صفاته النفسية فنبدؤها بما وصف به نفسه، أو يقول الرواة الذين وصفوه هذا الوصف، وهم يدعون من المعرفة به ما يقوله الرجل حين يصف نفسه بلسانه.
روى هشام بن الكلبي أن أناسا لاموا معاوية على تقديمه عمرا فبلغته ملامتهم، فقال بعد استشهاد: «... قد علمتم أنني الكرار في الحرب، وأنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب كأنما أنا الأفعى عند أصل الشجرة ... ولعمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء لا شفاء لمن عضته، ولا يرقد من لسعته، وإني ما ضربت إلا فريت ولا يخبو ما شببت، عرفني أصحاب يوم الهرير (بحرب صفين) أنني أشدهم قلبا وأثبتهم يدا، أحمي اللواء وأذود عن الحمى، فكأنني وشانئي عند قول القائل:
وهل عجب إن كان فرعي عسجدا
إذا كنت لا أرضى مفاخرة العشب»
وهذا وصف صادق، إذا أغضينا عن جانب الفخر فيه، طابق صفاته النفسية التي تشهد بها أقواله وأعماله ومساعيه، وهي مجموعة محكمة من الصفات القوية، لكنها على قوتها بسيطة متناسبة، يأخذ بعضها ببعض على نحو مألوف غير مستغرب في أمثال هذه النفس الفطرية، وأعمقها جدا هو أظهرها جدا ...! أو هو الذي تعمق حتى بلغ من عمقه أن ينضح على قسمات وجهه وحركات جسده، وهو الطموح إلى الهيبة والثراء، وطلب البسطة في الجاه والمال، ما نخاله وقف في الطموح عند حد، ولا قعد عن الخلافة وهو مختار، بل هو قد طمح إليها وأعد عدته لإقصاء بني أمية عنها، فلما أيأسه مغمز النسب ورجحان بني أمية على بني سهم في العصبية القرشية، طوى الصدر على كظم وقعد عنها وهو كاره يعزي نفسه بقوله المأثور عنه: «إن ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة.»
وكان سعيه إلى الرئاسة والمال باديا منه في الإسلام كما بدا منه في الجاهلية، فلم يعرف له موقف قط نزل فيه عن الرئاسة باختياره.
فلما بعث به النبي - عليه السلام - إلى غزوة ذات السلاسل، أرسل في طلب المدد فجأءه المدد من المهاجرين، وفيهم أبو بكر وعمر وعليهم أبو عبيدة بن الجراح أمير، فقال عمرو: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله أستمده بكم، فأنف المهاجرون أن يؤمروه وفيهم من فيهم من جلة الصحابة، وقالوا: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أميرنا ... قال عمرو: إنما أنتم مدد أمددت بكم ...
وأشفق أبو عبيدة أن يتخاذلوا وهم على أهبة الحرب، فقال له: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا.» وإنك إن عصيتني لأطيعنك، قال عمرو: إذن أنا أعصيك، قال أبو عبيدة: وأنا أطيعك.
وعاد إلى منازعة أبي عبيدة الرئاسة والإمارة يوم أقدم أبو بكر - رضي الله عنه - على فتح الشام، فسعى عند عمر ليقنع الخليفة بتأميره على الألوية جميعا، وكان يوشك أن يفلح في مسعاه لولا إكبار عمر لأبي عبيدة، حتى لقد هم بمبايعته بعد النبي - عليه السلام - قال: إنه ليستخلفنه بعده لو عاش.
وقد كان حب المال يملؤه ويتمكن منه حتى لم يبال أن يخفيه، ولم يزل يتكلم - كلما دعاه داعي الكلام - بما يكشفه وينم عليه.
سأله معاوية وقد شاخا وبطلت لذات الشباب عندهما: ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟ قال: محادثة أهل العلم وخبر صالح يأتيني من ضيعتي.
وفي حديث آخر أنه دخل يوما على معاوية، وقد كبر ودق ومعه مولاه وردان، فتذاكرا الأيام واستطرد عمرو سائلا: يا أمير المؤمنين ما بقي مما تستلذه؟ قال معاوية : «أما النساء فلا أرب لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست منها حتى وهى بها جلدي، فما أدري أيها ألين، وأما الطعام فقد أكلت من لبنه وطيبه حتى ما أدري أيه ألذ وأطيب، وأما الطيب فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري أيه أطيب ... فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بني وبني بني يدورون حولي ... فما بقي منك يا عمرو؟!» فقال: «مال أغرسه فأصيب من ثمرته وغلته!»
وقد اشتهر منه هذا الحب للمال حتى عرضه لظنون الخلفاء واحدا بعد واحد؛ فقاسمه عمر ماله، وعزله عثمان من ولاية مصر وهو يحسب أنه قد استأثر بخراجها دون بيت المال، وقال له معاوية يوما وهو يذكر له الحساب والعقاب والأوزار التي يثقل بها ميزان السيئات: هل رأيت بينها شيئا من دنانير مصر؟
ومن ثم تسابق الرواة في تقويم ثروته يوم وفاته، فاعتدل صاحب «مروج الذهب» في وصفها بعض الاعتدال، وبالغ صاحب «حياة الحيوان» فقال: إنه خلف «سبعين بهارا دنانير» والبهار من جلد الثيران، قيل: إنه يسع أردبين!
ولقد كان النبي - عليه السلام - أدرى الناس بهذه الصفة في عمرو بن العاص قبل أن يعرفه المسلمون أو المشركون بطول المراس وتعاقب الأعمال والمساعي وتفتق المطامع والآمال، فولاه الإمارة في غزوة ذات السلاسل، وقال له وهو يعرضها عليه: «إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال زعبة صالحة.»
1
فأجابه عمرو، وهو يشفق أن يظن النبي بإسلامه الظنون: «يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإسلام.» فهون عليه النبي ما خامره من الظن ودفع عنه وهمه وهو يقول: «يا عمرو ... نعما المال الصالح للمرء الصالح.»
ثم عهد إليه في ولاية الصدقة بعمان، فبقيت له إلى أن تولى أبو بكر الخلافة فرغبه فيما هو خير منها.
وظل الرجل يسائل نفسه عن حفاوة النبي به إلى آخر حياته، فروى الحسن البصري أن بعضهم قال له - أي عمرو - أرأيت رجلا مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو يحبه أليس رجلا صالحا؟ قال: بلى، فقال محدثه: قد مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو يحبك، وقد استعملك، قال: «بلى ... فوالله ما أدري أحبا كان لي منه أو استعانة بي.» •••
ومن خصائص هذا الطموح الذي لزمه من صباه إلى ختام حياته أنه كان كما رأينا طموحا قائما على مطالب الواقع في بواعثه ومراميه، فكانت نظرته إلى الدنيا نظرة معروفة الموارد والمصادر، ولم تكن تلك النظرية الخيالية التي يتسم بها أصحاب الحماسة والأحلام من ذوي الطموح.
ومناط الرجحان في تلك النظرة العملية إنما هو للأخذ بالأحوط والأنفع في كل أمر من الأمور ما كبر وما صغر، حتى ليكاد الأحوط والأنفع أن يكون عنده مقياسا للحق أو لصحة الأشياء على نحو يشبه مقياس القائلين بفلسفة الذرائع
في عصرنا الحديث.
فلم نعرف قط حكما من أحكامه في أجل الأشياء فارقته تلك النظرة العملية، أو ذلك المقياس الموكل بالأحوط والأنفع في ترجيح جانب على جانب وطريقة على طريقة.
وحسبك من جلائل الأحكام في أعظم مطالب الحياة حكمه في مسألة العقيدة الإسلامية وحكمه في مسألة الخلافة، وهما أعظم ما عرض له من المشكلات التي تتطلب الترجيح والتفضيل، وكلاهما قد حكم فيه على سنة الأحوط والأنفع بين مختلف الوجوه.
فلما استراب المشركون في ميله إلى الإسلام أوفدوا إليه من يسأله في ذلك، فلم يكاشفه بالحقيقة لأول وهلة، بل واعده إلى مكان منفرد وقال له: أنشدك الله الذي هو ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال صاحبه: اللهم بل نحن، فسأله: أفنحن أطيب معاشا وأوسع ملكا أم فارس والروم؟ قال صاحبه: بل فارس والروم، فقال عمرو: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم أكثر فيها أمرا، ثم عاد فقال: قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق؛ ليجزى المحسن في الآخرة بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يا بن أخي الذي وقع في نفسي ولا خير في التمادي في الباطل.
وخلاصة هذا البرهان العملي أن الإسلام أنفع للعرب وأصلح للدنيا والآخرة، فهو أحق بالتصديق وأجدر بالاتباع.
ولبث في مشتجر الخلافة لا يميل إلى طرف من أطرافها، حتى انحسر الخلاف كله عن حزبين اثنين لا ثالث لهما، فوجب عليه أن يخرج من عزلته لينصر أيهما، وهما حزب علي وحزب معاوية.
فدعا بولديه عبد الله ومحمد فقال لهما: إني قد رأيت رأيا ولستما باللذين ترداني عن رأيي لكن أشيرا علي، إني رأيت العرب قد صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟ قال له عبد الله وقد علمنا تقواه: إن كنت لا بد فاعلا فإلى علي، قال: إني إن أتيت عليا يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره.
وعلى هذا الأساس في التفضيل بين الطرق سلك أحب الطريقين إليه وأجدرهما عنده بالاتباع. •••
وأعانه على هذه النظرة العملية أنه كان مالكا لزمام شعوره، آمنا أن تضله الحماسة من ناحيتها أو يضله الحنان من ناحيته، قابضا بعقله على جمحات العاطفة كما نسميها اليوم، أو كما قال هو: «أبلغ الناس من كان رأيه رادا لهواه، وأشجع الناس من رد جهله بحلمه.»
فليس في جوامح الشعور ما هو أشد جماحا ولا أقرب أن ينفلت من قبضة العقل من غضبة الغيور على عرضه، أو حنان الواقف على جثة أخيه، أو نخوة المتصدي للقتال بين معسكرين، فهي هي الجوامح التي قل أن تراض وأن تثوب على المشيئة إلى قوام.
ولكنه عمرا قد راضها كلها على ما أراده في حينها وبعد حينها، وكانت رياضته لها وهو في عنفوان الصبا كرياضته لها وهو في أوج الكهولة قد أناف على الأربعين.
خرج مع عمارة بن الوليد المخزومي إلى أرض الحبشة تاجرين، وكان عمارة مولعا بالخمر والنساء فشرب وهما في السفينة فانتشى، ونظر إلى امرأة عمرو نظرة اشتهاء ثم هم بتقبيلها، بل أومأ إليها أن تقبله في قول صريح، فقال لها عمرو - متقيا ما يكون من رجل سكران بين الماء والسماء: قبلي ابن عمك! فقبلته، فلم يزد ذلك عمارة إلا إغراء بالمراودة وجرأة على القحة، ولمح عمرا على حافة السفينة - وهو في سكرة من سكراته - فدفع به إلى الماء يظنه غير قادر على السباحة، كما يغلب بين أبناء البادية، فسبح عمرو حتى نجا وسمع عمارة وهو يقول له غير آبه بحقده عليه: أما والله لو علمت يا عمرو أنك تحسن السباحة ما فعلت! فإذا هو قد جمع سوء النية بحياته إلى سوء النية بعرضه ومع هذا كله كظم عمرو ما بنفسه، وظل يصانعه حتى تمكن من الكيد له عند النجاشي، فأرسله في العراء مخبولا يعيش في الغربة عيش الأوابد حتى مات ...!
واشترك عمرو وأخوه هشام في حرب الشام، وأخوه هذا من علم الناس في الصلاح وصدق البلاء، فإذا ثلمة في الطريق يتخطف المدافعون من يهجم عليها بالسيوف، فهابها العرب وأحجموا عنها وطال ترددهم لديها، فإذا هشام يقدم عليها وهو ينادي في الجيش: يا معشر المسلمين إلي إلي! أنا هشام بن العاص! أمن الجنة تفرون؟ وما زال يتقدم حتى خر قتيلا متعرضا في تلك الثلمة المرهوبة، فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يدوسوه كرامة له ولأخيه، فكان عمرو أول من تقدم فداسه وهو يصيح بجنده: أيها الناس إن الله قد استشهده ورفع روحه، وإنما هي جثة ثم أوطأه وتبعه الناس، حتى تقطع وهو مشغول عنه بما هو أجدى وأعظم، فلما انتهت الهزيمة عاد إليه وجعل يجمع لحمه وأعضاءه وعظامه بيديه ثم حمله في نطع فواراه ...!
وبرز علي بن أبي طالب يوما في حومة صفين وقد طال أمد القتال، فقال: يا معاوية! علام يقتتل الناس؟! ابرز إلي أو أبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب، وجاء في روايات شائعة أن عمرا قال لمعاوية يومئذ: والله لقد أنصفك الرجل ...! فظن معاوية أنه يغرر به ويدفع به إلى هلاكه طمعا في دولته؛ فأقسم عليه ليخرجن للمبارزة التي أغراه بها، فلما غشيه علي بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته، فضرب على وجه فرسه وانصرف عنه.
وكل هذه أخبار متوافقة يخيل إليك أنك ترى ابن العاص وهو يفعلها ويروض وقائعها رياضة الرجل الذي يعتز بقدرته على هواه، وكأنه يأنف لدهائه أن يغتر بنزوات الساعة كما يغتر بها سائر الناس، وكلها تعبر عن خليقة لا شك في صدقها عند ابن العاص، وإن تمارى الناس في صدق الروايات، ونعني بها خليقة النظرة العملية وغلبة العقل على الشعور.
ولا شك أن استحضار هذا «الخلق العملي» لازم جدا للمؤرخ في كل خطوة يخطوها مع عمرو بن العاص في أحواله الفردية أو أحواله العامة؛ لأنه سرى من مزاجه إلى سياسته وطريقة التفاهم بينه وبين الناس، سواء كانوا من الزملاء أو الرعية أو الأعداء، وقلما تظهر الطريقة التي يقتنع بها الرجل من شيء كما تظهر من الطريقة التي يقنع بها الآخرين.
انظر مثلا إلى الفرق بينه وبين عبادة بن الصامت في إقناع عظماء القبط ببقاء العرب في مصر، وأنهم لن يتركوها وقد دخلوها، ولن يرجعوا عن فتحها جميعا لا لرغبة في رشوة ولا لرهبة من قوة.
فإن عبادة بن الصامت لم يزد على أن احتقر الدنيا حين خوف المقوقس عاقبة الإيغال في بلده، فكان توكيد حب الآخرة هو فحوى كلامه حين قال: إن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده؛ إنما النعيم والرخاء في الآخرة وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه.
أما عمرو فإنه وقف مثل هذا الموقف فلجأ إلى الطعام؛ ليقنع عظماء القبط بأن العرب غير تاركي مصر وقد دخلوها. «أمر - كما جاء في الطبري - بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا: انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، ثم بعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا وقالوا: كدنا، وبعث إليهم - أي إلى أمراء الجنود - أن تسلحوا للعرض غدا وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم افتقار العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم ثم حالهم في الحرب فظفروا بكم، وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول ...»
وإن هذا الضرب من البراهين لقائم عنده أبدا لا يأتي عرضا في حادث من الحوادث ثم ينقضي بانقضائه، وكثيرا ما ذكر الطعام وهو يلجأ إلى الإقناع، فكان من كلامه: «أكثروا الطعام، فوالله ما بطن قوم قط إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضيت عزمة رجل بات بطينا!»
بل هو يقوم الأخلاق والفضائل بقيمتها العملية وفائدتها الملموسة، فالعدل مثلا فضيلة جميلة محبوبة، ولكنها عند عمرو محبوبة؛ لأنها سياسة حسنة لتوفير المال كما قال: «لا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.»
وإن ذلك لشأنه في تقويم كل قيمة، وتفضيل كل فضيلة. •••
وفي أخلاق عمرو «عقدة نفسية» لا تفتأ تصادفنا عند المقابلة بين نقائضه، كما تصادفنا في جميع العظماء من أمثاله وأشباههم في الطبيعة والملكة، ونعني بهم أولئك الذين يلتقي فيهم الطموح والحركة وضبط النفس في سبيل المطالب التي يطمحون إليها، فما منهم أحد إلا وجدت له نقائض من الحذر الشديد والاندفاع الشديد، أو من ضبط النفس كأنه لا يعرف جمحات الشعور، ومن المجازفة كأنه لا يعرف الروية، وهي نقائض في الظاهر وليست بنقائض في الحقيقة؛ لأن قوة الطموح تفسر لنا النقيضين، فإذا هما مستمدان من ينبوع واحد وهو قوة الطموح؛ إذ إن هذه القوة الطامحة لا تزال محضرة له الأمل شاخصا باهرا نصب عينيه، فيهون عليه أن يكبح شعوره الجامح في سبيل الوصول إلى أمله العظيم، أو في سبيل المحافظة عليه بعد الوصول إليه.
ثم يثقل الكبح على هذا الطماح لقوته فيلتمس الروح منه والمنفس من قيده بالمجازفة، كما يتوق الصائم إلى العيد، والفرس الملجم إلى المراح.
فساعة المجازفة وهي ساعة التسريح من القيد، وهي ألزم له من حالة التوسط التي لا قيد فيها ولا انطلاق.
وقد كان الذين يعرفون عمرا بالدهاء وكبح الهوى، يعرفونه كذلك بالاندفاع والهجوم على المهالك، فقال عثمان يحذر منه الفاروق - رضي الله عنهما: «إن عمرا لجريء الجنان، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة فيعرض المسلمين للهلكة!»
وشاعت عنه روايات في المجازفة، يخيل إليك أنها من أطوار الحماسيين أصحاب الخيال، لولا أن العقال يغري بالانفلات من ربقته، فيقدم الرجل الحذور على شطحات قد يحجم عندها صاحب الخيال المشبوب!
قيل: إنه تعرض للموت مرات، لاقتحامه الحصون على أعدائه في هيئة رسول أو محارب من عامة الجند في جيش المسلمين؛ فلما طلب والي قيسارية رسولا من العرب يكلمه ذهب عمرو إليه، فأعجب الرجل بحديثه وعقله وخطر له أنه قد يكون أمير العرب فيستريح منهم جميعا بقتله، فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، قالوا: وتنبه عمرو، أو نبهه أحد إلى المكيدة فرجع إلى الوالي يقول: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد، فقال: صدقت! عجل بهم، وبعث إلى البواب أن خل سبيله.
ورووا عنه في الإسكندرية قصة تماثل هذه القصة، وهي أنه اقتحم بعض حصونها مع فريق من الجند، ثم ارتدوا وبقي هو وثلاثة من صحبه، فعرض عليهم الروم أن يخرجوا إليهم ليبارزوهم واحدا لواحد، فتصدى هو للمبارزة، لولا أن منعه صاحبه مسلمة بن مخلد، ووقف دونه وهو يقول له: «ما هذا؟ تخطئ مرتين فتشذ عنك أصحابك وأنت أمير، وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك، لا يدرون ما أمرك حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك، مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله.»
قالوا: ومثل بين يدي البطريق فعجب هذا من أنفته وقوة جوابه، فالتفت إلى من في مجلسه وقال لهم باليونانية: «يظهر من أنفة هذا الرجل وكبر نفسه أنه من وجوه العرب، وربما كان من كبار قوادهم فلا ينبغي أن نتخلى عن قتله.» وكان مولاه وردان يفهم اليونانية، فأحب أن يريهم خطأهم، وبين لهم أن الذي يكلمهم إنما هو رجل من عامة الجند، فأسرع إليه فلطمه صائحا به: ما أنت ولهذا يا لكع! دع هذا المقال لمن هو أولى منك بالكلام عن قومه! فكانت هذه اللطمة سبب نجاته.
ورويت عنه روايات أخرى من هذا القبيل إن صحت كلها أو صح بعضها، أو كانت كلها اختراعا من تلفيق الرواة، فالدلالة التي لا شك فيها على كل حالة من هذه الحالات أن الرجل كانت له شهرة بالمجازفة تقبل فيها أمثال هذه الروايات، وتدعو إلى تلفيقها بما يشبه الواقع المعهود من أخلاقه.
وهو نفسه كان يقول ما ينم على هذا الخلق فيه، فهو القائل: «عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة.»
ولعله لم يفصح بكلمة من كلماته عن ضيقه بقيود الحكمة والسمت وكبح الهوى، كما أفصح عنه بقوله وقد سئل عن أمتع اللذات، إذ قال: «إسقاط المروءة!»
فهي كلمة الرجل الذي تقيد بالوقار، حتى أصبح طرح الوقار عنده غاية ما يبتغيه من اللذة ويشتاق إليه، وتقيد بكبح الهوى حتى أصبحت المجازفة في المزالق المهلكة هي فرجة نفسه من ذلك الحجر الذي ضربه عليها.
أفنقول إذن: إنه شجاع مقدام، أم نقول: إنه جبان حذور؟
بل نقول: إنه شجاع كما قال معاصروه وقد شهدوه في مواقف الاستبسال ومآزق الحرب والفزع، ولكننا نعود فنقول: إن شجاعته وكل فضيلة فيه إنما كانت في خدمة طموحه إلى المجد الذي كان يسعى إليه، فهو يضن بشجاعته أن يبذلها في غير طائل، ويتخذها وسيلة إلى غاية ولا يجعلها هي الغاية التي تنقطع دونها الوسائل.
وقد سأل هو صاحبه معاوية يوما: «والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان؟» فقال معاوية:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة
وإن لم تكن لي فرصة فجبان
وبمثل هذا الجواب يستطيع عمرو أن يجيب من يسأله مثل ذلك السؤال، إلا أنه كان أحوج إلى الوثوب والمجازفة من معاوية، فقد كان نسب معاوية ومكانته في بني أمية مع طول استعداده للملك مغنيا له عن عجلة الوثوب والمجازفة من حيث لا يستغني عنه عمرو وهو مغموز النسب، مخذول العصبية، مضطر إلى إدراك مطلبه قبل أن يفوته، فلا تسنح لإدراكه سانحة أخرى.
ومن ثم اختلف دهاؤه ودهاء معاوية - كما قال مرة وهما يتساءلان عن العقل - قال معاوية: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه، فقال معاوية: لكنني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه.
كل منهما بدهائه أشبه: عمرو في اقتحام الطموح المغامر، ومعاوية في تؤدة المستقر الواثق، وعمرو في دفعة العبقرية، ومعاوية في روية التدبير الطويل.
ولعل هذه الحيلة الحاضرة التي كانت تجود بها عبقرية عمرو كخاطف البرق في المآزق المطبقة، وهي التي كانت تزين له الهجوم على المورد وهو واثق من قدرته على الصدور، فكان في مجازفته شيء من الحيطة المجهولة، تبقى مجهولة حتى تعلم في الوقت المقدور، فإذا هي مسعفة لا تخيب رجاءه فيها واعتماده عليها.
ولقد أحصى العرب دهاتهم في الإسلام فعدوا أربعة هو منهم، وجعلوا لكل منهم مزية يمتاز بها في دهائه فقالوا: إن معاوية للروية وعمرو بن العاص للبديهة والمغيرة للمعضلات وزياد لكل صغيرة وكبيرة .
ونظن أن لو تكلم العرب باصطلاح هذه الأيام لقالوا: إن حيلة عمرو هي حيلة العبقرية المطاعة التي تتفتق له من حيث يعلم ولا يعلم وآيتها أنها عبقرية معبرة تلهم الخاطر السريع وتلهم التعبير عنه في كلم وجيز، وهذه هي العبقرية التي يختلط أمرها أحيانا على من يراقبونها فيتهمونها بالطياشة، ويرمونها بدفعة التهور؛ لأنهم يسلسلون أسبابهم في بطء وتثاقل، وهي تسلسل أسبابها في سرعة وخفة، فيبدو لها ما يظل خافيا عليهم ملتبسا في أعينهم، ولولا أنها واضحة عند صاحبها كل الوضوح لما تسنى له التعبير عنها بأسلوب يلائم ومضاتها في السرعة والنفاذ.
قيل لعمرو: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظن، ومعرفة ما سيكون بما قد كان، وذلك هو الظن الذي يقول فيه القائل:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا
والأصح أن يقال: إن التعريف بالعقل هنا هو التعريف بعقل عمرو نفسه؛ لأنه كان يجمع بين الفطنة والخبرة، وبين التخمين واليقين، ويأخذ من أمامه بالنظرة الخاطفة فإذا هو قد وصل، والذي أمامه لا يزال يتحرى سبيل الوصول.
قيل في غير الرواية التي قدمناها: إنه هو الذي وصف نفسه ووصف الدهاة الثلاثة معه على تلك الصفة، وأنه اجتمع مع معاوية بن أبي سفيان مرة فقال له معاوية: من الناس؟ فقال: أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد، قال معاوية: كيف ذلك؟ قال: أما أنت فللتأني، وأما أنا فللبديهة، وأما المغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير ... قال معاوية: وأما ذانك فقد غابا، فهات بديهتك يا عمرو! قال: أوتريد ذلك؟ فأجابه نعم، فسأله أن يخرج من عنده فأخرجهم، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، أسارك، فأدنى معاوية رأسه منه، فقال عمرو: هذا من ذاك! من معنا في البيت حتى أسارك؟
وتصح هذه الواقعة أو لا تصح فهما يستويان، إذ الغرض الذي ترمي إلى إثباته صحيح، وهو أن تفكير عمرو تفكير بديهة حاضرة، وأن تفكير معاوية تفكير روية بطيئة، ومرجع ذلك كما قدمنا إلى سببين: أحدهما أصيل والآخر عارض، فالسبب الأصيل أن عمرا يصدر عن وحي العبقرية، وأن معاوية صاحب عقل من العقول الوسطى التي أفادتها المرانة وتمثلت أمامها قدرة الآباء، كأنها السجل المحفوظ الذي ينقل عنه نقل المحاكاة، والسبب العارض أن عمرا مضطر إلى الوثوب والاقتحام؛ لأنه لن يفتح له باب بغير اقتحام، أما معاوية ففي موضعه وانتظار ساعته على هينة ووثوق، فإن وصل فذاك وإن لم يصل فالذي في يده يغنيه، والعجلة لا تغني عنه ولا تنفعه كما تنفعه الأناة. •••
والبديهة الحاضرة في أعمال عمرو لا تحصى شواهدها، فإنها تلازمه في جميع حالاته ولا تبدو منه في حالة دون حالة: تذكيها المآزق والخوف من الخطر، ولا تخمدها الطمأنينة والأمان في سرية، ويستخدمها لغيره كما يستخدمها لنفسه كما شاء.
خرج يعس بالليل وهو أمير على مصر، فسمع أناسا يقعون فيه ويتوعدونه وعلم أنه إن تركهم إلى غده لم يعرفهم ولم يظفر بأجمعهم فأقبل عليهم إقبال الخائف الطريد، وأوهمهم أنه يلوذ بهم ويضرع إليهم ألا يسلموه إلى الأمير؛ لأنه يتعقبه ويمعن في طلبه، فاستبقوا إلى تقييده وساقوه إلى باب قصره لا يتخلف أحد منهم طمعا في المثوبة، فأوصلهم إلى حيث أراد!
وقتل الروم رجلا من المسلمين حول الإسكندرية، واحتزوا رأسه وانطلقوا به إلى داخل الحصن، فأقسم أبناء قبيلته لا يدفن إلا برأسه، قال عمرو: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم! احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلا، ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم، فلما فعلوا إذا برأس صاحبهم يسقط عليهم، فقال: دونكم الآن فادفنوه برأسه.
أما البديهة الحاضرة في تعبير عمرو، فمسطورة الشواهد في مساجلاته وأجوبته ورسائله وأوصافه، فهي جميعا مثل من أمثلة الإيجاز والمضاء، كأنها ضرب من الاختزال لولا أنها واضحة وضوح التفصيل، وقد رويت له مقطوعات من الشعر تسلكه بين طبقة من الشعراء، لولا أن كلمات البديهة التي أثرت عنه قد غلبت على نظمه ونثره، فكانت أولى بالدلالة على العارضة القوية فيه وهي أنبغ ملكاته، وحسبك من نبوغ هذه الملكة فيه أنها كانت عند الفاروق من آيات قدرة الله، فكان إذا رأى رجلا يتلجلج في كلامه قال: آمنت بالله! ... خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد! •••
وإذا اجتمع للرجل ذكاء ماض، وعزيمة ماضية، ولسان ماض، وهوى يمضي في زمامه وينثني بعد عرامه، فذلك الرجل الذي يحسب له حساب في كل زمان وجد فيه.
ولكنه أحرى أن يحسب له كل حساب في أيام الفتن والقلاقل واختلاف الدعاوى والحقوق؛ لأنه يستطيع التفريق والتوفيق ويستطيع التأليب والتغليب، وعسير جدا أن يهمل شأنه بين الشيع والأحزاب، وإن لم يكن إهماله في غيبة الشيع والأحزاب جد عسير.
لهذا لم يظهر لعمرو بن العاص شأن ذو بال في الترشيح للخلافة بعد الفاروق، بل عد دخوله في هذا الأمر من الفضول والتظاهر بما ليس من قدره؛ فلما اجتمع رهط الشورى في بيت عائشة لانتخاب الخليفة أقبل هو والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما من مكانهما وهو يهزأ بهما قائلا: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في الشورى؟!
فما زالت الأيام تدور دوراتها حتى أصبح هذا المحصوب الذي استكثر عليه الجلوس بباب أهل الشورى، فإذا هو قبلة القصاد في مشكلة الخلافة، وكل من عداه لائذون بالأبواب ...!
ولا نختم الكلام في التعريف بعمرو حتى نومئ إلى تعريف له طريف من كلام مجالد عن الشعبي عن قبيصة عن جابر في رواية النجوم الزاهرة، حيث قال بعد كلام في وصف نفر من الصحابة: «... وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت أنصع ظرفا منه، ولا أكرم جليسا ولا أشبه سريرة بعلانية منه.»
والطريف في هذا الوصف مشابهة السريرة والعلانية في الرجل الذي لم يشتهر بشيء كما اشتهر بالدهاء.
فهل فرط الدهاء خيل إلى الرجل الذي وصفه بتلك الصفة أنه أشبه الناس سرا بعلانية؟
أو هو الصدق رآه الرجل الطيب فوصفه كما رآه غير مبال بمن يستغرب هذه الغريبة أو تخامره الشكوك فيها؟
إننا في الحق لا نستبعد أن يكون عمرو بن العاص شبيه السر بالعلانية في جميع الأمور التي لا يعنيه أن يكتمها أو يلوذ فيها بحيطته ودهائه!
فقد عهد في كثير من الدهاة أنهم ينطلقون بالحديث، ولا يتحرزون من الصراحة في أخطر الأمور، وقد أثر هذا عن بسمارك كما أثر عن بيكنسفيلد
2
من دهاة الأوروبيين في الزمن الأخير.
ومعظم هؤلاء الدهاة يحبون إرسال النفس على السجية، ويشبهون المهرة من اللاعبين الذين يلعبون «على المكشوف»، كما يقولون في عرفهم، ثقة منهم بالقدرة على الإصابة والسداد، أو يشبهون الفارس الذي يخلع شكته من حين إلى حين مباهاة ببأسه واقتداره، ولا سيما إذا كان هؤلاء الدهاة ممن امتزجت بهم نزعة المغامرة والطموح البعيد.
ويلوح من جملة أخبار عمرو مع معاوية على التخصيص أنهما كانا في الصلة التي بينهما يؤثران اللعب على المكشوف، ولا يضيعان الوقت في مراء يعرفانه ولا يجهلانه، وقد كانت مساومة عمرو لمعاوية صريحة لا مداجاة فيها، فقال له: «أترى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟ لا والله! إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنك ...»
وعلى هذا النمط كانت المساومات بينهما في معظم الأحاديث المروية عنهما، فإذا عمد أحدهما إلى المداورة لم يلبث أن يرتد إلى الصراحة وقد رأى عين صاحبه واقعة على أخفى خفاياه!
فغير بعيد إذن أن يكون عمرو من الظرفاء الصرحاء في أحاديث المجالس وعروض الكلام المشاع، وليس في شيء من هذا ما يناقض صفته التي خرجنا بها من جملة أحواله ومساعيه، وهي صفة الرجل العملي، الطموح الذكي الذي يكبح هواه وينفلت منه بين الحين والحين في نوبات مجازفة تغريه بها وثبات العبقرية وضرورة الاقتحام، ويهونها عليه اقتداره على رد الزمام إلى يديه، وابتداع الحيلة المسعفة حيث شاء.
الفصل الثالث
من التجارة إلى الإمارة
من الطمع الكثير أن تتطلع إلى تاريخ مفصل لطفولة عمرو بن العاص، أو لطفولة عظيم من عظماء عصره في البلاد العربية خاصة؛ لأن أبناء العصور القديمة قلما حفلوا بالطفولة أو حفلوا بأخبار الرجال - كبارهم وصغارهم - إلا بمقدار اتصالها بالحوادث الجامعة؛ فهم حينئذ يدخلون في حوزة التاريخ ويذكرون في سباق الحوادث التي لهم بها اتصال.
ولكننا نستطيع أن نقول على ثقة: إن عمرا الطفل قد تعلم كل ما يتعلمه أطفال العرب المقيمين في الحاضرة؛ لأنها السنة العامة التي لا موجب للشذوذ عنها؛ ولأننا نعلم ذلك وزيادة عليه من أخباره وهو في طور الشباب والكهولة، فنعلم أنه كان يحسن ركوب الخيل والسباحة ويحسن الضرب بالسيف، وينظم الشعر ويعرف الكتابة كما كان يعرفها نفر من أبناء التجار النابهين الذين يرشحهم آباؤهم للعمل في التجارة.
وقد عصمه اعتزازه بالنسب أن ينظم الشعر للتكسب بالمدح والهجاء على عادة «المحترفين» من شعراء زمانه، وإنما كان ينظمه للتنفيس عن نفسه، ويجري به خاطره كما كانت تجري به خواطر الوجوه من رؤساء العشائر في معرض العظمة والاعتبار.
والظاهر من أخبار نشأته الأولى كما أسلفنا أنه بكر بالزواج؛ لأن الفارق بين سنه وسن ابنه عبد الله غير كبير؛ ومن ثم يجوز لنا أن نفهم أنه استقل بمعيشته وهو في ميعة الشباب، ولا سيما إذا ذكرنا أن أمه لم تكن سيدة الدار في كنف أبيه.
فربما تزوج الفتى الناشئ من أهل البادية، ولم يستقل بالمعيشة بعد زواجه؛ لأنه يعمل هو وزوجه في رعي الإبل له ولأبيه في محلة واحدة.
أما العربي الناشئ في الحاضرة فالأغلب الأعم أن يستقل بيته وعمله بعد زواجه، ويصدق هذا على عمرو خاصة؛ لأننا لم نقرأ من أخباره وهو عامل في التجارة أنه كان يصحب أباه في رحلاته إلى الحبشة والشام، وربما دل على استقلاله بمعيشته البيتية أنه كان يصطحب زوجه في سفره، كما جاء في النبأ المشهور عن إحدى رحلاته إلى الحبشة، وإنه لكذلك دليل على شبيبة حازمة غير لاهية، جديرة أن تضطلع بأدب الأسرة، ولا تعيث في الغربة عيث الإباحية التي شاعت بين فتوة الجاهلية.
وقد داول في شبيبته بين الجزارة والتجارة، وظل يداول بينهما إلى ما بعد إسلامه وانقضاء صدر من الإسلام إلى قيام الفتنة بين علي ومعاوية؛ ففي مشاورته لولديه بين اللحاق بهذا أو بذاك كان يشكو معيشته بين «جزاري مكة»، ويطمح إلى مقام أكرم له من هذا المقام.
وللتجارة في سيرة عمرو شأن أعظم من شأن المرتزق أو الصناعة التي يكسب بها مئونة عيشه؛ لأنها ولا ريب كانت مدرسته الكبرى التي تعلم فيها ما تعلم من أحوال الحياة وخلائق الناس، بل كانت مدرسته الكبرى في السياسة والفتوح: من سياحاتها تلقى علمه الأول عن الأمم والبلدان، ومن سياحاتها نفذ إلى عيوب الحكم ومواقع الخلل في الدول التي كانت له يد في الإشارة بفتحها وسوق الجيوش إليها، وتهوين الأمر على الخلفاء حين خامرهم التردد في القدرة عليها.
وكانت سياحاته التجارية خليقة أن تطلعه على أسرار دخيلة ليس يفطن لها كل سائح، لامتيازه بنفاذ البصر وبلوغه مرتبة الحظوة عند بعض الأمراء الذين كانت له تجارة في بلادهم، ومن تلك الحظوة أن نجاشي الحبشة قد ألفه وعوده أن يلقاه كلما عاد إليه لقاء المودة، ويستمع له في خاصة أهله ويدعوه أحيانا بالصديق.
وسنجتزئ من أخبار سياحاته بطائفة قليلة فيها الغنى عن سائر تلك الأخبار وفيها كذلك غنى في الإبانة عن كثير مما يستحق الجلاء من خلائقه ومساعيه.
خرج إلى الحبشة في شبابه مع فتى عربيد من بني مخزوم يدعى عمارة بن الوليد، (وقد سبق ذكر هذه الحادثة على إيجاز)، فشربا في السفينة خمرا، فسكر عمارة ونظر إلى امرأة صاحبه نظرة مريبة وسألها أن تقبله، فكظم عمرو غيظه وقال لامرأته وهو يسر في نفسه شيئا: قبلي ابن عمك! فقبلته.
وطمع عمارة فلج في غيه، وتمادى في مراودة المرأة خلسة وعلانية وهي تمتنع عليه، فظن أن امتناعها لخشيتها من زوجها، وأنه بالغ مأربه إذا قذف به إلى البحر على غرة منه، فأمهل عمرا حتى دنا من حافة السفينة ودفع به إلى الماء، ثم أمعن في حماقته فصارح عمرا بسوء قصده، وقد نجا هذا سابحا من الغرق وعاد إلى السفينة، فقال له قولة تنضح بالحمق والغفلة: أما والله لو علمت يا عمرو أنك تحسن السباحة ما فعلت! أي: إنه كان ينوي له قتلة لا سلامة منها، فنجا وهو كاره لنجاته!
وتمضي الرواية فتنبئنا أن عمارة كان وسيما محببا إلى النساء، فدب إلى حرم النجاشي وخرج يفخر لعمرو بفعلته ويحدثه بنجواه مع خليلته، وعمرو يظهر له التكذيب ليستخرج منه دليل اليقين الذي لا يشك النجاشي في صدقه إذا نمى إليه، حتى ظفر منه بذلك الدليل فأورده موارد الهلكة في خبر طويل لا محل هنا لاستقصائه ...!
هذا خبر من أخبار رحلاته إلى الحبشة.
وخبر آخر من أخبار رحلاته إلى تلك البلاد رواه هو فقال ما فحواه: «جمعت رجالا من قريش بعد منصرف الأحزاب من الخندق فقلت لهم: إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فلأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن يظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلا يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا لرأي، قلت: فاجمعوا له ما يهدى إليه، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه وإنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري من قبل رسول الله، قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، رأت قريش أنني أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي! أهديت لي شيئا من بلادك؟ قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا، ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه!
ثم قلت: أيها الملك! إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فقلت: والله أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله؟! فراعني ما سمعت وسألته: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، ثم بسط يده فبايعته على الإسلام.» •••
أما رحلاته إلى غير الحبشة فالذي لا شك فيه أنه قد رحل إلى الشام وبيت المقدس، وحمل إليهما بضاعة من اليمن والحبشة والحجاز، ولكن الذي تحيط به الشكوك رحلة له إلى مصر، يوشك - لولا ما فيها من الخرافة - أن تكون أقرب الرحلات إلى التصديق؛ لأن جهله بمصر أدعى إلى الشك من بعض الخرافات، فإن لم تكن رحلة إليها فعلم بها على الأقل يساوي العلم بالمشاهدة والاختبار.
وخلاصة هذه الرحلة، كما تناقلها مؤرخو العهد، أن عمرا كان يرعى إبله وإبل أصحابه في جبال بيت المقدس نوبا بينه وبين أولئك الأصحاب، فبينما هو يرعى إذ أقبل إليه شماس يكاد يهلك من العطش، فسقاه عمرو حتى روي، وتركه ينام مستريحا إلى جواره وإنه لنائم إذ خرجت عليه حية عظيمة، فقتلها عمرو قبل أن تصل إليه، فاستيقظ الشماس وشكره وقبل رأسه، وقال له: لقد أحياني الله بك مرتين: مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فكم ترجو أن تصيب من تجارتك؟ قال: أرجو أن أشتري بعيرا فتكون لي ثلاثة أبعرة، فسأله الشماس: كم دية أحدكم بينكم؟ فأجابه عمرو: إنها مائة من الإبل.
فقال الشماس: لسنا أصحاب إبل بل أصحاب دنانير، فكم تكون الدية بالدنانير؟ قال: ألف دينار.
عند ذلك أنبأه الشماس أنه غريب في بيت المقدس، قدم إليه وفاء بنذر قديم، وسيعود إلى إسكندرية بلده، وعليه عهد الله لئن صحبه إليها ليعطينه ديتين؛ لأن الله تعالى قد أحياه به مرتين.
وسأله عمرو: كم يكون مكثه في هذه الرحلة؟ فأخبره الشماس أنه شهر ينطلق في ذهابه عشرا، ويقيم بالإسكندرية عشرا، ويعود في عشر.
فانطلق عمرو وصاحب له حتى انتهوا إلى الإسكندرية، فرأى من عمارتها وثروتها ما أعجبه، ووافق دخوله إليها عيدا يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم يترامون بكرة من ذهب، ويحفظون فيما اختبروه منها أن من وقعت في كمه لم يمت حتى يملك عليهم، فلما جلس عمرو والشماس على مقربة من ملعب الكرة، أقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو، فتعجب القوم لأنها لم تكذبهم خبرها في مرة من المرات، وتساءلوا: أترى هذا الأعرابي يملكنا؟
ثم حدث الشماس قومه حديث إنقاذه على يدي عمرو، فجمعوا له المال الذي وعده به، ورده محروسا مكرما إلى أن بلغ أصحابه.
تلك خلاصة القصة التي تناقلها المؤرخون عن رحلة عمرو إلى مصر قبل إسلامه، وهي قصة مريحة في تلفيقها؛ لأن القارئ لا يتعب في الاهتداء إلى مواضع التلفيق منها، فلا يخفى على قارئ من قراء العصر الحاضر موضع التلفيق من حكاية الكرة، ولا موضع المبالغة من حكاية الدنانير، وشفاعة القصة الوحيدة أنها تروي لنا مدخل عمرو مصر على أقرب الوجوه أن يكون هو الوجه الصحيح، وهو النظر إلى شعبها وحكومتها وعمارتها ومجمل أحوالها في صحبة شماس يريه من أسرار ذلك جميعه ما لا يراه في صحبة رجل غيره، إذ كان الشماسون يومئذ أعرف الناس بحقائق الخلاف بين الحكومة والكنيسة وبين شعب الكنيسة في داخلها، وكان عمرو خليقا أن يعرف منه مصر تلك المعرفة التي هونت عليه الهجوم على فتحها بذلك العدد القليل من الجند، وتلك العدة القليلة من السلاح.
غير أن هذه القصة على أية حال ليست مرجعنا الوحيد في العلم بزيارة عمرو للديار المصرية، فقد روى الكندي أنه كان يحمل التجارة إليها كما كان يحملها إلى بيت المقدس والشام.
والغريب حقا ألا يكون عمرو قد زار مصر في جاهليته مرة أو مرات، ويتجاوز حد الغرابة أن يكون قد وصل إلى تخوم مصر تاجرا ومقاتلا ولم يسمع من أخبارها الوافية ما فيه غنى عن الزيارة!
فلا شك أنه قد علم من أخبارها في جاهليته وبعد إسلامه شيئا غير قليل ... •••
وفي وسعنا على الجملة أن نتخيل حياة عمرو في الجاهلية على النحو الذي وصفته لنا حكايات الرحلة إلى الحبشة والشام ومصر، بما يتخللها من أفانين الاختراع والتزويق، فلن تكون على نحو غير النحو المعقول من تلك الحكايات بعد إخلائها من الأخلاط التي لم تخل منها قصة قديمة من قبيلها.
وقد ظهرت الدعوة المحمدية وعمرو بن العاص يعيش في الحجاز هذه المعيشة، أو يضرب فيما حوله على النحو الذي رأيناه.
فكيف كان لقاؤه الأول للإسلام؟ وكيف جاوب هذا الرجل تلك الدعوة الطارئة عليه؟
أوجز ما يقال: إنه جاوبها كما ينتظر أن يجاوبها رجل مثله في مثل طبيعته وعمله وخبرته بما حوله.
جاوبها على سنة الحيطة العملية التي لا تقدم على الأمر إلا إذا زالت جميع الموانع من طريقه، وتبينت دواعي الإقبال عليه فعارض الإسلام في حياة أبيه؛ لأنه كان يعتز باسمه ويعتز بالعصبية التي تعلق بها جميع فخره، أو جميع سلواه من حطة نسبه إلى أمه.
ومات أبوه، فظل يعارض الإسلام لبقية أمل عنده في غلبة قريش وإخفاق هذه الدعوة الواغلة عليها.
وانهزمت قريش مرة بعد مرة، فلم ييأس من رجعة النصر إليها، ولم يستسلم لأمله في انتصاره، بل فكر في الحبشة يلوذ بها وينتظر العاقبة فيها، فيستبقي مودة قريش إذا انتصرت، ولا يصاب بهزيمتها إذا هي أطبقت عليها الهزيمة، ويأمن على نفسه في الحبشة وعند صاحبه النجاشي ما استقر به المقام فيها.
لكنه لقي النجاشي فإذا هو صديق للنبي العربي، لا يغضبه ولا يفرط في رسله ودعاته ...!
ويجوز أن النجاشي قد أحس صدق النبي وعلم ما بين الإسلام والمسيحية من المقاربة والمناسبة، فاستنكر أن ينصر ديانة الأوثان على ديانة التوحيد!
ويجوز أنه نظر إلى الدعوة النامية نظرة حكمة وسداد، فأبى أن يناهض صاحبها وهو موشك أن يسود الطريق بين الحبشة ودولتي الفرس والروم، وأن يشرف على مسالك التجارة بين أقطار العالم المعمور.
وعلى كلتا الحالتين ليس هو بالعون لعمرو في تربصه بالإسلام وكيده لنبي الإسلام من قريب ومن بعيد!
وليس عمرو - في حيطته العملية - بالذي يحارب قضية تؤيدها هذه الطوالع في بلادها وغير بلادها، ولا هو بالذي ينصر قضية لقريش قد خذلتها هذه الخواذل، وحلق بها الفشل من نواحيها، وذهبت مولية تمعن في توليها ولا تؤذن بإقبال ...
هنا تفتح الحيطة سبيل التأمل والتفكير ...!
ومن دأب أصحاب هذه العقول أنهم يستنفدون أسباب الحيطة أولا، ثم يتأملون ويفكرون، فلا يمنعهم مانع أن ينفذوا إلى اللباب، وأن يدركوا ما هم أقدر على إدراكه من الآخرين، لولا ما كان يعوقهم من طبيعة التربص والانتظار، وإذا أدركوا فهم كذلك إنما يدركون على ديدن الحيطة والموازنة بين الأمور والمقابلة بين طريق وطريق ... فما باله لا يفكر في هذا الإسلام الذي لبث من قبل معرضا عنه مصرا على إبائه؟
ألا يجوز أن يكون خيرا وأبقى؟ بلى هو خير وأبقى؛ لأنه يكفل حياة الدنيا والآخرة، ويعوض العرب عن ضنك العيش، فلا تكون قسمتهم دون قسمة الفرس والروم، وهم أصحاب العيشة الرخية في هذه الحياة الدنيا.
ففيه مرضاة للعزة العربية ومرضاة للحيطة، ومنفس للأمل فيما بعد الموت، وفيه المحيص حيث لا محيص.
أيفهم من هذا أن عمرا لم يسلم عن يقين وخلوص نية؟
كلا! بل يفهم منه أنه أسلم كما ينبغي لصاحب هذه الطبيعة أن يسلم أو يؤمن بعقيدة من عقائد الفكر والروح.
فالإسلام لا يمنع اختلاف الطبائع وأساليب التفكير، ولا يستلزم أن يكون طريق الناس إلى فهم العقيدة واحدا لا تفاوت فيه.
ومن المستحيل أن يكون الرجل مطبوعا على الحيطة دون أن يكون لذلك الطبع أثر في إسلامه، أو يكون مطبوعا على الشك والتردد ثم يخلو منها ساعة تفكيره في التدين والاعتقاد، أو يكون شجاعا ويسلم إسلام الجبان، أو جبانا ويسلم إسلام الشجاع ...!
فإذا أسلم رجل كما ينبغي لطبعه وخلقه، فقد أسلم إسلامه الصحيح، ولا عجب أن يخالفه آخرون في دواعيهم التي جذبتهم إلى الإسلام، فإنما العجب أن يتفق الناس وهم مطبوعون على اختلاف!
ومن سيرة عمرو بعد إسلامه نعلم أنه كان يتعبد ويتصدق ويستغفر من ذنوب وقع فيها، ويقيم الصلاة ويسرد الصوم، ويعيش بين ذويه مسلما وكلهم مسلمون، وأدركته الوفاة فبكى لما أضاع من أيامه في جمع الحطام، وود لو يأخذه منه من يحمل وزره، وهو هنا أيضا يستقبل الموت استقبال المسلم الذي لا شك في إسلامه، وإلا لكان رضاه بترك المال لذويه أولى من أسفه لجمعه وحفظه، ولكنه كذلك لم يخرج عن طوية طبعه الذي لا حيلة له فيه، فهو يأخذ بالأحوط في حفظ المال ما قدر على حفظه، ولا يضيعه إلا وهو قادر على تضييعه ناجيا من وزره، آملا أن ينجو من حسابه! •••
مسلم لا شك في إسلامه، ولا شك في طبعه، ولا شك في اختلاف الطبائع بين المعتقدين جميعا في كل دين من الأديان ورأي من الآراء.
فلما فتحت له الحيطة باب التفكير في الإسلام أقبل عليه وود لو يغنمه بريئا من عقابيل الجاهلية؛ لأنه نفض يديه منها وأيقن بضلالها.
قال - وقد اعتزم لقاء النبي عليه السلام - ما فحواه: «فلقيت خالدا فقلت: ما رأيك؟ قد استقام المنسم والرجل نبي، فقال خالد: وأنا أريده، قلت: وأنا معك ... وقال عثمان بن طلحة: وأنا معك ... وكنت أسن منهما فقدمتهما لأستدبر أمرهما، فبايعا على أن يغفر لهما ما تقدم من ذنوبهما، فأضمرت أن أبايعه على ما تقدم وما تأخر، فلما بسط يده قبضت يدي، فقال - عليه السلام: ما لك يا عمرو؟ قلت: أبايعك يا رسول الله على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، قال: إن الإسلام والهجرة يجبان ما كان قبلهما فبايعته، والله ما ملأت عيني منه وراجعته بما أريد حتى لحق ربه، حياء منه.»
وقد كان ذلك في السنة الثامنة للهجرة على أرجح الأقوال، ويؤخره بعضهم إلى ما بعد فتح مكة بزمن وجيز.
ولقد كانت رحابة صدر النبي - عليه السلام - تسع الناس جميعا، ولا تضيق بأحد من مختلف الطوائف والطباع: سنة النبي الكريم الذي يدعو الناس جميعا، ولا يخص منهم فئة دون فئة ولا خليقة دون خليقة، فكان يتقبلهم مرحبا بهم مشجعا لهم راجيا أحسن الرجاء فيهم، كلا وما فطر عليه وكلا وما تؤهله له فطرته وشأنه، وقلما ذهبت هذه السماحة سدى في نفس مسلم أقبل على الإسلام سمح الإقبال أو مشوب السماحة بشيء من عقابيل الجاهلية ؛ فكان أول أثر من آثار هذا الكرم النبوي أن يتسامى المسلم إلى المنزلة التي رفعه ذلك الكرم النبوي إليها، ومنهم من كان يستكثر الثقة الرفيعة التي ظفر بها فيعمل على استحقاقها والمحافظة عليها، ويشفق أشد ما يشفق أن يداخل النبي طائف من الظن بصدق نيته وخلوص إيمانه.
وطالما أشفق عمرو بن العاص هذا الإشفاق، وود لو تخلص له ثقة النبي على أحسن ما يتمناها؛ لأنه ما زال يستكثر الثقة التي ظفر بها، ويرى فيها من كرم النبوة أكثر مما يراه من حقه واستحقاقه.
فلما رشحه - عليه السلام - لبعثة يسلم منها ويغنم، أسرع قائلا: ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإسلام!
وظل إلى ما بعد وفاته - عليه السلام - بسنين عدة يسائل نفسه عن تولية النبي له: والله ما أدري أكان ذلك حبا لي أم استعانة بي!
ونخال أنه لم يكن يملأ عينه من النبي كما قال؛ حذرا من هذا الذي يساور نفسه أن يبدو من لحظه، فتلتقي به نظرة من تلك النظرات النبوية النفاذة على ما بها من الطيب والسماحة ... وإن طموحه إلى ثقة النبي لهو الذي جعله يقول كما قد قال في بعض أحاديثه: «ما عدل بي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في حربه منذ أسلمت!»
غير أن هذا القلق الذي كان يعتاده من حين إلى حين إنما كان مبعثه ما ركب في طبعه من ظنون الدهاء ودخيلة الحيطة، أو المساءلة الباطنية التي لا تريح أصحابها ممن جبلوا على غراره.
أما مسلك النبي معه فقد كان قوامه ذلك الأدب الإلهي الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا ينتظر من نفس إلا ما هي خليقة أن تعطيه ...
ولقد عرفه - عليه السلام - كما عرف غيره من الصحابة جد عرفانه.
عرفه وعلم «وسعه» الذي يكلفه، فعلم أنه وسع كبير فيما يحسن وفيما يسيء، وإن في وسعه هذا خيرا للإسلام هو وشيك أن يستعين به عليه.
وقد ندبه لأمور لا يندبه لها إلا من كان على علم واف بالرجل وما غلب عليه من ظاهر خصاله واستسر في مكنون خلده.
ندبه لغزوة ذات السلاسل ولهدم الصنم «سواع»، ولدعوة جيفر وعباد أميري عمان إلى الإسلام ... ثم أقام على الصدقة في تلك الإمارة، فإذا هو - عليه السلام - قد وعى كل خاصة من خواصه التي ظهرت في تاريخه أجمع؛ لأنه اختار له المساعي التي توافق رجلا معتدا بالنسب ولا سيما نسب أبيه، محبا للرئاسة وتدبير المال، لبقا في الخطاب، قديرا على الإقناع، حذورا في موضع الحذر، جريئا في موضع الاجتراء.
كان أخوال العاص بن وائل من قضاعة، ونمى إلى النبي - عليه السلام - أنهم يتأهلون للزحف على المدينة ويعيثون في الطريق، فندب لهم عمرا يتألفهم إن استطاع، فإن لم يستطع فهو بأن يزجرهم أولى من أن يجيء زجرهم على يد غيره، وأرسله في سرية من ثلاثمائة رجل سار بهم حتى بلغ ماء يسمى السلاسل، فاستطلع فإذا القوم نافرون مصرون على جفاء، وإذا بهم أكبر عددا من أن يتصدى لهم بجيشه الصغير؛ فاستمد النبي - عليه السلام - فأمده بكتيبة على رأسها أبو عبيدة بن الجراح، وفيها أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهم أجل الصحابة وأقربهم إلى خلافة النبي - عليه السلام - وأمرهم أن يطيعوه إذا أبى عليهم الطاعة فبلغه بذلك رضاه من الإمارة!
وانهزمت قضاعة منذ الوقعة الأولى ...
فلم يغتر عمرو بالنصر، ولم ينس ذمة القرابة واستبقاء الرحم على ما يبدو من مسلكه الذي جمع به بين المصلحة والمودة، فقد أراد جيشه أن يتعقب المنهزمين، فنهاهم عن ذلك، وذهب جماعة من الجيش يصطلون ليلا، فتوعدهم لئن فعلوا ليقذفن بمن أضرم نارا في النار التي أوقدها، ووسطوا له أبا بكر فأصر على رأيه ووعيده!
ثم شكوه إلى النبي فكان في عذره بلاغ بين، قال: كرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد، وكرهت أن يوقد المسلمون نارا فيرى عدوهم قلتهم فيكر عليهم بعد فراره. •••
أما بعثته إلى سواع فقد كانت لهدم ذلك الصنم الذي عبدته هذيل في الجاهلية، وكان على مقربة من مكة، يقصدونه للحج والعبادة وقضاء النذور، وكانت له خزانة يودع فيها ما يودع من النذور ومن المال المحجر الذي وكل به بنو سهم قبل الإسلام، فكان اختيار زعيم من بني سهم فيه حرص على تحصيل المال نعم الاختيار لتلك البعثة التي لا حرب فيها.
سأله سادن الصنم: ماذا تريد؟
قال: أمرني رسول الله أن أهدمه.
قال السادن: إنك لا تقدر على ذلك.
فتقدم عمرو إلى الصنم وكسره، وأمر أصحابه بهدم الخزانة فإذا هي خاوية!
فأقبل على السادن يسأله: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله رب العالمين. •••
وكانت رسالته إلى عمان أشبه الرسائل به وأولاها بانتدابه؛ لأنها كانت مجالا مستجمعا لكل ما فطر عليه من اللباقة والدهاء والجرأة وحب الرئاسة والثراء.
كتب النبي - عليه السلام - إلى جيفر وعباد ابني الجلندي كتابا يدعوهما فيه إلى الإسلام، قال فيه بعد السلام على من اتبع الهدى: «أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما ...»
فحمل الكتاب عمرو بن العاص، وكان عند ظن النبي به في مقدرته ودهائه، فبدأ بأصغر الأخوين عباد؛ لأنه لم يكن على ولاية الملك، فهو أقرب إلى حسن الإصغاء فاحتفى به وأصغى إليه، ووعده أن يوصله إلى أخيه ويمهد له عنده.
ثم لقي جيفرا فإذا هو أصعب مراسا من عباد؛ فطفق يسأل عمرا عن نفسه وعن أبيه: هل أسلم من قبله أو مات على غير الإسلام؟ وسأله عما صنعت قريش فلخص له موقفها أوقع تلخيص حيث قال: «إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف ...» ثم عقب كلام وجيز فيه وعد ووعيد، فقال له: «وأنت، إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، فأسلم تسلم فيوليك على قومك، وتبقى على ملكك مع الإسلام، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، وفي هذا ومع سعادة الدارين راحة من القتال.»
وأتبع هذا الوعيد بما يوائمه من قلة الاكتراث لجيفر حين لج هذا في عناده، وأعلنه بلقاء المسلمين دون أرضه وصدهم عن حوزة ملكه، فانصرف وقد ألقى في روع عباد ما ألقى، فإذا بعباد قد أتم له ما بدأه من النذير والنصيحة، وإذا بالأخوين ومن تبعهما مستجيبون للإسلام.
وكان جزاء عمرو على هذا التوفيق أن عقد له النبي ولاية الزكاة، يأخذها من الأغنياء ويفرقها على الفقراء، وهو عمل حبيب إلى طبعه لما فيه من تدبير المال ومشابهة للمهمة التي تولاها زعماء بني سهم في الجاهلية، وله منها نصيب يرضيه؛ لأن الزكاة كما نص القرآن الكريم في الصدقات:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل [التوبة: 60].
فله منها نصيب العاملين ... •••
فإذا كان النبي - عليه السلام - قد اختاره لتلك المهام المرتبة، فإنما اختاره وهو يعرف من اختار، ولم تكن مرضاته كل ما توخاه - عليه السلام - بل هي مرضاته من طريق الخير لجميع المسلمين.
وقد أبقاه - عليه السلام - على ولاية الصدقة حتى توفاه الله، فلم يشأ أبو بكر - رضي الله عنه - أن يعزله عنها إلا برأيه ومرضاته؛ إيثارا للسنة التي التزمها من إقرار كل ما أقره النبي - عليه السلام - في حياته، وألا يحل عقالا عقله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل عقالا لم يعقله، كما أوصى عمرا نفسه يوم أبلغه نعي النبي الكريم.
ولم ير عمرو قط في حزن كالحزن الذي غمره يوم ورد إليه ذلك الكتاب فبكى طويلا، وجلس يتلقى العزاء كما يتلقاه في أقرب الناس إليه.
ثم جاءت حروب الردة، فكان موقفه منها الموقف المنتظر من مثله كيفما نظرنا إلى أسباب تلك الحروب، فقد كانت ثورة الإسلام وثورة من البادية على الحاضرة، وثورة من القبائل على قريش، وثورة على الزكاة من فرائض الدين خاصة ... وإن أحق الناس أن يبغض تلك الردة لهو عمرو المسلم القرشي العامل على الزكاة.
فلما كان في طريقه من عمان إلى المدينة، نزل ببني عامر، فإذا بزعيمها قرة بن هبيرة يهم بالردة ويقول له : «يا عمرو! إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة، فإن أعفيتموها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم.» فلم تأخذه في الأمر هوادة، بل اشتد فيه كما اشتد أبو بكر، وصاح بزعيم بني عامر: «ويحك! أكفرت يا قرة؟ تخوفنا بردة العرب! فوالله لأوطئن عليك الخيل في حفش أمك.» أي: في خبائها!
ثم أبى إلا أن ينبئ الخليفة بما سمع من قرة، غير مبق منه بقية يسترها مخافة عليه، فلما جيء بالرجل مأسورا وانطلق عمرو يروي ما سمع منه، ووصل إلى ذكر الزكاة صاح به الرجل: مهلا يا عمرو، فقال: كلا والله! لأخبرنه بجميعه.
وكان هذا الموقف منه أول ما استحق به الثقة والرعاية في عهد الخلافة. •••
وواقع الأمر أن ثقة الخليفة الأول كانت مكفولة لكل من تولى عملا للنبي - عليه السلام - ومات النبي وهو راض عنه.
فلما وقف عمرو من حروب الردة ذلك الموقف الذي حمده أبو بكر خاصة، لاشتداده في قمع هذه الحركة الخبيثة، أصبح عمرو من أقرب المقربين في العهد الجديد، ونظر أبو بكر فيمن حوله يوليه حرب قضاعة، فلم ير أمامه خيرا من صاحبه عمرو، وقد تولى حربها قبل ذلك في عهد النبي، وكان الخليفة الأول يومئذ من جنوده ... فأبلى في تأديب قضاعة أحسن بلاء ولم يرجع عنها إلا وقد سلمت بحق الزكاة وثابت إلى شرعة الإسلام.
والظاهر من بعض الروايات أن عمرا تولى لأبي بكر أعمالا أخرى تدل على ثقة الخليفة به واعتماده عليه، ففي رواية الحافظ أبي عبد الله شمس الدين محمد الذهبي أنه «قدم دمشق رسولا من أبي بكر إلى هرقل.» ويغلب على الظن - إن صح نبأ هذه الرسالة - أنه إنما أوفد من قبل الخليفة لاستطلاع حال العرب في طريق الشام، مستنفرا إياهم إلى حرب الروم إذا وقع المتوقع من الحرب بينهم وبين المسلمين، فذلك أشبه المهام بما يندب له عمرو بن العاص، وليس في تواريخ الإفرنج أو العرب ما يعزز نبأ رسالة من الرسائل حملها إلى هرقل من أبي بكر الصديق.
ثم ترامت أخبار الأهبة الكبيرة التي تأهب بها هرقل للقضاء على الدولة الإسلامية في نشأتها، ونمى إلى الخليفة أنه جمع مائة ألف أو يزيدون على مقربة من حدود فلسطين، فجرد جيشا من ثقات المسلمين الذين لم يختلط بهم في بادئ الأمر أحد من أهل الردة، وعقد لواءه لخالد بن سعيد بن العاص - أخي عمرو لأمه - وأمره أن يستعين بالعرب في طريقه، وأن ينزل بتيماء مترقبا لا يبرح مكانه إلا بإذنه ولا يقاتل إلا من بدأ بقتاله، ولعله أراد بتجريد هذا الجيش تأمين الطريق من انتقاض أهل البادية حينما سمعوا بتحفز الروم للهجوم على بلاد المسلمين، ثم استطلاع الخبر وتعويق حركة الروم حتى يجمع لهم كفايتهم من الجند والقواد.
وقد كره عمر بن الخطاب ولاية خالد؛ «لأنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب»، فسعى عند الخليفة في عزله، فعزله وعقد لواءه ليزيد بن أبي سفيان.
هنالك جاشت مطامع عمرو، فسمت به همته إلى قيادة الجيوش الإسلامية التي تصد الروم وتفتح الشام، ورأى أن خالد بن الوليد صاحبه القديم تكفل بدولة الأكاسرة، فليكن هو إذن كفيل المسلمين بدولة القياصرة، ولم يشأ أن ينتظر حتى يبرم الرأي في مسألة القيادة العليا وهو غائب عنها، فلما أخذ الخليفة في تجريد الجيوش وعقد الألوية لها، ذهب إلى عمر بن الخطاب فقال له متلطفا: «يا أبا حفص! أنت تعلم شدتي على العدو وصبري على الحرب، فلو كلمت الخليفة أن يجعلني أميرا على أبي عبيدة، وقد رأيت منزلتي عند رسول الله، وإني أرجو أن يفتح الله على يدي البلاد ويهلك الأعداء.»
فأجابه عمر بصراحته الصادعة: «كلا! ما كنت لأكذبك! وما كنت بالذي أكلمه في ذلك، فإنه ليس على أبي عبيدة أمير! ولأبو عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة، والنبي
صلى الله عليه وسلم
قال فيه: «أبو عبيدة أمين الأمة.» فلم ييأس عمرو من إقناعه بعد ما سمع، وراح يقول له: «ما ينقص من منزلته إذا كنت واليا عليه.» فانتهره عمر قائلا: «ويلك يا عمرو! إنك ما تطلب بقولك هذا إلا الرئاسة والشرف، فاتق الله ولا تطلب إلا شرف الآخرة ووجه الله تعالى.»
واستقر رأي الخليفة على البعوث وقوادها، فأنفذ أبا عبيدة بن الجراح إلى حمص، ويزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، وشرحبيل بن حسنة إلى وادي الأردن، وعمرو بن العاص إلى فلسطين، وخشي أن يقع الخلاف مرة أخرى على الرئاسة، فقال له وهو يودعه: «... كاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك، ولا تقطع أمرا إلا بمشورته.» وأوصاه أن يذهب في طريق العقبة إلى فلسطين.
ويقدر عدد الجيش الذي قاده عمرو بتسعة آلاف مقاتل، معظمهم من أهل مكة والطائف وهوازن وبني كلاب، وعدد الجيوش الإسلامية كافة بسبعة وعشرين ألفا من الفرسان والمشاة.
وكان ذلك في أواخر السنة الثانية عشرة للهجرة، على القول المشهور، أو في أوائل السنة التي بعدها، على قول آخر. •••
إلا أن دهاء عمرو أنزله من هذه الجيوش منزلة المشورة والمراجعة، وإن لم ينزله بينها منزلة الرئاسة العامة والقيادة العليا.
فلما اقترب جند المسلمين من مواقعهم التي قصدوا إليها سمعوا بأهبة العدو، فإذا هو يزحف إليهم في جحافل جرارة تبلغ عدتها مائة وخمسين ألفا، من حاملي الشكة السابغة والعدة الكاملة، فترددوا وتشاوروا وكتبوا إلى عمرو بن العاص وإلى الخليفة، فوافاهم الجواب منهما معا بالاجتماع للقاء الروم في موقع واحد، وكان رأي عمر أن يتراجعوا إلى اليرموك وينتظروا جيوش الروم هناك ...
وأقبل خالد بن الوليد يطوي الصحراء بأمر الخليفة لنجدة القواد من إخوانه المبعوثين لحرب الشام، فألفاهم متفرقين لا يجتمعون على قيادة، واقترح عليهم ذلك الرأي الذي تواترت به الروايات، وهو تداول الإمارة بينهم، وأن تكون الإمارة إليه في اليوم الأول وقد وقع في تعيين تاريخه خلاف كبير.
قيل: إن عدة المسلمين يومئذ لم تجاوز خمسين ألفا، وارتفع الطبري بعدة جيش الروم إلى مائتين وأربعين ألفا، وهبط بها بعضهم إلى أقل من نصف هذا العدد وليس هو بقليل.
وكانت ملحمة الرجاء المستميت واليأس المستميت، وتنادى أبطال المسلمين على عهد الموت لا يرجعون إلا منتصرين، أو يقعوا مكانهم مستشهدين، وتزمل اليائسون من الروم في أماكنهم ينتظرون القتل إيثارا له على الفرار، فانجلى النهار عن هزيمة اليأس وغلبة الرجاء، واشتهرت هذه المعركة باسم معركة أجنادين على اختلاف في الموقع والتاريخ لا يعنينا هنا أن نتقصاه.
ويؤخذ من المصادر المختلفة أن عمرا قد اشترك في أكثر حروب الشام بين دمشق وفلسطين، وأن شجاعته فيها جميعا كانت كفاء دهائه وحزمه، فلم يكن يرضى لنفسه مقاما في الشجاعة دون مقام أحد من القواد أيا كان حظه من سمعة البأس والإقدام. وذكروا في وصف وقعة اليرموك أن الروم هجموا في بعض حملاتها بقضهم وقضيضهم على فريق من المسلمين، فانكشف المسلمون وولى صاحب رايتهم، فلحق به خالد بن الوليد وعمرو بن العاص يتسابقان لأخذها من يده، فأخذها عمرو واندفع بها يقاتل المتقدمين من الروم حتى كر إليه المسلمون وتجمعوا حوله، فأدبر الروم منهزمين. •••
وكأنما شاءت الأقدار للخليفة الأول - أبي بكر الصديق - أن يفارق الدنيا وقد اطمأن إلى غزوة الروم، التي اضطلع بتبعاتها المرهوبة وهو عظيم الهم بها، شديد القلق من عواقبها؛ فانتهت أيامه بهذا النصر المؤزر الذي أوشك أن يكون حاسما كل الحسم في معارك الشام وفلسطين.
وأسلم الزمام إلى خير يد تلقى إليها الأزمة من بعده، فبويع لعمر بن الخطاب بالخلافة والنصر مقبل، والحوادث مواتية لمن يتولاها بالحزم الذي هو أهله، وبالروية التي كانت قرينة لحزمه.
وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس ثقة بأبي عبيدة بن الجراح، لما سمع من تزكية النبي له، واختبر من أمانته وإيمانه في طويل الصحبة بين الرجلين العظيمين، وكان يبلغ من هذه الثقة أنه هم أن يبايعه بالخلافة في عجلة الموقف بعد وفاة النبي - عليه السلام - وأنه كان يقول وهو يجود بنفسه: «لو كان أبو عبيدة حيا لعهدت إليه.»
فلم يلبث غير قليل أن وضع هذه الثقة في موضعها، فأسند إليه القيادة العامة في حرب الروم، واعتمد على رأيه فيما يأتيه من أخبار ذلك الميدان الفسيح.
والظاهر أن توحيد القيادة كان أعون على توزيع العمل بين القواد في أنحاء الميدان كله، فاستقل عمرو بن العاص بغزوات فلسطين وما جاورها، وتم على يديه فتح سواحلها وحصار بيت المقدس ومنازلة صاحبها «أريطيون» بالجرأة تارة وبالمكيدة تارة أخرى، وكلتاهما من الصفات التي اشتهر بها عمرو بن العاص.
واتفقت المصادر على التنويه ببلاء عمرو في هذه الغزوات، فوضح منها جميعا أنه لم يكن يألو ذلك العمل الجسام الذي وكل إليه جهدا من شجاعته ولا من تدبيره، وربما جشمته موارد التدبير مخاطر لم يتجشمها في موارد القتال!
من أمثلة ذلك ما رواه الكلبي حيث قال: «لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه علجها أن ابعث إلي رجلا من أصحابك أكلمه، ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري! وخرج حتى دخل على العلج فكلمه، فسمع كلاما لم يسمع قط مثله! فقال العلج: حدثني، هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا، إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك، وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي، فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو، قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج، ففطن عمرو لما أراده ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا؟ قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد! فقال: صدقت، وبعث إلى البواب أن خل سبيله، فخرج عمرو ودخل عليه العلج قال له: أنت هو؟ قال: نعم، على ما كان من غدرك ...» ا.ه.
وهذه القصة التي أشرنا إليها غير مرة لا تؤخذ على علاتها في تفصيلاتها، ولا يلزم أن تصح أصولها ولا فروعها، ولكنها تدل - ولو كانت مؤلفة - على أشياء قريبة من الحقيقة، بل لا بد أن تكون قريبة منها؛ لأن صدق الأخبار عامة لا يستقيم ولا ينتظم بغيرها، فمن تلك الأشياء شهرة عمرو بالدخول في أمثال هذه المداخل العويصة التي يجرب فيها حيلته كما يجرب إقدامه، ومنها أن عرب الشام كان فريق منهم على الأقل ينظر إلى الحرب بين الروم والمسلمين نظرة العصبية الجنسية، على ما بينهم من الفارق في العقيدة، فلم يعتذروا كذبا حين زعموا بعد هزيمة الروم أنهم أكرهوا على القتال في صفوفهم وهم يودون لهم الهزيمة، ويتمنون الظفر لإخوانهم في الأصل واللغة، ومن تلك الأشياء أن عمرا كان معروفا بين أهل غسان، فلا يبعد أن يصدق ما خطر لنا عن رسالته إلى أنحاء دمشق من قبل الخليفة الصديق، وأنها كانت رسالة إلى عرب القبائل الشامية لتحريضها واستطلاع أحوالها قبل الشروع في قتال الروم ...
وجماع تلك الأخبار التي لا خلاف في لبابها - وإن وقع الخلاف على قشورها - أن عمرا كان بطل الغزوة الشامية في ميدان فلسطين، وأنه ربما كان بطل الغزوة من طلائعها الأولى، يوم كانت بعد في طور التأهب والاستطلاع.
وليس رأي الخليفة الجديد في عمرو بمجهول، فربما كانت ثقته باقتداره واستعداده لعظيمات الأمور أكبر من ثقة أبي بكر الذي تابع في استعماله سنة النبي - عليه السلام - فعمر بن الخطاب هو الذي قال فيه: «لا ينبغي أن يمشي أبو عبد الله على الأرض إلا أميرا.» وهو الذي كان يقول كلما رأى رجلا يلجلج في كلامه: «خالق هذا وخالق عمرو واحد.» وهو الذي تبين صواب هذه الثقة في غزوات فلسطين نفسها، فجعل يقول لإخوانه: «رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب.» يعني أريطيون الذي كانت تصحفه قلة النقط والشكل في الحروف العربية يومئذ إلى أرطبون.
وما زالت ثقة الفاروق بكفاءة عمرو ودرايته تعظم وتتمكن كلما صحبه التوفيق في فتح مدينة بعد مدينة، والغلبة على جيش بعد جيش، حتى فرغ من السواحل والمشارف، واتجه بعزمه كله إلى حصار «إيلياء» أو بيت المقدس حاضرة البلاد.
وقد شدد الحصار عليها حتى يئس أريطيون من مقاومتها وفر منها إلى الديار المصرية، وقيل: إن بطريقها لم يؤجل تسليمها للقائد العربي إلا لأنه أراد أن يكون التسليم بمحضر من الخليفة ، فكتب عمرو يستدعيه ويعلمه برغبة البطريق، وتم الصلح في السنة الخامسة عشرة للهجرة بحضور الفاروق.
وما هو إلا أن سكنت الشام إلى الحكم العربي، وخف الطاعون الذي فشا في أرجائها بين السنة السابعة عشرة والثامنة عشرة للهجرة، حتى تطلعت نفس عمرو إلى فتح أكبر وأخطر، ونازعته إلى منزلة أشبه به وأجدر: إلى فتح الديار المصرية التي يعلم المسلمون من القرآن الكريم أنها كرسي فرعون ذي الأوتاد، ويعلمون من أخبار أيامهم أنها درة التاج في دولة هرقل، وأن الروم لا يدعونها ولو غلبوا عليها؛ لأنهم عادوا إليها فانتزعوها من الفرس بعد مقامهم بها اثنتي عشرة سنة، وفاقا لوعد القرآن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون.
وهنا تشترك المصادفة والتقدير اشتراكهما في كل عمل جسام من أعمال التاريخ القديم والحديث!
ترى كيف كان يخطر هذا الخاطر على بال الفاروق لو لم يفاتحه فيه عمرو بن العاص؟
وترى كيف كان يخطر هذا الخاطر على بال عمرو بن العاص لو لم يكن فاتح فلسطين على طريق مصر، وكان فاتح دمشق أو فاتح السواد؟
وترى كيف كان التردد منتهيا بالخليفة لو لم ينته وعمرو يغذ السير في طريقه إلى التخوم المصرية؟!
أفضى الفاتح الجسور بأمله وأمل الإسلام إلى الخليفة فاستمع إليه، وتردد فيه بين ما عرف من كفاية عمرو، وما عرف من إقدامه على العظائم في سبيل الشرف والرئاسة.
بل تردد فيه بين دواعي الحرب، وهو لا يرى داعية للحرب إلا درءا لخطر أو قصاصا من عدوان.
وكان أقرب الناس إلى الفاروق يترددون مثله، ويرون في طماحة عمرو بن العاص مثل رأيه، منهم من يخلص في حذره، ومنهم من يغار من عمرو أن يكتب هذا الفتح الجليل على يديه!
وفي طليعة المخلصين حذرا من عواقب هذا الطموح الجموح، عثمان بن عفان، فقد كان يذكر الفاروق بجرأة ابن العاص، وأنه يرد المهالك في سبيل طمعه، وما بالفاروق من حاجة إلى تذكير.
أما ابن العاص فقد كان أخبر بالخليفة وبمصر من أن تفوته وسيلة الإقناع في هذا المقام!
إنه ليعلم حرص الفاروق على جند المسلمين أن يسفك دم واحد منهم في غير خطر واقع أو عدوان محذور.
فلتكن غزوته لمصر إذن دفعا للخطر الواقع، وضمانا لأرواح المسلمين، ولقد كانت هي كذلك لا مراء.
ولم يكن عمرو مغررا بالفاروق، ولا كان الفاروق ممن يجوز عليهم التغرير، فإنه ألقى إلى الخليفة أن «أريطيون» داهية الروم قد فر إلى مصر ليجمع فيها قوة الدولة الرومانية ويكر بها على الشام، فلا أمان للمسلمين في فلسطين أو الشام أو الحجاز نفسه وباب هذا الخطر مفتوح! وإنما يوصد الباب إذا ضربت الدولة الرومانية في مصر، وامتنع منها مدد الجند والمال والطعام لتلك الدولة المتداعية ...
فعلم الفاروق أنه يستمع إلى صواب، واستجاب لرأي عمرو وهو بين الإقدام والإحجام، فأذن له في المسير وأنظره كتابا آخر يأتيه منه في الطريق، وقال له: «سيأتيك كتابي سريعا إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي، فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره.» •••
ولا نعتقد أن الفاروق قد ترك الأمر للقرعة المجهولة، تبرم فيه وتنقض بحسب اتفاقها، ليسلم إليها العنان في هذا العمل العظيم، ولكنه أراد أن يستزيد من المشاورة والتفكير، وأن يشرك معه ذوي الرأي في التبعة التي هو مقدم عليها. فإذا كف عمرا بعد ذلك قبل أن يطرق أرض مصر فلا ضير من كفه، وإذا جاءه الكتاب وهو في أرضها فقد امتنع الرجوع ووجب المسير؛ لأن الرجوع عن أرض بعد دخولها يكشف للروم ضعفا من العرب ورهبة من العدو، ويغريهم بالكرة على الشام، ويعينهم على جمع الجموع لاستئناف القتال ولو لم يفكروا فيه قبل ذلك، ويخيف أهل مصر أن يستسلموا للعرب إذا أقبلوا مرة أخرى؛ لأن العرب أنفسهم يقدمون على بلدهم بين الشك واليقين.
قيل: إن كتاب الفاروق أدرك عمرا في رفح، فأغضى عن الرسول حتى بلغ إلى مكان من مصر غير مختلف فيه، فقرأ الكتاب وقال لجنده: لم يلحقني كتاب أمير المؤمنين حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله وعونه، وكذلك التقى التدبير والمصادفة مرة أخرى في الصفحة الأولى من هذا التاريخ الكبير.
الفصل الرابع
فتح مصر
كان الصدام بين العرب والدولة الرومانية قضاء موعودا منذ اللحظة التي نشأت فيها الدعوة الإسلامية وكتب لها البقاء؛ لأن الإسلام رسالة تتجه إلى أسماع الناس وقلوبهم؛ ولأن الدولة الرومانية سلطان قائم يحول بين رسالته وبين الأسماع والقلوب.
فلا مناص من التقائهما يوما من الأيام، على سلام أو على خصام.
وهما إذا التقيا على خصام أو على سلام دخل الإسلام مصر مدافعا أو غير مدافع.
ويفتح الإسلام مصر على كلتا الحالتين فتح رضوان أو فتح تسليم ... وإنما هو كتاب مؤجل إلى أوانه المقدور. •••
لمح النبي - عليه السلام - هذا المصير بلحظ الغيب قبل أن يحين أجله المقدور ببضع عشرة سنة.
وكتب إلى المقوقس - عظيم القبط - يدعوه إلى الدين الجديد دعوة أهل الكتاب: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط:
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .»
وقد تلقى جواب المقوقس مؤذنا بالأمل، غير قاطع بالإباء، يقول فيه كما جاء في بعض نصوصه: «... فهمت ما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام ...» ثم يقول: «وقد أكرمت رسلك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مقام في القبط عظيم وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام.»
وتعلقت الحوادث بأجلها الموعود.
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم
جازما لصحابته الأقربين: «ستفتحون مصر فهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما.» وعلم - عليه السلام - أنه فتح لا ينام عنه الغالب ولا المغلوب، فقال لصحابته: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا بها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض.» فقال أبو بكر - رضي الله عنه: ولم يا رسول الله؟ قال - عليه السلام : «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.»
فما كان من مسلم في حياة النبي - عليه السلام - أو بعد وفاته، إلا وهو يعلم أن مصر مفتوحة للمسلمين على يقين.
وإنما هو الأوان المحتوم في يوم غير معلوم.
وآية ذلك الأوان أن يجيء الخطر من قبل مصر، أو يقوم الروم فيها عائقا كئودا في سبيل الدعوة.
وعمرو بن العاص هو الذي قال: إنه رأى الآية بعينيه، وقال: إن العائق كئود إذا أجل، ميسور التذليل إذا عوجل قبل استقراره.
وقالها وهو صادق في مقاله!
غاية ما هنالك أنه رآها بعين العبقرية التي تلمح ما وراء الحجب من بعيد، وأنه فسر الحلم المحقق بوحي الإلهام فأحسن التفسير!
لم يكن هو الذي اخترع عزيمة الإقدام على فتح مصر، فقد كان فتحها في حكم الواقع المفروغ منه منذ سنين.
ولكنه كان هو الذي أعلن الوقت المقدور وأصاب الاختيار، واهتدى إلى الأوان.
ولم يخدع نفسه ولا خدع الخليفة، ولا جازف بالفتح الخطير مجازفة الطيش والجهل بالعقبى، ولكنه عند من يجهل الحقائق مجازف هجام! وعند من عرف الحقائق كما عرفناها اليوم حاسب دقيق الحساب، وحالم مطمئن أصدق في حلمه من الخائف اليقظان!
أفكان عمرو إذن يعرف الحقائق كما جلاها لنا التاريخ بعد مئات السنين؟ لا ولا جدال! ...
لم يكن يعرفها مفصلة محصلة كما عرفناها، وذلك فضله الكبير.
ولكنه أحسها جملة، فملأته باليقين الذي يمتلئ به العارف بعد التفصيل والتحصيل.
ففي حياة عمرو بن العاص حدثت في مصر وحول مصر خطوب لن يجهلها مثله، وإن لم يطلع على وصفها المسهب، كما كتبه المؤرخون من أبناء العصور الحديثة.
كان في عنفوان الرجولة يوم أغار الفرس على الروم، ففتحوا ما بين بيت المقدس والإسكندرية في أقل من سنتين.
وكان فتى يعقل الدنيا يوم أغار القائد الروماني نقتاس على الديار المصرية من المغرب، بجيش لا تزيد عدته على ثلاثة آلاف منهم البدو والسودان، ففتحت له الثغور والمدائن بمواطأة من أهل البلاد، ومن بعض الرومان الناقمين على عاهل القسطنطينية.
وكان يزور بيت المقدس ويصغي إلى حجاجه ورهبانه المقيمين فيه، فيسمع أخبارا تنم على ما في مصر من قلق الرعية، وضعف الرعاة، واستفحال الشقاق بين طوائف النصارى، وغضب المصريين من الروم، سواء منهم الموافقون لهم في المذهب والمخالفون.
وكان يلقى اليهود في وادي الأردن وكلهم مغيظ من الدولة الرومانية، لما أصابهم على يديها من الذبح والنهب والتشريد، وفيهم من هو أعلم بمصر وبمداخلها وبمخارجها ومواقع الخلل فيها من حكامها الرومان.
وحضر غزوات الشام وسمع بغزوات العراق، فعلم أن جيوش الإسلام على قلتها قد غلبت الفرس وغلبت من غلبوهم في النضال الأخير: غلبت هرقل وهو في أوج مجده، فما أحراها أن تغلبه وهو مهيض بعد هزائم الشام وفلسطين، وقد شاخ وغامت على عقله الوساوس وحاقت به الدسائس، وتلكأ زمنا بين الحياة والموت! ...
فإن لم يكن عمرو قد علم هذا تفصيلا، فقد علمه جملة وافية، علمه بالقدر الصحيح الذي يتيح له أن يقول للخليفة: إنه يقدم على فتح بلد «ليس أقل منه قوة، ولا أعظم منه ثروة».
ولو أنه علم تفصيل الحوادث التاريخية كما علمناها اليوم، لكان ذلك أحرى أن يزيده إقداما، وأن يلهب من شوقه إلى الفتح ما يرسله في سبيله قدما، قليل المبالاة بكل تحذير وتهويل!
لأنه كان أحرى أن يعلم أن أهل البلاد يرحبون به، وإن لم يرحبوا بالفرس من قبله؛ لأن الفرس الرهبان والقسوس في طريقهم إلى مصر، ولم يكن من عادة جيوش المسلمين أن يقتلوا أحدا من الرهبان والقسوس؛ ولأنه يسلك طريقا بدويا يستطيعه البدو، واستطاعوه في قديم ولا يزال سكانه منذ عرفه التاريخ بدوا يشعرون بعصبية القرابة لهذا الفاتح الجديد.
ولأن الروم أنفسهم كانوا قد فقدوا عزيمة القتال، بل فقدوا ما هو ألزم من ذلك للمقاتل، وهو إيمانه بحقه في النصر وبرضوان الله عليه؛ فقد كان إيمان الروم الغالب عليهم في معارك الشام أنهم استحقوا غضب الله، وأن العرب لهم سوط العذاب الذي يصبه الله على عباده الواقعين في الخطيئة، وصاح بينهم بهذا النذير صائح مسموع الكلمة في مؤتمر أنطاكية الذي اجتمع إليه كبارهم وأحبارهم، فقال لهم - وهرقل يسمع: إن الروم ليلقون من الله جزاء العصاة! وربما كان هرقل نفسه يشعر بذلك الشعور؛ لأنه كان في شيخوخته دائم الندم معذبا بوسواس الخطيئة، لبنائه ببنت أخته «مرتينة»، بعد علاقة بينه وبينها وهو إثم محرم في دينه!
ولا نخال عمرا قد غفل عن استطلاع البلاد المصرية برسل من عنده، أو بالاستماع إلى أناس يغنونه عن الرسل، فعلم أن الحصون مهملة، وأن الدساكر معطلة وأن الجنود المفرقين هنا وهناك يدفعون عن معاقلهم في وهن ويأس من المصير، ويعيشون بين شعب يبغضهم ويتمنى لهم الهلاك والضياع، ويجهر بعدائهم ومشايعة أعدائهم، إذا أمن عاقبة الجهر بالعداء، ورجح عنده الأمل في غلبة المغير عليهم! وأي عدو هو أولى بالأمل في غلبته من غزاة العرب الذين صدوا الأكاسرة والقياصرة، واقتحموا عليهم عقر دارهم وهم مجلبون إليهم من قرار سحيق؟ فإذا أصبح لهؤلاء العرب مقام محمي في تخوم مصر وعلى مداخلها، أيشق عليهم إذن أن ينتزعوا مصر من هرقل وليس فيها غير ظل له بعيد؟ •••
تقدم العرب إلى الديار المصرية، وبينهم وبين عدوهم فروق كثيرة في العدد والعدة والحضارة والعقيدة، من الفضول أن نعرض لحصرها في هذا المقام، ومن الإسهاب في غير موضعه أن نتتبع أصولها ونتعقب فروعها في تاريخ الأمتين.
فإنها لتجتمع كلها في فرق واحد يغني من وعاه عن كل تفرقة بعدها، مسهبة كانت أو مقتضبة، وهو الفرق بين قوم ضيعوا كل ثقة في النصر، وقوم ضيعوا كل شك فيه وآمنوا بحقهم في النصر كل إيمان.
ضاعت ثقة هرقل في نفسه، وضاعت ثقة الروم في صلاحهم للحكم، وضاعت ثقة الأعوان في صلاح العاهل والدولة، ولم تبق لهم إلا بقية من تمسك يقيمها الخوف من عقاب الرؤساء، ويوشك أن يذهب بها خوف أعظم منه وهو الخوف من بأس المغيرين!
ومن الجانب الآخر ملك العرب كل ثقة بالنصر وكل إيمان بحقهم فيه، واطمأنوا إلى خليفة قوي، وقائد قوي، وصبر قوي على كل بلاء! وعلم عدوهم هذا منهم فوصفهم بعد رؤية وخبرة بأنهم «قوم الموت أحب إليهم من الحياة! والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة! ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة!»
ومع هذا الفارق الذي هو خلاصة جميع الفوارق، لم تكن الثقة وحدها هي العدة التي رجح بها العرب وانخذل بها الروم، بل ظهر من تقابل الفريقين في شتى المعارك أن العرب كانوا أخبر بفنون القتال - ولا سيما في المفاجأة - من قادة الروم الذين كلوا وكلت عقولهم بالإهمال والاستنامة إلى الترف والغرور.
فقد كان عمرو يوجه خطط القتال كما يشاء منذ تخطى الحدود وأوغل في جوف البلاد، وكان يضطر أعداءه إلى تبديل خططهم وتحويل معسكراتهم كلما تحرك في الشمال أو الجنوب حركة مفاجئة لا يدرون ما يعقبها، فبينما هم يتجمعون في الفيوم إذا هو يزحف إلى منف شمالا، ويوهمهم أنه موغل في الجنوب إلى تخوم النوبة، وقد أعانه على المفاجأة خفة العدة وقلة الزاد وسرعة الخيل العربية في سهول الريف ورمال الصحراء، ومن هذه المفاجآت البارعة تلك المفاجأة التي دهم بها الروم عند الجبل الأحمر، وفقدوا بها جيشا يقارب عشرين ألفا لم يبق منه إلا بضع مئات، وكان قائدهم «ثيودور» قد خرج للقاء عمرو عند عين شمس، فاستعد له عمرو بقلب جيشه، وأقام من جناحيه كمينا عند الجبل الذي يلي المكان المعروف بالعباسية الآن، وكمينا آخر عند «أم دنين» حيث قامت الأزبكية الحديثة، واستمر القتال بين الجيشين، والروم يحسبون أنهم يواجهون الجيش العربي كله، ويستنفدون الجهد أجمع في الغلبة عليه، فما راعهم إلا الجيشان الكمينان ينقضان على حين غرة، فيبتعد الأمل القريب ويدب اليأس في مكانه إلى القلوب، ويرجع القوم بثلاثمائة مشردين من ألوف ربما تجاوزت العشرين!
وكلما خطر للروم أن يأخذوا العرب بحيلتهم ويرتدوا عليهم بمفاجأة من مفاجآتهم، حبطت الحيلة في أيديهم ووجدوا العرب أيقاظا لهم كأنهم كانوا على علم بنياتهم ومكائدهم، فما خرجوا من معاقلهم المحصورة في ليل ولا نهار ليدهموا العرب على غرة، إلا تجمعت لهم أهبة الجيش كله في لحظات معدودات، فإذا هم المأخوذون بما دبروه، كأنهم سيقوا على كره منهم إلى شرك منصوب.
فالعرب لم ينتصروا اتفاقا ولا جزافا، ولكنهم انتصروا بخير ما يكفل النصر للمجاهدين: بالثقة والخبرة، ثم بشيء آخر يعين الثقة والخبرة أيما عون في الميادين البعيدة عن ديار المعسكرين المقاتلين، وهو اطمئنان العرب إلى أهل البلاد من حيث خشيهم الروم وتوقعوا منهم كل مكروه؛ لأن العداء بين المذهب الملكي - وهو مذهب الروم - والمذهب اليعقوبي - وهو مذهب القبط - لم يدع مكانا لتوفيق بين الكنيستين، ولم يبق في النفوس بقية للرحمة ولا للصلح والهوادة، وبلغ من لدد هذا العداء أن الروم أمهلوا ثلاثة أيام للخروج من حصن بابليون، فقضوا يوما منها في تعذيب القبط وتقطيع أيديهم وأرجلهم ليتركوهم في حالة لا يفرغون فيها لشماتة بعدوهم المهزوم.
نعم، إن التضارب كثير فيما كان من موقف القبط بين حكامهم الروم، وبين المسلمين المغيرين على أرضهم، ولكنه تضارب لا غرابة فيه، ولا موجب لاتخاذه دليلا على كذب الأخبار في جملتها، ولا لتقييد المؤرخ بترجيح قول منها على قول؛ فإن التضارب حالة لا محيص عنها في الموقف كله، وفي أقوال المؤرخين الذين كتبوا عنه بعد زمن طويل أو قصير.
فكراهة القبط للروم ثابتة لا جدال فيها ولا يتطرق الشك إليها، فإذا جاء في بعض التواريخ أنهم أظهروا المودة للعرب، وجاء في تواريخ أخرى أنهم لبثوا على موالاة الروم إلى ما بعد الهزيمة الحاسمة، فليس سبب ذلك أنهم أحبوا أولئك وكرهوا هؤلاء، ولكنما السبب أنهم ترقبوا جلاء الموقف بين الجيشين المقاتلين، وأنهم كانوا يعملون متفرقين، لامتلاء البلاد بالمعسكرات التي تقطع الصلة بين أجزائها، فيكون قوم منهم على مقربة من جند الروم تارة ومن جند العرب تارة أخرى، ويكون الأقوام المتفرقون على نية متشابهة وأعمال متخالفة على حسب الحوائل والأحوال.
وعلينا أن نترقب تضاربا كهذا في أكثر الأخبار التي تصل إلينا عن فترة الفتح، وعن حركات الجيوش ومفاوضات الصلح في خلالها.
فمن العبث أن نجزم باستحالة حركة من هذه الحركات قياسا على أعمال الجيوش التي جرى بها العرف في غير هذه الأحوال؛ لأن الاستحالة والجواز إنما يحسبان هنا بحساب لا يتكرر كثيرا في جميع الحروب.
ففي غير هذا «الفتح» يجوز مثلا أن يسأل السائل: كيف استطاع عمرو بن العاص أن يترك حصن بابليون ويوغل في الصعيد، ومن ورائه جيش أعداء يقطع عليه الرجعة ويحصره حيث كان؟ ويجوز تبعا لذلك أن نستبعد الحركة كلها ونحسبها من تلفيق المؤرخين.
ولكننا إذا اصطنعنا هذا القياس هنا، وجب أن نستبعد الفتح كله من ألفه إلى يائه؛ لأن أربعة آلاف مقاتل يتفرقون من العريش إلى بابليون لا يفتحون قطرا يسكنه شعب كبير وتحميه دولة كبيرة، فإن لم يتفرقوا وساروا جميعا إلى حصن بابليون، فقطع الرجعة عليهم أيسر الأمور لو سارت الحركات العسكرية على المألوف في سائر الحروب، وما أعجب حصر الإسكندرية مثلا وهي مفتوحة من البحر إلى القسطنطينية! وما أعجب التقصير في إمدادها خلال الفتح كله، وهو أول ما يخطر على بال!
فالحساب في هذا الفتح غير الحساب في سائر الفتوح.
وأولى أن يقال: إن جند الروم - لا جند العرب - هم الذين كانوا على حذر من الإيغال في جوف البلاد ومن إحداق الأعداء والرعية بهم في مأزق غير متوقع، فالتناقض في هذه الأخبار وما شابهها هو طبيعة الموقف التي لعلها توجب الميل إلى قبولها ولا توجب الشك فيها، وعلينا كما أسلفنا أن نترقبه في كل شيء، وفي كل مرحلة من مراحل هذا التاريخ العجيب، وقد نستغني عن تعداد شواهده الكثيرة إذا أضفنا إلى ما أسلفنا تناقضا آخر نحتم به هذه الملاحظة التي لا بد منها، وهو التناقض الذي أحاط باسم الوالي الروماني الذي تلقى العرب ثم صالحهم على تسليم البلاد، فمن هو «المقوقس» هذا، وما حقيقة الأمر فيه؟ أهو روماني أو مصري؟ وهل هو من رجال الحرب أو من رجال الدين؟ وهل كان محبوبا في شعبه أو كان مبغضا إليه؟
قيلت جميع هذه الأقوال فيما كتبه العرب والرومان، ولكنه في أرجح الأقوال - كما سيأتي تفصيله - رجل من غير الروم ومن غير المصريين الأصلاء الأقدمين، تولى من قبل هرقل سلطانا دينيا مقرونا بسلطان الدنيا، ومضى في سياسته على سنة النهازين للفرص من خدام الدول المتداعية، فأغلظ للشعب الضعيف مرضاة للسادة الأقوياء، ثم بدا له أن سادته الأقوياء ذاهبون، فأحب أن يستقل بكرسيه، وأن يأوي إلى جناح الفاتحين لعلهم يشكرون له صنيعه، ويحمونه من أعدائه في مصر والقسطنطينية.
ذلك هو أقل الغرائب في وصف هذا الرجل الغريب، ولكنه على ذلك ليس بالوصف القاطع الوثيق، وأوثق ما يقال عنه: إنه رجل كان يرهن مصيره بمصير البلد الذي أقام فيه. •••
تقدم عمرو من طريق الساحل إلى العريش، فلم يجد بها أحدا يصده من قبل الروم، ثم تقدم إلى «الفرما» فحاصر حاميتها واستولى عليها في أقل من شهرين، ثم مضى في طريقه حتى نزل بلبيس، فهزم بها جيشا رومانيا يقدره بعض المؤرخين بثلاثة أضعاف الجيش العربي، وانقض من ناحية الصحراء على «أم دنين» فاستولى عليها، وجاوزها إلى حصن «بابليون»، أو قصر الشمع كما سماه العرب، على الضفة الشرقية من النيل ... واختلفوا فيمن كان يقود حاميته، فقال أناس: إنه «جورج» أو الأعيرج كما سماه العرب، وقال أناس: إنه هو «ثيودور» الذي نازل العرب غير مرة، وقال غيرهم: إنه هو «أريطيون» صاحب عمرو القديم.
وصل الجيش العربي إلى جوار «منف» عاصمة الفراعنة، في شتاء 640 للميلاد - 19 للهجرة - وعرض على والي البلد شروطه التي هي شروط المسلمين قبل كل قتال، وهي الإسلام أو الجزية أو السيف، وعمد إلى التأثير الأدبي في إقناع الحامية ومن يلوذ بها من أهل البلاد، كما عمد إلى الخدعة والبسالة، فكان إذا جاءه الرسل من قبل الروم أبقاهم بين جنوده يوما أو يومين ليروا بأعينهم زهد المسلمين في الدنيا واستخفافهم بالموت، وصبرهم على الشدة وإقدامهم على الكريهة في سبيل ما هم مؤمنون به وساعون إليه.
غير أن أدوات الحصار في جيش عمرو لم تكن من القوة بحيث تعينه على اقتحام سريع للحصون التي كانت توصف بالمناعة في تلك الأيام، فطال لبثه أمام حصن بابليون قياسا على حصار الفرما وبلبيس، ولم يشأ أن يقضي الوقت كله في الإقامة على جوانب الحصن حتى تضيق الحامية ذرعا بالحصار فتستسلم إليه، ولم يكن ميسورا له أن ينفذ السرايا إلى مصر السفلى نحو الإسكندرية وما جاورها؛ لأن ابتداء الفيضان في النهر وجداوله الكثيرة حال دون ذلك، فحول سراياه إلى الصعيد وأطراف الفيوم، ويبدو لنا أنه لم يقصد بها الفتح والاستيلاء على المدن في المرحلة الأولى من القتال، وإنما قصد بها أن يشغل جنده مخافة عليهم من فساد الراحة وطول الانتظار، وأن يعرف بالتجربة المحسوسة مدى التعويل على ولاء أهل البلاد، وأن يضطر حاميات الروم القليلة في الصعيد إلى البقاء حيث هي، والعدول عن إمداد الحامية في حصن بابليون ببعض رجالها إذا خطر لها هذا الخاطر؛ لأن تهديد الصعيد من حين إلى حين يوجب عليها أن تحمي مواقعها قبل التفكير في إمداد غيرها، فإنما كانت حركات السرايا في الصعيد مناورات للتعمية والاستطلاع، ولم تكن حملات للفتح «والاحتلال».
وفي هذه الفترة خيل إلى قائد الروم أنه قادر على أخذ العرب بالمباغتة كما يأخذونه، فتأهب للهجوم على جيش عمرو في قاعدته الكبرى بعين شمس، وكانت تلك المعركة التي أسلفنا الإشارة إليها ودارت فيها الدائرة على الروم، فتجلت فيها مهارة عمرو في القيادة، كما تجلت فيها يقظته لحركة أعدائه وثباته لقوتهم وهي أضعاف قوته في الرجال والسلاح.
وانقضت السنة ومضت أشهر من السنة التالية، والحصن صامد لا يسلم، ولا يزال الذين فيه يخرجون من حين إلى حين لمناوشة جند المسلمين والعودة إليه، وكان النيل قد هبط في أثناء ذلك، فاستطاع عمرو أن يرسل فرقا من جيشه إلى مصر السفلى لتعويق حركات الروم قبل التقدم إليه، فكان يهزمهم تارة ويرتد عنهم تارة أخرى، بغير كبير طائل لهذا الفريق أو لذاك.
وظل الفاروق في المدينة يرقب جيشه الزاحف بعين لا تغفل وقلب لا يوجل، ولم يزل يمدهم ويسأل عن أخبارهم ويتفقدهم، فلا يرى شيئا هو أحق عنده بالتفقد من سلاحهم الماضي قبل كل سلاح، وعدتهم اللازمة قبل كل عدة ، وهي الإيمان أو قوة الروح، فلما أبطأ الفتح المبين لم يرجع بإبطائه إلى قلة العدد أو قوة العدو، بل رجع به إلى نقص الإيمان ودخل النيات، وكتب إلى المسلمين يقول: «عجبت لإبطائكم فتح مصر، تقاتلونهم منذ سنتين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأصبتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق ثباتهم.»
ولهذا الاستبطاء معناه التاريخي الجليل في فهم خطط المسلمين صدر الإسلام، وفهم التردد الذي بدا من الخليفة يوم أن عرض عليه عمرو مسيره إلى مصر لفتحها بعد فتح فلسطين، فإن هذا الاستبطاء دليل على أنه لم يتردد في تسيير الجيش إلى مصر استهوالا لخطب الروم، أو استعظاما لفتحها على جيش المسلمين، ولكنه تردد على سنته في اجتناب الغزو إلا لدفع خطر، أو اتقاء عدوان منتظر، ولولا ذلك لكان استبطاؤه الفتح بعد استهواله إياه من أعجب الأمور.
وحدث في أثناء ذلك أن مات العاهل هرقل، وشاعت الدسائس في البلاط بعده، وفشا المرض في حامية الحصن حتى هلك به خلق كثير، وتغلب حزب الصلح بعد موت العاهل الذي كان يأباه، واعتز جيش المسلمين بإمداد من الفرسان المغاوير يقدر الواحد منهم بألف مقاتل ولا مغالاة؛ لأن تقديره بألف مقاتل لا يعني أنه يساويهم في العدة والكثرة، بل يعني أنه يبث الشجاعة في الجيش بقدرته ويقينه، فيقاتل الجيش كأنه قد زيد ألف مقاتل، ولم يكن قصاراه زيادة فارس واحد، وليس هذا بعجيب في جيش تقوم عدته الكبرى على الثقة واليقين.
من هؤلاء الزبير بن العوام الذي جاء في بعض الروايات أنه تسور الحصن يتبعه جماعة من المستشهدين، فأوقع الرعب في قلوب الحامية وهي تعاني ما تعاني من اليأس والخوف والسقام، فأسرع أنصار الصلح إلى التسليم بعد ممانعة قليلة من المعارضين، وكان ذلك يوم الجمعة السابق ليوم القيامة سنة (641).
وبادر عمرو بعد سقوط الحصن إلى إقامة المعابر على النيل لعبوره قبل فيضانه، ثم مضى في طريقه إلى الإسكندرية يقاتل من لقيه من فالة الروم أو جموعهم المتربصة في حصون المدن الكبيرة بين بابليون وشاطئ بحر الروم، وضرب الحصار على المدينة الكبيرة، بينما كانت جنوده وهو على رأسهم في بعض الأحيان يشنون الغارة على مدينة بعد أخرى من مدن مصر السفلى، حتى كان أول المحرم سنة 21 للهجرة/10 ديسمبر سنة 641، فسلمت الإسكندرية يأسا وخورا وهي قادرة على مواصلة القتال سنوات، وانعقد الصلح على أن تؤدى الجزية دينارين عن كل رجل قادر على العمل، وأن تستمر الهدنة أحد عشر شهرا تجلو الجيوش الرومانية في خلالها عن المدينة، وتحمل معها من متاعها ما تشاء، وأن تباح للمسيحيين عبادتهم، وتصان لهم معابدهم، وأن يؤذن لليهود بالبقاء في الإسكندرية، وأن يضع الروم عند المسلمين رهائن لضمان نفاذ الاتفاق مائة وخمسين من المقاتلين، وخمسين من السراة غير المقاتلين.
وكان هذا الصلح على هوى المقوقس، ولم يكن على هوى الكثيرين من غلاة الجند وأصحاب الأموال في العاصمة التجارية الكبرى فثاروا بالمقوقس، وأحاطوا بقصره متوعدين منذرين، وخرج لهم باكيا يعتذر لهم بمشيئة الله من أزل الآزال ولا راد لقضاء الله، فاستمعوا إلى الرجل الذي يكلمهم بلسان الدين ولسان الدنيا وشاركوه في البكاء!
تقدمت الإشارة إلى بسالة عمرو في حصار الإسكندرية، ومجازفته بنفسه في اقتحام حصونها مع طلائع المقتحمين، فما هو صحيح من أنباء تلك البسالة فهو شاهد بخلق قد شهدت به معارك كثيرة ومآزق شتى، وما ليس بصحيح فهو من مبالغة الخيال في تكبير الواقع، وليس مما ينقص ذلك الخلق المتفق عليه.
على أن العظمة التي ثبتت لعمرو بن العاص بعد فتح مصر لا تقل عن عظمة الفاتح الجريء ولا عظمة القائد الضليع بفنون الخدعة والإقدام.
فقد عرف مصر وهو مقبل على حكمها، كما عرفها وهو مقبل على فتحها، فإذا هو صالح للعمار والقرار صلاحه للهجوم والحصار.
انتهى دور الفاتح بتسليم الإسكندرية، وبدأ دور الحاكم الذي يسوس رعاياه.
وكان رأي عمرو أن مصر أخذت فتحا، ولم تؤخذ صلحا كما يفهم من الصلح بغير قتال، وفي ذلك يقول: «قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد، إن شئت قتلت وإن شئت خمست، وإن شئت بعت.»
ولكنه مع هذا شاء غير القتل وغير التخميس وغير البيع، فعامل الرعية في أمور دينها ودنياها معاملة رضيتها وأطلقت ثناءها، وجعلت البطريق بنيامين يسمي عهد العرب بعهد السلامة والأمان، وعهد الرومان بعهد الجور والطغيان.
وكان هذا البطرق مبعدا عن مكان الرئاسة الدينية لمخالفته مذهب الكنيسة الملكية، فاستقدمه عمرو واحتفى به ورده إلى مكانه.
وأقبل على سياسة البلد وتدبير مصالحه وتوفير خيراته، فعلم أن الرخص والغلاء مرهونان بفيضان النيل، وأن سياسة مصر هي سياسة النهر في ارتفاعه وهبوطه، فكتب إلى الخليفة أن أهل مصر يجهدهم الغلاء إذا وقف النيل عند حد مقياس لهم، فضلا عن تقاصره، وشرح له علل الغلاء فقال: «إن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير قحط.» ثم أتبع ذلك فقال: «إني وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحد الذي تروى منه سائرها حتى يفضل منه عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستبحار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة.»
وقام بأمر الخليفة على بناء المقاييس، فبنى مقياس حلوان ومقياس أسوان، وأشرف على صيانة الجداول والجسور، وكان سكان البلاد يعتمدون على وسائل خرافية لاستدرار ماء الفيضان، منها إلقاء قربان في النيل يقال في بعض الروايات الضعيفة: إنه عذراء بقيد الحياة، ويقال على الأرجح: إنه دمية من الطين على هيئة فتاة تمثل الأرض الزراعية التي «يتزوج» بها النيل أو يثمر منها ثمراته، فكتب عمرو إلى الخليفة في ذلك، فجاءه منه الأمر بإبطاله بعد أن فكر هو في مثل ذلك، فأبطل هذه العادة الخرافية، واعتمد على الوسائل المعقولة من تنظيم الماء ومناوبة الري حسبما تهيأت له الأسباب العلمية في ذلك الزمان.
وترفق في جمع الأموال من جزية الرءوس وخراج الأرض، فوزعها على ثلاثة أقساط في العام، ولم يزد محصول السنة على اثني عشر مليون دينار : ثلثاها من جزية الرءوس على حساب أربعة ملايين عدد الذكور العاملين، ومنها نحو ثلاثة ملايين دينار خراج الأرض على حساب مليون ونصف مليون فدان، وهو دون الخراج الذي كان يجبى في عهد الرومان والفراعنة غير ما كانوا يستصفونه غصبا من الخيرات والثمرات.
وقد كانت قلة الخراج عن القدر المنظور في أول الأمر مدعاة سؤال كثير من قبل الخلفاء، فراجعه عمر في ذلك وانتهت مراجعة عثمان إياه إلى عزله، فزاد الخراج على عهد ابن أبي سرح، وقال عثمان لعمر: أشعرت أن اللقاح درت بعدك ألبانها؟ قال عمرو: لأنكم أعجفتم أولادها!
ومهما يكن من تصرف عمرو في مال الخراج - أو من طمعه المشهور - فما نظن أن طمعه في المال المحصل كان سببا ظاهرا لذلك النقص الذي لحظه الخلفاء؛ لأنه كان يستطيع أن يجمع ما يكفيه ولا يلحظ نقصه لو آثر الجور على القصد في السياسة. وإنما عمل بالعهد الذي كتبه للمصريين ونظر إلى طول البقاء في الولاية، فمضى على السياسة التي تكفل له ولاء الرعية، وتصلح شئون العمارة في البلاد على حد قوله: «إنه لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل.»
وكان من أهم أعمال التعمير التي تمت على يديه بأمر الخليفة فتح الخليج الذي سماه بخليج أمير المؤمنين بين نهر النيل والبحر الأحمر، فكان ممرا صالحا للسفن التي تحمل الميرة من مصر إلى الحجاز، وطالما احتاج الحجاز إلى تلك الميرة في أعوام القحط والمجاعة.
وبنى مدينة الفسطاط حول مسجده المعروف باسمه إلى اليوم، وإذا صح ما قيل في سبب تسميتها بالفسطاط، فقد بقي عمرو «الشاعر» يقظان الحس والخيال تحت آكام السياسة وأنقاض الحروب، قيل: إنه أراد أن يقوض فسطاطه فرأى يمامة قد باضت في أعلاه فقال: لقد تحرمت بجوارنا وأمر الجند أن يقروا الفسطاط حتى تطير فراخها، فبقي حتى بنيت المدينة في مكانه وسميت بالفسطاط، أو لعل السياسي هنا كان أيقظ من الشاعر؛ لأن حماية يمامة وديعة في جوار وال لهي أجدى له من البأس والرهبة في استمالة القلوب العصية إلى «الحماية» الغريبة التي فرضت عليها. •••
ومن تمام القول في سمعة الحكم الإسلامي بعد فتح مصر، أن نعرض لمسألة طال فيها الأخذ والرد بين المؤرخين وناقدي الإسلام، وهي مسألة إحراق المكتبة الكبرى بالإسكندرية!
وخلاصة هذه المسألة أن عمرا رفع إلى الفاروق خبر المكتبة، فجاءه الجواب بما نصه: «أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتقدم بإعدامها.» فوزعت الكتب على أربعة آلاف حمام بالمدينة، ومضت ستة أشهر وهي تستخدمها في وقودها.
ولم تذكر هذه الرواية إلا بعد انقضاء ستة قرون على تاريخ الفتح، فلم يعرض لها البطرق يوتيخوس الذي توسع في الكلام على فتح الإسكندرية، وكذبها ظاهر من المبالغة في عدد الكتب التي تغني أربعة آلاف حمام عن الوقود ستة أشهر! مع العلم بأن الرق الذي كانت الكتب تسطر عليه في تلك العصور لا يصلح للوقود، وأن الوالي الذي يريد إعدامها لا يسلمها لمن لعله يبيعها أو يحفظها ولا يفوته أن يعهد في نقلها إلى أصحابها وقد حملوا معهم متاعهم الذي طلبوا حمله وهم ذاهبون إلى أرض الروم، وقد حدث أن هذه المكتبة أحرقت مرات في عهد يوليوس قيصر، وعهد العاهل ثيودسيوس الذي أباد آثار الوثنية، سواء من الكتب أو التماثيل.
وكفى لتكذيب هذه الأسطورة أنها لا تشبه عملا من أعمال الفتح الإسلامي الذي اقترن بالتعمير ولم يقترن قط بالتنكيل والتدمير، ومهما يكن من صدق القول المعزو إلى عمرو في وصف مصر: «أن نيلها عجب وترابها ذهب، وأمراءها جلب، وهي لمن غلب.» فإنه لم يأخذها قط بسلطان الغلبة والرهبة، ولم يشرع فيها شرعة إلا كان رائده فيها الرفق والمودة.
الفصل الخامس
البلاد والسكان
قبل الاسترسال في بقية هذه السيرة إلى نهايتها من أعمال عمرو في مصر، نرى أن هذه السيرة تستلزم بيانا مفصلا عن حالة البلاد المصرية كما صارت إليه في الآونة التي تم فيها الفتح وقضى فيها على سيادة الدولة الرومانية، فهذه الحالة من الأسباب التي لا يغفل عنها عند تقدير عمل الفاتح العربي، وتقدير العوامل التي يسرت له الغلبة على الرومان.
وقد راجعنا بعض المراجع التي لم نقف لها من قبل، وانكشفت في السنوات الأخيرة نيات فئة من المؤرخين الغربيين الذين كتبوا عن تاريخ الرومان بمصر، كأنهم أناس من الرومان يذكرون مصابا لحق بهم، ويلتمسون العزاء عنه تارة، ويلتمسون العلة التي تعفيهم من وصمته تارة أخرى. وقد نظرنا إلى تعليلاتهم وتحليلاتهم بالنظرة التي تنبغي لها فرددنا كثيرا منها، وهتكنا الحجاب عن كثير مما كان يخفى على من يقرءون تاريخ هذه الفترة على غير التفات إلى هذه الأهواء التاريخية، بل هذه التواريخ العصرية التي تمليها في هذا الزمن «بواعث حية» كما سيرى القراء، ولعلهم يستوضحون ذلك من مواجهة الحقائق في أمر البلاد والسكان، وأبطال التاريخ المشتركين في حوادث الفتح على ذكر من هذه النيات. •••
كانت مصر في الزمن القديم معروفة بين أهلها باسم «كيم» أو «خيم» بياء تنطق ممالة بين الياء والألف، ويتوهم بعضهم أنها مأخوذة من كلمة خام أو حام بن نوح، على اعتبار المصريين سلالة حامية قديمة، وهو من الأوهام التي لا سند لها من التاريخ ولا من الآثار الباقية؛ لأن معنى الكلمة قديم في اللغة المصرية بمعنى الأرض السوداء، ومنها أخذ اليونان كلمة الكيمياء حين كان علم الكيمياء يسمى بالعلم الأسود أو السحر الأسود؛ لأنه من العلوم الخفية التي يستعان عليها بالأرواح الشريرة في زعم الأقدمين!
ولم يبق من أسماء مصر القديمة في العصر الحاضر غير اسمين اثنين، أحدهما اسم «إيجبت»
Égypte
الذي تلقاه الغربيون عن اليونان، ولا يزال لديهم علما على البلاد المصرية، وأصله مجهول تختلف فيه الأقوال، ويرجح أن الكلمة منحوتة من كلمتين بمعنى «جي بتاه» أو «كي بتاه»؛ أي: بلاد فتاح الإله الذي كان معبودا في «منف» العاصمة القديمة التي عرفها اليونان الأسبقون.
والذين يرجحون هذه التسمية يرون أن كلمة «قبطي» مشتقة من النسبة إلى «كي بتاه»، خلافا لمن يرجع بها إلى قفط أو كوبتوس في طريق البحر الأحمر، وقديما قيل: إنها كانت بلدة على البحر الأحمر، ثم نقلت إلى الطريق كله بين البحر الأحمر والبلدة التي اشتهرت باسم قفط في إقليم قنا، ولا تزال معروفة به إلى اليوم ولا تزال طريق القصير وقنا من الطرق الممهدة للقوافل في العصر الحاضر! وليس من التعسف البعيد أن يقال: إنها أصل التسمية القديمة للبلاد المصرية؛ لأن عواصم مصر الكبرى كانت في الإقليم القنائي، وظلت فيه قرونا طوالا من العصر القديم. ويتوسع بعض المؤرخين في دلالة هذه التسمية، فيردون إليها علاقة مصر العليا بالبلاد العربية القديمة، ويحسبون أن المهاجرين الأوائل قدموا من طريق البحر الأحمر ثم طريق الصحراء في زمن مجهول، ولا يلزم من ذلك أن يكون أصل المصريين جميعا من هؤلاء المهاجرين؛ لأن ملامح المصريين الأوائل ولغاتهم لا تنحصر في أصل واحد، ولا تنحصر على الخصوص في السلالة السامية، بل يوجد فيها مزيج قليل يسهل تعليله بالنسبة إلى طريق «قفط» من جانب البحر الأحمر أو الجانب الذي يقابله على النيل.
أما الاسم الآخر من الأسماء الباقية، فهو اسمها المشهور في اللغة العربية أو هو اسم «مصر» الذي يحسبه بعضهم مأخوذا من كلمة «المصر» التي تطلق في العربية على أرض الحواضر أو على الحاضرة الكبرى، حيث تقام معالم الحكم وأحكام الشريعة.
والغالب أن كلمة «مصر» عربية الأصل، ولكن في لغة العرب السابقة لهذا الاصطلاح الحديث، وإنما نقول: الحديث بالنسبة إلى الكلام العربي المتداول على الألسنة من عهد الإسلام وما قبله بأجيال قليلة! وقبل هذا العهد - عهد الإسلام - عرف العرب مصر ثم عرفها منهم العبرانيون المنتقلون من أرض العراق، وقد كاد المؤرخون أن يتفقوا على أن العبرانيين قدموا إلى مصر في عهد القبائل العربية من الرعاة وأتباعهم المشهورين باسم الهكسوس، فهم أول من أطلق على «مصر» هذا الاسم وسموها «مصرايم»، فزعم بعضهم أن الكلمة من اسم قديم يدعى مصرايم يحسبونه جد المصريين أجمعين، ولكن الواقع أن «مصرايم» تثنية مصر باللغة العبرية بمعنى المصرين؛ أي: الوجه البحري والوجه القبلي ولا تزال الكلمة بعد ذلك محتاجة إلى تفسير من اللغات السامية الأولى إن لم يكن لها معنى قديم منقول عن الهيروغليفية.
والبحث في العبرية واللغات السامية عامة، هو الذي قاد الباحثين إلى مادة «صر» في جميع هذه اللغات، فمادة «صر» تفيد في هذه اللغات جميعا معنى الضم والضيق، والشيء المصرور هو الشيء المضغوط أو المشدود، ومنه الصرة والصرار والإصرار، وقيل لهذا: إن المصر يراد به الوادي الضيق المصرور بين الجبلين، وبولغ في تتبع هذا المعنى، فقيل: إن العبرانيين سموا البلد باسم «مصر»، بعد ما أصابهم فيها من الضيق، وبعد ما اعتزموه من الفرار بأنفسهم من هذا الضيق، وهو اعتساف في التأويل لا تؤيده كلمة واحدة توجه اشتقاق الكلمة هذا الاتجاه.
أما المصر من «الصر» بمعنى حصر الوادي بين الجبلين، فيلاحظ أن العبرانيين أطلقوا اسم المصرين على الوجهين، ولم يكن الوجه البحري - حيث أقام الأكثرون منهم - واديا محصورا بين الجبال، ولم يعرف قط أنهم أطلقوا على مصر اسما آخر قبل وفودهم إليها، إلا أن يكون اسم النهر أو بلاد حام.
ولهذا يذهب بعضهم إلى أن كلمة «مصر» هيروغليفية قديمة مركبة من كلمات ثلاث بمعنى «بلد أبناء الشمس»، والكلمات الثلاث هي «ما» بمعنى موضع، و«سي» بمعنى ابن، و«ري» أو «را»، بمعنى الشمس، ومنها «راع» التي ينسب إليها بعض الفراعنة، فإذا صح أن «ما سيري» هي أصل هذه التسمية فلا غرابة فيه، وإنما يعوزه السند الذي يعزز الاستنتاج وليس له الآن وجود، وكل ما هناك أن أناسا من الثقات يستندون إلى إطلاق اسم «مسرى» على شهر الفيضان أو شهر النيل المنتظر، ويربطون كما فعل العلامة «مسبرو» بين اسم الشهر واسم البلاد.
ولا يخفى أن اللغة الهيروغليفية كانت لغة تصوير، تغلب فيها المقاطع على الحروف، وأن المصريين استخدموا الأبجدية اليونانية وزادوا عليها بعض الحروف التي لا وجود لها عند اليونان، حين أرادوا الكتابة باللغة الوطنية، والاستقلال بها عن كتابة الدول الرومانية! وقد وجدت صور الأرض والشمس عليها دالة على البلاد المصرية في الآثار القديمة، أما نطقها بألفاظ تقارب لفظ مسر أو مصر فليس له سند معروف، بل كان الكتاب المصريون المخضرمون بين عصر اللغة الهيروغليفية وعصر اللغة القبطية يذكرون مصر كما يذكرها اليونان باسم وسط بين «جبت» و«قبت» أو قبط، ويظهر أن كتاب العربية أنفسهم كانوا يطلقون كلمة «قبط» على البلاد أحيانا، ولا يقصدون بها السكان كما فعلوا بعد ذلك؛ ولهذا كانوا يذكرون المصريين باسم «القبطيين»، وتكررت هذه النسبة بعد الفتح الإسلامي بزمن غير قصير، ولم يلجئهم إلى التفرقة بين النسبة إلى مصر والنسبة إلى «قبط» إلا الرغبة في توضيح الفرق بين المصريين بعد الإسلام والمصريين قبل الإسلام، وقد كان المؤرخون المسلمون يذكرون «المصريين» إلى عهد «معاوية» ويعنون بهم العرب المسلمين المقيمين في الديار المصرية؛ ولهذا كانوا يقولون: إن «المصريين» أيدوا عليا في خلافه مع معاوية، وأنهم لم يبايعوا معاوية إلا بعد ولاية عمرو بن العاص الثانية، على أن العرب كانوا يسكنون مدينة «قفط» قبل الإسلام، وقال سترابون: إن نصف سكانها منهم، وربما أخذوا كلمة قبط من النسبة إلى هذه المدينة القديمة في طريق الحجاز.
ومن المحقق بعد جميع التأويلات والاحتمالات أن اسم «مصر» كان معروفا في أرض كنعان قبل وفود العبرانيين، وأن اليونان عرفوا مصر باسم «إيجبت» قبل عصر الشاعر هوميروس، وأن ألواح تل العمارنة ذكرت مصر باسم «هكبتاه» الذي يرجع إليه الاسم اليوناني، وأرادت به أرض منف وعاصمة بتاه أو فتاح، وأن «مصر» بغير التعريف لم تطلق على قطر غير وادي النيل، وأن العرب هم أول من تسمى بالمصريين، ولم يأنفوا من مساواة أبناء البلاد بالانتساب إليها كما أنف الرومان واليونان من قبلهم! وقد كان المؤرخون قبل الميلاد وبعده يحصون سكان البلاد المصرية فلا يشملونهم بإحصاء واحد، ويفردون كل فريق من السكان بتعداد خاص، كالروم واليهود وأبناء البلاد الأصلاء، ومعظمهم كانوا يقيمون في الصعيد وفيما بين فرعي النيل المعروفين الآن باسم فرع دمياط وفرع رشيد، وكانت الأقاليم التي تقع إلى شرق فرع دمياط وإلى غرب فرع رشيد، مقاما لقبائل متفرقة تعرف بالأنساب، ولا تعرف بأسماء المدن والقرى في أسمائها الشائعة.
وقد أحصى ديودورس الصقلي ويوسفيوس اليهودي سكان مصر، فلم يجاوزوا بهم ثمانية ملايين، وأولهم من مؤرخي القرن الأول قبل الميلاد، والآخر ممن شهدوا عصر الميلاد في أوائله، وكلاهما فرق في التعداد بين المصريين واليهود والروم!
وكانت هذه الأجناس جميعا في نزاع دائم بينها، وفي نزاع دائم مع الدولة الرومانية، وربما تجرد بعض القساوسة لقتال اليهود بجنود يجمعها من الوطنيين، ويغير بها على الأحياء اليهودية في الإسكندرية، وقد كانت عدتهم فيها وفي عين شمس تزيد على مائتي ألف في بعض الأوقات.
ولما حان عصر الفتح الإسلامي - أي القرن السابع للميلاد - لم يكن في مصر كلها من يود بقاءها في حوزة الدولة الرومانية، حتى الروم، ولم يكن هؤلاء الروم يثقون بدوام ملك الدولة الرومانية بعد تكرار هزيمتها أمام الفرس وأمام العشائر الهمجية في أوروبة الشرقية وأوروبة الوسطى، ومن كان من الروم يدافع الأجانب عن أرض مصر، فإنما كان يدفعهم ليستبقي له ملك الأرض، ويتحين الفرصة لاقتطاعها من الدولة البيزنطية أو الدولة الرومانية الشرقية، فلم يكن حكم الرومان حكم رضى من المحكومين، ولا حكم ثقة بالبقاء والدوام.
كان القبطيون، أو أبناء البلاد من غير الروم واليهود على أشد السخط من الدولة الرومانية، لأسباب دينية وأسباب سياسية؛ إذ كانت كنيسة بيزنطة قد نازعت كنيسة الإسكندرية سلطانها وأرادت أن تفرض عليها مذهبا في المسيحية لا تقره، وهو المذهب الذي اشتهر باسم المذهب الملكي، واعتقد التابعون له أن المسيح ذو طبيعتين، خلافا للإسكندريين الذين كانوا يدينون بطبيعة واحدة، ويطلق عليهم خطأ اسم اليعقوبيين، وقد كان المصريون يثورون على الدولة الرومانية قبل دخولها في المسيحية ويقابلون اضطهادها بالإضراب أو بالرهبانية والاعتكاف على الصوامع والأديرة في الصحراء، ثم دان عواهل الرومان منذ أيام قسطنطين بالمسيحية، فتغير سبب الاضطهاد ولم يتغير طغيانه وبغضاؤه التي شقي بها أبناء البلاد عدة قرون. كان الاضطهاد لاختلاف الدين، فتحول إلى اضطهاد لاختلاف المذهب والنحلة، ولم يزل أتباع الكنيسة الوطنية يرمون أتباع الكنيسة الملكية بالكفر والمروق، ويقولون عنهم: إنهم يمزقون طبيعة السيد المسيح ويؤمنون بإلهين مختلفين، ومن قبل هذا كان النزاع السياسي الوطني قد بلغ غايته بين المحكومين والحاكمين، ولكن المحكومين - على الأقل - كانوا يستقلون بالعقيدة في الأمور التي تصطدم فعلا بسلطان الدولة، فلما دان عواهل الروم بالدين المسيحي فرضوا لأنفسهم سلطانا روحيا إلى جانب السلطان السياسي، ولم يتركوا للمحكومين منفسا يشعرون فيه باستقلال الرأي والضمير، وقد تفاقم الخطب في عهد الإمبراطور فوقاس - قبل الفتح الإسلامي مباشرة - فصدر أمره إلى ولاته على مصر بطرد جميع الوطنيين من وظائف الحكومة، وإلزامهم طاعة الكنيسة في القسطنطينية، ويكفي لبيان السخط على الدولة الحاكمة أن الخلاص منها أصبح حلما من الأحلام التي تساور زعماء الكنيسة الوطنية في يقظتهم ومنامهم، فرأى البطرق بنيامين في منامه أن مصر ستفتح لأناس مختونين ينقذونها من أعدائها المتسلطين عليها، وروي هذا الحلم على روايات مختلفة منسوبا إلى أناس غير البطرق بنيامين.
ولم تكن عداوة المصريين للدولة القائمة خافية على سكان البلاد المصرية من الروم، بل هم كانوا يعلمون أن كراهة المصريين للسكان «المحليين» من الروم أشد من كراهتهم لرؤسائهم في القسطنطينية؛ لأن هؤلاء الروم المحليين يخالفون الوطنيين في العقيدة والجنس كما يخالفهم رؤساؤهم في العاصمة الكبرى، ويزيدون على رؤسائهم بعداوة أخرى هي عداوة المنافسة الشخصية والغطرسة المحسوسة، ويحيك في نفوسهم أن كل زيادة في سلطان الوطنيين نقص في سلطان الولاة والموظفين الرسميين، وبخاصة بعد التجاء الدولة إلى استرضاء الوطنيين ببعض مناصب الرئاسة والقيادة، وتوكيلهم في تحصيل الضرائب والإشراف على حقوق الالتزام في الجهات النائية، فهذه العداوة المحلية تضاف إلى العداوة العامة التي تكون على الدوام بين الدولة الغاصبة والأمة المغصوبة. فلا جرم يتخوف الروم المحليون من أبناء البلاد عند هجوم العرب على تخومها، ويبلغ من تخوفهم وسوء ظنهم أنهم يفضلون الانفراد بالدفاع عنها على الاستعانة بجيش من أبنائها، ولم يكن هذا الجيش قائما قبل ذلك للاستعانة به في ساعة الخطر المفاجئ. فلما وجد الروم المحليون أن الأمر يحتاج إلى تنظيم جيش جديد مستعد للدفاع في حالة الاطمئنان إليه، عظمت عليهم مشقة التنظيم العاجل، فانفردوا كذلك بشروط الصلح والاتفاق، فكانت شروطهم غير الشروط التي اتفق عليها الوطنيون.
وينبغي أن نتنبه إلى خطأ يتعرض له المؤرخون في هذا السياق؛ لأنهم يقيسون الأمور في ذلك العصر على أشباهها في العصر الحديث، فيخطر لهم أن الروم سكان مصر كانوا يشعرون مع الدولة القائمة بوحدة الوطنية أو وحدة الجنس والقومية، وليس لهذا الخاطر مسوغ من تكوين الدولة، ولا من وحدة العنصر، ولا من شعور الولاء للنظام الحكومي الذي كان قائما في دولة الرومان شرقا وغربا عند فتح العرب للديار المصرية.
لم تكن الدولة الرومانية دولة روم بمعزل عن اللاتين وسائر الأقوام التابعين لرومة القديمة ورومة الجديدة؛ أي: القسطنطينية، بل كان الروم اليونانيون قلة في مناصب الدولة الشرقية، وكان اللاتين من أهل الغرب يشعرون أن رومة الجديدة قد جارت على مكانة رومة القديمة وعرضتها للهوان والإهمال، وكان الرعايا في الشرق والغرب خليطا من الأجناس المتعادية المتنافرة، لا تربطهم رابطة غير سلطان القوة والخوف من الغارات المشتركة والقبائل البربرية، ولم يكن نظام الجلوس على العرش قائما على وراثة محترمة أو حقوق مرعية، بل كان باب القصر المالك مفتوحا لكل غالب وغاصب، وكان فوقاس على عرش القسطنطينية وحوله أناس يتآمرون مع هرقل حاكم إفريقية الشمالية في ذلك الحين لإغرائه بالهجوم على العاصمة وانتزاع العرش من صاحبها، فقتل فوقاس في هذا الصراع، وخلفه هرقل بتأييد المنشقين على العاهل القتيل، ثم انقلب هؤلاء على هرقل بعد تأييده، فهم بترك العاصمة والانتقال إلى إفريقية حيث كان، ولولا أن بطرق العاصمة خاف على مكانته من منافسة كنيسة الإسكندرية وكنيسة رومة القديمة، لانتقل إلى إفريقية وترك الدولة الشرقية للمغيرين عليها، ولكن بطرق العاصمة فتح له كنوز خزائنه وحشد له أعوانه، واستخدم سلطانه الديني في تهدئة جأشه وتوهين الدعاوى التي ادعاها عليه أعداؤه ومنازعوه، وهذا كله يجري بعلم الولاة الكبار والقادة البارزين، فيضعف في نفوسهم ولاء الطاعة والإذعان، كما يضعف فيها ولاء الإخلاص والوفاء. ولم يكن أحد في الدولة الرومانية يجهل أنها دولة منهارة تتصدع وتؤذن بالزوال، ولم يكن قد غاب عن بالهم هزائم هرقل وأسلافه أمام الفرق وأمام القبائل البربرية، ولا غاب عنهم أن أساطين الدولة يتربصون به الدوائر من الداخل لمنازعته السلطان، أو لتحويل الدفة مع اتجاه الريح، وقد كان لها اتجاه مختلف كل الاختلاف ما بين عام وعام.
فالمؤرخ الذي يقيس موقف الروم المحليين في ذلك العصر على مواقف العصر الحاضر يجهل الموقف ويخطئ القياس، إذ لم يكن هنالك شعور قومية من سلالة اللحم والدم، ولا شعور وطنية من تقاليد النظام السياسي وقواعد الحكومة، وكل ما كان هنالك أن آحادا من زعماء الروم المحليين في مصر كانوا يعتمدون على قوة القسطنطينية للمحافظة على مصالحهم «المحلية» والتغلب على الوطنيين، وكانوا مع هذا الاعتماد على قوتها يشكون في دوامها ونجاحها، ولا يطمئنون إلى وعودها ولا يأمنون انقلابها، وخطتهم هذه إنما هي خطة مداورة واغتنام فرصة، قد تتحول من عاهل إلى عاهل كما تتحول من فريق إلى فريق.
وقد علموا أن العواهل أنفسهم مستيئسون في قتالهم، يحارب بعضهم بعضا محاربة القانط من الغد، أو الذي لا يهمه أن يكون الغد كيف يكون، وآخر ما عرفوه من ذلك قبيل الفتح الإسلامي أن «فوقاس» قذف بكنوز الدولة وجواهر القصر الملكي في البحر، ضنا بها أن تئول إلى منافسه هرقل بعد غلبته عليه، فما كان أحد منهم يقاتل يومئذ قتال الرجال أو الثقة بالعودة إلى النصر بعد الهزيمة.
أما اليهود فقد كان حسبهم من النقمة على الدولة الرومانية أنها هدمت هيكل سليمان، وشردتهم من بيت المقدس، وتعقبتهم في بلادها بالمطاردة والمصادرة، والإكراه على عبادة الإمبراطور تارة والإكراه على العبادة المسيحية تارة أخرى، ولكنها كانت تغنيهم في كل عصر عن الذكريات القديمة بما تجدده من صنوف الاضطهاد والتعذيب، وكانت لهم نكبة يذكرونها لكل من العاهلين اللذين تعاقبا على عرش القسطنطينية في عصر الفتح الإسلامي، وهما فوقاس وهرقل، فأما فوقاس فقد أمر بطردهم من وظائف الدولة في الإسكندرية وتعميدهم كرها، وقتل من يخالف أمره فيرفض الإذعان للتعميد، فلما ثار هرقل على فوقاس نصروه وانتظروا خيرا على يديه، فإذا بهرقل ينكبهم نكبة تنسيهم مظالم سلفه المغضوب عليه، وروي ذلك بطرق هرقل في الإسكندرية «أفتيخوس» حيث قال من تاريخه المشهور:
في السنة التاسعة من ملك هرقل خرج من القسطنطينية يريد بيت المقدس، فلما بلغ طبرية خرج إليه اليهود الساكنون بطبرية وجبل الجليل والناصرة وكل قرية في تلك الناحية، فاستقبلوه بالهدايا ودعوا له، وسألوه أن يعطيهم الأمان، فكتب لهم بذلك عهدا، فلما بلغ بيت المقدس استقبله رهبان الصوامع وأهل بيت المقدس، ومعهم مودستس بالمجامر والبخور، فلما دخل المدينة ونظر إلى ما دمر الفرس وأحرقوه اغتم غما شديدا، ثم نظر إلى ما بناه مودستس من كنيسة القيامة وكنيسة مار قسطنطين وغيرهما فسره ذلك، وشكر مودستس على ما فعل، وشكا الرهبان وأهل بيت المقدس له ما فعلته معهم اليهود الذين حول بيت المقدس مع جبل الجليل وقت قدوم الفرس، وأنهم كانوا معهم يعينونهم، وقتلوا من النصارى أكثر مما قتله الفرس، وخربوا الكنائس وأحرقوها بالنار، وأروه القتلى الذين في ماميلا، وأعلموه بما فعلوا في مدينة صور من قتل النصارى وخراب الكنائس، فسألهم هرقل: ماذا تريدون؟ قالوا له: نقتل كل يهودي حول بيت المقدس وجبل الجليل؛ لأننا لا نأمن أن يجيئنا عدو أو قوم مخالفون فيكونوا أعوانا لهم، كما أعانوا الفرس علينا، قال هرقل: وكيف أستحل قتلهم وقد أعطيتهم الأمان، وكتبت لهم بذلك عهدا كما تعلمون؟ ومتى نقضت العهد والأمان، كان ذلك عارا علي وأحدوثة قبيحة، ولم آمن إن كتبت لغيرهم عهدا أن يأباه، فقالوا له: إن سيدنا يسوع المسيح يعلم أن قتلك لهم غفران لذنوبك والناس يعذرونك؛ لأنك في الوقت الذي أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى وخراب الكنائس، وإنما خرجوا إليك واستقبلوك بالهدايا مكرا منهم ولعنة، فقتلهم قربان إلى الله! ونحن نحتمل لك وعنك هذا الذنب ونكفر عنك، ونسأل سيدنا اليسوع ألا يؤاخذك به، أو نجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم الكبير نصومها لك، ونترك فيها أكل الجبن والبيض ما دامت النصرانية، ونجعل في هذا قانونا وحرما بألا يغير، ويكتب به إلى جميع الآفاق غفرانا لجميع ما سألناك أن تفعل، فأجابهم هرقل إلى ذلك، وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الجليل ما لا يحصى من قدر عليه، ومنهم من اختفى، ومنهم من هرب إلى الجبال وإلى مصر.
وجاءت هذه القصة في تاريخ المقريزي حيث يقول:
ثم سار هرقل من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدد ما خربه الفرس منها، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها، وقدموا إليه الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك فأمنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خرابا، فساءه ذلك وتوجع له، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس، وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه، على مر الزمان والدهور، فمال إلى قولهم، وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعا فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى.
وهذه قصة تدل على مكامن الخطر من نقمة اليهود، وتدل على مكامن الخطر التي هي أبلغ من ذلك وأدهى، فإذا كان هرقل يجهل ما حدث في بيت المقدس حتى يراه بعينه، وكان رعاياه الكبار منقطعين عنه حتى يصل إليهم في عقر دارهم، فتلك دولة ممزقة مهملة مفتوحة للأخطار من مكامنها ومما حولها على السواء.
وقد كانت لليهود ترات غير تراتهم عند العاهلين؛ لأنهم كانوا قبل ذلك يهاجمون أبناء البلاد ويتعرضون لهجومهم في كل فترة من فترات الثورة والانتفاض، وكانوا إذا سلموا من ضربات الدولة واستهدف لها أبناء البلاد وحدهم، خامر هؤلاء الظن أنهم يمالئون الدولة عليهم، وأنها تحابيهم وتستعين بهم سرا وعلانية على اضطهادهم، فإذا أمنوا طغيان الدولة لم يأمنوا الشبهات والتهم من رعاياها الموتورين!
وكان لليهود موقعان من أهم المواقع في البلاد المصرية من الوجهة العسكرية، فكان لهم حيان بين أحياء الإسكندرية الخمسة، وحي كبير في عين شمس بجوار منف عاصمة البلاد الداخلية، وكل من هذه المواقع له شأنه الخطير في أوقات الهجوم على البلاد من بحرها وبرها.
وكانت للبشموريين في شرق الدلتا مواقع استطلاع وعبور لا تقل خطرا عن مواقع اليهود في العاصمتين؛ إذ كانوا يسكنون المراعي الواسعة على تخوم الصحراء بين البحيرات الشمالية وأودية الجنوب، وكانوا عربا منحدرين على أرجح الأقوال من سلالة العمالقة الأقدمين، وكانوا يعاونون العرب الفاتحين، كما عاونهم عرب الصحراء في الشام على اختلاف العقيدة والمقام، وإذا لاحظنا أن بادية الفيوم كان يسكنها أناس يتكلمون بلهجة بشمورية علمنا أن أقسام البادية العربية لم تتغير كثيرا من قديم الزمن، وأن عمرو بن العاص قصد إلى الفيوم قبل فتح منف على علم بأصول هذه السلالة.
وانقضى عهد هرقل كله ومصر تسمع بأخبار الفتوح الإسلامية، وتتوقع مصيرا كمصير جاراتها في المشرق القريب، ولم يكد أعوان هرقل يستعيدون بعض الثقة بدولته بعد خروج الفرس من مصر حتى تبين لهم أن قوة أقوى من الفرس والروم معا قد ظهرت في ميدان النضال العريق بين الدولتين، وسمعوا بهزيمة الفرس كما سمعوا بهزيمة الروم في فلسطين، ومنهم من ذهب إلى فلسطين نجدة لهرقل، فلم يكد يدخل الأرض باحثا عن العاهل الذي استنجده حتى سمع بفراره وتوديعه البلاد توديع اليائس المفارق إلى غير رجعة، كما تناقل عنه الذين قفلوا من ركابه عند تخوم آسيا الصغرى.
وأوشك العهد الذي كتبه الخليفة العربي لبطارقة بيت المقدس أن يصبح من محفوظات السياسة ورجال الدين في منف والإسكندرية بالرواية المتواترة، وعلموا أن الخليفة حضرته الصلاة وهو في صحن الكنيسة الكبرى ببيت المقدس، فخرج منها وصلى على درجها منفردا؛ لئلا يطلبها المسلمون ذكرى لصلاة الخليفة عليها، وأنه كتب في عهده أنه أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم: لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ومن خرج من الروم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. •••
وسيرى القارئ فيما يلي كيف خاض المؤرخون في حديث المقوقس كبير مصر، وكيف تخيلوا أنه احتال للصلح بشروط غير شروط الروم من جند هرقل في الإسكندرية، وسيرى أن هؤلاء المؤرخين نساخون يتخبطون في صناعة النسخ فضلا عن التأويل والتخريج؛ لأن اتفاق المقوقس بشطريه لم يكن إلا نسخة من اتفاق بيت المقدس بين العرب وأبناء البلاد، وكانت سياسة العرب أن يتفقوا مع أبناء البلاد، ثم لا يعنيهم من أمر الدولة الحاكمة إلا أن تنجلي بجنودها حيث تشاء، فإذا قبل أبناء البلاد شرطا متفقا عليه لم يكربهم أن يقبله الروم، ولم يأبوا عليهم الخروج إلى ديارهم آمنين مع من يتبعهم من رعاياهم المتعلقين بهم في موقف الرحيل.
الفصل السادس
المقوقس
نعرض الآن ببعض التفصيل لسيرة المقوقس وهو - كما تقدم - من أكبر الشخوص الخلافية في تاريخ مصر، ويندر أن توجد في تاريخ العالم كله سيرة خلافية من هذا القبيل.
وشطر من اللوم في ذلك على المؤرخين الناسخين، وشطر آخر من اللوم على المؤرخين الذين يدخلون أهواءهم الحديثة في مسائل التاريخ الخالية، ويكتبون بخصومات اليوم وأغراضه في شئون لم يكن فيها محل قط لتلك الخصومات والأغراض!
وقد كان تاريخ المقوقس مبهما كتواريخ حكام الرومان في البلاد التي فتحها العرب من فلسطين إلى إفريقية الشمالية؛ لأن أحوال الدولة الرومانية البيزنطية كانت في ذلك العصر مبهمة متقلبة، يتولاها الإمبراطور اليوم، فيولي ويعزل ويقرب ويبعد، ويغير المناصب وأصحابها، ولا يستقر على عرشه حتى يثور عليه طامع في الملك يهدم كل ما أقامه من أركان ملكه، وقد يبقي أناسا من أصحاب المناصب كانوا معه سرا أيام ثروته، وقد ينكل بأناس كان يداريهم ويداورهم إلى أن يتمكن منهم، وقد تنظم الدولة وتجري حوادثها على وتيرة معقولة بضع سنوات، ولكنها تصل إلى التاريخ في عصر قد اضطرب فيه التاريخ والمؤرخون، وحالت فيه الأهواء والمنازعات دون ذكر الحقائق والتبعات، فيقع اللوم على غير أهله، ويبذل الثناء لمن لا يستحقه، وتمسخ الأخبار والحوادث مسخا لمجاراة المآرب والشهوات!
وتاريخ المقوقس كان عرضة للمسخ والإبهام في جميع هذه الجوانب: كان عرضة للمسخ والإبهام من جانب المؤرخين النساخين، وعرضة للمسخ والإبهام من مؤرخي العصور الحديثة الذين نظروا إلى أيام الفتح العربي كأنهم ينظرون إلى فتح يحدث في هذه الأيام، ثم كان قبل ذلك جميعه عرضة للمسخ من تقلقل الأحداث وتغير الدول والحكومات والأحزاب الدينية والسياسية، ويكفي منها اغتيال إمبراطور وجنون إمبراطور بعده، ودخول مصر في حوزة الفرس وخروجها منها، وتنازع الكنائس على العبادات تنازعا قد استعصى على كل توفيق، فمن دان بمذهب فخصوم ذلك المذهب عنده كفرة مشركون ولا توسط بين الطرفين؛ لأن الخصومة تشمل عقيدة الدين وعصبية الجنس ومطامع السيادة والسياسة، وتطرأ في إبانها غارات من الخارج وثورات من الداخل لا تؤذن في حينها باستقرار!
لهذا اختلف المؤرخون على كل شيء يتعلق بالمقوقس حتى كادوا أن ينكروه!
اختلفوا على اسمه واختلفوا على جنسه، واختلفوا على منصبه، فضلا عن الاختلاف على مقاصده وأغراضه!
وظن بعضهم أن المقوقس اسم الرجل على أصله، أو مشوبا ببعض التحريف.
وظن بعضهم أنه لقب وظيفة، ثم اختلفوا في الرجل الذي كانت تطلق عليه، فمنهم من اعتقد أنه «الأجيرج» أو الأعيرج الذي جاء في كلام بعض المؤرخين العرب أنه كان يتحصن في قصر بابليون، ومنهم من اعتقد أنه البطرق بنيامين الذي كان على مذهب الكنيسة الوطنية، ومنهم من اعتقد أنه البطرق فيروش الذي كان على مذهب الكنيسة الملكية، ومنهم من قال: إنه وطني تمذهب بمذهب أبناء البلاد واعتقد الكفر في رؤساء الدين بالقسطنطينية، فأضمر الكيد لهم وأحب أن يستأثر بالحكم دونهم، ولم يتفقوا بعض الاتفاق أخيرا إلا في أمر لقبه باللغة اليونانية، فليس بين المؤرخين اليوم من يحسب المقوقس اسما للرجل.
بل ليس فيهم من يحسب أنه لقب سبقه إليه أحد من ولاة الروم على الديار المصرية.
وعندنا أن هذا «اللقب» مفتاح لبعض الألغاز التي أحاطت بتاريخه؛ لأنه يرجح الدلالة على جنسه، وعلى علاقته بالدولة التي كانت لها السيادة الاسمية على البلاد.
لم تجر عادة الدول الأجنبية أن تفخم ألقاب الولاة إلا إذا كان الغرض مرضاة البلد المحكوم بمظهر من مظاهر السيادة.
وكانت الدولة الرومانية على الخصوص تكتفي بأيسر الألقاب إذا أطلقتها على الولاة من الرومان، فكانت تسمي الوالي حاكما أو قنصلأ أو نائب قنصل أو نائبا أو وكيلا، من أشباه هذه الأسماء التي تؤدي المعنى الرسمي ولا تزيد، وتعمدت الدولة في أيام العواهل أن تضعف من في الولايات؛ لأنهم كانوا يرشحون أنفسهم للعرش إذا برزوا بين القادة وملكوا زمام الجيش في إقليم كبير.
إنما كانت ألقاب التفخيم مقصورة على الوطنيين ومن هم في حكمهم من المنتسبين إلى البلد؛ لأن هذا اللقب عوض عن التاج حيث لا منازعة عليه، فلا خطر على الإمبراطور في القسطنطينية من رئيس وطني مفخم في بلده بين أبناء وطنه، بل في ذلك دفع لخطر الثورة ورضى بالنصيب المقدور من الرئاسة، وأما الخطر كل الخطر فهو من تعظيم قائد روماني ينازع الإمبراطور على عرشه، ويتخذ من فخامة اللقب ذريعة إلى الاقتراب به من مقام الإمبراطور وجميع الأعوان الذين يحيطون به، كما يحاط بكل حاكم مناظر لصاحب العرش يطمح إلى مكانه.
وقد وجب تعويض مصر عن بعض ما فقدته من سلطان الملك وسلطان الدين بعد القرن الخامس للميلاد.
فقبل ذلك كانت الثورات في مصر لا تنقطع، وكان بعض الثائرين من قادة الرومان أنفسهم، فلما استقرت هذه الثورات بعض الشيء كانت الإسكندرية قد تعرضت لمنافسة شديدة أشد عليها من سلطان السيادة السياسية.
كان الإمبراطور قسطنطين قد دان بالمسيحية في أواخر أيامه، فأصبحت عاصمة الدولة تابعة في العرف الديني لكنيسة الإسكندرية؛ لأنها أقدم الكنائس وأكبرها في المشرق والمغرب.
ثم جاء جوليان المرتد بعد قسطنطين فبقيت للإسكندرية مكانتها الكبرى، ولم تكن للقسطنطينية مكانة دينية كبيرة أو صغيرة؛ لأنها عاصمة دولة لم تعترف بالدين، أو لم تثبت على الاعتراف به، وانقلبت عليه تحاربه وتقصي أتباعه من مراكزها العليا.
وظل مقام الإسكندرية مقامها إلى القرن السادس الذي استقرت فيه المسيحية في عاصمة الدولة وأصبحت كنيستها عاصمة الكنائس على هذا الاعتبار، وأوشكت هذه الصفة أن تثبت لها بعد تسمية القسطنطينية برومة الجديدة؛ تعاليا بها على رومة القديمة، فلم يبق لبطرق العاصمة مناظر يحسب حسابه غير بطرق الإسكندرية. وإذا كان مذهب الملك هو المذهب السائد في بلاد الدولة الرومانية، فرئيس الكنيسة في الإسكندرية تابع ولا شك لرئيس الكنيسة التي يصلي فيها الإمبراطور ويتولى رئاستها الدينية في عاصمته الكبرى، وبطرق الإسكندرية مرءوس لبطرق القسطنطينية على هذا الاعتبار.
لقد كان البطرق الإسكندري رأس الدين المسيحي في العالم كله قبل رؤسائه في العاصمة الغربية والعاصمة الشرقية، وكان من بطارقتها من يقول: «ماذا يعنيني من الإمبراطور؟ إنني هنا الإمبراطور!» وكان صادقا فيما قال؛ لأن الناس كانوا يطيعونه ويؤمنون بأن طاعته من طاعة السماء، أما الإمبراطور فمهما يكن من أمر طاعته القسرية فهي طاعة أرضية على كل حال!
هنالك وجب تعويض مصر، ووجب اجتماع اللقب السياسي واللقب الديني في كرسي واحد، وكان هذا هو حكم البداهة الذي وافقه حكم الواقع، فكان «المقوقس» جامعا بين صفة الرئاسة الدينية وصفة الرئاسة الإدارية، أو كان هو بمثابة «ولي الأمر» في مصر بالاصطلاح الحديث، وقد تكون رئاسته عند الدولة رئاسة شرف يعززها مكانة «عملية» بين أبناء البلاد.
وإذا كان التاريخ لا يكرر نفسه كل التكرار في جميع الحوادث، فهو لا يخلو كل الخلو من التكرار المتجدد حينا بعد حين، ولعل لقب «الخديو» أشبه الأشياء بلقب «المقوقس» في أواخر عهد الدولة الرومانية، فهو وال وأكثر من وال في المنزلة السياسية، وهو ولي الأمر بالنيابة عن الخليفة أمير المؤمنين، وباسمه تقام الأحكام الشرعية والإدارية في ظل شاهنشاه، وخليفة الإسلام.
كان لقب المقوقس أو المقوقز كلمة يونانية بمعنى المفخم أو الفاخر، كالحضرة الخديوية «الفخيمة» أو المفخمة كما صححتها اللغة العربية.
وكان إطلاق هذا اللقب على رئيس من المصريين أو المتمصرين معقولا مفهوما في تلك الفترة على سبيل التعويض والترضية، ودفع النزاع والتنافس بين سلطان العاصمة الكبرى وسلطان الإسكندرية، أما الغريب الذي قلما يفهم فهو إطلاقه على قائد روماني لا يكبر - إذا كبر - إلا لينتزع العرش من الإمبراطور.
وهذه ناحية من نواحي البحث المنتج في تاريخ المقوقس وتاريخ الفتح العربي على إجماله، وهناك نواح أخرى تضارعها في الإنتاج أو تزيد عليها، ومنها خطاب النبي - عليه السلام - إلى المقوقس، وتلك السمعة «الخارجية» التي جعلت له هذه المكانة، وجعلته أهلا لأن يخاطبه النبي - عليه السلام - في أمر المصريين جميعا، مع خطابه لهرقل في الوقت نفسه، كأنه لا يملك من أمر مصر ما يملكه المقوقس.
ومن نواحي البحث المنتج صفة المقوقس التي رشحته للتعاهد باسم مصر، والتزام الإنجاز والتنفيذ بعد ارتحال الجيش الروماني من البلاد، ومنها البواعث النفسية التي تحبب إليه أن يبقى في مصر ويخرجها من دولة الروم أبدا، غير مبال بانتقال سلطان الدولة إلى أيدي الفاتحين من أبناء دين غير دينه، فكل هذه النواحي المنتجة تؤدي إلى شيء من الترجيح القوي، إن لم يكن من شأنها أن تؤدي إلى القطع والجزم في جانب الإثبات أو جانب النفي والإنكار، ولكنها على ذلك أهملت أسوأ الإهمال، ولم يعرها «المؤرخون النساخون» بعض ما أعاروه كعادتهم للمقارنة بين النصوص والموازنة بين الأرقام، وسرد أقوال الشهود على وقائع ليست من وقائع الشهادة والحكاية في التاريخ، ولا في حوادث كل يوم.
وهذه نماذج من أقوال المؤرخين في هذه المسألة، نحسبها نماذج لأكثر من باب واحد من أبواب التاريخ، فهي مثال لتاريخ النساخين ومثال لتاريخ ذوي الأغراض، ومثال للتاريخ الذي يكتبه المعاصرون وينظرون فيه إلى حوادث الزمن القديم، فيحكمون عليها كأنها تقع اليوم، وتنبعث من دواعي السياسة أو الشعور التي تدور عليها حوادث القرن التاسع عشر أو القرن العشرين. •••
من أكبر المؤرخين لعصر الفتح الإسلامي الدكتور ألفريد بتلر الذي أقام في مصر زمنا قبل الاحتلال البريطاني وبعده، واجتهد اجتهاده العلمي في تمحيص الوثائق التي عثر بها في القصور الخديوية وفي المكتبات العامة والخاصة، ولكنك تلمح من ثنايا كلامه كأنه يكتب عن خروج مصر من الدولة الرومانية، وهو يتصورها خارجة من الدولة البريطانية في العصر الحديث، ويحسب أن تدبير هذا الخروج «عمل خائن» يحاط بالشبهات، ويدان بأحكام العلاقات الدولية في هذه الأيام.
فبعد أن أورد الأقوال المتضاربة ليضعفها ويفندها، اختار منها قولا واحدا لا فضل له على سائرها، غير أنه القول الذي يدين المقوقس ويسفه رأيه!
قال: «إلى هنا قد بينا ما هنالك من أدلة بينها اتفاق عجيب في بعض الأحايين واختلاف واسع في أحايين أخرى، وقد استمددنا تلك الأدلة من وثائقها الأصلية، ومنها ما تخلف عن العصر الذي نصفه وهي من أصول متباينة: منها اليوناني والقبطي والسرياني والعربي، وكلها تدل على أن المقوقس إنما هو «فيرس» بطريق إسكندرية والعامل على الخراج، والحاكم العام على مصر في وقت الفتح، وليس ينقض هذا الرأي أن يقول: إن مؤرخي العرب قد يطلقون لقب المقوقس أحيانا على شخص يسمونه ليس هو فيرس، ولسنا ننكر أن الأمر كذلك، ولكننا ننكر كل الإنكار تلك النتيجة التي يذهب إليها أصحاب ذلك القول، وهو أن لقب المقوقس لم يكن علما على شخص معين واحد، وحجتهم في ذلك أنه قد أطلق خطأ في بعض الأحوال على أشخاص متعددين، ويلوح لنا أن العلامة كاتياني من بين من يذهبون هذا المذهب، وأما الحقيقة التي نراها فهي أن المؤرخين العرب إنما كتب أكثرهم وليس عنده من المقوقس أكثر من صورة ضئيلة مبهمة وأنه كان حاكما على مصر، فليس من العجيب أن نجدهم يصورونه أحيانا مشتركا في أعمال أو حوادث لم يكن مشتركا فيها بنفسه؛ ولذلك فهم يخطئون فيها، ولكن المسألة التي نحن بصددها باقية، وهي أن نكشف خلافهم عن حقيقة شخصية المقوقس، وأن نعرف من كان بين الناس، ولم يذكر مؤرخ عربي - وما كان له أن يذكر - أن ذلك اللقب قد أطلق على ثلاثة أشخاص كلهم حق له أن يلقب به، وليس في طاقة المنطق أن يبيح لقائل أن يقول: إن وجود الخلاف يجعل ذلك اللغز متعسرا على العقول لا تستطيع حله، بل إن واجب النقد التاريخي أن يصفي ما هناك من خلاف، وأن يزيح ما تراكم منه على الحقيقة فيكشفها ويجلوها، ولعلنا يحق لنا أن نعتقد أنه إذا عرضت الأدلة عرضا لا ميل فيه ولا تحيز أمكن أن نصل إلى نتيجة مؤكدة ليس فيها شك، وهي أن المقوقس لم يكن سوى فيرس، وأنه لا ينبغي لذلك اللقب أن يطلق على سواه من الناس.»
1 •••
وأشد من بتلر «بريطانية» في تصوير التاريخ تلك السيدة الإنجليزية «أ.ل. بتشر» التي كتبت الأمة القبطية لتأسف أولا على أنها انفصلت من الكنائس الغربية، وتثبت ثانيا أن خروج مصر من حكم الرومان كان خيانة مصرية لا تضارعها خيانة وتمثلت صاحب هذه الخيانة كأنه عائش في زمانها، فهالت عليه من السباب المقذع ما يستحقه عندها الخارجون على سلطان بريطانيا العظمى، وهي - أي السيدة بتشر - على خلاف رأي بتلر في تحقيق شخصية المقوقس؛ لأنها تقول: إنه هو جورج أو جرجس المصري وتتوجع لما حدث، كأنه لو لم يحدث كانت سلمت الدولة الرومانية مما أصابها، وبقيت مصر في حوزتها!
قالت: «لما طرد هرقل الفرس سنة 630 وأعاد حامياته في مصر كان أعلم باضطراب الموقف، وتخلخل قبضته على البلاد من أن يندفع متهجما، وجعل ينتظر ريثما تبلغ مقترحاته الدينية مبلغها عند الجانب المصري، وكان حكام الأقاليم - ومنهم مصريون وطنيون - يعلمون أن وقت الحساب غير بعيد لا يقبل التسويف الطويل، وكثير منهم كانت له أسبابه الخاصة وأسبابه السياسية التي تخيفه من عاقبة استقرار السيطرة البيزنطية.
ولو أن مقترح التوفيق الذي عرف بالأوطاخي، لقي القبول عند البطرق بنيامين لأصبح هؤلاء الحكام عزلا من السلطان، ولكن هرقل من طريق نائبه فيرس الذي اختاره بطرقا للكنيسة البيزنطية أو كنيسة الدولة، كان قد أخطأ فهون من شأن البطرق المصري، فلما بدا لفيرس أن جمهرة الأمة المصرية رحبت بمقترحه لم يتردد في اضطهاد البطرق المصري ونفيه لرفضه وإبائه، فما كان من أثر ذلك إلا أن الرفض والإباء كمنا في طوايا الأمة المصرية جمعاء، وأصبح المقترح محتوم الزوال بعد حين، ومهما يكن من أخطاء الأمة المصرية، فلقد كان من دأبها أنها لم تخذل قط بطرقها، ولعل مقترح الإمبراطور كان يبدو كأنه غاية ما ترومه لولا أن البطرق لم يقره، فليس من حق المصري الصادق أن يباليه ويلتفت إليه، وشيئا فشيئا تحولت جمهرة الشعب من جانب الإمبراطور، وأخذ فيرس يدرك أنه أخفق وخاب في مسعاه فتنفس الموظفون الخونة الصعداء، ولاح لهم يوم الحساب غير قريب.
من هؤلاء الموظفين والوكلاء واحد ينفرد بارزا بالمكانة الشائنة، وقد سمع أكثر الناس بالمقوقس الذي تمارى الكثيرون في اسمه ووظيفته، بل تماروا في وجوده، وتناقشوا طويلا في أمره، ولكن مجموعة الورق البردي التي في حوزة الأرشيدوق رينر وترجمت أخيرا، قد يسرت لنا ولو بعض التيسير أن نزيل بعض المصاعب التي تحف بهذه المسألة.
ومعظم المؤرخين متفقون منذ زمن بعيد على أن المقوقس لم يكن اسم علم، ولكنهم حاروا في الجزم بحقيقته بين أن يكون لقبا أو عنوان منصب من مناصب الدولة، أما الواقع فيظهر أنه لم يكن هذا ولا ذاك، وإنما كان الرجل صاحب عنوان يمكن أن يسمى بالعمدة، ويخطئ بعض المؤرخين فيسمونه نائب الملك، واسمه الأصيل جرجس بن مينا بركيوبس، وقد كان اسم مينا في مصر عاما شائعا يحتاج إلى لقب يوناني لتمييزه، وليس العمدة أو المدير في الأقاليم إلا الحاكم المصري الذي يشرف على جميع أعماله الإدارية كحفظ الأمن، وجمع الضرائب وتسليمها، وتدبير شئون الطرق والجداول والسدود والقناطر، وكل ما يلحق بالنظام الإداري، حتى سك العملة وتقدير المقاييس والأوزان، ولا يخرج من سلطانه غير الجيش، وتمثله في كل إقليم حامية صغيرة والقساوسة، وهم الاستثناء الأهم من استثناء الحامية، وقد كان عدد الموظفين الذين لا يعرفون أحدا أكبر من العمدة عظيما جدا، ومن الكشوف الحديثة نعرف أسماء الأقسام الثلاثة التي تولاها العمدة أو المديرون في عهد الغزوة العربية.
لقد كانت اليونانية لغة البلاد الرسمية، وكان لقب التمجيد الذي يمنحه المديرون كلمة تقابل عندنا في الإنجليزية كلمة الفخم أو المجيد كما تعودنا في تقديم سفرائنا بألقاب ذوي السعادة، ولكن العرب حسبوا هذه الكلمة اسما شخصيا للعمدة الخائن الذي فاوض عمرا على تسليم البلاد، وقد أصبح جرجس الخائن من ثم مشهورا خلال القرون بوصف ما أقل انطباقه عليه، وهو وصف المقوقس أو الفخم المجيد.
كان عمدة الوجه البحري آمون مينا رجلا، كما وصفه يوحنا النخوي مدعيا غبيا، يمقت المصريين أشد المقت، بقي في منصبه بعد دخول مصر في حوزة العرب، وكان عمدة مصر الوسطى على أحد شواطئ النيل من ناحية المنيا يسمى فيرس ولا نعلم عنه شيئا إلا أنه اشترك في تسليم البلاد للمسلمين، وأما عمدة مصر العليا - أو بابليون - فاسمه في أوراق البردي جورج أو جرجس الذي نسميه المقوقس، وهؤلاء كانوا المديرين على أهم الأقاليم مع الدوق العسكري والحامية التي تتبعه، وإلى جانبهم قديما - أو بعد دخول العرب - مديران آخران أقل شأنا منهم، وهما: فولكسينوس بالفيوم، وشنودة بالريف.
وثلاثة من هؤلاء العمد مصريون وطنيون، بدليل أسمائهم التي لا تقبل الشك، وإن لم يكونوا من أتباع الكنيسة الوطنية، وإلا لما أمكن أن يشغلوا هذه المناصب، وإن المؤرخين الذين يذكرون المقوقس على أنه قبطي مصري لعلى صواب، ولكنهم مخطئون في زعمهم أنه تابع للكنيسة الوطنية التي تعرف الآن باسم الكنيسة القبطية، ولعله كان في قلبه يشايع كنيسة آبائه ولا يستطيع أن يصرح بالانتساب إليها، فهو موظف بيزنطي من أبناء مصر وهو من ثم خائن لإمبراطوره وخائن لبلاده وخائن لكنيسته.
وكان قد مضى عليه عهد بعيد في وظيفته على أيام الغزوة العربية، فأصبح أقوى المديرين جميعا لدخول بابليون في إقليمه على أقصى حده الشمالي، وتعود المصريون نحو عشرين سنة أن ينظروا إليه كأنه وحده حاكم وادي النيل، وقد علمتهم غارات الفرس أن البيزنطيين بغير حول ولا قوة، ثم ذهب الفرس وعاد البيزنطيون، واحتلت طائفة من جنودهم حصن بابليون وبعض الأمكنة في بني سويف والفيوم، ولم يشعر أبناء البلاد إلى الجنوب بآثار هذا التغيير، ولا فرقوا بين الجنود في ملابس الفرس أو الجنود في ملابس الرومان، وإنما كانوا يؤدون الضرائب بحكم العادة للعمدة أو المدير، ويكلون إليه أن يسلمها لمن يشاء، وانقضى زمن طويل والمدير القوي يتصرف فيها على أيسر وسيلة، فيستبقي له كل ما بقي من الأموال بعد توزيع المرتبات وتكاليف الحكومة في الإقليم، ولكنه ما عتم أن رأى هرقل يظن أن مقترحات التوفيق قد جمعت أبناء البلاد، ويريد الدليل المحسوس على سلطانه ويشدد في استقضاء الأموال حتى شهد الخطر فاغرا فمه أمام عينيه، وكان من قبل قد نظر إلى بعيد، وأرسل إلى الشمس الطالعة سفارة ودية تحمل الهدايا من العسل والعبيد إلى محمد زعيم القوم، وها هو ذا محمد قد مات، وها هي ذي وقائع النصر التي أحرزها هرقل تغمه وتشغل باله، فإذا نهضت الدولة القديمة وهزمت العرب أمامها كما هزمت الفرس، فهو أول من يساق لتقديم الحساب.
وقد التقت جيوش هرقل وعمر خليفة محمد في فلسطين، وأيقن جرجس أن مصر ستكون لا محالة نصيب الظافر من الفريقين، ولاح له من وقائع هرقل الأخيرة أنه قد يكون صاحب الكفة الراجحة، فبادر إلى العمل على حسب هذا التقدير، وكانت له فتاة حسناء تسمى أرمانوسة فخطر له خاطر بارع: أن يزوجها من قسطنطين بن هرقل ووارث عرشه الذي ماتت زوجته، وأن يزودها بجهاز يغريه بإهمال موضوع الأموال المتأخرة، وكان قسطنطين يومئذ في قيصرية، ويظهر أنه استراح إلى هذه الفكرة، وعلى هذا خرج من بابليون في أواخر سنة 630 موكب فخم يزف العروس المصرية إلى قرينها الملكي، وقيل: إن حراس الموكب بلغوا ألفي فارس عدا الحشم والخدم وحملة الذخائر والتحف المهداة، وما كاد يقترب من الحدود المصرية وينحو ناحية القنطرة فالعريش حتى نمى إلى أرمانوسة نبأ انتصار العرب ومحاصرتهم لقيصرية، وتأهبهم للهجوم على البلاد المصرية، فتصرفت المصرية الشابة بالشجاعة والفنطة الجديرتين بأسلافها العريقين، وقفلت إلى بلبيس مستعدة هنالك للدفاع، فأنفذت على الأثر حراسها إلى الفرما للمقاومة فيها إذا قدم العدو من جانبها كما كان مرجحا في تلك الأحوال، وأرسلت إلى أبيها تنذره، ولم تبرح بلبيس لتشجيع السكان على الثبات في وجه الكفار، على أن عمرا قائد المسلمين تجنب الفرما وتقدم رأسا إلى بلبيس، فضرب حولها الحصار فلبثت الفتاة الباسلة شهرا تصد العرب بفرقتها الصغيرة التي لم تدرب على القتال، وبعد خسارة عظيمة في الأرواح وقعت المدينة عنوة في قبضة عمرو، ومعها أرمانوسة وكل ما لديها من ذخائرها وكنوزها، فبعث بها إلى أبيها معززة مكرمة، إما لإعجابه ببسالتها ومحاولتها الدفاع والمقاومة، وإما لإدراكه جلالة العاقبة من ترك كل عمل يسيء إلى العمدة المقتدر في بابليون، فانحلت مشكلة المقوقس وبرح الخفاء في أمر الشمس الطالعة منذ ذلك الحين.»
وعلى هذا المنهج من تشويه الوقائع تمضي المؤرخة «المترومنة» وتتكلف من التحقيق والتمحيص ما يعينها على غرض واحد، وهو الحسرة على خروج مصر من الدولة الرومانية، وإلقاء التبعة في ذلك على المقوقس، وتعليل خيانته بجمع الضرائب لنفسه في الآونة التي انقضت بين استيلاء الفرس على مصر وخروجهم منها، وهي علة لا يعقلها جاهل بظواهر الأحوال، فضلا عن مؤرخ يتصدى لتفسير التواريخ واستخلاص الحقائق من وراء الشبهات، فإن الفرس لم يفتحوا مصر ليتركوا ضرائبها وخيراتها غنيمة للمقوقس، يعطي منها ما يعطيه ويستبقي منها ما يستبقيه، وإذا كانت علة الخيانة خوف المطالبة بالضرائب المتأخرة فأيسر شيء على المقوقس أن يقول: إن الفرس نهبوها ولم يعطوه «إيصالا» بما نهبوه بطبيعة الحال، وإذا عز عليه في دهائه - أو في بلاهته - أن يعتذر بهذا العذر الواضح، فقد كان خيرا له أن يبذل المال لهرقل أو لقسطنطين بدلا من إرساله تحفا وهدايا وجهازا وصداقا مع بنته المزعومة أرمانوسة، وهو لا يأمن أن تخرج مصر من يد هرقل، فيكون قد قذف بفتاته إلى النيران ووقع بين شقي الرحى من ناحية المهزومين وناحية المنتصرين، ولم يستفد من كل ذلك إبقاء المال ولا إبقاء فتاته لديه.
وقد قبلت المؤرخة «المترومنة» قصة أرمانوسة من قصص الواقدي على علاتها، ولم تبحث فيها أقل بحث يتطلب التعزيز والإسناد، ولم يحملها على قبول القصة إلا أنها ذريعة لتهمة من التهم تكال للمقوقس المسكين، على أن «بتلر» لم يرفض قصة أرمانوسة إنصافا للحقيقة، أو ذهابا مع التمحيص والتدقيق، بل رفضها لأنه اختار أن يكون المقوقس هو فيرس، واختار أن يكون فيرس راهبا لا يجوز له الزواج، وهو في ذلك لم يبلغ بالتمحيص غايته؛ لأن مسألة الزواج لم تكن يومئذ من الحرج والصرامة بحيث انتهت إليه بعد فصل الكنيسة القبطية من سلطان الرومان. وقد كان مستحبا للأسقف أن يكتفي بزوجة واحدة إذا خشي الفتنة على نفسه ولا يزيد عليها، قال ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين، صاحب «سير البطارقة» في أثناء الكلام على ديمتريوس الثاني عشر: «وإذا قال قائل: كيف يجوز أن يكون بطرك متزوجا؟ نقول له: قد قال التلاميذ في قوانينهم: إذا كان الأسقف متزوجا امرأة واحدة فلا يمنع من ذلك؛ لأن الزوجة المؤمنة طاهرة وفراشها طاهر ولا ذنب عليه، والبطرك هو أسقف مدينة الإسكندرية، وله الرئاسة على أساقفة أعمالها؛ لأنه خليفة مار مرقس الرسول على إقليم مصر جميعه، الخمس مدن والنوبة والحبشة كل هذه خرجت من قسم الأب مرقس الرسول البشير ببشرى الإنجيل؛ ولهذا أوجب أن يكون حكم أسقف إسكندرية على جميعها.»
فليست هناك علل حاسمة تصلح للاستناد إليها في التثبت من السير والأشخاص على هذه الطريقة التي توخاها بتلر، أو على تلك الطريقة التي توختها السيدة فيما اختارته أو نبذته من تاريخ تلك الآونة.
وكان خليقا بتاريخ هذه السيدة أن يهمل كل الإهمال، أو يترجم لتصحيحه وإبرائه من السخائف والأباطيل، ولكنه ترجم فبلغ من غباء مترجمه أن يصرف همه في الترجمة إلى توكيد سخائفه وتمكين أباطيله، واختراع القصص لتزييفه وتسويغه، ونبذة واحدة من الترجمة السقيمة تكفي لتصوير الجرأة على الهزل في مقام الجد مما يساق للناس في مقام التاريخ المحفوظ، وهذه النبذة هي هذه القصة التي اخترعت أو أضيفت إلى التاريخ من أساطير الخيال، وقد نقلها المترجم مما تقدم فقال:
من مميزات المقوقس أنه كان ذا وجهين، يتلون تلون الحرباء ويتقلب حيث شاء، ولسان حاله يقول: أنا مع الغالب فإنه لما انتصر هرقل على العرب في موقعة عند فلسطين، ظن جرجس أن النصر سيكون لهذا الإمبراطور؛ ولذلك سعى في التقرب إليه والتملق له عساه يتناسى عدوانه وطمعه، فدبر الطريقة الآتية، وهي أنه كانت له ابنة بارعة في الجمال اسمها أرمانوسة، فخطر على باله أن يزوجها بقسطنطين بن هرقل الأكبر ووريثه، وأمهرها بصداق وفير جعل هذا الأمير الذي كان حاكما في قيصرية أن يقبل طلب جرجس ويتنازل في المتأخرات الباقية عليه من ضرائب مصر التي لم يدفعها للخزينة الإمبراطورية، ففي سنة 639 سارت هذه العروس المصرية من بابليون بأبهة الملكات وفخفخة جداتها المصريات، يحف بها جيش جرار ويمشي في ركابها أمراء وأقيال، حتى بلغ مقدار الفرسان الذين كانوا في موكب زفافها ألفي فارس أو يزيدون، عدا العبيد والهدايا النفيسة والمطايا الفاخرة التي تليق بعروس مصرية لعريس روماني، ولكن عندما وصلت هذه الحسناء لحدود مصر، وكادت تعبر القنطرة عند الإسماعيلية إلى العريش، بلغها أن الغلبة كانت حليفة للعرب الذين شددوا الحصار على قيصرية، وهم يستعدون للهجوم على مصر، فلما طرق هذا الخبر آذان سليلة رعمسيس وابنة فرعون وكريمة أولئك الأجداد الكرام الذين دوخوا العالم واجتاحوه قبل أن يوجد العرب، طرحت حلي العرس وزينة الفرح، وتقلدت السيف بدل الوشاح، ولبست الدروع بدل الدمالج، وتمنطقت بمعدات الهلاك بدل أحزمة الذهب المرصعة باللآلئ ونزلت من مركبتها، وامتطت متن جواد أشهب، وقالت للذين يسيرون معها أن هيا نخضب أيدينا بدماء الأعداء بدل خضاب الأوانس، ونشرب بجماجمهم عوضا عن شربنا بكاسات الذهب وطاسات الإبريز، تعالوا نشنف آذاننا بصلصلة السيوف وصهيل الخيل، بدل وقع الدف ورنة العود! سيروا بنا نحو الأعادي، وهناك إذا وقعت العين على العين، وحمي وطيس الحرب وعلا سعير الطعن والضرب، وتقابلت مع الفرسان، تجدونني أردد ما قاله عنترتهم الأسود، وأنا فتاة بيضاء بضاء، وغادة هيفاء:
إذا كشف الزمان لك القناعا
ومد إليك صرف الدهر باعا
فلا تخش المنية وارتقبها
ودافع ما استطعت لها دفاعا
ولا تختر فراشا من حرير
ولا تبك المنازل والبقاعا
وحينئذ كرت أرمانوسة راجعة إلى بلبيس في نفر من رجالها وأخذت تستعد للدفاع وصد هجمات الأعداء المغيرين.
إلى أن قال:
وبعد أن دخل عمرو بلبيس وقعت أرمانوسة أسيرة في يده، ولكنه أرسلها إلى أبيها بكل احترام وتبجيل؛ إما لأنه أعجب بشجاعتها وبسالتها؛ أو لأنه خاف أن يؤذيها فيسيء إلى والدها صديقه الحميم الذي ثبت لديه الآن أن العرب هم الذين سوف يأخذون مصر بلا مجادلة، ولما وصلت أرمانوسة إلى أبيها سألها عما فعلت، فأجابته:
أقمنا بالذوابل سوق حرب
وصيرت النفوس لها متاعا
حصاني كان دلال المنايا
فخاض عبابها وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيبا
يداوي رأس من يشكو الصداعا
إذا الأبطال فرت خوف بأسي
ترى الأقطار باعا أو ذراعا
فكظم أبوها غيظه منها؛ لأنها قاومت الذين تعاهد معهم على أن يعطيهم وطنه لقمة باردة دون حرب أو عناء، ولم يستطع توبيخها أو تعنيفها؛ لأنه كان لا يزال تحت سلطة الرومانيين، ولم تصر مصر بعد إلى أيدي هؤلاء العتاة المغيرين ...
وعلى غير هذا الأسلوب أصلا وترجمة، يتعرض الدكتور جاك تاجر لتحقيق أمر المقوقس وتاريخ الفتح العربي، وسرد الوقائع والمرويات على نسق يوهم القارئ أن النظر في الوثائق والمعاهدات يعاد من جديد، فيقول في الصفحة الرابعة والأربعين من كتاب بعنوان «مسلمون وأقباط»:
إن الشخص الذي يطلق عليه مؤرخو العرب اسم المقوقس لم يزل غامضا، هل كان قبطيا؟ هل كان من أصل يوناني؟ هل المقوقس الذي سلم القاهرة هو نفسه الذي أبرم اتفاقية الإسكندرية؟ لم يصل المستشرقون بعد بحث وتنقيب خلال قرن أو أكثر إلى جواب دقيق عن هذه الأسئلة. نعم إننا اليوم أقرب إلى الحقيقة من أمثال شمبليون فيجاك شقيق شامبليون الذي صور لنا فيرس على أنه قس قلق ومفسد - خلف البطريرك جورج عام 630 - بينما حكم مصر أحد الأقباط كريم الأصل ومن أغنى أغنياء البلاد اسمه المقوقس، غير أن المستندات التي حصلنا عليها حتى الآن لا تسمح لنا بعد بتفسير هذا اللغز التاريخي تفسيرا تاما.
استعمل المؤرخون كلمة «مقوقس» باعتبارها اسم شخص معين. على أننا متأكدون تقريبا من أصل هذه الكلمة، إن البطريرك فيرس الذي عينه الإمبراطور هرقل محافظا على دوقية الإسكندرية كان قبل تعيينه أسقفا لمدينة فاز من مدن القوقاس، فلقب في مصر بلقب فوفيوس - القوقاسي - كما يشهد على ذلك أحد المستندات القبطية النادرة التي كشف عنها وأشار إليها إميلينو
Amlineau : أما الفوفيوس هذا الأسقف المزعوم، فقد ترك الحقد يوغر في صدره إلى أن وصل إلى مدينة الفيوم ... ولما أدرك الأب صمويل أنه سيفارق الحياة، قال له - أي للفوفيوس: أنت أيضا أيها الكلسيدوني المخادع ...
إلى أن قال في الصفحة الخامسة والأربعين:
ونميل إلى الاعتقاد دون أن نجزم قطعيا بأن المقوقس الذي فاوض في تسليم بابليون، هو شخص آخر غير البطريرك فيرس الذي أبرم صلح الإسكندرية، بل إنه حاكم قبطي وأمسك المؤرخون العرب عن التثبت من شخصية هذا الحاكم ... على أن المؤرخ الكاثوليكي «ابن بطريق» يشير إلى المقوقس على أنه يعقوبي مبغض للروم، ولم يكن يتهيأ له أن يظهر مقالة اليعقوبيين لئلا يقتلوه، ويتهمه ابن بطريق إلى جانب ذلك بأنه قد اقتطع أموال مصر من وقت حصار كسرى للقسطنطينية، فكان يخاف أن يقع في يد هرقل الملك فيقتله ... والذي يحملنا أيضا على الاعتقاد بأن حاكم بابليون أيام الحملة كان قبطيا، هو الفرق الواضح بين اتفاقيتي القاهرة والإسكندرية: فبينما تعنى اتفاقية الإسكندرية صراحة بمصير اليونانيين، لم تهتم اتفاقية بابليون إلا بمصير الأهلين، وأبى ابن الحكم أن يترك شكا في هذا الموضوع: فأضاف بعد ذكر الاتفاقية الموقع عليها في بابليون ما يأتي: (هذا كله على القبط خاصة .) ومن جهة أخرى أراد المقوقس أن يخطر عمرا قبل دخول الاتفاقية في دور التنفيذ فقال له: إنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض، وأما الروم فإني بريء منهم وليس ديني دينهم ولا مقالتي مقالتهم: إنما كنت أخاف منهم القتل، فلذلك كنت أستر ديني ومقالتي ... وأكتم ذلك.
أما الأوراق الأثرية التي استند إليها هؤلاء المؤرخون وغيرهم فليس فيها ترجيح لقول من أقوالهم، وقد يكون فيها ترجيح لما يخالفها، وهذه أمثلة منها أهمها الأوراق التي عثر عليها سليمان الشرقاوي مكتوبة بالقبطية الصعيدية، وأهداها في شهر يونيو سنة 1982 إلى «القمص فيلوتاءوس»، وفي أول إحداها حكاية عن زيارة المقوقس لبعض الأديرة وحواره مع رهبانه: ... فقال رئيس الدير: لا أعرف لأي سبب بارحوا ... حينئذ أمر بضرب رئيس الدير حتى يخبره بكل ما حصل، فأجابه الرئيس بقوله: لا تضربني وأنا أخبرك الحقيقة ... هذا الرجل، صمويل الناسك، عمل للرهبان موعظة طويلة لامك فيها، ودعاك مجدفا ويهوديا خلقيدونيا، وكافرا غير مستحق أن تقدس بطريركا، وغير مستحق لشركتك بأي نوع؛ ولهذا السبب أصغى الرهبان لكلامه وذهبوا ... فلما سمع الكافر هذا الكلام غضب غضبا شديدا، وصار يعض شفتيه من شدة غضبه، ثم ابتدأ يلعن رئيس الدير والدير والرهبان ... وعقب ذلك رجع من سكة أخرى، ولم يحضر للجبل لهذا اليوم. وبعد هذه الحادثة رجع الإخوة بسلام إلى الدير.
أما من جهة المقوقس، البطريرك الكاذب، فإنه صار حاقدا لحين وصوله لمدينة الفيوم، ففي الحال حضر خدام ورجال - عارفين البلد - لكي يأتوا له بالقديس أنبا صمويل مغلول اليدين وراء ظهره وفي عنقه طوق حديد، ويدفعوه أمامهم مثل لص، فوصلوا إلى الدير وأخذوه. أما هو فكان يمشي متهللا بالرب قائلا: لعل الله - سبحانه وتعالى - يجعل دمي يسفك اليوم من أجل اسم المسيح! ولهذا السبب ابتدأ يشتم المقوقس بحرية قائلا: بدون شك أنه سيفعل ما وعد به منذ قليل، فلما أحضره العسكر أمام المقوقس ورأى الكافر رجل الله، امتلأ غضبا وأمر العسكر أن يضربوه حتى يسيل دمه مثل الماء، ثم بعد ذلك قال له: أنت يا صمويل الناسك الكافر، قل لي: من رسمك إيفومانسا على هذا الدير؟ ومن أمرك أن تغري الرهبان على لعني ولعن إيماني؟ فأجابه القديس أنبا صموئيل قائلا: تصلح الإطاعة لله ولقديسه البطريرك أنبا بنيامين أولى من الإطاعة لك ولتعليمك الشيطاني يا بن إبليس المسيح الدجال، حينئذ أمر بضرب القديس أنبا صموئيل على فمه قائلا: إن المجد الذي يعطيه لك الناس بصفة ناسك ينفخك، لكن أنا الذي سوف أعلمك وأرشدك للتكلم بالباطل؛ لأنك لم تكرمني بصفة كوني بطريركا، ولم تراعني أيضا أنا وقدرتي بصفة كوني عاملا على خراج بر مصر، فأجابه القديس أنبا صموئيل قائلا: إن الشيطان كان أيضا بوظيفة عامل وله سلطة على الملائكة، لكن تكبره وعدم أمانته إنما هما اللذان جعلاه غريبا عن مجد الله وملائكته، وأنت أيضا أيها الخلقيدوني الغاش، إيمانك نجس، وأنت ملعون أكثر من الشيطان وجنوده، فلما سمع المقوقس ذلك امتلأ رجزا ضد القديس، وأشار إلى العسكر أن يجلدوه لحد الموت
2 ...
ويبدو لنا أن هذا الحوار مفهوم إذا كان المقوقس مصريا يحتاج إلى التذكير بصفته الحكومية، وكان منتميا إلى مذهب غير المذهب الذي ينتمي إليه أكثر قومه، ولكنه غريب في خطاب يدور بين ناسك مصري ورئيس روماني يدين بمذهب المجمع الخلقيدوني، ولا ينتظر أن ينتمي إلى غيره بحكم مولده ومنصبه وانتمائه إلى النحلة الملكية، وكذلك المقابلة بين البطرق بنيامين والمقوقس مفهومة إذا كان كلاهما مصريا، وكان الاختلاف بينهما في المذهب، أما أن يكون أحدهما رومانيا ملكي المذهب وأن يكون الآخر مصريا يعقوبي المذهب، فلا وجه للموازنة بينهما في كفتين متعادلتين. •••
ومن المراجع التي جاء فيها ذكر المقوقس كتاب «سير البطاركة» لمؤلفه ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين، الذي جمع تاريخه من أوراق الأديرة، وقال عن البطرق بنيامين:
خرج من الديارات بوادي هبيب - النطرون - ومضى إلى الصعيد، وأقام مختفيا في دير صغير في البرية إلى كمال العشر سنين، كما قال له ملك الرب، وهي السنون التي كان فيها هرقل والمقوقز متسلطين على ديار مصر ... ثم إن هرقل أقام أساقفة في بلاد مصر كلها إلى أنصنا ... فلما تمت عشر سنين من مملكة هرقل والمقوقز، وهو يطلب بنيامين البطريرك وهو هارب منه من مكان إلى آخر مختفيا في البيع الحصينة، أنفذ ملك المسلمين الخليفة سرية مع أمير من أصحابه يسمى عمرو بن العاص في سنة ثلاثمائة وسبع وخمسين لديقلاديانوس قاتل الشهداء، فنزل عسكر الإسلام بقوة عظيمة في اليوم الثاني عشر من بئونة، وهو الرابع من دنكطس من شهور الروم، وكان الأمير عمرو قد هدم الحصن وأحرق المراكب بالنار، وأذل الروم وملك بعض البلاد، وكان مجيئه من البرية، فأخذ الجبل حتى وصلوا إلى قصر مبني بالحجارة بين الصعيد والريف يسمى بابليون، فضربوا جميعهم خيامهم هناك حتى ترتبوا لمقاتلة الروم ومحاربتهم، ثم إنهم أسموا ذلك الموضع بلغتهم الفسطاط، وهو اسمه إلى الآن، وبعد قتالهم ثلاث دفعات غلب المسلمون، فلما رأى رؤساء المدينة هذه الأمور، مضوا إلى عمرو وأخذوا منه أمانا على المدينة لئلا تنهب، وأهلكوا جنس الروم وبطريركهم المسمى أريانوس، ومن سلم منهم هرب إلى الإسكندرية وأغلقوا أبوابها عليهم وتحصنوا فيها ... فلما ملك عمرو المدينة ورتب أمورها، خاف الكافر والي الإسكندرية، وهو كان واليها وبطركها من قبل الروم، أن يقتله عمرو، فمص خاتما مسموما فمات لوقته، فأما سانوتيوس التكس - أي الدوق المؤمن - فإنه عرف عمرا بسبب اختفاء الأب بنيامين البطريرك، وأنه هارب من الروم خوفا منهم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمال مصر كتابا يقول فيه هكذا: (إن الموضع الذي يكون فيه بنيامين البطريرك الذي للنصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمنا مطمئنا ويدبر حال بيعه وسياسة طائفته.) فلما سمع القديس بنيامين هذا عاد إلى مدينة الإسكندرية بفرح عظيم، بعد غيبته ثلاث عشرة سنة، منها عشر سنين لهرقل الرومي الكافر، وثلاث سنين قبل أن يفتح المسلمون الإسكندرية، لابسا إكليل الصبر وشدة الجهاد.
وهذا التاريخ الذي كتبه المؤرخ القبطي في عصر الفاطميين، يخرج لنا المقوقس في صورة تناقض جميع الصور التي يظهر فيها خائنا متواطئا مع العرب، فإنه بخع نفسه خوفا منهم أن يدمروا عليه الإسكندرية، وكان الفرح بهم من جانب الحزب المصري في الكنيسة برئاسة البطرق بنيامين الذي عاد إلى كرسيه آمنا بعد موت المقوقس وخروج الروم منها.
ونقلت المجلة القبطية في العدد السادس من السنة الثالثة تعليقات من حواش مخطوطة على جداول البطاركة، جاء في إحداها:
إنه كان في أيام الأب بنيامين أن ملكت العرب أرض مصر، وكان دخولهم إليها في ثاني بئونة سنة 333، وكان المقوقز جريج بن مينا الهراطيقي نائب هرطاقة هرقل بالديار المصرية، يطلب ويضطهد على الموافقة له على أمانة لاوون الفاسدة، وظفر بأخيه مينا وأنزل به عقوبات عظيمة وغرقه.
وهذه الفقرة لا ترجح شيئا كما ترجح انتماء المقوقس إلى مصر؛ لأنه نشأ في بيت يسمي أبناءه باسم مينا، ويتسمى هو وأخوه بهذا الاسم الواحد، مع التفرقة بينهما في اللقب أو الكنية، وهذه التسمية تقليد وطني لم يؤثر مثله عن أحد من الرومان الشرقيين أو الغربيين. •••
وممن أرخوا هذه الفترة: أبو المكارم سعد الله بن جرجس بن مسعود من أبناء القرن الثاني عشر، وهو يقول عن إقليم البحيرة: «إن بحيرة الإسكندرية كانت مزروعة كروما جميعها لامرأة جريج بن مينا مقوقس الروم، وكانت تستأدي خراجها خمرا، فكثر عندها، فطلبت دنانير ذهب فلم يحصل لها من الخمر ما طلبت؛ لأنه كان موجودا عند الناس وما يجدون من يشتريه، فكرهت هذا فغرقت البحيرة بالماء، ولم تزل كذلك حتى استنبطها بنو العباس، وهم المسودة وإنهم سدوا جسورها ومنعوا الغرق.»
والمهم في هذه الفقرة هو تسمية المقوقس باسم جريج بن ميناء، وهي التسمية المصرية التي لم تعهد في أسماء الرومان أو الروم.
وجاء في تاريخ ابن البطريق هو من الملكيين المعارضين للكنيسة الوطنية: إنه في أول خلافة أبي بكر: «صير سرجيوس بطريركا على الإسكندرية أربع سنين، فلما سمع أن المسلمين غلبوا الروم وفتحوا فلسطين، وأنهم سائرون إلى مصر ركب البحر وهرب إلى القسطنطينية، فبقي كرسي الإسكندرية بعده بلا بطريرك ملكي سبعا وتسعين سنة. ولما هرب صير بعده كورش - أي فيرس - بطريركا على الإسكندرية، وكان مارونيا على دين هرقل، وكان بالإسكندرية رجل راهب يسمى صفرونيوس، فأنكر صفرونيوس مقالة كورش؛ لأنه كان يقول: إن لسيدنا المسيح طبيعتين بمشيئة واحدة وفعل واحد، وأقنوم واحد، وهي مقالة مارون، فسار صفرونيوس إلى كورش فناظره ... فقال له كورش بوقاحة: إن أنوريوس بطريرك رومية وسرجيوس بطريرك القسطنطينية موافقان لي على هذه المقالة ... فخرج صفرونيوس إلى القسطنطينية فقبله سرجيوس بطريركها، وقص صفرونيوس عليه ما كان بينه وبين كورش، فعجب سرجيوس من ذلك، فلما كان بعد مدة قدمت هدايا من كورش إلى سرجيوس، فانصرف عن رأيه وصار مخالفا لصفرونيوس موافقا لكورش ... ثم إن صفرونيوس صيروه بطريركا على بيت المقدس، فكتب صفرونيوس كتابا في الإيمان وبعث به إلى جميع الآفاق، فقبله أهل الدنيا في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب ...»
إلى أن قال عن عمرو بن العاص: «... ثم سار إلى مصر وكان الروم قد تحصنوا في الحصن، وخندقوا حول الحصن خندقا، وطرحوا فيه سككا من الحديد، فقاموا يقاتلونهم قتالا شديدا ستة أشهر، فلما أبطأ الفتح عليه كتب عمر بن الخطاب يستمده فأمده بأربعة آلاف رجل، منهم الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وكان مع عمرو أربعة آلاف، فصار في ثمانية آلاف، وكان العامل على الخراج بمصر رجلا يدعى المقوقس من قبل هرقل، وكان يعقوبيا مبغضا للروم إلا أنه لم يكن يتهيأ له أن يظهر مقالته لئلا يقتله الروم، وكان أيضا قد اقتطع أموال مصر في وقت حصار كسرى القسطنطينية، وكان يحاذر من هرقل الملك أن يقع في يده فيقتله، فاحتال على الروم، وقال لهم: إن العرب قد جاءهم مدد وليس لنا بهم طاقة، ولا نأمن أن يفتحوا القصر فيقتلونا، ولكن نسد أبواب الحصن ونصير عليه مقاتلة، ونخرج من القصر إلى الجزيرة فنقيم فيها ونتحصن بالبحر، فخرج الروم ومعهم المقوقس وجماعة من أكابر القبط من باب القصر القبلي، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فركبوا المراكب ولحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم، وقطعوا الجسر، وكان ذلك في جري النيل ...
ثم أرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص يقول له: إنكم قوم قد ولجتم بلادنا ولججتم على قتالنا، وطال مقامكم بأرضنا، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا ... فابعثوا إلينا رجلا منكم لنسمع كلامكم، فلعل يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال، فلما أتت رسل المقوقس عمرو بن العاص وجه معهم بعبادة بن الصامت، وكان عبادة أسود فلما دخل على المقوقس أدنى مجلسه فقال المقوقس له: ما الذي تريده منا؟ بينه لنا، فقال له عبادة: أن ليس بيننا وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال، فاختر أيها شئت، وبذلك أمرني بها الأمير وأمير المؤمنين: إما أن تدخلوا في الإسلام فكنتم إخوتنا وكان لكم ما لنا ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم، فإن أبيتم فأدوا لنا الجزية نرضى بها ونحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وتعرض لكم في شيء من أراضيكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذا كنتم في ذمتنا وكان به عهد علينا، فإن أبيتم فليس بيننا وبينكم غير المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم، فقال المقوقس: فإما الدخول في دينكم فهذا ما لا يمكن، وأما الصلح فقد رضيت أنا ذلك لنفسي ولأصحابي القبط، وامتنع الروم أن يجيبوا إلى الصلح وقالوا: لا نفعل ذلك أبدا، وإنما فعل المقوقس هذا مكرا منه وخديعة حتى أخرج الروم من الحصن، ثم رضي بالصلح ليسلم له ما أخذ من المال ... فرجع عبادة بن الصامت فأخبر عمرا بجميع ما كان، ثم إن المسلمين لما علموا أن ليس في الحصن من المقاتلة إلا نفر يسير، ناهضوا القتال من ناحية سوق الحمام اليوم، فرموا الحصن بالمنجنيقات والعرادات، ثم إن الزبير وضع سلما إلى جانب الحصن من سوق الحمام، ثم صعد، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن، فكبروا وتحامل الناس على السلم، فخلا الروم عن القتال، وركبوا المراكب ولحقوا بالجزيرة إلى أصحابهم، وفتح المسلمون الحصن، فقتلوا وأسروا وغنموا، فلما نظر الروم ما فعل بهم المقوقس، وكيف أنه خدعهم وأخرجهم من الحصن وسلمه إلى المسلمين، خافوا ناحيته فتركوه وركبوا البحر وعسكروا بكوم شريك، واجتمع المقوقس مع عمرو بن العاص على عهد بينهما، واصطلحا على جميع من بمصر أسفلها وأعلاها من القبط، ديناران ديناران على كل نفس، شريفهم ووضيعهم ممن بلغ الحلم منهم، وليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وأحصى عدد القبط يومئذ، خاصة من بلغ الحلم، وأخذت منهم الجزية، وفرض عليهم الديناران، رفع ذلك بالأيمان المؤكدة، فكان جميع من أحصى بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط الذين أحصوا وكتبوا، فكانت فريضتهم في ذلك الوقت: اثني عشر ألف ألف دينار كل سنة.
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو فقال له: أما الروم فإني منهم بريء وليس دينهم ديني، ولا مقالتي مقالتهم، وإنما كنت أخاف منهم القتل، فكنت أستر مقالتي وأكتم ديني، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال، فقال عمرو: وما هي؟ قال: لا تنقصني عن القبط، وأدخلني معهم وألزمني ما ألزمتهم، فقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم، وأنا متمم لك على نفسي والقبط متممون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم، والثانية: إن سألك الروم بعد اليوم الصلح، فلا تصالحهم حتى تجعلهم عبيدا وإماء؛ فإنهم أهل لذلك. والثالثة: إن أنا مت فأمر أن أدفن في كنيسة حنس في الإسكندرية ... فأنعم عليه عمرو بذلك على أن ضمنوا له إصلاح الجسرين جميعا ويقيمون الأنزال، وصاروا لهم أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم، ومضى عمرو ومن معه حتى لقي جميع الروم بكوم شريك،
3
فاقتتلوا به ثلاثة أيام وولى الروم منهزمين، ثم التقى بسلطيس فاقتتلوا تسعة عشر يوما، وانهزم الروم فدخلوا الإسكندرية وتحصنوا فيها، واستأسدت العرب عند ذلك، فلجت بالقتال على أهل الإسكندرية فقاتلوهم قتالا شديدا، وكان الروم يخرجون من الأبواب في كل يوم يقاتلون، وكان يقتل من الفريقين في كل يوم خلق كثير، ففي يوم من الأيام اشتد القتال حتى اقتحم العرب حصن الإسكندرية، فقاتلوهم في الحصن قتالا شديدا، ثم خاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم من الحصن، واستأسروا عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد ووردان مولى عمرو ورجلا آخر، ولم يدر الروم من هم! فقال لهم البطريق: إنكم صرتم في أيدينا أسارى، فعرفونا ما الذي تريدون منا؟ فقال له عمرو: إما أن تدخلوا في ديننا وإما أن تعطونا الجزية، وإما ألا نزال نقاتلكم إما أن تفنونا بالقتل وإما أن نفنيكم! فقال واحد من الروم للبطريق: أتوهم أن هذا أمير القوم فاضرب عنقه، ففطن لكلامهم وردان وكان يحسن الرومية، فحدث وردان لعمرو حديثا شديدا، وكلمه وقال له: ما لك وللكلام؟ ما في المعسكر أدنى منك ولا أقل، فاترك غيرك يتكلم! فقال البطريق في نفسه: لو كان هذا أميرهم لم يتهيأ لهذا أن يكلمه، فقال مسلمة بن مخلد: إن أميرنا كان قد عزم أن ينصرف عنكم ويترك حربكم، وبهذا كتب إليه أمير المؤمنين، غير أنه أراد أن يوجه إليكم بعشرة قواد من أصحابه من وجوههم، ممن لهم الرأي السديد، حتى تتوافقوا أنتم وهم على شيء تتراضون بينكم وبينهم أيضا وننصرف عنكم، فإن أحببتم ذلك فأطلقوا سبيلنا حتى نذهب إلى أميرنا ونعلمه ما صنعتم بنا من الجميل حتى يوجه إليكم بالعشرة القواد، فينقطع الأمر بيننا وبينكم على ما تحبون، وننصرف عنكم! فتوهم البطريق أن هذا كلام حق، فخلاهم رجاء أن يأتوا بالعشرة القواد فيقتلهم ويتمكن من العرب ...»
ثم قال ابن البطريق: «إن عمرو بن العاص كتب إلى الخليفة يصف له فتح الإسكندرية، فقال: إني فتحت مدينة لا أقدر أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية، بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك، واثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر وما يتلوه من البقولات! وإني فتحتها عنوة بغير عقد ولا عهد ... وإن المسلمين طلبوا قسمتها ... فكتب إليه عمر بن الخطاب يقبح رأيه ويأمره ألا يتجاوزها ولا يقسمها، ويتركها ليكون خراجها للمسلمين قوة على عدوهم .» •••
قال: «فأقرها عمرو وأحصى أهلها، فرض عليهم الخراج، وكانت مصر فتحت صلحا كلها بفريضة دينارين كل رجل لا يزاد على أحد جزية رأسه أكثر من ذلك، إلا أنه لا يلزم مقدار ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا الإسكندرية، فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى واليهم؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة ... وفتحت الإسكندرية يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة، وعشرين للملك هرقل.»
وهذه الروايات لسعيد بن البطريق أحجى أن تقارب التاريخ الصحيح؛ لأن صاحبها كان أقرب المؤرخين إلى مراجع الأخبار جميعا من رومانية وقبطية وعربية، ولكنها لم تخل من عيب التاريخ في هذه الفترة، وهو تخلل الوقائع والرويات بالمنازع والأهواء، بحيث يظهر لون المؤرخ من كلامه، وإن لم ينسب هذا الكلام إلى شخص معلوم، وقد ترك ابن البطريق متسعا لدعواه أو متسعا لهواه، كغيره من المؤرخين، فكان «روماني المذهب» في اختيار الأخبار التي توافق منزعه، وأولها أن الرومان لم يرتبطوا بعهد ولا عقد عند سقوط الإسكندرية، وإن سقوط بابليون كان خديعة من الحاكم اليعقوبي، ولم يكن ضعفا اضطرت إليه الحامية بعد اليأس من المدد، وكان تعليله لخديعة الحاكم اليعقوبي الوطني أسخف من تعليلات غيره، فإنهم زعموا أن الحاكم الوطني - وهو المقوقس - قد استبقى عنده ضرائب القطر كله أيام استيلاء الفرس على مصر، فلم يرسلها إلى القسطنطينية، ولم يكن في نيته أن يرسلها، وقد يكون هذا السبب معقولا بعض الشيء؛ لأن إرسال الضرائب إلى القسطنطينية مع سيرة الفرس على البلاد لم يكن بالميسور وإن أراده المقوقس، وموضع السخف من القصة أن نتصور المقوقس عاجزا في هذه الحالة عن الاعتذار باغتصاب الفرس لكل ما أصابوه من الغلات والخيرات وأموال الخراج! فإذا أغضينا بنظرنا عن هذا السخف، فما عدا ذلك سهل مستساغ! وأما الذي لا يستساغ فهو امتناع المقوقس عن إرسال الضرائب؛ لأن الفرس يحاصرون القسطنطينية! إذ الواقع أن الطريق بين مصر والقسطنطينية لم تكن مقفلة من جانب البحر، ولم يكن الرومان ينقطعون عن طلب الأزواد والأمداد من إفريقية، وقد استطاع هرقل مع حصار القسطنطينية من الناحية الآسيوية أن يتركها وينقض على بلاد فارس وراء البحر الأسود، فلم يكن من العسير أن تصل ضرائب مصر إلى القسطنطينية في فترة الحصار، إلا أن يكون المقوقس قد أعلن قطع الصلة بالإمبراطور ووضع يده على أموال البلد جهرة مع وجود الحامية الرومانية فيها، وعلى هذا لا تبقى للرومان ثقة به وهو معهم في داخل حصن بابليون، ولا ينتظرون منه أن يخدعهم ويتفق مع عمرو بن العاص من ورائهم حتى يتخوفوه ولا يأمنوه.
كذلك يروي ابن البطريق تلك القصة التي رويت عن عمرو وغلامه وردان في أثناء حصار الإسكندرية، كما رويت في حرب فلسطين، وهي كما يرى أدنى إلى الخرافة منها إلى التاريخ.
ولا تنحصر الخلافات حول المقوقس فيما تقدم، بل يقول آخرون - كما قال امبلينو - إنها مشتقة من «كوكيوت» اسم عملة يونانية؛ لأن المقوقس كان يلي أمر الخراج، ولا يستبعد «بتلر» أن يكون اللفظ مصحفا على لسان المصريين من القوقاس؛ لأن هرقل نقل فيرس من القوقاس إلى الديار المصرية.
ولكن المقوقس عرف بهذا اللقب في الحجاز قبل فتح مصر بأكثر من عشر سنين، وكتب إليه النبي - عليه السلام - رسالة بهذا اللقب جاءه الجواب عنها مع هدايا المقوقس التي لا جدال فيها، فما تأويل ذلك عند بتلر وأتباعه في التحقيق والتصديق والتكذيب؟ تأويل ذلك يسير على طرف اللسان، وهو خطأ المؤرخين العرب في رواية الخبر بعد الفتح الإسلامي بسنين!
إلا أن خبر الرسالة النبوية وجوابها من وراء كل شك وكل تردد وتأويل، فلا شك في كتابة النبي - عليه السلام - إلى عظيم القبط في مصر، ولا في جواب عظيم القبط عن كتابه، وقد وصلت السيدة مارية وأختها مع الجواب، وعرف الرسول الذي جاء مع الهدية، والبيت الذي نزلت فيه بالحجاز، ثم ولد للنبي - عليه السلام - ابنه إبراهيم من مارية القبطية، وتواترت التواريخ بمولده ووفاته حوالي الثانية من عمره، وتواتر كذلك بكسوف الشمس يوم وفاته، وقول النبي - عليه السلام: إن الشمس لم تكسف لموته، وجاوز الأمر أخبار التاريخ إلى تحقيقات الحساب الفلكي، فأثبت العالم الكبير محمود الفلكي باشا أن هذا الكسوف حدث في المدينة المنورة «الساعة الثانية والدقيقة الثلاثين بعد نصف الليل من اليوم السابع والعشرين من شهر يناير سنة 632 ميلادية»، ويطابق هذا التاريخ تقدير مؤرخي المسلمين عن وقت ولادة إبراهيم ووقت قدوم أمه السيدة مارية إلى الحجاز.
فليس المهم إذن تصريف اسم المقوقس باليونانية أو الحبشية أو القبطية، وإنما المهم أن هناك عظيما في مصر كان يملك من أمر شعبها ما لم يملكه عاهل القسطنطينية؛ ولذلك كتب النبي إليه ولم يكتف بالكتابة إلى العاهل في عاصمة الدولة الكبرى، وقد وصل الكتاب إلى صاحبه المقصود بدليل واضح بسيط، وهو وصول الجواب عنه، فإذا كانت منزلة هذا الرجل حقيقة مقررة لا خلاف عليها، وكان اسم المقوقس دليلا على هذه المنزلة لا يتأتى اختراعه لمن يجهله - فلماذا نلغيه ونبطله، أو نشك فيه وننفيه؟!
إن خروج المؤرخ بتلر أو غيره من ورطة وقعوا فيها، لا تكفي لتغيير مجرى الحوادث والروايات، وعلى بتلر وغيره أن يخرجوا من الورطة التي دخلوا فيها كما يشاءون، ولكن على غير حساب التاريخ. ومهما يكن من أخطاء المؤرخين الأوائل، فهي لا تكفي للإسعاف من كل ورطة والإجالة عليها في كل تأويل. •••
ليست هذه التخريجات أو هذه التأويلات إذن هي المرجع في تمحيص القول عن مسألة المقوقس وما لابسها من الأخبار والروايات، وإنما المرجع إلى «الموقف» وما يمليه بحكم البداهة وحكم الحوادث التي عرفت بمقدماتها ونتائجها. وأيا كان الرأي في هذا المقياس، فهو أصدق بيانا من جميع المقاييس التي رأيناها تضطرب ذلك الاضطراب بين أيدي المؤرخين. •••
وهذا هو حكم الموقف على أسلم الوجوه من النقد والريب، أو من الاختلاق وتوجيه المنازع والأهواء.
حكم الموقف أننا أمام «دور» واضح محدود لا يقبل اللبس على وجه من الوجوه، دور زعيم «أهلي» مسئول له صفة شعبية، لا تستطيع دولة الرومان أن تنتزعها منه، سواء رضيت عنه أو غضبت عليه.
وليس هو «دور» رئيس روماني بحال من الأحوال؛ لأن الرئيس الروماني إن بقي في مصر لم تكن له صفة ولم يكن له سلطان، وإن خرج من مصر لم تكن للتعاقد معه قيمة، ولم يكن أهلا للالتزام.
وإذا كان الموقف يستلزم «دورا» محدودا واضحا فلا محل فيه للاختلاق ولا للتنازع بين المؤرخين.
فهناك «أشخاص» يجوز الشك في وجودهم، بل يستدعي العمل المنسوب إليهم أن نشك في حقيقتهم، أما إذا كانت المسألة مسألة «أدوار» قائمة لا مسألة أشخاص، فلا محل للشك ولا للتنازع، بل الأمر ينعكس من هذا النقيض إلى النقيض الذي يقابله، ويصبح من اللازم تاريخا وعقلا أن نوجد الشخص الذي يمكن أن يؤديه، لا أن نراه موجودا ثم نشك فيه!
إن الدور الذي نسب إلى المقوقس لا يؤديه إلا زعيم له صفة المقوقس، كائنا ما كان اسمه ولقبه، وكائنا ما كان عنوانه في الدولة وفي البلاد.
فهو دور يؤديه «زعيم أهلي» عرف الناس حول بلاده أنه يملك منها ما ليس يملكه هرقل في عاصمته، ويتعاهد العرب معه فيعلمون أنهم يعاهدون البلاد، وأن البلاد مقرة لما تعاهدوا عليه.
ومن بقي من الرومان - أو من الروم - بعد وصول عمرو بن العاص إلى الفسطاط، فإنما بقي مقاتلا أو منتظرا للمدد من خارج مصر لمواصلة القتال، ومثل هذا لا يتعاهد معه عمرو بن العاص، ولا معنى للتعاهد معه قبل انقضاض المعركة بين الدولة الذاهبة والدولة الباقية!
فلا يكون المتعاهد أو المصالح في الحرب إلا زعيما يتكفل بشيء يقدر عليه، ويعلم معاهدوه أنه قادر عليه باسم قومه، وأنه إذا نقضه كانت الخسارة عليه وعليهم، لا على الرومان في مصر والإسكندرية، أو الرومان في القسطنطينية وبلاد الروم!
فالزعيم المصري هنا شخص يفرضه التاريخ فرضا، ويتطلب منه تبعة لا يقوم بها سواه.
وهذه التبعة تدل كذلك على حالة محدودة واضحة، لا تلتبس بغيرها من الحالات.
إن الصلح في مصر كان نسخة مكررة من الصلح في فلسطين.
ففي العهدين معا أمان للبيع والكنائس، واتفاق على خروج من يريد الخروج مع الروم من أهل البلاد.
وفي عهد فلسطين أمان من إكراه أهل بيت المقدس على مساكنة اليهود، يقابله في عهد مصر أمان من إكراه أهلها على مساكنة النوب؛ لأنهم كانوا معهم قبل ذلك في قتال على الشئون الدنيوية والدينية.
فلا موضع هنا لخيانة ابتدعها الزعيم الوطني في الديار المصرية؛ لأنه لم يقبل شيئا أقل مما قبله أهل فلسطين.
وقد تذكر كلمة الخيانة إذا كانت الدولة الرومانية قادرة على حماية مصر عاجزة عن حماية فلسطين، ولكنه فرض بعيد لا يخطر على بال أحد ينظر إلى الموقف اليوم، أو كان ينظر إليه كما رآه المعاصرون في تلك الأيام.
فالدفاع عن فلسطين أهون من الدفاع عن مصر بكثير؛ لأن طريق البر مفتوح بين بلاد الدولة الرومانية في آسيا الصغرى، وبين ميادين فلسطين من شمالها إلى جنوبها، فإذا كانت الدولة الرومانية لا تستطيع أن تبعث البعوث إلى جيرتها القريبة، فهي أعجز عن ذلك في الميادين المصرية، وإذا كانت السفن لا تسعفها على شواطئ فلسطين فهي لا تسعفها في الإسكندرية ودمياط.
ولا بد من النظر إلى اعتبار آخر في هذا الموقف، وهو حالة فلسطين من الوجهة الدينية، فإن هرقل كان خليقا أن يهتم باستبقائها، لما فيها من الأماكن المقدسة التي تقوم عليها صفته في عاصمة الدولة الشرقية على الخصوص، وإن رعاياه هناك لم يكن عندهم من أسباب النقمة عليه شيء يثنيهم عن تأييده واستبقاء ملكه؛ لأنه لم يكرههم على خلاف عقيدتهم كما فعل في مصر، ولم تزل ذكرى دخوله بيت المقدس، وحفاوة أهلها به ووعدهم بالكفارة عن يمينه مدى السنين عالقة بأذهان القادة والأتباع في تلك البلاد.
وربما وجد من المؤرخين من يصف المقوقس بالخيانة، إذا كانت دولة الرومان قادرة على شيء في الدفاع عن مصر، فحال بينها وبين المثابرة على الدفاع، فقد يقال حينئذ: إنه موظف «روماني» خذل رؤساءه وسادته وسلم البلاد لقوم آخرين!
لكن الواقع أن الدولة الرومانية لم تكن لها ذمة تخان في البلاد المصرية من الوجهة الدينية، أو الوجهة العملية الواقعية.
فمن الوجهة الشرعية هي دولة أجنبية غاصبة، تعتدي على الأرواح والأموال، وتستنزف ثروة البلاد في الضرائب والإتاوات، وتحرمها الغلات والثمرات التي هي أحوج إليها في أيام الشح والغلاء، وتقحمها في منازعاتها قبل انقسامها إلى دولة شرقية ودولة غربية، وبعد انقسامها إلى دولتين بغير استقرار وبغير انقطاع، وقد ساعدها المصريون على طرد الفرس، وساعدوا هرقل في ثورته على خصمه فوقاس حتى قهره واستولى على العرش بعده، فمن قوة مصر وإفريقية الشمالية تجمعت قوة هرقل التي انتصر بها على خصمه، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إلى مكانه حتى جزى المصريين على معاونتهم شر الجزاء، فلم يكن من حقه عليهم أن يحاربوا له حربه، ويمسكوا له سلطانه وهو يشارف الزوال.
ومن الوجهة الدينية لم تكن على مذهب أهل البلاد، ولم تكن سمحة معهم فيما يختارونه لعقيدتهم، وكان النزاع الديني بين مصر والدولة الحاكمة على أشده وأعنفه عند قدوم عمرو بن العاص.
وقد قال ميخائيل السوري في تاريخه: إن «المنتقم الجبار» أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء ليخرجوا الأمم من ربقة الروم والرومان.
ومن وجهة الواقع لم تكن دولة الروم قادرة على مهمة الحكومة الأولى، وهي صد الغارات عنها وحفظ الأمن فيها. وكان من عملها ما يخل بالأمن ويغل الأيدي عن الدفاع؛ لأنها نزعت سلاح المصريين وقسمت القيادة العسكرية أقساما بين الرؤساء الرومانيين، وتركت للجنة الوطنيين أن يدفعوا غارات اللصوص بسلاحهم، فتعرضت للسطو من ناحية الصحراء ومن ناحية الجنوب، وما بقي للمصريين من جند مسلح، فإنما كان من قبيل الشرطة الذين تأمنهم الدولة الحاكمة؛ لأنهم لا يستطيعون إجلاءها ولا تأمنهم عصابات اللصوص؛ لأنها تتسلح بمثل سلاحهم ويزيد عددها على عددهم في بعض الأطراف، وقد كان قائد ليبيا الروماني على مقربة من المعارك الفاصلة بين العرب والدولة الرومانية، فلم يتقدم للاشتراك فيها؛ لأنها لم تترك في نفس أحد من جندها غيرة عليها؛ ولأنه لا يخلي مكانه إلا على خطر من العصابات. •••
وأيا كان تفصيل الموقف من جهة السيادة الرومانية على البلاد فإنها لم تكن سيادة ملزمة لأهلها بذمة من الذمم، ولم يسلبها أبناء مصر شيئا كانت قادرة عليه بقوتها الغاصبة، ومن رآها تعجز عن المقاومة في فلسطين فلن يخطر له أنها تقوى عليها في بلاده، وليست أمامه حالة «ممكنة» أسلم وأكرم من تصريف الموقف بما يقتضيه، فهو موقف ضرورة لا موضع فيه للخيانة ولا للاختيار.
وهو - بعد - موقف زعيم «أهلي» ينهض بتبعة لا حيلة له فيها، فإما أن يدع الفاتحين وشأنهم في بلاد لا يتكلم عنها أحد ولا يتفق باسمها أحد، وإما أن يتكفل بشروط الصلح التي لا يملك خيرا منها، وهذا هو قضاء الموقف بحرفه ومعناه.
والمقوقس الذي يصوره لنا الموقف حقيقة لا يسمع فيها جدل المؤرخين، ولا يزال قول التاريخ فيها أصدق وأوضح من لجاجة كتابه ومدونيه، أو نساخيه.
وهذا الموقف الذي يبسطه لنا التاريخ، يتممه الموقف كما كان يراه المقوقس في علاقته بعرش الرومان وغيره من العروش الكبيرة من حوله.
فإذا كر راجعا إلى أول أيامه، لم يكد يرى على العروش شرقا وغربا إلا جرائم الغيلة والتعهر: ثار فوقاس فقتل الإمبراطور موريس، وثار هرقل فقتل الإمبراطور فوقاس، والتاث عقل هرقل فلا يكاد يفيق من إحدى لوثاته حتى ترين عليه لوثة أخرى!
وينظر إلى المشرق فيرى الشاهنشاه ملك الملوك قتيلا، ويرى ابنه كسرى الثاني ناجيا بنفسه إلى حمى بيزنطة، يتبناه الإمبراطور موريس ويزوجه من إحدى الأميرات طمعا في عرش فارس من طريق الوراثة، وقيل: إن هذه الأميرة كانت بنت الإمبراطور وإن كان قولا مشكوكا فيه.
وكان كسرى الثاني قد عاد إلى عرشه بمؤازرة الإمبراطور الروماني، فلما قتل هذا نهض كسرى الثاني للأخذ بثأره ظاهرا، ولأخذ بلاده باسم الأميرة البيزنطية وحق الفتح والغلب في باطن الأمر، واجتاح جيوش الدولة المتداعية أمامه، ووصل بجيوش فارس إلى إفريقية الشمالية، ولم يرجع عن غاراته إلا بعد اضطراره إلى إنقاذ بلاده من حملة هرقل التي أوغلت إلى العراق وما وراءه، ونفذت عنوة إلى قلب الديار الفارسية.
وبينما الإمبراطور هرقل يتقدم إلى بيت المقدس لرد الصليب إليه، إذا برسالة النبي العربي تدركه في الطريق، وإذا به قد علم من أخباره من عرب الشام والجزيرة وعرب قريش المتجرين بفلسطين أمورا ذات بال يحسب لها كل حساب، وتصل الرسالة إلى المقوقس من النبي العربي الذي خاطب هرقل، فلم يجسر هذا على رده والترفع عليه، فيعلم أنه أحرى بالحيطة والتقية، وأن المصانعة والانتظار أجدى من الغلظة والاستنكار.
ومن الجائز جدا أن يكون المقوقس قد علم بجواب النجاشي عن رسالة النبي العربي، وأنه أيده ولم يحفل برجاء المشركين من قريش، ثم تمضي فترة قصيرة، فيتسامع المشرق كله إلى أقصى بلاد الصين بغزوات أتباع النبي في العراق والشام وفلسطين، وأنهم قد هزموا دولة الأكاسرة ودولة القياصرة، ودخل في ملتهم وكلاء فارس في اليمن الذين أمرهم الشاهنشاه باعتقال نبي العرب لاجترائه على دعوته إلى الإسلام!
كيف يقع كل هذا من نفس المقوقس في وطنه المهدد المضطرب بين الغارات والمطامع والمنازعات؟
إن المؤرخ الحديث قلما يرد على خاطره أن يضع نفسه في مواضع الرجل، ويفكر مثله تفكير السياسي وتفكير الزعيم، وتفكير المتدين المؤمن بالنبوات! ماذا لو كان صاحب الدعوة هو النبي الموعود من ذرية إبراهيم؟ وماذا لو كانت رسالته مقدمة لأشراط آخر الزمان؟ وماذا لو لم يكن هذا وذاك وكان أنه قوة لم يغلبها غالب من القياصرة ولا من الأكاسرة؟
وإن المقوقس لينظر يمينا وشمالا بين هذه الزعازع والأعاصير، ثم ينظر في داخل البلد فلا يرى أحدا يريد أن يفدي دولة الرومان بحياته وإن استطاع، وإنه مع ذلك لغير مستطيع!
والمؤرخ الحديث يركبه غروره فيظن أن الجهل بالوقائع والأسماء أيسر شيء يتهم به أبناء ذلك الزمان، ويكاد يجزم بغرابة الأمر كله؛ لأنه يتوهم أن هذه الحوادث العالمية كانت مجهولة في بلاد العرب، ولم يكن عند أهلها علم بها وبما يترتب عليها في مصر والقسطنطينية وسائر الأقطار.
على أن الواقع أن هذه الحوادث العالمية كانت من أخبار بلاد العرب اليومية، وكان العرب يتلقونها أحزابا وشيعا، ويعقدون المراهنات على حاضرها ومصيرها، وقد تراهن المسلمون والمشركون على عاقبة الغزوة الفارسية البيزنطية ، ودخل في الرهان أبو بكر الصديق - رضوان الله عليه. وجاء في القرآن الكريم من أول سورة الروم:
الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين ... [الروم: 1-4].
وقد نزلت هذه الآية بالتاريخ الميلادي في سنة خمس عشرة بعد الستمائة، ولم تمض سبع سنوات حتى كانت النبوءة قد تمت وآذنت بما يليها، وهو وعد المؤمنين بالنصر وإنجاز الأمر الإلهي الذي دعاهم أن يسيروا في الأرض وينظروا عاقبة المشركين:
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين [الروم: 41].
فبلاد العرب لم تكن خلوا ممن يراقب الحوادث العالمية، ويوازن بين القوى، ويضع الخطوة في موضعها وفي أوانها، وأول ما كان من ذلك أن يخاطب النبي - عليه السلام - هرقل بعد انتصاره المنظور على الفرس، فلا يخاطبه في شأن مصر، ويؤثر عليه المقوقس بالخطاب، ولا تخفى دلالة ذلك على المقوقس أو على الرجل الذي هو في موضع المقوقس؛ لأنها تنبئه بالكثير من حقيقة صاحب الدعوة وأنه يعرف من يعنيه وما يعنيه.
فالموقف من أطرافه يوجد لنا المقوقس حيث يوجد، وبالصفة التي من أجلها قد اتجه إليه الخطاب.
إنه رجل يرتبط مصيره بمصير الأمة القبطية، ولا يطالب بعهد يلزم الرومان، ولا كان هذا العهد مطلوبا أو مستحقا لعناء الطلب، فالرومان أصحاب دولة تبقى أو تزول، فإن بقيت فلا معنى لمعاهدتها على فتح البلاد، وإن زالت فقد أغنى زوالها عن كل عهد، ولن يربطها العهد بشيء وراء البلد الذي خرجت منه، ولم تكن لتخرج منه إلا مكرهة على غير وفاق.
وهكذا كانت نهاية القتال بين العرب ودولة الرومان الشرقية في فلسطين، وقد عادت إلى القتال ما استطاعت أيام الخلفاء الراشدين وأيام الأمويين، وأيام العباسيين، والفاطميين.
وقد كانت مهمة المقوقس مهمة أمانة يؤديها على أحسنها لمصلحة بلده، ولو أراد أن يخون لما استطاع أن يخون؛ لأنه لم ينزل عن شيء كان في وسعه أن يتشبث به، ولم يترك شيئا كان في وسعه أن يبقيه لنفسه أو لقومه ، أو للرومان إن كان من همه أن يخدمهم بحال.
إن الذين كتبوا عن المقوقس وأثبتوا وجوده مجمعون على علاقته بتحصيل الخراج، وأنه كان يظهر مذهب الروم الملكيين ويبطن مذهب القبط اليعقوبيين، وعلاقته هذه بالخراج ترشحه دون غيره للاتفاق من الفاتحين على ضريبة الرءوس، فيجوز أن تكون علاقته بالخراج توكيلا عاما، أو تكون وكالة خاصة مقصورة على أرضه وثروته، فقد كان الخراج كما سنرى في باب الإدارة مقسوما إلى ثلاثة أقسام: قسم تحصلة المجالس البلدية، وقسم يحصله الملتزمون، وقسم يؤديه أصحاب الضياع الواسعة مباشرة بغير وسطاء، ولا شك أن المقوقس كان من هؤلاء، ولم يكن من الذين يؤدون ضرائبهم للمجالس البلدية، وربما كان هذا الذي عناه بعضهم بخوفه من تأخير الأموال المطلوبة منه إن كان لهذه المسألة أثر من الصحة، وأيا كان عمله في تحصيل الخراج فهو صاحب خبرة ترشحه للتعاقد على أعمال الضرائب والتحصيل.
أما مذهبه الديني فربما كان للسياسة دخل فيما يعلنه منه وما يخفيه، وفي زماننا هذا الأخير نرى بعض الأسر الكبيرة تخشى على مكانتها، فتعلن غير ما تبطن من أمر المذهب والعقيدة، ففي مصر طلب الفرنسيون من محمد علي الكبير أن يقنع الطائفة القبطية بالانتماء إلى الكنيسة الغربية، فدفعه المعلم غالي «مباشر الدواوين» بحيلة موقوتة تصرفه عن هذه الخطة، ريثما تهدأ وسائط الفرنسيين، وقال له: إنه هو وأسرته سيدينون بالكثلكة، فيتبعهم أبناء الطائفة بغير حاجة إلى الإكراه أو الإقناع! وفي لبنان حدث مثل ذلك بين الأمراء الشهابيين من المسلمين والمسيحيين، وبقيت الأسرة كلها على دينها إلى اليوم! وغير بعيد أن يكون المقوقس قد استبقى مكانته بمجاراة الدولة على مذهبها، فقنعت الدولة منه بذلك وحمدت هذا الحل السياسي؛ لأنه يعفيها من مشكلة الاحتيال على اختيار رجل غيره في مكانته، وليس الاختيار هنا بالميسور إذا كان مركز الرجل من مراكز الوجاهة الموروثة والحسب العريق، وكان خلفه لا يقدر على قيادة الشعب المصري طواعية، كما ينقاد لزعيم من ذوي بيوتاته المعروفين.
وحكم «الدور التاريخي» بعد كل فرض وتأويل هو إيجاد رجل بالصفة التي وصف بها المقوقس، واللقب الذي أطلق عليه: رجل ذو وجاهة لا تتوقف على بقاء دولة الرومان في البلد، ورجل يخاطب في أمر مصر بمعزل عن عاهل القسطنطينية، ويعرف من أعمال الخراج ما تتولاه الدواوين المصرية قبل أن يتولاها الفاتحون، ورجل ترضيه الدولة بالألقاب التي لم تتعود أن تخلعها على أبنائها، ولم يعهد في التاريخ أن دولة أجنبية منحتها أحدا غير الزعماء الوطنيين تعويضا لهم عن سيادة الحكم والسلطان.
وهذا المقوقس قد وجد بصفاته اللازمة عقلا وعملا، فلماذا نحتال على الشك فيه؟
إن صفاته هذه تعيننا على تصحيح كل صفة وكل شخصية في زمانه، فمن لم يكن صالحا لهذا «الدور»، فلا يمكن أن يكون هو المقوقس المشهور، وليكن بعد ذلك من كان!
قال ابن عبد الحكم في فتوح مصر وأخبارها:
كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا ...
يريد ابن عبد الحكم البطرق بنيامين ويسميه «أبو ميامين»، وقد بادر البطرق إلى الإسكندرية حين استقر الأمر فيها للعرب، ولم يعد إليها وفيها بقية لسلطان الروم، وهذه خطة من البطرق المختار توافق خطة المقوقس الذي كانت له مكانة الوجاهة الدنيوية، ولم تكن له في الدين مكانة البطرق بنيامين.
الفصل السابع
الحالة الدينية
من المأثورات المتواترة أن المسيحية انتشرت في مصر خلال القرن الأول للميلاد، وأن الرسول مرقس الإنجيلي تولى نشرها في الصعيد ثم في مصر العتيقة والإسكندرية، وتتفق أقوال الأكثرين من الشراح الشرقيين على أن بابل المشار إليها في أعمال بطرس الأولى من العهد الجديد هي بابليون المعروفة بموضعها الآن إلى جوار الفسطاط ومصر العتيقة، وفي ختام هذه الأعمال يشير بطرس الرسول إلى تلميذه مرقس قائلا: «تسلم عليكم التي في بابل المختارة ومعكم مرقس ابني ...»
ويؤخذ من سيرة مرقس المتداولة بين أبناء الكنيسة المصرية أن المسيحية سبقته إلى مصر، وأنه جلس إلى جانب إسكاف بالإسكندرية يصلح نعله، فشغل الإسكاف بالحديث معه وأخطأ، فأدخل المخرز في يده فصاح: أيها الإله الواحد! فعلم الرسول أنه يدين بالإلاهية، وشرح له عقيدته المثلى في الدين.
والقول الأشهر أنه من يهود القيروان أصلا، ثم قدم مع أهله إلى بيت المقدس أيام ظهور المسيح - عليه السلام - فكانوا جميعا من أسرع اليهود إلى تلبية الدعوة المسيحية، وكان خاله يرنابا وأبوه أرستوبولس من المسيحيين الأوائل، وفي منزلهم حضر السيد المسيح وليمة الفصح، وإلى هذا المنزل كان التلاميذ يترددون قبل انتشارهم في الأقطار.
وقد اختار مرقس وطنه إفريقية الشمالية للتبشير فيه، بعد أن صاحب بولس الرسول، ثم صاحب بطرس بعد مقتل بولس.
وقدم من طريق الصحراء الغربية إلى الصعيد ومنه إلى مصر العتيقة، حيث كتب إنجيله باللغة اليونانية الشعبية؛ لأنها كانت أقرب اللغات إلى فهم الخاصة والعامة من اليهود واليونان وأبناء البلاد المصرية، ثم أنشأ بالإسكندرية مدرسة لاهوتية، وجعل يتردد بينها وبين وطنه الأول بالقيروان، وينيب عنه أستاذها يستاس في أثناء غيابه، إلى أن توفي سنة ثمان وستين للميلاد، ودفن بالإسكندرية، وظل مدة مدفونا بها إلى أن سرقه أناس من البحارة البندقيين في القرن التاسع للميلاد.
وليس في كتابات الفيلسوف المسيحي أوريجين، ولا في كتابات كلمنت الإسكندري إشارة إلى مرقس الرسول، وقد عاش أوريجين بين أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، ولكن يوسبيوس الذي عاش في القرن الرابع يروي خبر إنشاء الكنيسة، ويؤخذ من خطابات كلوديوس إلى الإسكندريين أن طائفة من اليهود الذين دانوا بالمسيحية، وشجر الخلاف بينهم وبين أبناء ملتهم، كانوا يقيمون بالإسكندرية في القرن الأول للميلاد، ويترددون بينها وبين رومة وفلسطين.
ومهما يكن من الرأي في السجلات التاريخية، فليس من الجائز عقلا أن يكون الدعاة المسيحيون قد غفلوا عن الإسكندرية منذ القرن الأول، وهي أكبر معاهد الثقافة والبحوث الدينية يومئذ في عالم الحضارة، وقد ثبت أن أقدم الأساقفة الذين لقبوا بلقب «البابا» كانوا في كنيسة الإسكندرية، واعترف لهم بهذا اللقب أعضاء مجمع نيقية الذي انعقد في منتصف القرن الرابع للميلاد.
وقد كانت السمة الغالبة على المفكرين الدينيين منذ القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد، شيوع التفرقة بين العقل والهيولي أو بين الروح والجسد في جميع المذاهب التي ظهرت بين أرجاء الدولة الرومانية، ومحور هذه المذاهب عامة لا يخرج من نطاق مدينة الإسكندرية.
فقبل الميلاد كانت تقيم في أطراف الصحراء على مقربة من الإسكندرية طائفة من المتنسكين المتنطسين، يتعبدون بالتأمل وترك الملذات الجسدية، ويعرفون بين الناس باسم المتطببين
Therapeutae ، ومنهم على الأرجح طائفة الآسين أو الأسينيين، وهي كلمة بالآرامية تفيد معنى الأساة؛ أي: المتطببين، وأتباعها هم ألد أعداء الدولة الرومانية بين اليهود!
وبعد المسيحية ظهرت طائفة المعرفيين
Gnostics ، وظهر أتباع أفلوطين الفيلسوف، وظهرت طائفة المشبهين
Docetists
التي تنكر كل الإنكار أن يكون السيد المسيح قد تجسد في جسد من المادة، وإنما هو كيان شبيه بالمادة في النظر وليس منها في الحقيقة.
والمهم أن المسيحية حين شاعت وانتشرت في الشرق وفي مصر خاصة، كانت بمثابة احتجاج روحاني على السيطرة الرومانية، وإننا نستطيع أن نقسم العالم الروماني يومئذ إلى قسمين: قسم توافقه عبادة الإمبراطور وهم السادة الحاكمون، وكانت نفوسهم تقبل القول بالخلط بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية على صورة من الصور، وقسم لا توافقه عبادة الإمبراطور وهم الرعايا الساخطون على السيطرة الأجنبية، وكانت نفوسهم تنفر غاية النفور من الخلط بين الطبيعتين الإنسانية والإلهية، ويرفضون كل فكرة تومئ إلى جواز عبادة الإمبراطور، أو جواز الصفة الإلهية على الآدميين.
وما استمات أتباع الأديان الوحدانية في تمييز العنصر الإلهي، كما استماتوا في تمييز هذا العنصر بعد طغيان العواهل الرومانيين وطموحهم إلى التشبيه بالأرباب!
فاليهود كانوا ينزلقون إلى عبادة الأرباب الكنعانية والبابلية والمصرية قبل خضوعهم لدولة الرومان، فلما سامهم عواهل الرومان أن يضعوا تماثيلهم في الهيكل، أو يعلقوا عليه شارة الإمبراطور الإله تمردوا غاية التمرد، وأقاموا الحاجز الحاسم بين سلطان الأرض وسلطان السماء.
والأمة المصرية كانت أشد الأمم سخطا على الدولة الرومانية، وأشدها تقبلا للديانة المسيحية، ثم أشدها إنكارا بعد ذلك للقول بالطبيعتين، وهو القول الذي لم ترفضه الكنيسة في عاصمة الدولة الشرقية، ولا في عاصمة الدولة الغربية، ولم ترفضه كذلك كنيسة أنطاكية كل الرفض؛ لأنها كانت على البرزخ بين القساوسة الأوروبيين والقساوسة الشرقيين. وقد رجع بعض المؤرخين إلى تعليل هذا الفارق، فعللوه بالفارق بين النفس الشرقية والنفس الغربية، وهو هنا فارق متعسف جد بعيد، وإنما حقيقته أنه الحد الحاسم بين النفور من عبادة الإمبراطور، وبين الترخص فيها أو الإغضاء عنها؛ ولهذا كان في آسيا الصغرى أناس يقولون بالطبيعتين وهم شرقيون، وكان في مصر أناس من الأصل اليوناني يقولون بالطبيعتين، ومعهم فريق من المصريين الذين لا يتعصبون على الرومان؛ بل لهذا كانت قبائل القوط والتيتون تدين بمذهب آريوس وتقبل عليه من ناحية التفرقة بين ربوبية الأب التي لا مثيل لها، وربوبية الابن التي خلقها الأب ولم تكن قائمة منذ الأزل، فهذه التفرقة كانت تروق عشائر القوطيين والتيتون، وتدخلهم في زمرة الثائرين على تقديس الإمبراطور من هذا الجانب البعيد.
فعند البحث في الفوارق بين المذهب ينبغي أن نذكر هذا الفارق في مقدمة الفوارق النفسية والعقلية التي قسمت الدولة الرومانية من حيث التنزيه والتوحيد إلى قسمين: قسم السادة الذين لا يسخطون في قرارة ضمائرهم على الخلط بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية، وقسم الرعايا المضطهدين الذين امتلأت ضمائرهم سخطا على هذه العقيدة، فلم تغب قط عن أنظارهم ولا عن عقولهم كلما واجهتهم المذاهب والبدع بشيء جديد.
ومصدر القوة الكبرى التي اشتهرت بها المسيحية المصرية وجعلتها ندا مصاولا للدولة الرومانية، هو أنها كانت قوة تمتزج فيها العقيدة الدينية والحماسة الوطنية.
ثم دانت الدولة الرومانية بالمسيحية فلم يمتنع هذا النزاع بين القسطنطينية ورومة من جهة، وبين الإسكندرية من الجهة الأخرى؛ لأن الجانب القومي منه لم يزل على حماسته الأولى، بل أصبح بعد ذلك أشد وأقوى، إذ كان طغيان الدولة الرومانية - بعد تحولها إلى دين رعاياها - قد تناول السيطرة على الروحانيات، بعد أن كان مقصورا على السياسة وشئون المعيشة الدنيوية.
وعلى ضوء هذا الفارق أيضا ينبغي أن ننظر إلى نتائج المجامع الدينية التي انعقدت في صدر المسيحية، فكل ما رجع منها إلى سلطان القسطنطينية أو رومة قوبل بالمقاومة في الإسكندرية ومن يدينون بمذهب كنيستها، وكل مجمع ديني ملك فيه الأساقفة الإسكندريون حريتهم وشرحوا فيه مذهبهم، لم يجد في مصر مقاومة بين جمهرة المصريين، ولم ينظر إليه المصريون نظرتهم إلى السيطرة الأجنبية التي تفرض مشيئتها عليهم دينا ودنيا، ولا تدع لكنيستهم حقها من الرعاية والكرامة.
وقد كان سلطان الرأي العام المصري مخيفا مرهوبا على مخالفيه والمارقين عليه، فكان الأساقفة المصريون في مجمع خلقيدونية يرتعدون فرقا من العودة إلى بلادهم بغير ما فوضتهم فيه، وكانوا يصرخون في وجوه الأعضاء الآخرين قائلين: اقتلونا هنا إن شئتم، ولا تردونا إلى بلادنا بغير ما ترضاه!
ومن التهم التي وجهت إلى البابا أثناسيوس السكندري 296-373، نعرف مدى المكانة الدينية والدنيوية التي بلغها رؤساء الكنيسة في مصر أمام مكانة الإمبراطور نفسه في القسطنطينية، فإنه اتهم بمنع تصدير القمح وافتتاح كنيسة بغير إذن الإمبراطور! ونقل المؤرخ جبون من أخباره أنه لم يكف عن مناضلة قسطنطين وقسطنطينيوس ويوليان وفالنس، وكان يوليان المرتد يسميه بالمشاغب والبغيض، ويبادله التهم مبادلة الند بالند! وسأله قسطنطينيوس مرة: لم لا تأذن بإقامة الكنيسة الآرية في الإسكندرية؟ فكان جوابه: إنني سآذن بها يوم تأذن بإقامة كنيسة أرثوذكسية في أنطاكية!
وغني عن القول: أن المفكرين الدينيين الذين نشئوا في صدر المسيحية، كانوا يعرفون فلسفة اليونان، وكان منهم من يحاول أن يوفق بين الدين وهذه الفلسفة، ومن يفهم قدم العالم وقدم الإله المنزه عن المادة أو الهيولي على مذهب أرسطو تارة، وعلى مذهب المعرفيين أو مذهب الأفلاطونية الحديثة تارة أخرى، وكان من هؤلاء المفكرين يونانيون ومصريون ينظرون إلى المسائل من جانبها الفلسفي، ولا يجنحون بها إلى فريق الحاكمين أو المحكومين، وهذه الآراء العقلية تنجم في كل عصر وفي كل أمة، وتتصل بالسياسة العامة أو لا تتصل بها على حسب الظروف.
ولكن اللازمة التي لا فكاك منها تبرز على الأثر كلما اجتمعت الأسباب اللاهوتية والأسباب القومية في جانب، وهذه القوة المتجمعة من غير الدين وحماسة القومية هي التي اعتصم بها المصريون زمنا في وجه الدولة الرومانية، قبل إيمان هذه الدولة بالمسيحية، وبعد هذا الإيمان.
وقد اضطهد المصريون قبل إيمان الدولة الرومانية بالمسيحية، وبعد إيمانها بها في أيام قسطنطين، وكان من مضطهديهم قياصرة كالفيلسوف ماركوس أورليوس، وقياصرة لا يفقهون ولا يفكرون مثل كاراكلا ودقلديانوس، ووقع الاضطهاد في عهد النقيضتين فوقاس وهرقل، ووقع من العواهل المتدينين وغير المتدينين! ولم يكن هذا الاضطهاد الديني قط خلوا من شوائب السياسة وعوامل الثورة القومية، فلما وجدت للمصريين كنيسة قائمة كانت هي الدين والدولة في وقت واحد، أو كانت هي الزعامة التي لا تلتف بها الأمة وتثبت فيها كيانها ومشيئتها في وجه القوة المفاجئة.
ولم يسع حكومة القسطنطينية إلا أن تعترف بهذه الحقيقة الواقعة، فأرادت أن تستفيد منها لإرضاء الشعب المحكوم واتقاء التمرد من ولاة الرومان الطامحين، فكانت تفصل أحيانا بين سلطان الإدارة وسلطان الجيش، وكانت تقسم معسكرات الدفاع بين مصر العليا ومصر السفلى، وكانت تمنح بعض الزعماء المصريين حقوق الرعاية الدينية والرئاسة الحكومية؛ لأنها بمثابة الاعتراف بالضرورة التي لا محيد عنها، وبالحيلة التي تصلح لتفريق القوى ومنعها أن تتجمع في ناحية واحدة للتمرد عليها، وكانت تستعظم قوة البطرق الوطني أحيانا، فترسل إلى مصر بطرقا على مذهبها يدير كنيسته إلى جانب الكنيسة الوطنية، ويتبعها المسيحيون من اليونان والرومان غير الوطنيين، كما يتبعها بعض الوطنيين الذين يميلون إلى عقيدتها ورأيها، أو يتزلفون للدولة الحاكمة طمعا في المناصب والحظوة النافعة.
وكان الوضع الديني في أوائل القرن السابع محدودا مقررا بين الكنائس الثلاث في المشرق والمغرب والإسكندرية.
كان الأساقفة المصريون قد تمكنوا من بسط آرائهم في مجمع نيقية برئاسة البابا الإسكندر وتلميذه الكبير أثناسيوس، فأقروا العقيدة المسيحية كما اتفق عليها الأساقفة الذين شهدوا المجمع، وحرصوا على رعايتها في القطر المصري وفي بلاد القيروان وما حوله من المدن الإفريقية، ثم نفس عليهم رؤساء القسطنطينية هذا النفوذ، وأرسلوا آريوس إلى الإسكندرية بأمر الإمبراطور، فقاطعه الشعب المصري وأوصد في وجهه أبواب كنائسه، وفعل مثل ذلك مع البطرق جريجوريوس الذي أقامه الإمبراطور مقام البطرق أثناسيوس المصري بالإسكندرية، فلم يحضر صلواته ولم يعترف بوجوده وأهمله حتى مات في عزلة بين رعاياه! وكان أثناسيوس في هذه الأثناء قد استعان بكنيسة رومة على كنيسة القسطنطينية فأعانته، وبرأته من التهم المنسوبة إليه، فعاد إلى الإسكندرية وكاد يقتل فيها غيلة بدسيسة من الإمبراطور يوليان!
ثم انعقد مجمع خلقيدونية، ورجحت فيه كفة رومة والقسطنطينية، وأهملت فيه كنيسة الإسكندرية أشد الإهمال، فوقع الانقسام بين الملكيين أي: التابعين لمذهب الإمبراطور وبين المصريين التابعين لمذهب كنيستهم، وقيل عنهم يومئذ: إنهم «يعقوبيون»؛ لأنهم تلقوا من يعقوب البرادعي - تلميذ البطرق المصري - تفصيل العقيدة التي يؤمن بها ويوصي باتباعها، وكان هذا البطرق المصري «ديسقورس» قد حكم عليه بالنفي لمقاومته قرارات المجمع الخلقيدوني على الرغم من تزكية الإمبراطور!
ولكن التفرقة الصحيحة بين المذهبين هي التفرقة بين القول بطبيعة واحدة للإله، وبين القول بطبيعتين إحداهما إلهية والأخرى إنسانية. ولما استعصى على الدولة أن ترغم المصريين على اتباع مذهبها، توسط بعض الرؤساء الدينيين في حسم الشقاق بترك الخلاف على الطبيعة والطبيعتين، ووصف الإله بأنه ذو مشيئة واحدة، وقدروا أن القول بهذا المذهب يرضي المصريين؛ لأنه يرادف القول بالطبيعة الواحدة، ولا يسخط أصحاب القول بالطبيعتين؛ لأنهم يقولون: إن الطبيعتين تتفقان في المشيئة الإلهية.
غير أن هذا التوفيق لم يحسم الشقاق، ولم تكن له من نتيجة غير تجديد المناقشة في صورة أخرى، وإثارة الخلاف على الفرق بين الطبيعة والمشيئة مما عاد بالمسألة كلها سيرتها الأولى!
ووضح للإمبراطور الروماني أن هذا «العناد» من جانب المصريين - كما سماه - يخفي وراءه شيئا غير مجرد الخلاف على العقائد اللاهوتية، والواقع أنه كان لاهوتيا قوميا بغير مراء، وأن تهافت المصريين على الرهبانية نفسها لم يكن خلوا من الاحتجاج على المظالم الرومانية، وقد عبر عنه أثناسيوس هذا التعبير حيث قال في كتابه «حياة القديس أنطون»
Vita Antoniou : «إن رهبان الصحراء كانوا ينشدون المزامير، ويحبون المطالعة، ويصومون ويصلون، ويفرحون بالرجاء في المصير، ويعملون على إسداء الإحسان ويحب بعضهم بعضا ... حيث لا يقيم بينهم معتد ولا معتدى عليه، ولا يقترب منهم جابي الضرائب، ولا يبصرون هنالك غير جمهرة من النساك على مقصد واحد، وهو التطلع إلى الفضيلة.»
لقد كان هرقل مشغولا بحرب الفرس وقبائل البرابرة في أوائل أيامه على العرش، فلما انتصر على الفرس وهادن القبائل حول عاصمته فرغ «للمعاندين المنشقين»، وغره النصر، فأمعن في طغيانه وغلا في مطالب الطاعة من رعاياه، وخيل إليه أن استقرار الأمر له مرهون بتوحيد المذاهب في المملكة، وأن هؤلاء المعاندين المنشقين يهددونه ويجترئون عليه، فانقسمت الدولة عنده إلى «ملكيين» وخارجين على الملك، وتبادل الفريقان التهم العنيفة، فكانت كلمة الوثني الخائن أيسر وصف لمن يخالفون الإمبراطور وشيعته، وكانت كلمة الخلقيدوني مرادفة لوصف الكفر والغشم في نظر أبناء البلاد! ولم تكن المسألة يومئذ مسألة مذاهب وطوائف في ديانة جامعة، بل كانت مسألة مسيحية أو لا مسيحية؛ لأن مهمة المجامع في القرون الأولى إنما كانت تقرير العقيدة التي يدين بها المؤمن وينكرها غير المؤمن، ثم جاء الاضطهاد فأوغر الصدور، وخرج به الفريقان من الخلاف إلى العداء، وآمن كل متدين مخلص في عقيدته أن مخالفيه قد استحقوا الغضب والنقمة من الله!
ولم ينحصر النزاع بين الملكيين وجملة المصريين، بل ظهرت معه الخلافات بين الآريين والنسطوريين والأوطاخيين والشيوبسقيين أتباع بطرس القصار، وغيرهم من أصحاب النحل المتقاربة أو المتباعدة في تفسير اللاهوت والناسوت، وغلب الضجر على الكثيرين فاعتزلوا المذاهب، وساورتهم الشكوك، وانهارت الأخلاق، وساءت القدوة بعلية الناس ورؤسائهم، فمن لم يكن ناقما متوقعا للغضب السماوي فهو متهاون غير حافل بما تصير إليه الأمور.
وقد صور لنا أبناء ذلك العصر شعورهم في أقوالهم وأخبارهم فاتفقوا على شعور واحد مع اختلافهم في كل ما عداه، وذلك هو شعورهم بالغضب الإلهي وانتظار الجزاء العادل من الله.
فلما تقدم المسلمون لحرب الدولة الرومانية، شاع في المشرق كله أن هزيمتها حق، وأن غلبة المسلمين عليها عدل، وأن القضاء الإلهي ينفذ في مستحقيه بما قدمت أيديهم من ظلم ومعصية.
وربما نفر الخاضعون للدولة الرومانية من هذا القضاء الذي حل بها، لو أنه أصابهم كما أصابهم، وعرضهم للشر الذي كانوا يأمنونه في ظلها، ولكنهم وجدوا الفاتحين يؤمنونهم من حيث خافوا، ويبيحون لهم ما لم يكن مباحا لهم في أيام الدولة الدائلة، فمن التصدي لعدل الله في قضائه أن ينصروها لتخذلهم وأن يدافعوا عنها ليدفعوا عنها غضب الله.
كانت مدينة غزة أول المدن الكبرى التي استولى عليها العرب من أرض فلسطين، وقالت مجلة المشرق اليسوعية في سنتها الثانية: «إنه كان يسكن وقتئذ في جنوب غزة قوم من قبائل العرب المتنصرين، وكان قد أصابهم من قبل ولاة الروم عسف وجور في المعاملات فالتجئوا إلى عساكر المسلمين، ودعوهم إلى فلسطين، فلبوا دعوتهم وزحفوا على غزة في اليوم الرابع من شهر شباط لعام 634، وظفروا بجيش الروم وفتحوا المدينة ... وبعد أيام قليلة أتموا فتح بقية مدن فلسطين.»
قال ماير
Meyer
في تاريخ مدينة غزة: إن سكانها المسيحيين خرجوا مع جيش الروم عندما حاصرها العرب، إلا أنهم عادوا إليها بعد اطمئنانهم إلى الفاتحين، ودخل فريق كبير منهم في الإسلام، وذهب المتكلمون عنهم إلى عمرو بن العاص يطلبون منه قسمة الكنائس بينهم، فقسمها بينهم على حسب عددهم، وأعطى الكنيسة الكبرى لأصحاب العدد الأكبر وهم المسلمون، وأمر بإبقاء الكنيسة الأخرى لمن بقي على دينه من المسيحيين.
وكانت غزة على أبواب مصر تسري أنباؤها إلى الديار المصرية بين ليلة ونهار، وكان فيها وفيما حولها طائفة من الجنود المصريين والمتمصرين الذين استنجد بهم هرقل وقائده بميادين فلسطين، وكانت أنباء العهود التي اتفق عليها المسلمون ونصارى العراق والشام تتوالى على كل جانب من جوانب الدولة الرومانية، فلم يكن في كل أولئك ما يدعو أبناء البلاد إلى مؤازرة الدولة الرومانية ودفع الهزيمة عنها ولم يكن لانتصار العرب وانهزام الدولتين - دولة الأكاسرة ودولة القياصرة - غير تفسير واحد، وهو قضاء الله وعدل الله.
ولفهم التاريخ كما حدث ينبغي أن ننظر إليه بأعين المعاصرين، وأن نشعر بحوادثه كما كانوا يشعرون بها، وأن ندخل في حسابنا ما دخل في حسابهم من التقديرات والمعايير، وأن نعرض العداوات والصداقات على المحك الذي عرضوها عليه، ومنها ما خطر لهم وهو لا يخطر لنا الآن، ومنها ما نستخف به ولم يكن خفيفا قط في موازينهم للحوادث والأمور.
إن العرب أبناء إسماعيل وهاجر ... يعلم ذلك كل من قرأ التوراة واطلع على أصول الديانة المسيحية، ويعلمونه في ذلك العصر خاصة؛ لأنه كان عصر العداوة القومية بين الرومان الأجانب وشعوب الشرق على الإجمال، وقد كانت وحدة الديانة خليقة أن تنسي الشعوب المحكومة فوارق الوطن واللغة، ولكنها وحدة لم تنتظم قط بين الحاكمين والمحكومين، ولم يكن فيها ما يجمع المختلفين، بل كان فيها على الدوام ما يفرق المجتمعين، ويمشي بينهم بالعداوة والبغضاء!
فالعرب أبناء إسماعيل وهاجر أقرب من الروم إلى أبناء مصر بالنسب الذي تحفظه الكتب الدينية، وقرابة الأمومة والسلالة، ومثل هذه القرابة لم تكن من المهملات في ذلك العصر ولا في العصور التي لحقت به إلى عهد غير بعيد من عصرنا الحاضر، وقد رأينا أنها كانت حجة الفرس في الزحف على بلاد الدولة الرومانية؛ لأن زوجة كسرى كانت من بنات الروم.
ومن مقدمات الفتح الإسلامي تبادل الرسائل بين النبي - عليه السلام - والمقوقس، أو عظيم القبط كما سمي في تلك الرسائل، وقد حفلت بأخبارها كتب السيرة النبوية وكتب التاريخ عن الفتح وما بعده، نستخلص منها ما لا بد من العلم به وبأمثاله في بيان الحالة الدينية بمصر كما واجهها الفاتحون وأهل البلاد.
قال حاطب بن أبي بلتعة، حامل رسالة النبي إلى المقوقس، إنني قلت له: «كان قبلك رجل - يعني فرعون - زعم أنه الرب الأعلى، فانتقم الله به ثم انتقم منه! فاعتبر بغيرك ولا تعتبر بك! وإن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافي الله به فقد ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به.»
قال حاطب: ثم تناول المقوقس كتاب النبي فقرأ فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بداعية الإسلام، فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين.
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران: 64].
ثم قال المقوقس كلاما عن صفات النبوة، منها: «أنه يركب الحمار ويلبس الشملة، ويجتزئ بالثمرات والكسر، ولا يبالي من لاقى من عم ولا ابن عم.» وأنه كان يظن أن مخرجه من الشام، فمن هناك كانت تخرج الأنبياء، وكتب الجواب فجعل عنوانه «لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط».
وورد في بعض الأخبار أن المقوقس أراد أن يمتحن دعوى النبوة بالهدية، فأرسل هدية معها صدقة؛ لأن الأنبياء تقبل الهدايا ولا تقبل الصدقات، وجعل الهدية جاريتين أختين ليرى هل يجمع بينهما أو يتورع عن الجمع بين الأختين، فكان أن أهدى النبي إحدى الجاريتين وبنى بالأخرى، وأنه وزع الصدقة على الفقراء.
ومثل هذه الأخبار يوجبها فهم التاريخ كما حدث أو كما ينبغي أن يحدث، ولا ترفضها إلا الحذلقة التي تداخل المؤرخ العصري، فيحسب أن المقوقس يعيش في هذا القرن العشرين، ويتلقى دعوة النبوة كما يتلقاها أبناؤه، فلا ينظر في امتحانها بما كانت تمتحن به النبوات في القرون الأولى للميلاد، وإنما الخليق بالتحقيق التاريخي أن يوقن المؤرخ من حصول شيء كالذي نقله رواة السير والأخبار عن تصرف حاطب بن أبي بلتعة، وتصرف المقوقس في جوابه وهديته، فما كان المقوقس ليتلقى رسالة النبي أو ليجيب عنها إلا على ذلك النحو، مما يحاول المؤرخ أن يتخيل غيره فلا يستطيع!
أما المسلمون فقد جاءوا مصر ومنهم من سمع أحاديث النبي - عليه السلام - في التوصية بها، ومنها: «وإنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما، أو قال: ذمة وصهرا.»
ومن الأحاديث النبوية عن مصر أنه - عليه السلام - قال: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض.» قال أبو بكر - رضي الله عنه: ولم ذلك يا رسول الله؟ فقال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.» وقال: «ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مئونته.»
ومن لم يكن من الجند الفاتح قد سمع الأحاديث النبوية، كان قد سمع آيات من القرآن الكريم، وفيها من لعنة فرعون:
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا [القصص: 3]، وفيها من لعنته:
إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض [القصص: 19] وفيها:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [القصص: 5-6].
وعلى ألسنتهم جميعا حكاية عن قوم يوسف:
ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين [يوسف: 99]، وقوله تعالى:
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين [الدخان: 25-28].
وكل هذه الوصايا القرآنية والنبوية في أذهان الفاتحين تجنح بهم إلى المسالمة والمؤامنة في معاملة أهلها، وتضع الروم عندهم في موضع فرعون الذي تجبر وفرق رعيته شيعا، ووجب أن يتركوا الأرض لمستضعفيها، وأن يورثها الله قوما آخرين.
وتوافق هذه المسألة خطة مثلها من أبناء البلاد توحيها إليهم أحوال كثيرة كانوا يكابدونها على الأحقاب المتوالية، وأهمها الحالة الدينية كما صارت أيام الفتح الإسلامي خاصة، وهي تلك الحالة التي أزعجت البطرق عن كرسيه، وألجأت زعيم القوم إلى مذهب في العقيدة غير مذهبه، فلم تعد الطمأنينة إلى المتعبدين لأول مرة في ثلاثة قرون إلا بإعلان الأمان لكل متعبد ورعاية لكل معبد.
ولا خلاف بين المؤرخين في منهج الدعوة الدينية في سنوات الفتح الأولى إلى أواسط أيام الدولة العباسية، فلم يقع إكراه على أحد، بل وقع ما يناقض الإكراه في رواية الكثيرين من مؤرخي العربية ومؤرخي اللغات الأجنبية، فقد أدهشهم إحجام الفاتحين عن إكراه أبناء البلاد على الدخول في ملتهم، حتى التمسوا تأويل ذلك بأنهم كانوا يشفقون من نقص الجزية وإقفار خزانة الحكومة وانقطاع أرزاق الجند والعمال، وهو تأويل مخطئ كما سنرى في باب الأحوال الإدارية وتقسيم الأموال بين الجزية والخراج والزكاة، ولكنه مهما يكن من خطئه صحيح في الإبانة عن الواقع في مسألة الدعوة الدينية، فإذا بلغ من إحجام الحاكمين عن إكراه الرعية على التدين بدينهم أن يعلل المؤرخون ذلك بنفورهم من فقدان الجزية، فقد صح على الأقل أنهم أحجموا عن الإكراه ولم يقسروا أحدا على الخروج من دينه.
غير أن الحالة الدينية كما وصفناها، تفسر الواقع كما تستدعيه تلك الحالة، وكما ورد في التواريخ القبطية كتاريخ يوحنا النخيوي المشهور، فهو يقول: إن المسيحيين الملكيين أسرعوا إلى الدخول في الإسلام؛ لأنهم كرهوا أن يثوبوا في أحكامهم ومعاملات زواجهم وطلاقهم إلى الكنيسة التي يعادونها وتعاديهم، ويشبه الطائفة الملكية أناس في حكمها كالطائفة النسطورية والآرية، ومن يقول بالمشيئة الواحدة ولا يقول بالطبيعة الواحدة، كما يقول القبط، ولا بالطبيعتين على النحو الذي يدين به الملكيون.
وقد حدث في هذه الفترة وما قبلها بقليل أن الطائفة المارونية هجرت أرضها جملة واحدة، وانتقلت إلى جبال لبنان كراهة الخضوع لليعقوبيين، ولعلها لو اضطرت إلى البقاء حيث كانت لدانت بالإسلام ولم تذعن لمن حاربتهم وحاربوها في المعتقدات والأحكام عشرات السنين.
فالذين أسلموا بعد الفتح إنما أسلموا طوعا غير مكرهين على ترك مذهب ولا نحلة، وهم على رواية يوحنا النخيوي طائفة الملكيين الخلقيدونيين ومن يشبهها من الطوائف التي لا تقول بالطبيعة الواحدة! ويضاف إليهم أناس من الذين فهموا من انتصار المسلمين على الفرس والروم أنه آية إلهية وبرهان من السماء على صحة الدين وسلامة الدعوة، ويضاف إليهم أناس ممن هان عليهم أمر التدين في محنة الشقاق ومحنة الأخلاق، فلم يبالوا على أي دين أصبحوا بعد الشك والريبة، ثم فضلوا الدين الذي يعتقده ولاة الأمر وحكام البلاد! ولا تفسير للحالة الدينية أيام الفتح أصح من هذا التفسير.
الفصل الثامن
الحالة الإدارية والسياسية
عرفت مصر التقسيمات الإدارية من أيام الأسر الأولى، وعد سترابون ستة وثلاثين من هذه الأقسام التي نسميها اليوم بالمديرية أو المحافظة، وعرفها اليونان باسم النوم
Nom ، وزادت بعد عصر سترابون حتى أربت على الأربعين.
ويقال: إنها كانت في مبدأ الأمر مواطن للعشائر أو القبائل المختلفة التي تسكن الوادي وما يقابله من جانبي الصحراء، وكانت كل عشيرة منها مستقلة برئيسها وعبادتها المحلية، على حسب الطواطم التي تدين بها، ومن هنا غلبة العبادة في كل إقليم لطوطم من الطواطم الحيوانية، فمنها إقليم الصقر، وإقليم التمساح، وإقليم ابن آوى، وإقليم الهر، وإقليم الحمل، وغيرها من هذه المعبودات الطوطمية؛ ولهذا كبرت بعض الأقاليم أو صغرت لأسباب لا ترجع إلى الوضع الجغرافي أو المصالح الاقتصادية، وتعذر تغييرها، والتصرف في حدودها قبل اتخاذ البلاد جميعا في عبادة قومية عامة.
وإلى جانب هذه التقسيمات كانت هناك أقسام أكبر من هذه الأقسام، نلاحظ في تخطيطها الدواعي العسكرية والسياسية، أو دواعي الدفاع واجتناب النزاع بين أصحاب الحقوق المشتركة في الإمارة.
وأقدم هذه الأقسام قسمان: مصر العليا ومصر السفلى، ثم زيدت عليها مصر الوسطى، وتفرعت مصر السفلى إلى فرعين: أحدهما إلى شرق الدلتا والآخر إلى غربها، ووجد في بعض العصور قسم آخر، يضم إليه الواحات وطرفا من الأرض الليبية، ويتصل بالفيوم والإسكندرية حيث يشرف عليه الوالي الأكبر، لما له من الخطر في الدفاع عن حدود مصر الغربية.
هذه التقسيمات جميعا تحللت وكادت تندثر أو تختلط بينها التبعات في عهد الإمبراطورية الرومانية الشرقية.
ففي عهد الإمبراطورية بطلت الحاجة إلى الدفاع شرقا وغربا؛ لأن مصر كانت محاطة من الجهتين بأملاك الإمبراطورية في فلسطين وفي ليبيا وإفريقية الشمالية ... وبطلت الحاجة إلى الدفاع جنوبا؛ لأن نجاشي الحبشة كان على عهد مع عاهل القسطنطينية أن يتعاونا على حرب فارس وإخراجها من اليمن التي كانت تهم الحبشة وتخشى الخطر من جانبها فلم تبق من حاجة إلى الدفاع في غير الإسكندرية، ولم يكن دفاع البر هو المقصود بالحامية التي تعسكر فيها، ولكنه كان دفاعا بحريا تعززه الحاجة إلى الأسطول لنقل المحصولات والغلات من القطر المصري إلى بلاد الدولة المترامية الأطراف على سواحل بحر الروم.
وجاوز الأمر إهمال الدفاع إلى تعجيز الحاميات، وإغراء بعضها ببعض خوفا من اتفاقها على الدولة، وإجماع قادتها على رفض المطالب التي تتوالى على القطر من القسطنطينية.
فاختلت أحوال الأمن في داخل البلاد، ولجأ بعض السراة من أصحاب الضياع الكبيرة إلى اتخاذ الجند من أتباعهم وزراعهم وحواشيهم، فلم يمض غير قليل حتى نجم الخطر من هذه الفرقة التي لا تدين بالطاعة لقائد واحد، فعاثت في الأرض، وخيف منها على الوادعين المسالمين، وأصبحت شرا عليهم من عصابات اللصوص وقطاع الطريق! وفي تاريخ يوحنا النخيوي وقائع شتى من عبث هذه الفرق، تدل على ما كان من اضطراب الأمن وفزع الأهلين وعجز الحكومة العامة في الأيام الأخيرة قبل الغزوة العربية.
وآل الغرض كله من التقسيمات الإدارية إلى جمع الضرائب والأزواد المقررة للدولة في كل سنة زراعية.
ولم يكن لهذه الضرائب نظام واحد ولا مقدار معروف لا يتغير مع السنين، ويظهر هذه الاختلاط في سياسة الضرائب من تضارب الأقوال بين المؤرخين الذين جمعوا كل ما أتيح لهم جمعه من الوثائق والسجلات وأوراق البردي ورسائل العواهل والولاة، فاختلفوا في ضريبة الأرض وضريبة الرءوس، وذهب بعضهم إلى نفي الخبر المتواتر عن وجود ضريبة الرءوس في مصر على عهد الدولة الرومانية الشرقية؛ لأنهم لم يجدوا لها موضعا بين أنواع الضرائب على الأطيان، ثم اتفق بعضهم على أن ضريبة الأطيان هي ضريبة الرءوس التي أصبحت أساسا لتحصيل الجزية بعد فتح العرب؛ لأنهم كانوا يلاحظون في مقدار ضريبة الأرض كفاية الزارع الواحد طول العام، فتحسب الغلات بحساب الرءوس، ولا يختلف التقدير بين ضريبة الوحدة الأرضية
Jugum
وضريبة الرأس على فرد من أفراد الفلاحين
Caput ، فلم يكن خراج الأرض
Jugatio
وضريبة الرءوس
Capitatio
صورتين مختلفتين لضريبة واحدة.
1
واستوجب هذا النظام أن يعتبر الفلاح أسيرا على الأرض التي يزرعها، ويعامل معاملة الهارب بحق الدولة إذا فارق قريته ولاذ بقرية أخرى، وحل الزارع المحلي
Colonus
محل العبد الرقيق بعد تعذر الاعتماد على هذا النظام في الزراعة.
وعلى هذا لم يكن مقدار الخراج محدودا في كل سنة، بل كان تحديده على حسب المحصول المنظور في أيام الفيضان، فيصدر البيان السنوي من الوالي الروماني خلال شهر يوليو أو أغسطس،
2
ويبلغ إلى الأقاليم في سبتمبر أو أكتوبر، ويتولى كل إقليم توزيع المقدار المطلوب منه على القرى والبلاد، كما يروق صاحب الكلمة العليا في الإقليم. وأصحاب الكلمة العليا مختلفون بين حكام رومانيين، أو أصحاب ضياع من الأجانب والوطنيين، وبين مجالس بلدية أو إقليمية، ومستأجرين يتولون زرع الأرض في مساحات واسعة، ثم يتولون محاسبة المجالس أو أصحاب الضياع.
والمطلوب من الأرض كذلك يختلف على حسب الجودة والصنف المزروع، فمن الأرض ما يسهل ريه بماء النيل، ومنها ما يصل إليه ماء النيل ولكنه يغمره أياما في السنة فلا يصلح للزراعة في غير موسم قصير، ومنها ما يحتاج إلى الآلات لريه ولا يأتي بالغلة الكافية إلا مع كثرة الأيدي العاملة فيه.
والدولة لا يعنيها إلا أن تجمع المقدار المقرر في حسابها، والموظفون لا يعنيهم إلا إرضاء الدولة، وليس للتقصير في أداء مطالبها غير نتيجة من نتيجتين، كلتاهما مكروهة ومحذورة: فإما العزل وإما العمل بغير مرتب؛ لأن المرتبات محسوبة من حصة الضرائب التي تبقى في مصر بعد استيفاء مطالب الدولة جميعا من المال والمحاصيل.
وربما تسابق الملاك الكبار ورؤساء المجالس المحلية والإقليمية في معاملة الدولة في تحصيل الضرائب؛ طلبا للكسب والنفوذ من وراء هذه المعاملة!
فقد كان النظام المتبع مع كبار الملاك أن يؤدوا ضرائبهم إلى خزانة الدولة مباشرة، بغير واسطة الجباة ورؤساء المجالس، وكان هذا النظام يرضي الدولة؛ لأنه يغنيها عن استخدام الموظفين والمحصلين، ويرضي المالك الكبير؛ لأنه يكسبه الجاه في الدواوين، ويمكنه من تسخير العمال المستأجرين، فلا يبرحون أرضه أو يستعين عليهم بسلطان الحكومة ويستبقيهم عنده مكرهين، وكان من حقه بهذه المثابة أن يطارد المماطلين؛ لأنهم يماطلون الدولة كما يماطلونه، وأن يستزيد من الأرض المزروعة لحسابه ما استطاع؛ لأنه يزيد بذلك في نصيب الخزانة العامة ويعطي الدولة حقها جملة واحدة في موعد معلوم!
وهناك غاية سياسية وراء هذه «الإجراءات الإدارية» ترمي إليها الدولة البيزنطية في عاصمتها الكبرى، وهي إثارة الشحناء بين سراة البلاد وأصحاب المناصب الكبرى، فتضرب بعضهم ببعض، وتأمنهم جميعا على سلطانها، وقد تأمن أن يغتالها أحدهم في نصيبها من الضرائب حذرا من وشاية الخصوم والنظراء.
ويغلب على اعتقادنا أن سلطان المقوقس في مصر إنما كان من عمله على هذا النحو في تدبير أمر الخراج، فلم يكن واليا مفوضا في أمر الخراج كما خطر لبعض المؤرخين، ولكنه كان مالكا كبيرا من أبناء البلاد، فكان يتكفل للدولة بحصته وحصة عملائه وأتباعه، وكانت الدولة الرومانية تعترف بوجاهته وتستفيد منها، كما كانت الدولة البريطانية تصنع في الهند مع الراجات وأمراء الولايات.
ولكن الطمأنينة شيء وتنازع الوجهاء على السيطرة شيء آخر، فهذا التنازع صراع دائم لا طمأنينة فيه لأحد من كبار الملاك ولا من كبار العمال والولاة، وإذا كان مداره على التزايد في إعطاء الدولة وابتزاز المال من المحتاجين إليه، فهو قلق دائم لصاحب الأرض وزارعها والمأجور عليها، ومن تقوم سيادته على التنكيل بنظرائه، والعدوان على من هم دونه من الصغار والمستضعفين.
ولم تكن ضريبة الأرض أو ضريبة الرءوس كل ما تطلبه الدولة من رعاياها المصريين، بل كانت هناك ضرائب كثيرة على المقتنيات جميعا بين ثابتة ومتنقلة، وقد أحصى منها ميلن
Milne
في تاريخه لمصر في ظل الحكم الروماني أنواعا شتى، كضريبة الإصلاح والترميم التي تجبى لإقامة الجسور وتسليك الجداول وتنظيف الأحواض، وضريبة البيوت والمساكن الخاصة والعامة، وضريبة الحيوانات كالخيل والجمال والحمير، وضريبة الصناعات والمتاجر، وضريبة عامة تسمى ضريبة إنتاج ... وكلها على اختلاط حسابها وحساب وحساب مواعيدها والمراجع التي تتولى تقديرها وتحصيلها كانت مصدرا دائما للشكاية والقلق والنزاع بين الشعب والموظفين، وبين الإدارة المحلية والإدارة العامة وبين خزانة مصر وخزانة الدولة الرومانية.
واقترنت هذه الحالة في القرن السادس بتدهور العملة الرومانية، واختفاء العملة جملة من الاسواق المصرية! وقد فسر المؤرخ ميلن هذه الأزمة بالخوف من تقلبات التجارة، واكتفاء أصحاب الزراعات بلوازمهم من غلات أرضهم ومما يحصلون عليه مقايضة ومبادلة على تلك الغلات، وقد يكون بعضها راجعا إلى عادة الكنز والادخار، تهريبا للمال من أعين الحكومة، وحيطة للمستقبل المجهول.
وبين هذه الأزمات والشكايات يسمع القوم عن نظام الفاتحين في البلاد المجاورة، ويعلمون أنه يقصر الضرائب على ضريبة الرءوس للذميين، وضريبة العشر للمسلمين، ولم يكن هناك خراج يتقاضاه الفاتحون من الفريقين مستقلا عن الضريبتين؛ لأن نظام الخراج إنما استعير من الدولة الفارسية، وصحفت الكلمة من كلمة «خلاج أو خارج» الآرامية التي دخلت في تعبيرات الفرس؛ لأنهم كانوا يستعيرون الكتابة بالحروف الآرامية، فلما شرعت الدواوين الإسلامية في تطبيق نظام الخراج والتوفيق بينه وبين ضريبة الذميين وبين عشور الزكاة، كان قد مضى وقت غير قصير على أوائل أيام الفتوح.
وكان الأمل في الخلاص من شبكة الضرائب الرومانية سببا آخر من أسباب الرغبة في الخلاص من حكمها كله، بما اشتمل عليه من ضروب الإرهاق والسيطرة الجائرة على الأرواح والأموال.
وقد خلق المؤرخون كعادتهم مشكلة متشعبة من الأقاويل والتقديرات حول نظام الضرائب في العصر الإسلامي الأول، وتساءلوا هل كانت ضرائب رءوس؟ هل كانت غنائم فيء؟ هل كانت خراجا على الأرض؟ هل كان تحصيلها على طريقة الدواوين الرومانية أو على طريقة جديدة لم تكن معروفة في تلك الدواوين؟
وإنما يخلق المؤرخون مشكلاتهم لأنفسهم؛ لأنهم يطلبون النصوص والأوراق دائما، ولا يطالبون أنفسهم بتقدير الموقف كما ينبغي أن يكون، ثم يستعينون عليه بنصوصهم وأوراقهم على هذا التقدير!
وينبغي أن يقدر المؤرخون شيئا واحدا لا شك فيه، وهو أن انتقال نظام الضرائب بين ليلة ونهار من الحساب الروماني إلى الحساب الإسلامي هو المستحيل؛ لأن إشراف القائمين على الدواوين التي يجري فيها الحساب باللغة اليونانية غير ميسور، وقد يتعسر إشرافهم عليها بأية لغة من اللغات في سنوات الانتقال من نظام إلى نظام.
كذلك ينبغي أن يقدر المؤرخون أن معاملة القطر كقطعة واحدة من الأرض شيء لم يخطر على بال أحد في ذلك الزمان!
فالمؤرخون الأقدمون كانوا يذكرون مصر في كتبهم، فيتكلمون عن مصر وإسكندرية، ومصر وطيبة، ومصر والفيوم، ومصر والمدن الخمس، ويفرقون بينها في أحكام الولايات والأبرشيات من الوجهة الإدارية والوجهة الدينية.
ولما تم الفتح كانت معاملة الأقاليم مختلفة على حسب الولاة والملاك، وعلى حسب المقاومة والصلح، وعلى حسب الجنود والقادة الذين أخذوها عنوة، أو أخذوها بعد حصار أو أخذوها بغير مقاومة.
فهناك أقاليم كان الملاك فيها من الرومان فهجروها، وأصبحت من غنائم الدولة التي تستولي عليها وتتولى تقسيمها وتوزيعها.
وهناك أقاليم يكثر فيها الملاك الوطنيون، وهذه داخلة في ضريبة الجزية، وأقاليم حاربت وأقاليم لم تحارب ولم تعقد صلحا؛ لأنها كانت متروكة بغير زعامة وبغير رئاسة تنوب عنها في المعاهدة والمصالحة.
أما اختلاف المعاملة بالنظر إلى الجيش الفاتح فمرجعه إلى الفرق بين الغنيمة والفيء في أرزاق الجنود.
فالغنائم التي تؤخذ حربا تعزل منها حصة لبيت المال، وتقسم منها حصة على المقاتلين.
والغنائم التي يأخذها الفاتحون بغير حرب هي الفيء الذي يئول الأمر فيه إلى تصرف الإمام ولا يصح تقسيمه بين المقاتلين.
فلما حصل الفتح جاء الاختلاف من قبل التمييز بين المحارب والمسالم، وبين حقوق الغنيمة وحقوق الفيء، ولكن لا اختلاف على الإطلاق في نظام الضرائب كيف يكون في محاسبة الذميين ومحاسبة الجنود. •••
وقد يختلف في الأرض الخراجية وغير الخراجية، ولكن الأمر الذي لم يقع عليه خلاف قط هو ضريبة العشر على المسلم؛ لأنها هي فريضة الزكاة التي تلزمه باستحقاقها ولا خلاف عليها. والتنبيه إلى ذلك واجب لتصحيح أقوال المؤرخين الذين وهموا أن أناسا من أبناء مصر دخلوا الإسلام فرارا من ضريبة الجزية، فإن نظام الضرائب الجديدة كان يوجب على كل ذمي عامل دينارين في السنة، ولا ضريبة على النساء ولا على الأطفال ولا على الشيوخ العجزة «ولا يزاد أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين، إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا أهل الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم»؛ لأن سكانها من الروم، ومن والاهم لم يدخلوا في اتفاق، وعادوا إلى القتال بأمر الدولة الرومانية مرتين.
والحكم في تحصيل الجزية كما أثبته الفقهاء: «ألا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقدموا في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى بهم الجزية.»
فإذا أسلم الذمي فرارا من الجزية فالإسلام لا يعفيه من الزكاة، ولا من خراج الأرض بحسب ما يلزم لإصلاحها وريها، ويوجب عليه «التجنيد» الذي يعفى منه الذميون، وليس في هذا تخفيف ولا إعفاء من وجهة التكاليف التي تناط بالأنفس أو الأموال.
وليس من غرض هذه الرسالة بسط القول في النظم الإدارية والمالية إلا من جانب واحد، وهو الجانب الذي له علاقة بمهمة الفتح وعمل عمرو فيه، فإذا نظرنا إلى نظام الضرائب ونظام الإدارة عامة في عهد الرومان، والتمسنا آثارها في فتح العرب مصر، كان أوضح هذه الآثار أنها يسرت مهمة الفتح تيسيرا عظيما، فاستطاع عمرو ببضعة آلاف من الجند ما لم يكن مستطيعه بأضعاف هذا العدد، إذ كانت هزيمة الروم نكبة على الروم نكبة على الروم، وكان انتصارهم نكبة يحذرها أبناء البلاد وإيذانا بظلم فوق ظلم؛ لأنه ظلم المنتصر الذي استقر له الأمر في بلد مغلوب يحس من أهله العداء والمناقضة في أمر العقيدة وأمر السياسة. وقد وصف ساويرس بن المقفع فرح الجماهير بلقاء رئيسهم بنيامين بعد اختفائه في منفاه، فقال: إنهم كانوا أشبه شيء بصغار النعم خلي بينها وبين ألبان أمهاتها، وقال البطرق نفسه في جوابه لأسقف نيخو الذي هنأه بزوال عهد الروم: «إنني وجدت في الإسكندرية ما كنت أوده من الطمأنينة بعد ما قاسيناه من الكفرة الظالمين!»
أما السياسة التي اتبعها عمرو في تحصيل الضرائب، فكانت في جانب المصلحة المصرية كلما اختلفت الآراء بين خطتين، فلما أشار عليه زعماء الجند بقسمة الأرض والمال أبى ذلك عليهم، وراجع الخليفة عمر بن الخطاب في ذلك فأقره على رأيه، ثم اقتصد في تحصيل الضرائب حتى ارتاب الخليفة في الأمر، وحاسبه علىه حسابا عسيرا كعادته في محاسبة العمال؛ إبراء لذمته من العبث ببيت المال، وفي الكتب التي دارت بين الخليفة وعمرو في هذا الصدد بيان عن سياسة عمرو، وبيان أوضح من ذلك عن خلقه وقوة شكيمته مع خليفة لم يجترئ عليه أحد من عماله مثل اجترائه، فلما كتب إليه الخليفة «يعجب من أن الأرض لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه»، ويعرض له ببعض الشبهات، أجابه مغضبا فقال: «إننا عملنا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولمن بعده، فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا ... وإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا ولم تكرم فيه أخا ...»
إلى أن قال - وهو أشد ما ووجه به خليفة وما ووجه به ابن الخطاب خاصة: «والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد غضبا لنفسي ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى عليه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا ...!»
وتكررت المعارضة منه في طلب الزيادة من مال مصر حتى عزله عثمان - رضي الله عنه - وقال له حين جاءه الخراج زائدا: «أرى أن اللقاح قد درت!» فأجابه: «حين أعجفتم فصالها!»
ولم يحاول المؤرخون الغربيون أن ينكروا هذه الخطة من عمرو، ولكنهم أكدوها واستدلوا منها على نية البقاء في المنصب أو نية العمل لنفسه في المستقبل، وليس هذا بالبعيد في رأينا ولا بالمستغرب من عمرو أو غيره من الولاة، ولكنه قول يلقى على عواهنه إذا أريد به أنه كان يقتطع أموال مصر لنفسه بعد الفتح، فإن الخليفة قد حاسبه على ما زاد من عطائه - وهو مائتا دينار - فوجد فضلا سأله عنه، فقال له: إنه من التجارة فلم يتقبل منه هذا العذر، وأرسل إليه من يقاسمه الزائد من المال كعادته مع الولاة في كل بلد، ثم عزله عثمان فلم يتخلف عنده من المال ما يغنيه بعد عزله، ولو تخلفت عنده بقية تحسب من الغنى لما قال عثمان: «إن جبتك قملت منذ عزلناك!»
هذه خطته في الإدارة ونظام الضرائب بعد هزيمة الرومان، وهي الخطة التي عاهد عليها من عاهدوه فيها، ولم يتغير منها بعد ولايته الثانية في أيام معاوية إلا أنه كان المسئول عن الحكم كله في أيام هذه الولاية، فلم يكن حفظ ما زاد من المال اختلاسا من حق مفروض عليه لبيت المال في دار الخلافة.
قيل: إن عثمان - رضي الله عنه - عزله لأنه أراد أن يجعله على الحرب ويولي عبد الله بن سعد تدبير أمر الخراج! ويخيل إلينا أن عثمان - رضي الله عنه - قد نظر في ذلك إلى نظام الدواوين كما بقي من عهد الروم، وأراد أن يجعل للدفاع وللحرب واليا غير ولاة المال، وقد كان الخلفاء الأولون يبتدئون هذه النظم على غير سابقة، فيرجعون إلى سوابقها في البلاد التي حكموها بعد الفرس والرومان، وأيا كان الباعث على معارضة عمرو في هذا النظام، فلقد كان على طريقته التي انتهجها قبل تحويل إدارة الدواوين شيئا فشيئا إلى النظام الذي استلزمه تغيير سياسة مصر، من ولاية تساس لتدبير طعام الدولة الرومانية وتزويدها بالمدد لخزانتها إلى قطر يقوم بشئونه ويرسل من فيضه حصة لا ينفرد بها بين الأقطار التي كانت تشترك في دولة واحدة. •••
ولا تنفصل مسألة الضرائب والإتاوات ومسألة الفتح في تقدير أحد ممن كتبوا عن هذه الفترة في تاريخ مصر وتاريخ الدولة الرومانية، فقد اتفق المؤرخون الاجتماعيون والناقدون العسكريون على أن النظام الإداري - أو نظام الضرائب خاصة - كان له أثر قوي في تيسير الفتح من جانب المصريين، وعزز هذا الرأي ناقد عسكري حديث رجع بالدرس إلى معارك الفتح على أحدث المبادئ العصرية، وهذا الناقد العسكري هو القائد «فولر» رائد التسليح الآلي في تركيب الفرق الحديثة، فإنه راجع فتوح الإسلام وعجب لاتفاق فتح خراسان وفتح مصر في وقت واحد، ثم كان من تفسيراته لهذا الفتوح «أنها رد فعل على الحكم الروماني الذي أرهق المصريين بالضرائب الثقيلة، وحجر على عقيدة القبط الدينية».
الفصل التاسع
بين الإمارتين
أشار عمرو بفتح مصر ...
وقام عمرو بفتح مصر ...
وكل فتح فله تأمين وتمكين ...
وقد قام عمرو بتأمين ذلك الفتح وتمكينه، على نحو لم يسبقه إليه سابق من فاتحي وادي النيل في قديم عصوره؛ لأنه أبقى لهذا الفتح أثرا خالدا في لغة البلد ودينه وفنونه، فصنع ما لم يصنعه فاتح قديم وقل أن يصنعه فاتح حديث.
فلم يغفل عن حدود البلاد بعد أن سلمت له الإسكندرية وتتابع تسليم العواصم الأخرى لأعوانه، ولا سيما الحدود التي يجيء الخطر منها وهي حدود الغرب والجنوب.
ولعله علم من مصر - إن لم يعلم قبل ذلك - أن نقتاس القائد الروماني أغار على البلاد من غربيها فأخضعها، وأن هرقل قد حدثته نفسه مرة بالرجعة إلى المغرب ليحكمه، فرارا من فتن القسطنطينية ودسائسها، وقد يفعل ذلك خلف من بعده فيصبح المغرب منفذا لغارة رومانية قد يخشى خطرها على «الفتح الجديد» وهو في أوائل سنواته.
فتوجه في فتح المغرب حتى وقف عند تونس بأمر الخليفة، وعلم أن أهل مصر يخافون من مساكنة النوبة إياهم في بلادهم، ويسألون حاكمهم أن يقصيهم عنها ولا يأذن لهم بطول المقام فيها، فوعدهم ألا يأذن بهذا المقام، وسير الكتائب إلى مصر الجنوبية يذود عنها النوبة ويحرس ما دخل في حوزته من أرضها.
وقد أنصف الخليفة عمرا وأحسن جزاءه بتوليته على مصر بعد فتحها وتنظيم شئونها على أثر الحروب التي أفسدت فيها كل صالح، وبدلت فيها كل نظام، فحرص عمرو جهده على مرضاة الخليفة واستبقاء رأيه فيه، وكان من الولاة القليلين الذين طال عهدهم بالولاية في خلافة الفاروق.
قيل: إن الفاروق استوصف عمرا مصر فكتب إليه يقول:
إن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر ميمون الغدوات، مبارك الروحات، يجري بالزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا عج عجاجه وتعظمت أمواجه لم يكن وصول بعض القرى إلى بعض إلا في خفاف القوارب وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبه، كأول ما بدأ في شدته وطما في حدته، فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه: يبذرون الحب ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف، سقاه من فوقه الندى وغذاه من تحته الثرى، فعند ذلك يدر حلابه، ويغني ذبابه، فبينما هي يا أمير المؤمنين ورقة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء وإذا هي زبرجدة خضراء، فتعالى الله الفعال لما يشاء. والذي يصلح هذه البلاد وينميها ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبتدأ والمآل.
فإن لم يكن هذا الكلام من نص كلامه فهو من صميم رأيه وعيانه لا مراء، والذي لا خلاف فيه أن الفاروق تلقى منه وصفا لمصر يشبه هذا الوصف، ودليلا على الدراية بها يشبه هذا الدليل، وأن عمرا أخلق الناس أن يحذر في عهد الفاروق «سعي الخسيس بالرئيس»، وهو الذي يعلم أنه مستهدف لمثل هذا السعي، وأنه ملاق به شيئا من القلق الدائم في ساحة الفاروق، وهو العظامي الذي كان يتعصب للنسب تعصب المأخوذ بالريب، ويتقي كلمة السفلة فيقول: «إن ذهاب ألف من العلية أهون ضررا من ارتفاع واحد من السفلة!»
وربما كان من الإغراق في الرجاء أن يطمع وال من الولاة في الإفلات من حساب الفاروق، بالغا ما بلغ نصيبه من الحرص والإحسان، وإن أحق الناس أن يعلم ذلك لهو عمرو بن العاص الذي يعلم حساب الفاروق للولاة، ويسمع بمراجعته للمحسن منهم والمسيء، فما نحسبه ترقى بطمعه في هوادة «ابن حنتمة» - كما كان يسميه بلسان الغيظ والإعجاب - إلى أبعد من البقاء في الولاية، مع الأهبة الدائمة للجواب عن كل جليلة ودقيقة من أعماله التي تنمى إلى دار الخلافة. وقد ظفر بما أراد وظل فخورا بهذا الظفر بقية حياته، يقول لمن لا يعجبه حكمه: إن الفاروق قد مات وهو عنه راض! وحمد الله أنه لم يحاسب في عهده بأكثر مما حوسب عليه، ومن أمثلته - فيما نقلته كتب السير - حسابه على مال الخراج، وحسابه على غلطة طائشة لابنه محمد، وحسابه على إعفاء عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب من بعض القصاص في حد الشراب!
كتب إليه الفاروق في أمر الخراج يعجب من قلته ومن «أن مصر لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك، على غير قحط ولا جدب!» فرد عليه عمرو في لهجة شديدة وأنفة يعلم موقعها من نفس عمر الذي لا يبالي أن يخاطبه الكبار والصغار مخاطبة الأنداد ما حفظوا مع ذلك حق الله وحق المسلمين، وجدد عمر الكتابة إليه يؤنبه على إبطائه مع كثرة الكتب إليه، ويقول له: «إني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك!»
وطالت المكاتبة بين الخليفة وواليه، وتسايرت الأنباء بفاشية من المتاع والرقيق والآنية والحيوان، فشت لعمرو في مصر لم تكن له قبل ولايتها، فعمد الخليفة إلى حزمه المعروف، وأنفذ إلى عمرو أمينه على العمال محمد بن مسلمة يعلنه أنه قد ساء به ظنا، وأنه مقاسمه ما عنده من المال، وجعل له مائتي دينار جزاء عمله غير العطاء الذي ربط له أسوة بالمجاهدين من المسلمين.
أما حساب الخليفة له على غلطة ابنه محمد، فخلاصته أن عمرا أجرى الخيل، فأقبلت فرس رجل من المصريين، فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح: فرسي ورب الكعبة! ثم اقتربت وعرفها صاحبها، فغضب محمد، ووثب على المصري يضربه بالسوط ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين! وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوهما المصري، فحبسه زمنا حتى أفلت وقدم إلى الخليفة يرفع إليه مظلمته ... فاستقدم الخليفة عمرا وابنه، وقال للمصري: دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين! ثم قال له: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، ففزع عمرو واعتذر المصري قائلا: قد ضربت من ضربني! والتفت الخليفة إلى المصري يقول له: «أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه.» ثم إلى عمرو بن العاص يقول تلك الكلمة التي تعد من جلائل الأعمال، ولا تحصى في جلائل الأقوال وكفى: «أيا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»
ولقد حاسبه على إعفاء ابنه - أي ابن الخليفة - كما حاسبه على إعفاء ابنه هو من الجزاء الذي استحقه بالعدوان على بعض رعاياه؛ فقد ذهب عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب إلى عمرو يبلغه أنه شرب مسكرا، ويطلب إليه أن يقيم الحد عليه، فتغاضى قليلا ثم أذن بحده على أن يعفى من حلق رأسه على مشهد من العامة، فجاءه التأنيب من الخليفة مع البريد يقول فيه: «عجبت لك يا بن العاص ولجرأتك علي وخلاف عهدي ... فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الله في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين.»
وإن واليا ينجو من الفاروق بهذا القسط من الحساب على هذه المسائل وأشباهها لمجدود بين الولاة!
قضى عمرو نحو خمس سنوات واليا لمصر في خلافة عمر بن الخطاب يتولى له إدارتها وخراجها والدفاع عنها، ويساعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح في ولاية الصعيد ودفاع النوبة.
وقبض عمر، فقام بالخلافة بعده عثمان بن عفان، فشخص عمرو إلى المدينة يبايعه ويعرض عليه شئون ولايته، ويتلقى أوامره فيها، وكان أكبر همه أن يسأل الخليفة الجديد عزل عبد الله بن سعد من ولاية الصعيد؛ لأنه منافس قوي جسور لا يطيقه رئيس مثله في القوة والجسارة! فعز عليه المطلب، واقترح عليه الخليفة أن يتولى شئون الحرب ويترك لعبد الله شئون الخراج فأبى، ونفرت نفسه من هذه المشاركة، وقال: «إني إذن كمن يأخذ البقرة بقرنيها ليحلبها غيره.» وتعذر التوفيق بين المتنافسين، فانتهى الخلاف بإقالة عمرو وإقامة عبد الله على ولاية مصر، حربها وخراجها، وكان ذلك حوالي سنة سبع وعشرين للهجرة.
والظاهر أن ولاية عمرو في مصر كانت على خطر منذ مبايعة عثمان؛ لأن رأي عثمان في طمع عمرو وسوء الظن به قديم؛ ولأن عبد الله بن سعد كان أخا لعثمان في الرضاع، وهو كفؤ ضليع بالرئاسة حربا وإدارة، وليس من دأب عثمان أن يعزل أقرباءه وإن لم يكن لهم من الكفاية والضلاعة ما كان لعبد الله.
ومما لا ريب فيه أن حاشية عثمان تنفس على عمرو مكانه، وتخشى منه الخطر الأكبر إذا رسخت في الديار المصرية قدمه، وظل فيها قائما بالأمر إلى أن يمعن الخليفة في الهرم ويؤذن عهده بانقضاء، فليس ببعيد إذن أن يستقل عمرو بإمارة الديار أو يطمح إلى الخلافة، وليس ببعيد كذلك أن يشترك في التحذير منه أناس كمروان بن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان، ولو لم يكن لهؤلاء المقربين شأن في الكيد لعمرو لكانت محاسبة عمرو على طريقة الفاروق أجدى وأقرب إلى الطمأنينة على الخراج، ولكن مقاسمة الولاة في أموالهم بين حين وحين، شيء يأباه ولاة الدولة الجديدة، فأيسر من مقاسمة عمرو في الخراج أن ينحى عنه أو ينحى عن الولاية برمتها ... وقد كان.
ولعلهم لم يؤجلوا عزل عمرو إلى حوالي سنة سبع وعشرين إلا انتظارا لمصير الفتنة التي نشبت في الإسكندرية، إذ انتقض الروم وجاء المدد بحرا بقيادة منويل الخصي من القسطنطينية، فأهاب أقطاب مصر بالخليفة أن يبقي عمرا على الولاية لدرايته بالقوم وهيبته في نفوس الأعداء، ثم تبين من كفاية عبد الله بن سعد في كفاح الروم بإفريقية ما عزز مقامه وأبطل تلك الحجة فصحت له الولاية، ورشحه للقيام على الخراج وفرة المال الذي جمعه من الديار الإفريقية المفتوحة.
أما أثر العزل في نفس عمرو فلا يصعب إدراكه، ولا حاجة به إلى الأخبار والأسانيد، فليس عمرو بالذي يحتمل هذا العزل أو يستكين إليه! وليس هو بالرجل الذي يثور في غير موضع للثورة، أو يأخذ في انتقام لا يثق بإنفاذه وسلامة عقباه عليه! فقصاراه أن يتربص الدوائر بالعهد كله، وأن يترقب يومه الذي يعلم أنه آت لا ريب فيه! وقد ترقب واختار لنفسه مرصد الرقبة فأصاب اختياره: ترقب في بيته بفلسطين حيث تفترق السبل بين الحجاز ومصر والشام والعراق، وحيث يحرض من يحرض من عابري تلك السبل وهو آمن جهد ما يتاح له الأمان، وربما رحل بين الحين والحين إلى مكة أو المدينة يستطلع ويستوثق ويدفع الحوادث إلى الطريق الذي يرتجيه، ثم يقفل إلى مينائه الأمين كالربان الذي يختبئ بسفينته والرياح عاصفة والأمواج زاخرة جارفة، ريثما تنجلي الغاشية عن مهب الريح أين يتجه على استقرار، فيوليه شراعه ويستدير إليه.
ووشى به الوشاة إلى الخليفة، فاستدعاه وأغلظ في شتمه، وراح يؤنبه ويقول له بأحد لسان وأشده: «يا بن النابغة ... أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بوجه آخر؟» فتنصل عمرو وقال: «إن كثيرا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين.» فعاد الخليفة يقول: «استعملتك على ظلمك وكثرة القالة فيك.» فثار عمرو إلى فخره القديم: «لقد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض.» قال عثمان: «لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت، ولكني لنت عليك فاجترأت.»
ومع هذا كان عثمان يبعث إليه فيستشيره كلما أعيته الحيلة وغلبته الحيرة في حكومته! فكان ينصحه بما يعلم أنه لا يضيره ولا ينفع الخليفة، يقول له: «... أرى أن تلزم طريقة صاحبك - أي الفاروق - فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين، وإن الشدة تنبغي لمن يألو الناس شرا، واللين لمن لا يخلص بالنصح، وقد فرشتهما جميعا باللين!»
وإن عمرو بن العاص لأول من يعلم أن طريقة عمر لا يصلح لها غير عمر، وأنه مكلف عثمان شططا حين يركبه متن هذا الطريق، وهو الذي قال له عثمان يوما: «لقد أمرت عبد الله بن سعد أن يتبع أثرك.» فقال: «لقد كلفته شططا!»
وتدرج في الجرأة على عثمان كلما تدرجت الفتنة في التفاقم والاستفحال، ففي مجلس الشورى الذي جمعه عثمان سأله: «ما رأيك؟» فلم يبال أن يجيبه أمام صحبه: «إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما ...» ولكنه اجترأ هنا وأبقى للحيطة بقية، فانتظر حتى تفرق المجلس ، وخلا بالخليفة فأقبل يعتذر إليه بينه وبينه: «لا والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك، ولكني قد علمت أن بالباب قوما قد علموا أنك جمعتنا لنشير عليك، فأحببت أن يبلغهم قولي فأقود لك خيرا وأدفع عنك شرا!»
كان يقول هذا وأشباهه وفي دولة عثمان أمل يضعف يوما بعد يوم، فلما أوشك هذا الأمل أن ينفد صاح به في المسجد: «اتق الله يا عثمان! فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب!»
ثم ترك الفتنة وأوى إلى مينائه بفلسطين، يتلقى الركبان ويسأل منهم كل عابر ينفعه سؤاله، فمر به راكب من المدينة فاستخبره خبر عثمان فقال: «محصور!» ثم أعقبه راكب آخر فقال: «قتل عثمان.» فيروي رواة الخبر أنه صاح يومئذ: «أنا أبو عبد الله، إذا نكأت قرحة أدميتها.» ثم قال: «والله إني كنت ألقى الراعي فأحرضه على عثمان!» •••
وبويع علي بن أبي طالب بالخلافة فلم ينصره ولم ينصر أحدا من خصومه، ولبث يترقب وينتظر حتى انحسر الميدان عن خصمين اثنين هما: علي ومعاوية بن أبي سفيان، بعد أن زال عنه طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فوجب أن يختار له طريقا من الطريقين؛ لأنه لو آثر الاعتزال لم يتركه الفريقان في عزلته، ولم يزل به أحدهما حتى يستدنيه إليه.
شاور معاوية أصحابه، فأشار عليه عتبة بن أبي سفيان أن يستعين على أمره بعمرو، وأن يثمن له بدينه، قال: «فإنه من قد عرفت، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يرى فرصة.» فكتب له معاوية بفلسطين: «أما بعد، فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة، وقدم إلينا جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني. أقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله ...»
فاستشار عمرو ولديه عبد الله ومحمدا فيما يصنع، فقال عبد الله: «قتل عثمان وأنت عنه غائب، فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشك أن تهلك فنشفى فيها.» وقال محمد: «إنك شيخ قريش وصاحب أمرها، وإن تصرم هذا الأمر وأنت فيه خامل صغر أمرك، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من أيديهم ...»
قال عمرو: «أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي، وأنا ناظر فيه.»
وروي أنه قلب رأيه في الأمرين فقال: «إني إن أتيت عليا قال: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره.»
ولكنه ظل يتردد إلى ساعة السفر بعدما عن له أن ينضوي إلى جانب الشام، فدعا غلامه وردان فقال: «ارحل يا وردان!» ثم صاح به: «حط يا وردان.» فقال له وردان، وكان كما وصفوه داهيا ماردا: «خلطت أبا عبد الله أما إنك إن شئت أنبأتك بما في نفسك.» قال: «هات ويحك!» قال: «اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه الآخرة في غير دنيا، وفي الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة وليس في الدنيا عوض من الآخرة، فأنت واقف بينهما ...» قال: «والله ما أخطأت فما ترى يا وردان؟» قال: «أرى أن تقيم في بيتك، فإن ظهر أهل الدين عشت عند دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك ...» فتأمل في قول غلامه مليا، ولكنه لم يقبل القرار في بيته بعد دعوته، وعول على المسير فسار. •••
ومن ثم قصد إلى معاوية بالشام ...
ولم تكن بين الرجلين من قبل مودة ولا صحبة ولا مشاركة في منفعة، بل ربما كانا إلى التنافس والتنافر أقرب منهما إلى المودة والصحبة.
حدث أبو حاتم أن معاوية «قدم من الشام وعمرو بن العاص من مصر على عمر بن الخطاب، فأقعدهما بين يديه وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإلي تقصد؟ ... هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك.» قال عمرو: «فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره! فأردت أن أفعل شيئا أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية!» فقال عمر: «تالله ما رأيت رجلا أسفه منك.» قم يا معاوية فاقتص منه، قال معاوية: «إن أبي أمرني ألا أقضي أمرا دونه.» فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة وذكر حديث رسول الله: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.» ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية فقال: «لهذا بعثت إلي؟ أخوه وابن عمه! وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له!»
وأقل ما في هذه الرواية ومثيلاتها أن المنافسة بين الرجلين كانت ملحوظة لا غرابة فيها، وهي في موقعهما من ولاية الشام وولاية مصر أشبه شيء أن يكون.
ويؤخذ من حديث روي عن عبادة بن الصامت أن الاجتماع بين معاوية وعمرو كان من نوادر الأشياء، وأن اجتماعهما كان في رأي الأخيار من علامات الأخطار، فلما قدم عبادة بن الصامت عليهما وهما بالشام، جلس بينهما ثم سألهما: «أتدريان لم جلست بينكما في مكانكما؟» قالا: «نعم، لفضلك وسابقتك وشرفك.» قال: «لا والله ... ما جلست بينكما لذلك، وما كنت لأجلس بينكما في مكانكما، ولكن بينا نحن نسير مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدثان، فالتفت إلينا فقال: «إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما، فإنهما لا يجتمعان على خير أبدا».»
وفي صحة هذا الحديث نظر، ولكنها أخبار تدل على مبلغ الصلة بين معاوية وعمرو، وأنها لم تكن من الوثاقة والقرب بحيث تمنع مثل هذا المقال.
فمعاوية لم يستقدم عمرا لصداقة وصحبة قديمة!
وعمرو لم يقدم على معاوية لشيء من ذاك!
ولكنهما رجلان طموحان أريبان، مثلهما لا يعادي إذا كان له في الصداقة نفع، ولا يصادق إذا لم يكن له في الصداقة أرب، وإن أقرب الناس عندهما لوشيك أن يقصى إذا أقصته المنفعة، وإن أقصاهم لوشيك أن يستدنى إذا كان في بعده ضرر!
فهما ملتقيان على تفاهم صريح بلسان المقال، أو صريح بلسان الحال، وقد عرفا ولا جدال على أي وجه يتفاهمان منذ كتب هذا وأجابه ذاك.
زعموا أن المساومة جرت بين الرجلين أول ما التقيا، فسأل معاوية عمرا أن يتبعه، فأقبل عمرو يسأله: لماذا؟ للآخرة؟ فوالله ما معك آخرة! إنما هي الدنيا نتكالب عليها، فلا كانت حتى أكون شريكك فيها، وأخذ معاوية يذكر ممالأة علي على قتل عثمان، وأنه أظهر الفتنة وفرق الجماعة، فقال عمرو: إنه وإن كان كذلك فإن المسلمين لا يعدلون به أحدا، وليست لك مثل سابقته وقرابته، ثم عاد يساوم مرة أخرى، فسأل معاوية: ولكن ما لي إن شايعتك؟ قال معاوية: حكمك، قال عمرو: اجعل لي مصر طعمة ما دامت لك ولاية، فتلكأ معاوية ولم يجبه، وحذر عتبة بن أبي سفيان العاقبة، فحذرها معاوية وقال لي لائما: أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن صفت لك؟ فليتك لا تغلب على الشام.
فرضي بالصفقة واتفقا عليها.
وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار وصحة هذه الكلمات، وما ثبت نقله وما لم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه ولو اجتمعت التواريخ قاطبة على نقضه، أن الاتفاق بين الرجلين كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية، وإن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل إلى كل منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق.
فكان معاوية يطمح إلى الخلافة يتولاها ويورثها أعقابه من بعده.
وكان عمرو يطمح إلى ولاية مصر جامعة، وهي عنده تعدل الخلافة ما لم يكن إلى الخلافة سبيل، ويرجو أن يضم إليها الشام وأن يترك ولايته ميراثا من بعده لولده عبد الله.
ومثل هذا الاتفاق أقوى اتفاق، ولكنه قد ينقلب في حالة في حالاته فإذا هو أضعف اتفاق وأقربه إلى النقض والانتقاض.
فمن سر القوة فيه أن يعمل الرجل لصاحبه كأنه يعمل لنفسه، ما دامت وسيلته من وسيلته، وما دامت لهما غاية واحدة يتلاقيان عندها!
ومن سر الضعف فيه أن الشريك هنا هو أعدى الأعداء وأولى المنافسين بالتخلص منه إذا أمكن وجه الخلاص؟
وقد أعانت على هذا الاتفاق أمور كثيرة أهمها أمران: وهما أن عمرا لم يكن على أمل في ناحية أخرى، فإذا فسد الأمر على معاوية فسد الأمر عليه، وإن معاوية كان يعلم أنه يساوم شيخا يدلف إلى الثمانين ويوشك أن يودع دنياه فما ربحه منه فهو دائم له، وما خسره في مرضاته صائر إليه.
على أن عمرا من جانبه كان رجلا ممتلئا بالحياة في شيخوخته، جريء المطامع ما بقي في الدنيا مطمع يتخايل بين عينيه، فلم يكن ييأس من الخلافة نفسها، ولم يستبعد قط أن تسنح له سانحة من طوارئ القدر يغلب فيها معاوية على عرش الدولة التي شاركه في تأسيسها، فربما أخلص معه العمل في هزيمة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولكنه لم يخلص معه العمل في تمكينه كل التمكين حتى يستغني عنه ويتغير له، ويثبت في الخلافة ثبوتا لا مطمع بعده لطامع.
فقد كان بعض نصائحه لمعاوية سديد المرمى قبل هزيمة علي - رضي الله عنه - ولكنه كان متهما في كل نصيحة أدلى بها إلى معاوية بعد تلك الهزيمة، وكان ظاهرا من نصائحه في جملتها أنه أراد أن يثير عليه العداوات وأن يوغر عليه صدور الصحابة ويتركه مشغولا بخوف الفتنة أو واقعا في أوهاقها، وهو إذن أقرب قريب من الخلافة متى زال معاوية عنها، ولا سيما إذا طال عهده بولاية مصر وجمع في يديه الأموال ومن حوله من الأنصار والطامعين في النوال.
فمن نصائحه التي لا يندفع مثله فيها لدافع العنجهية الجاهلية وحدها، أنه حضر مجلس معاوية وحاجبه يستأذن لوفود الأنصار، فقال: ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ اردد القوم إلى أنسابهم! ثم قال للحاجب: اخرج فقل من كان ههنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل، فدخل ولد عمرو بن عامر كلهم إلا الأنصار، فنظر معاوية إلى عمرو نظرة منكرة وقال له: باعدت جدا؟ فقال: اخرج فقل من كان ههنا من الأوس والخزرج فليدخل، فخرج فقالها فدخلوا يقدمهم النعمان بن بشير الأنصاري وهو يقول:
يا سعد لا تجب الدعاء فما لنا
نسب نجيب به سوى الأنصار
إن الذين ثووا ببدر منكم
يوم القليب هم وقود النار
فجعل معاوية يقول: لقد كنا أغنياء عن هذا.
وأشار على معاوية بقتال أسرى صفين من جماعة علي، وقد أطلق علي أسراه من جماعة معاوية، وهي مشورة لا تنفع معاوية بشيء، وتجلب عليه العار لا محالة وتنصبه غرضا لكل مطالب بترة، في أمة لا تنسى بينها الترات!
وعلى ما في طبع عمرو من الحيلة والجنوح إلى المصالحة واستلال الأضغان، لم يكن يصدر عن هذا الطبع في مشورته على صاحبه بعد وقعة صفين، فلما شاوره معاوية في أمر عبد الله بن هاشم، أشار عليه بقتله وغضب حين خالفه معاوية، فقال بعد ذلك من أبيات:
أليس أبوه يا معاوية الذي
أعان عليا يوم حز الغلاصم؟
وأشار كذلك بقتل قيس بن سعد في جيشه الذي كان معه من بقايا حزب علي، بعد نزول ابنه الحسن عن الخلافة، وكان قيس رجلا صعب المراس مقداما على الخطر، لا يؤمن قتاله، والدولة الأموية في أوائلها بين الشك واليقين، فأعرض معاوية عن مشورته وبذل الأمان لقيس ومن معه، وأرضاهم بالمصانعة والعطاء.
ولم يكن معاوية يسلك معه غير هذا المسلك، أو يضمر له غير هذا الضمير، فكان يحتفي به ويجلسه معه على سريره، ويظهر له الركون إلى رأيه والمشاركة في أمره، ثم يقبل منه ما يقبل، ويمضي على نيته التي انتواها، وقد هم أن يخلف له موعده من ولاية مصر، لولا أنه توقع الشر منه، وعلم أنها ولاية عام أو أعوام قلائل، ثم تصير إليه يعطيها من يشاء، وقد مات عمرو بعد أعوام فضم معاوية خزائن أمواله إلى بيت المال، وخالف رجاءه في تولية ابنه عبد الله مكانه، وأسند الولاية إلى أخيه لأبيه عتبة بن أبي سفيان.
وربما ثقل عليهما وقر الرياء، فتصارحا بما في الطوايا صراحة هي أشبه بالصراع الذي يجمع فيه الندان بين اللعب والخصومة، سأله معاوية وهو في حالة من حالات النقمة والطمع : ما أعجب الأشياء؟ فقال: أعجب الأشياء غلبة المبطل ذا الحق على حقه، فما أبطأ معاوية أن ردها عليه قائلا: بل أعجب من هذا أن تعطي من لا حق له بحق من غير غلبة!
وربما داعب معاوية في أمر آخرته ودنياه مداعبة الرجل الذي يعلم أن المداعبة هنا مقبولة؛ لأنهما في الحظ سواء قال له يوما: لقد رأيت البارحة في المنام كأن القيامة قد قامت ووضعت الموازين، وأحضر الناس للحساب فنظرت إليك وأنت واقف قد ألجمك العرق، وبين يديك صحف كأمثال الجبال، فعاجله معاوية ساخرا: وهل رأيت في الميزان شيئا من دنانير مصر؟
ودخل على معاوية في مجلسه، فضحك معاوية حين رآه، قال عمرو: «ما يضحكك يا أمير المؤمنين، أضحك الله سنك؟» قال: «أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب، أما والله لقد وافقته منانا كريما، ولو شاء أن يقتلك لقتلك.» فلم يبرح عمرو أن أشركه معه في عاره، وجعل يقول له ويمعن في وصف فزعه: «أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولت عيناك، وربا سحرك - أي صدرك - وبدا منك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أو دع.»
فالرجلان كانا فيما بينهما على صراحة وتفاهم واحتراس.
وكانا يعلمان ما يريدان، ويعلمان أنهما لا يتعاونان لأنهما على ثقة من إخلاص كل منهما لصاحبه وإيثاره لنفعه، ولكنهما يتعاونان لأن التعاون أنفع لهما من التخاذل والشقاق، ولن يتعاونا إذا تبدلت الحال وأصبح لهما أو لواحد منهما نفع في تخاذل أو شقاق!
وكانا يفهمان أن هزيمة علي هي سبيلهما معا إلى ما يريدان فعملا متفقين، ولعلهما عملا مخلصين لتحقيق هذه الهزيمة، وكانت معونة عمرو لمعاوية في نضاله مع علي كبيرة الخطر، محسوسة الأثر في مآزق كثيرة، ومعضلات متوالية، أهمها حرب صفين ومؤتمر التحكيم وانتزاع مصر من والي علي وأتباعه فيها، وهم غير قليلين.
وكانت جهوده العظمى في حرب صفين جهود الداعية المحرض، لا جهود المقاتل المستبسل، فكان يثير الحفائظ ويستدرج الأنصار بالأطماع، ويمحو الوساوس والشكوك التي تثني عزائم القوم عن القتال، ويشيع الفتاوى التي يقبلها من هو مستعد لقبولها، ومنها - حين قتل عمار بن ياسر - إن أصحاب معاوية تلجلجوا فيما بينهم، وساورهم الريب في حقهم؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يقول عن عمار: «تقتله الفئة الباغية.» فكان عمرو بن العاص - في أشيع الأقوال - هو الذي حسم هذه الشكوك قبل استفحالها، فقال: إنما قتله من أخرجه، فقبلها الأنصار المستعدون لقبول أشباه هذه التأويلات.
وكان على بغضه لعثمان أسبق الناس إلى التفجع لمقتله والتحريض باسمه، فإذا هدأت ثورة النفوس قال لمعاوية: «حرك لها حوارها
1
تحن ...» أي: علق لهم قميص عثمان المخضوب بدمائه؛ لأنهم إذا رأوه هاجت أحقادهم، كما تدر الناقة إذا حركوا لها جلد حوارها!
وجاء كذلك في أشيع الأقوال أنه هو الذي أشار على معاوية برفع المصاحف على الرماح، ودعوة أنصار علي إلى تحكيم كتاب الله، فلما عمل بهذه المشورة وقعت الفتنة في جيش علي بين قائل بالمضي في القتال، وقائل بإجابة القوم إلى التحكيم، وأوشك الفريقان أن يدعا جيش معاوية ويشتبكا بينهما في حرب، أو يبطش جماعة منهم بالإمام علي نفسه، إذا هو لم يأمر شيعته المقربين بالكف عن الحرب وإلقاء السلاح.
وإذا صح ما يعزى إلى هذه المشورة من الأثر الجسيم في تمكين معاوية وخذلان علي، فهي كلمة أنفع من جيش ومكيدة أمضى من قوة، وهي خليقة أن تغنيه في حرب صفين عن جهود الشجاعة والاستبسال، إذ الواقع أنه لم يغن في تلك الحرب بجهد من جهود الشجاعة والاستبسال، ولم يذكر أحد من حزبه أنه برز في ميدان قتال، مع أن الحرب في تلك المعركة خاصة كانت حرب براز ونزال، أما خصومه فقد ذكروا له تلك الفعلة التي سارت بها الأمثال بعد ذلك، وأصبح من الأقوال الشائعة عن كل من يرد المكروه بالمهانة أنه رده «كما ردها يوما بسوأته عمرو!»
ويظهر أن خصومه ومنافسيه كانوا يلحظون منه التقاعد عن مخاطر البراز، فقال الحارث بن نصر الجشمي من أبيات:
ليس عمرو بتارك ذكرة الحر
ب مدى الدهر أو يلاقي عليا
واضع السيف فوق منكبه الأ
يمن لا يحسب الفوارس شيا
ليت عمرا يلقاه في حمس النق
ع وقد صارت السيوف عصيا
فزعموا أن عمرا تغيظ من قوله، وأقسم: «لو علمت أني أموت ألف موتة لبارزت عليا في أول ما ألقاه!»
وكان علي - رضي الله عنه - كثيرا ما يتقدم بين الصفوف داعيا إلى المبارزة، فبدا له يوما أن يدعو معاوية لمبارزته، فأيهما غلب فالأمر له وتحقن دماء الناس، فنادى: يا معاوية، يا معاوية، فقال هذا لأصحابه: اسألوه ما شأنه؟ قال: أحب أن يبرز لي فأكلمه كلمة واحدة، فبرز معاوية ومعه عمرو، فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية: ويحك! علام يقتتل الناس بيني وبينك؟ ابرز إلي، فأينا قتل صاحبه فالأمر له، فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أبا عبد الله؟ أبارزه؟ فقال عمرو: لقد أنصفك الرجل، واعلم أنك إن نكلت عنه لم تزل سبة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي، فقال معاوية: يا عمرو! ليس مثلي يخدع عن نفسه، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلا قط إلا سقى الأرض من دمه ... ثم تلاحيا، وعزم معاوية على عمرو ليخرجن إلى علي إن كان جادا في نصحه، ولم يكن مغررا به طمعا في مآل أمره، فلما خرج للمبارزة مكرها وشد عليه علي شدته المرهوبة، رمى عمرو بنفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشغر برجله فبدت عورته! فصرف علي وجهه عنه، وقام معفرا بالتراب هاربا على رجليه، معتصما بصفوفه.
وليس في هذه القصة من موجب للشك فيها إلا أن عمرا كان أشجع من ذلك في معارك كثيرة قبل هذه المعركة، ولكنه شك ضعيف غير قاطع في إنكار القصة بحذافيرها؛ لأن عمرا لم يبارز قط رجلا في قوة علي وبأسه، ولم يكن قد دلف إلى الثمانين وهو يحارب في المعارك الأخرى، وأهم من ذلك أنه كان يحارب في تلك المعارك، وله أمل في الشهادة ونعيم الجنة وإيمان بحقه وباطل خصمه، ولكنه لا يحارب عليا وله أمل في الشهادة قاتلا أو مقتولا، أو ثقة بالحق تعوضه من خسارة الدنيا، وليس بالعجيب من طبيعة عمرو أن يلوذ بالحيطة، غير حافل بمقال الناس إذا خاف على حياته، وأيقن من ضياع دينه ودنياه.
ومهما يكن من مبلغ الصدق في هذه الرواية، فالمتفق عليه بين ولاته وعداته أنه اشتهر في صفين بجهاد الحيلة والدعوة، ولم يشتهر فيها بجهاد البسالة والبلاء.
أما جهوده في مسألة التحكيم
2
بين علي ومعاوية، فقد أفادت معاوية بالمطاولة والمراوغة أضعاف فائدتها إياه بالنتيجة التي انتهى إليها قرار عمرو وقرار أبي موسى الأشعري؛ لأن تطاول الأيام أعان على تفريق جيش علي وتبديد شمله، وشيوع اللغط بين طوائفه وأصحاب المذاهب المغالية من المتمردين عليه، ولا سيما الخوارج والقائلين بتحريم القتال وكل ما أعان على تفريق جيش علي فهو معين على تعزيز جيش معاوية، وتقريب طلاب المغانم وتباع الفرص من دولته وسلطانه.
وقد اختار معاوية عمرا للتحكيم وهو لا يأمنه كل الأمان، وربما كان اطمئنانه إلى أبي موسى الأشعري صاحب علي أكبر من اطمئنانه إلى صاحبه ووكيله؛ لأن أبا موسى كان يجهر باجتناب القتال واعتزال الفريقين، وكان اختياره على الكره من علي، وعلى هوى الأشعث بن قيس الذي كان متهما بالتخذيل عن علي، وترويج كل رأي يرضاه معاوية، ولا سيما بعد زيارة قيس لمعاوية في إبان معركة صفين.
والذي حدث في أوائل المفاوضات خليق أن يسوغ قلق معاوية واسترابته في نيات صاحبه ووكيله، فإنه قال لأبي موسى: ما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟ فقال أبو موسى: إن ابنك رجل صدق ولكنك غمسته في هذه الحروب غمسا.
وطالت المفاوضة، فأوجس معاوية وعظم خوفه، وجاءه داهية العرب المغيرة بن شعبة فألفاه قلقا يتسمع ويستطلع، فقال له: قد أتيتك بخبر الرجلين، قال معاوية: وما خبرهما؟ قال المغيرة: إني خلوت بأبي موسى لأجلو ما عنده، فسألته: ما تقول فيمن اعتزل عن هذا وجلس في بيته كراهية للدماء! فقال: أولئك خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم وبطونهم من أموالهم ، فخرجت من عنده وأتيت عمرو بن العاص، فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟ فقال: أولئك أشرار الناس، لم يعرفوا حقا ولم ينكروا باطلا.
ثم عقب قائلا: أنا أحسب أبا موسى الأشعري خالعا صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد، وأحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذي عرفته، وأحسبه سيطلبها لنفسه أو لابنه عبد الله، ولا أراه يظن أنك أحق بهذا الأمر منه.
والذي نراه نحن كذلك أن عمرا لم يكن ليظن أن معاوية أحق بالخلافة منه، ولكنه كان أكيس من أن يطلب الخلافة له أو لابنه باتفاق رأيه ورأي أبي موسى الأشعري، دون ما يستلزمه طلب الخلافة من الجند والدولة والعصبية، فماذا عساه أن يغنم بالاتفاق مع الأشعري على المبايعة لابنه عبد الله؟ إنه يخسر عضد معاوية، ولا يكسب أحدا من أنصار علي، ولا يصل هو ولا ابنه عبد الله إلى مأرب، وإنما نعتقد أنه ذكر اسم عبد الله ليغرر بأبي موسى، ويلقي في روعه أنه غير جاد في خدمة معاوية، وأنه يعمل لنفسه ولأعقابه من بعده، وقد أصابت هذه الحيلة محزها، فصدق أبو موسى أن عمرا يخلع معاوية، وأنه إذا قام على المنبر ليخلع عليا، قام عمرو من بعده فخلع معاوية، وترك الأمر شورى ليظفر به ابنه فيما يرتجيه، فلما اتفقا على خلع الاثنين وأن يبدأ أبو موسى بخلع صاحبه، قبل هذا الاتفاق ولم يتردد في إنفاذه، وهو يحسب أن خذلان عمرو لمعاوية غير بعيد، ما دام يطمع فيها لنفسه من طريق الدعوة إلى ابنه.
وإن جهد عمرو في مسألة التحكيم لجهد يسير عليه، ولكنه حقيق من معاوية بجزاء غير يسير.
ولقد تطلع عمرو لهذا الجزاء الذي طال اشتياقه إليه، وهو ولاية مصر جامعة موروثة في عقبه، فماطله معاوية زمنا واستكثر عليه هذه «الطمعة» التي اشتهاها، وأسر في نفسه إذا هو رضخ له بشيء منها أن يرجع فيما أعطاه بذريعة من الذرائع التي لا تعيبه، فكتب في وثيقة تصالحا عليها أن ولاية مصر لعمرو «على ألا ينقض شرط طاعة»، وهو يريد أن يتعلل له بالخروج عن طاعته فيبطل شرطه، وفطن عمرو لما وراء هذا «القيد» المقحم في الوثيقة فأنكره، وكتب: «على ألا تنقض طاعة شرطا ...» يريد أن الطاعة لن تخول معاوية الرجعة فيما اتفقا عليه.
وكان معاوية يتهم عمرا بالعجلة كلما ذكر له مصر وأغراه بالزحف إليها، فجمع خاصته يوما يسألهم: هل تدرون ما أدعوكم إليه؟ قالوا: لا يعلم الغيب إلا الله، فقال عمرو: «نعم ... أهمك أمر مصر وخراجها الكثير وعدد أهلها، فتدعونا لنشير عليك فاعزم وانهض ... في افتتاحها عزك وعز أصحابك وكبت عدوك.» فقال له معاوية: يا بن العاص! إنما أهمك الذي بيننا، يعني طعمة مصر، والتفت إلى صحبه يستشيرهم: ما ترون؟ فوافقوا عمرا، وعاد هذا يقول: «ابعث جيشا كثيفا عليهم رجل حازم صارم تثق به فيأتي إلى مصر، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا، فيظاهره على من كان بها من أعدائنا.» فخالفه معاوية وقال له: «إنك يا بن العاص، بورك لك في العجلة.»
غير أنه لم يلبث أن تلقى من أنصاره بمصر كتابا يستحثه إلى غزوها، ويسأله «أن يتعجل بخيله ورجله، فإن أعداءنا قد أصبحوا لنا هائبين».
فعندئذ قبل نصيحة عمرو، وأشخصه على رأس جيش عدته ستة آلاف رجل، وخرج يودعه ولا يزال يحذره العجلة ويوصيه بالرفق «فإنه يمن، والعجلة من الشيطان».
ولولا الكتاب من أنصاره بمصر لقد كان معاوية يؤثر أن يفتحها له أولئك الأنصار، وأن يولي عليها زعيما من زعمائهم، وله الحجة الناهضة في ذلك، إذ كان القائد المتغلب على البلد أولى بولايته من الطارق الواغل الذي يقبل عليه لينازعه ثمرة جهاده.
على أن مصر لم تكن إلى ذلك الحين طعمة سائغة ولا طعمة عصية، فقد كان فيها محمد بن أبي بكر لا يزال واليا عليها من قبل علي بن أبي طالب، وكان قد ولاه حكمها بعد عزل قيس بن سعد، أقدر رجاله وأخبرهم بشئون الولاية والسياسة، فقال قيس وهو يسلمه مقاليد الأمر: «ليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وأنا أدلك على الذي كنت أكايد به معاوية وعمرا وجماعة العثمانية المقيمين بخربتا، فكايدهم به ...!» إلا أن محمد بن أبي بكر لم يستمع له واستغشه، وبطش بالعثمانية بطشة عنيفة فثاروا عليه، وثار معهم من لم يكن على رأيهم، وأبوا أن يقيموا على حكمه، فصالحهم آخر الأمر على أن يلحقوا بمعاوية في الشام، فلحق به الغلاة منهم وبقيت لهم بقية تنطوي على مضض وتترقب الفرصة، وتزداد أملا ويزداد الأنصار من حولها كلما تضاءل أمر علي وتعاظم ملك معاوية.
فلما أقبل عمرو على مصر أقبل عليها فاتحا قبل أن ينالها واليا مكين الولاية، وكان «عمرو الفاتح» يعمل لمعاوية كمن يعمل «لعمرو الوالي» إذا تم له الفتح كما اشتهاه.
وأوشك الفتح الثاني أن يكون نسخة مكررة من الفتح الأول: عمرو يستعجل غزو مصر ويتهم بالعجلة، ثم يدخل مصر وفيها حكومة وشعب لا يتفقان، ثم يسلك الطريق الذي سلكه أول مرة، ثم يلتقي بجيش محمد بن أبي بكر، كما التقى بجيش الرومان من قبل في جيزة بلبيس، على مسافة قريبة من الوقعة الأولى عند قرية تسمى المنشأة.
أما محمد بن أبي بكر فقد دافع عن مصر دفاع المستميت، وصمد لأنصار معاوية المقيمين والقادمين صمود الأبطال، ولكنه أخفق في دفاعه؛ لأنه لم يلبث أن رأى جنوده يتفرقون عنه يأسا من الدولة المولية، وأملا في الدولة المقبلة، ثم تعقبه أعداؤه حتى ظفروا به فمثلوا به شر تمثيل!
ومن الإنصاف لعمرو أن يعلم أنه كان بريء اليد في هذه المثلة الذميمة، فقد كان عمرو يشير على معاوية بقتل الأسرى والنقمة من أصحاب علي، حيث كان معاوية هو المسئول عن قتلهم والنقمة منهم، فلما تفرد بالتبعة في أمثال هذه المشورات أقصاها عنه جهده، ووقف منها موقف من لا يدفع ولا يمنع، فكتب إلى محمد بن أبي بكر يقول له: «تنح عني بدمك يا بن أبي بكر، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر.» ثم وقع محمد في أسر معاوية بن حديج، وهو من أسفه العثمانية عصبية لحزبه، فأرسل إليه عمرو أن يأتيه به كرامة لأبيه ولأخيه عبد الرحمن بن أبي بكر، وقد كان من عجائب التفرق بين الأحزاب أن محمدا يشايع عليا، وعبد الرحمن يحاربه في جيش الشام! فلم تنفع وساطة عمرو، وأقسم معاوية بن حديج ليقتلنه شر قتلة، وجاء به، فطلب ماء فقال ابن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة! إنكم منعتم عثمان الماء ثم قتلتموه صائما، فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك يا بن أبي بكر، فليسقك الله من الجحيم!
ولم تفارق محمدا أنفته بين يدي آسريه، فأغلظ الجواب لهم وتلفت قائلا: والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا، فقتلوه «وألقوه في جيفة حمار ميت، ثم حرقوه بالنار»!
ونفض عمرو يده من هذه المثلات وأشباهها، وجهد في تهدئة الزعازع بمصر، وتمهيد الأمر فيها لنفسه ولأعقابه من بعده، وسرعان ما تمهد له بعد مقتل علي ونجاته هو من القتل في السابع عشر من رمضان سنة أربعين للهجرة.
وذلك أن ثلاثة من الخوارج تآمروا على قتل علي ومعاوية وعمرو في ليلة واحدة، فأما صاحب علي فقد أصابه، وأما معاوية وعمرو فقد نجوا من صاحبيهما، وقتل خارجة بن حذافة صاحب الشرطة؛ لأنه خرج للصلاة في مكان عمرو، إذ كان هذا يشتكي بطنه في تلك الليلة، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة! وأمر بقتله.
ولم يعرض له في ولايته الثانية حادث ذو بال بعد هذا الحادث، فقد هدأت مصر واجتمع الناس على مبايعة معاوية في سنة إحدى وأربعين للهجرة، فسميت «عام الجماعة» ... وحكمت الشيخوخة حكمها، فوهن جسمه وتتابع سقمه ودانت له الدنيا، وهو يقول إذا سئل عن حاله: «إنه حال من يذوب ولا يثوب!»
وإنه على هذا لمجدود مسعود.
فمن آية الجد أن ينتفع الإنسان بما يضير الناس، وقد انتفع عمرو بوهنه مرتين: مرة حين نجا من الموت لاشتكاء بطنه، ومرة حين سلمت له الولاية ببركة هذا الوهن الذي لا محيص عنه، فلولاه لما طابت نفس معاوية له بولاية يملك فيها الأموال والرجال، ولعله يعيش بعده فيغلب أعقابه على الخلافة، وأهون شيء أن ينتزع ابن العاص في شبابه أو كهولته خلافة من يزيد.
على أن هذا الفؤاد المتوهج بنوازع الحياة لم يسأم العيش يوما، وقد جاوز الثمانين، أو قارب المائة في قول آخرين، فبكى وهو يجود بنفسه أسفا على الحياة، وقال لأبنائه: «إذا واريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور وتفصيلها،
3
أستأنس بكم حتى أعلم ما أراجع به رسل ربي.»
ورحمه الله ... إنه لم يدع الأحوط من الأمرين حيث يدع الحي نفسه، فكان يقول وهو على سرير الموت: «لو كان ينفعني أن أطلب لطلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت.» وربما نظر إلى أمواله فقال: «من يأخذها بأوزارها؟» وقبل ذلك بعام أو عامين كان يسأله معاوية عما بقي له من لذات العيش فيقول: «مال أغرسه وخبر من ضيعتي!» •••
وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين للهجرة، فدفن بجوار المقطم عند ضريح الإمام الشافعي القائم الآن، وضم معاوية خزائنه إلى بيت المال، وولاية مصر إلى أخيه عتبة بن أبي سفيان.
وكذلك انقضت حياة حافلة، حياة عاملة، وحياة طائلة، وصح فيه على تباين الآراء والأقوال أنه رجل من عظماء الرجال، فمهما يختلف المختلفون في نياته وحسناته أو سيئاته، فالذي لا خلاف فيه أنه كسب للإسلام قطرين كبيرين: هما فلسطين ومصر، وأن له سهما وافرا في كل ما نحسبه للدولة الأموية من العظائم والمآثر في تاريخ الأمة العربية والأمم الإسلامية.
الفصل العاشر
من كلامه
من تمام القول في عمرو بن العاص، بل من تمام العلم به، أن نلم بطرف من كلامه الذي يدل عليه.
وقد نسب إليه كلام كثير نسب إلى غيره، وكان شأنه في هذا كشأن الجلة من النابهين في صدر الإسلام فيما ينقل عنهم، فربما نسبت الكلمة الواحدة إلى ثلاثة أو أربعة من أبناء عصر واحد أو عصور متفرقة، بيد أننا نعتمد في نسبة الكلام إليه مشابهته لما أثر عن خلقه ونسق تفكيره، ثم شيوع الرواية ومكان رواتها من الثقة والدراية.
فما يشبهه في التعاظم بالنسب، أو في الخصلة التي نسميها اليوم بالنزعة الأرستقراطية أنه قال لمعاوية: «يا أمير المؤمنين! لا تكن بشيء في أمور رعيتك أشد تعمدا منك لخصاصة الكريم حتى تعمل في سدها، ولطغيان اللئيم حتى تعمل في قمعه واستوحش من الكريم الجائع، ومن اللئيم الشبعان، فإن الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع.»
وكان يؤمن بهذا الرأي كثيرا، ولا يزال يعيده، فقال في مناسبة أخرى: «موت ألف من العلية، أقل ضررا من ارتفاع واحد من السفلة.»
ويتصل بهذا المعنى وقد يكون فيه اعتذار من حربه لعلي بن أبي طالب، قوله لابنه عن الإمام والحكومة: «يا بني! إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد خطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم، يا بني! مزاحمة الأحمق خير من مصافحته، يا بني! زلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقي ولا تذر، يا بني! استراح من لا عقل له!»
ومن وصفه للرجال: «الرجال ثلاثة: فرجل تام، ونصف رجل، ولا شيء. فأما الرجل التام فالذي يكمل دينه وعقله، فإذا أراد أمرا لم يمضه حتى يستشير أهل الرأي، فإذا وافقوه حمد الله وأمضى رأيه فلا يزال مضيه موثقا، ونصف رجل الذي لم يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أمرا لم يستشر فيه أحدا، وقال: أي الناس كنت أطيعه أو أترك رأيي لرأيه؟ فيصيب ويخطئ، والذي لا شيء من لا دين ولا عقل له، ولا يستشير في الأمر فلا يزال مخطئا مدبرا! ... ووالله إني لأستشير في الأمر حتى خدمي ...!»
ووصف عبد الملك بن مروان، فقال: «آخذ بثلاث، تارك لثلاث: آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الأمرين عليه إذا خولف، تارك للمراء، تارك لمقاربة اللئيم، تارك لما يعتذر منه.»
ويتعاطى وصف الأمم على رأيه، كما قال في أقوام زمانه: «أهل الشام أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، وأهل مصر أكيسهم صغارا وأحمقهم كبارا، وأهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها، وأهل العراق أطلبهم للعلم وأبعدهم منه!»
على أنه كان وصافة لا يجارى في وصف المناظر الكبيرة بالكلمات القليلة، ومن أبرع صفاته للطبيعة والناس معا قوله في البحر: «إنه خلق عظيم، يركبه خلق صغير: فدود على عود!»
وكان بليغ البادرة سريع الجواب، سديدا في توفيق لفظه ومعناه، ولا عجب أن يكون كذلك، وهو مع ذكائه المتوقد عرضه للمسبة، مضطر إلى إفحام من يتعمدونه بالغض والإزراء!
قال له المنذر بن الجارود العبدي: أي رجل أنت لو لم تكن أمك من هي! فسرعان ما ردها عليه قائلا: «لقد فكرت فيها البارحة، فجعلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطر لي عبد قيس ببال!»
وقال له رجل: والله لأتفرغن لك، فقال: «هنالك وقعت في الشغل!» قال الرجل: «كأنك تهددني؟ والله لئن قلت لي كلمة لأقولن لك عشرا.» قال: «وأنت والله لئن قلت لي عشرا لم أقل لك واحدة!»
وقال له سلام بن روح الخزاعي: كان بينكم وبين الفتنة باب فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ قال: «أردنا أن نخرج الحق من حظيرة الباطل، وأن يكون الناس في الحق سواء.»
ومن أشبه الأجوبة به وقد سئل: ما السرور؟ فقال: «الغمرات ثم تنجلي ...» فهي كلمة رجل يقدم على المغامرة، ويحسن جلاء الغمرات.
وشبيه به كذلك قوله: «ما وضعت عند أحد من الناس سرا فأفشاه فلمته ...» فسئل: ولم؟ قال: «أنا كنت به أضيق صدرا حين استودعته إياه.»
وشبيه به على هذا النحو قوله: «لا أمل دابتي ما حملتني، ولا زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا جليسي ما لم يصرف وجهه عني.» لأن الذي يصطنع الناس ويشتري الصدقات، ويتجمل للرئاسة لا بد له من هذه الخصال. •••
وقد اشتهرت القبريات في آداب الأمم، وشاعت الكلمات التي حفظت عن العظماء في ساعاتهم الأخيرة، فلو جمعت كلمات المحتضرين ومن يواجهون الموت، لما كان في عظماء المسلمين أحفل من عمرو بن العاص نصيبا من هذا الأدب الذي يدل على حظ قائليه من الحياة، وميزانهم في الحسنات والسيئات، ومعظم المنقول عنه في هذا الصدد يوائمه أن يقوله، ويشبه ما يستقبل به آخرته ويودع دنياه!
فكان في أخريات أيامه يدعو الله قائلا: «اللهم آتيت عمرا مالا فإذا كان أحب إليك أن تسلب عمرا ماله ولا تعذبه بالنار، فاسلبه ماله! وإنك آتيت عمرا أولادا، فإن كان أحب إليك أن تثكل عمرا ولده ولا تعذبه بالنار فأثكله ولده، وأنك آتيت عمرا سلطانا، فإن كان أحب إليك أن تنزع منه سلطانه ولا تعذبه بالنار، فانزع منه سلطانه.»
ويرحمه الله! لقد دخل الإسلام وهو يشترط أن يضمن له إسلامه سقوط العقاب على آثام ماضية وهم بمفارقة الدنيا فلم يبال أن يخسر ماله أو ولده أو سلطانه إذا ضمن شيئا واحدا في الآخرة: ألا يعذب بالنار!
وكان يقول لبنيه، كأنه حسب نصيبه من جانبيه، ورفع ميزانه بيديه: «إني لست في الشرك الذي لو مت عليه أدخلت النار، ولا في الإسلام الذي لو مت عليه أدخلت الجنة، فمهما قصرت فيه فإني متمسك بلا إله إلا الله.»
وكان يقول: «اللهم لا قوي فأنتصر ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت.» ولم يزل يرددها حتى مات.
وردد في سرير موته استغفاره الذي يقول فيه: «اللهم أمرت بأمور ونهيت عن أمور، فتركنا كثيرا مما أمرت، ووقعنا في كثير مما نهيب ... اللهم لا إله إلا أنت، اللهم لا إله إلا أنت.»
ودخل عليه ابن عباس في مرض موته، فسأله: كيف أصبحت؟ قال: «أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلا وأفسدت كثيرا، فلو كان ما أصلحت هو ما أفسدت لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت، فعظني بموعظة أنتفع بها يا بن أخي!» قال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله ... فأجابه بكلمة يجري بها لسان من يحضرون السلطان ويردون الوقيعة عنده، كأنه أراد أن يستجلب رحمة الله بكلمة ابن عباس، فقال: «اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى!»
وليس بين العظماء في صدر الإسلام من استقبل الموت بكلام أجزل من هذا الكلام، وأدل منه على شعور صاحبه في مفترق الدنيا والآخرة، وجملة ما يدل عليه أنه كلام رجل ملأته الحياة ودوافعها القوية، فلم يخطر الموت بباله حتى خطر له مرة واحدة، وهو بين يديه لا منصرف عنه. •••
تلك أمثلة عابرة من كلماته المأثورة غير ما تقدمت الإشارة إليه في سياق الكتاب.
وقد رويت له آثار في الشعر والخطب الطوال تسلكه بين الشعراء والخطباء، فنسب إليه من الشعر هذان البيتان:
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل
به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة
أخذت بها شيخا يضر وينفع
ونسبت إليه أبيات قالها لعمارة الذي راود امرأته، بعد أن أوقع به في الحبشة:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه
ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منه وغادر سبة
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
من الآن فانزع عن مطاعم جمة
وعالج أمور الموت لا تتندما
ومن الشعر المنسوب إليه وصف فرسه في قوله:
شبت الحرب فأعددت لها
مفرع الحارك محبوك الثبج
1
يصل الشد بشد فإذا
ونت الخيل من الشد معج
2
وكل ما نسب إليه من شعر فهو من هذه الطبقة التي لا تسف، ولا تعلو إلى الذروة بين بدائع الشعراء.
أما الخطب المطولة ففي النموذج التالي غنى في الإبانة عن قدرته عليها، وهو شطر من خطبة ألقاها يوم الجمعة قال فيها:
يا معشر الناس إياي وخلالا أربعا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذل بعد العز: إياي وكثرة العيال، وانخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل والقال، في غير درك ولا نوال إنه لا بد من فراغ يئول المرء إليه في توديع جسمه، والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وشهواتها، فمن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب نفسه من العلم، فيكون من الخير عاطلا، وعن حلال الله وحرامه عادلا، يا معشر الناس: قد تدلت الجوزاء وارتفعت الشعرى، وأقلعت السماء وارتفع الوباء، وقل الندى وطاب المرعى، ووضعت الحوامل ودرجت السخائل، وعلى الراعي حسن النظر ... فحي بكم على بركة الله إلى ريفكم، فتنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها، فإنها جنتكم من عدوكم، وبها تنالون مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرا، وإياكم والمشمومات المعسولات، فإنهن يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدثني أمير المؤمنين عمر أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله سيفتح عليكم مصرا فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لهم فيكم صهرا وذمة.» فكفوا أيديكم وفروجكم وغضوا أبصاركم، فلا أعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أنني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حولكم ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال، والخير الواسع والبركة النامية. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض.» فقال أبو بكر: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.» فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم، وأقيموا في ريفكم ما بدا لكم، فإذا يبس العود وسخن العمود وكثر الذباب وحمض اللبن وصوح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحي على فسطاطكم على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله، على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
وهذا نموذج نادر من الخطب المنبرية التي كان الخطيب فيها يتولى «وظيفة» الوالي والواعظ والوالد والزعيم، وكان فيها مسحة من البرامج السياسية، والخطط الإدارية ونفحة من الشعر وقبس من الدين والحكمة. •••
ومن لواحق هذا الباب أن نأتي ببعض الأحاديث التي رواها عمرو عن النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عقل الرجل ودينه قد يظهران مما يجري على لسانه من كلام غيره، كما يظهران من كلامه.
قال رجل من بني بكر بن وائل: لئن لم تنته قريش ليضيعن هذا الأمر في جمهور من جماهير العرب سواهم، فقال عمرو بن العاص: كذبت! سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة.»
واختصم رجلان إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمرو: «اقض بينهما.» فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله! قال: «وإن كان.» قال: فإذا قضيت بينهما فما لي؟ قال: «إن أنت قضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة.»
وقال عمرو: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد - وكان في غزوة ذات السلاسل - فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله ذكرت ذلك فقال: «يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟» قلت: نعم يا رسول الله! إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله - عز وجل:
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [النساء: 92]. فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم يقل شيئا. •••
واستأذن على فاطمة - رضي الله عنها - فأذنت له، فسأل: ثم علي؟ قالوا: لا. فرجع، ثم استأذن عليها مرة أخرى، فسأل كذلك: ثم علي؟ قالوا: نعم فدخل، فقال له علي: ما منعك أن تدخل حين لم تجدني ههنا؟ قال: إن رسول الله نهانا أن ندخل على المغيبات. •••
وإن الرجل في حديثه مع النبي لهو عمرو بن العاص في كل ما ثبت له من رواية أو عمل أو مقال.
الفصل الحادي عشر
خاتمة مفسرة
ظهرت في السنوات الأخيرة كتب عدة عن تاريخ مصر، كتب بعضها باللغة العربية، وكتب أكثرها باللغات الأوروبية، ووجهتها جميعا تشويه الماضي وتصوير الحاضر على الصورة التي توافق أهواء المؤلفين، وتخدم مساعيهم التي لا تخفى ... ولا تفهم أهواء أولئك المؤلفين إلا على وجه واحد، وهو أنهم يتمنون لو لم تخرج مصر من حكم الدولة الرومانية، ومن رعاية كنيستها التي كانت قائمة يومئذ في القسطنطينية وفي رومة ، وكل ما يأتي بعد ذلك من تصويرات أولئك المؤرخين، فهو مفهوم على هذا الاعتبار.
وقد أعددنا هذه الطبعة من هذا الكتاب
1
فوجب علينا جلاء الحقيقة عن وجه التاريخ في هذه المسألة التي يشوه فيها الماضي، خدمة لبعض المساعي الأجنبية في الوقت الحاضر، ولا نحب أن نتوسع في الشروح والتفصيلات، ولكننا نحسب أن الصفحات التي عبرها القارئ كافية لنقض تلك الأهواء واجتناب المزالق التي ينحدر إليها من يقرءون التاريخ، ولا يلتفتون إلى تسخيره في خدمة أصحاب المآرب والسعايات.
فمن حقائق التاريخ التي لا تحجبها الأهواء، أن انتشار المسيحية في مصر إنما كان احتجاجا روحانيا على الدولة الرومانية؛ ولهذا لم ينقطع الخلاف بين مصر والدولة الرومانية بعد دخول هذه في الدين المسيحي، فقد ظهر سخط المصريين بعد ذلك في صورة أخرى، فقاوموا المذهب الملكي الذي فرضته عليهم تلك الدولة، وفرقوا بينه وبين مذهبهم بهذه التسمية التي جعلت المذهب الحكومي الروماني في جانب، وجعلت المذهب القومي المصري في الجانب الآخر، ودار النزاع على هذا المحور إلى نهاية عهد الدولة في الديار المصرية.
كذلك ينقض التاريخ كل ما يقال عن التفرقة بين عناصر الوطنية المصرية؛ فمن الحقائق الواضحة أن المسلمين والمسيحيين سواء في تكوين السلالة القومية، ولا فرق بين هؤلاء وهؤلاء في الأصالة والقدم عند الانتساب إلى هذه البلاد، فإذا كان بين المسلمين المصريين أناس وفدوا من بلاد العرب أو الترك، فبين المسيحيين المصريين كذلك أناس وفدوا من سورية واليونان والحبشة، ودانوا بمذهب الكنيسة المصرية أو بغيره من المذاهب المسيحية، ويبقى العديد الأعظم بعد ذلك سلالة مصرية عريقة، ترجع بآبائها وأجدادها إلى أقدم العهود قبل الميلاد المسيحي، وقبل بعثة موسى - عليه السلام.
وحديث المظالم التي يلج المؤرخون المغرضون في التنقيب عنها قد تثبت كل الثبوت أو تثبت المبالغة فيها لغرض من الأغراض، ولكنها إذا رويت على حقيقتها التاريخية مجردة من تلك الأغراض، لم تنحصر في مصر ولا في بلد واحد من بلاد العالم ... فمن أجل المظالم وأشباهها ثارت الأمم في الغرب والشرق، ومنها أمم مسيحية تثور على حكام مسيحيين، أو أمم إسلامية تثور على حكام مسلمين، وقد يكون الثائرون والطغاة من أبناء نحلة واحدة تنتمي إلى دين واحد، كما حدث منذ القرون الوسطى إلى القرن الأخير.
وعصمة القارئ والمؤرخ في تمحيص الحقائق أن يلتمس هوى «الدولة الرومانية» في كتابة تاريخ هذا البلد بعد زوالها، فكل من كتب التاريخ كأنه يضع نفسه في موضع تلك الدولة ويتحسر على زوالها، وزوال سلطانها وسلطان عواهلها وأحبارها، فهو «أجنبي الهوى» يشوه الماضي، ثم لا يعنيه تشويه الماضي في الواقع، بل يريد أن يتسلل من الماضي كما يصوره إلى الحاضر كما يشتهيه، ودون ذلك، ويعتصم الحق بحمى الوطن وحمى التاريخ.
صفحة غير معروفة