ثم جاء جوليان المرتد بعد قسطنطين فبقيت للإسكندرية مكانتها الكبرى، ولم تكن للقسطنطينية مكانة دينية كبيرة أو صغيرة؛ لأنها عاصمة دولة لم تعترف بالدين، أو لم تثبت على الاعتراف به، وانقلبت عليه تحاربه وتقصي أتباعه من مراكزها العليا.
وظل مقام الإسكندرية مقامها إلى القرن السادس الذي استقرت فيه المسيحية في عاصمة الدولة وأصبحت كنيستها عاصمة الكنائس على هذا الاعتبار، وأوشكت هذه الصفة أن تثبت لها بعد تسمية القسطنطينية برومة الجديدة؛ تعاليا بها على رومة القديمة، فلم يبق لبطرق العاصمة مناظر يحسب حسابه غير بطرق الإسكندرية. وإذا كان مذهب الملك هو المذهب السائد في بلاد الدولة الرومانية، فرئيس الكنيسة في الإسكندرية تابع ولا شك لرئيس الكنيسة التي يصلي فيها الإمبراطور ويتولى رئاستها الدينية في عاصمته الكبرى، وبطرق الإسكندرية مرءوس لبطرق القسطنطينية على هذا الاعتبار.
لقد كان البطرق الإسكندري رأس الدين المسيحي في العالم كله قبل رؤسائه في العاصمة الغربية والعاصمة الشرقية، وكان من بطارقتها من يقول: «ماذا يعنيني من الإمبراطور؟ إنني هنا الإمبراطور!» وكان صادقا فيما قال؛ لأن الناس كانوا يطيعونه ويؤمنون بأن طاعته من طاعة السماء، أما الإمبراطور فمهما يكن من أمر طاعته القسرية فهي طاعة أرضية على كل حال!
هنالك وجب تعويض مصر، ووجب اجتماع اللقب السياسي واللقب الديني في كرسي واحد، وكان هذا هو حكم البداهة الذي وافقه حكم الواقع، فكان «المقوقس» جامعا بين صفة الرئاسة الدينية وصفة الرئاسة الإدارية، أو كان هو بمثابة «ولي الأمر» في مصر بالاصطلاح الحديث، وقد تكون رئاسته عند الدولة رئاسة شرف يعززها مكانة «عملية» بين أبناء البلاد.
وإذا كان التاريخ لا يكرر نفسه كل التكرار في جميع الحوادث، فهو لا يخلو كل الخلو من التكرار المتجدد حينا بعد حين، ولعل لقب «الخديو» أشبه الأشياء بلقب «المقوقس» في أواخر عهد الدولة الرومانية، فهو وال وأكثر من وال في المنزلة السياسية، وهو ولي الأمر بالنيابة عن الخليفة أمير المؤمنين، وباسمه تقام الأحكام الشرعية والإدارية في ظل شاهنشاه، وخليفة الإسلام.
كان لقب المقوقس أو المقوقز كلمة يونانية بمعنى المفخم أو الفاخر، كالحضرة الخديوية «الفخيمة» أو المفخمة كما صححتها اللغة العربية.
وكان إطلاق هذا اللقب على رئيس من المصريين أو المتمصرين معقولا مفهوما في تلك الفترة على سبيل التعويض والترضية، ودفع النزاع والتنافس بين سلطان العاصمة الكبرى وسلطان الإسكندرية، أما الغريب الذي قلما يفهم فهو إطلاقه على قائد روماني لا يكبر - إذا كبر - إلا لينتزع العرش من الإمبراطور.
وهذه ناحية من نواحي البحث المنتج في تاريخ المقوقس وتاريخ الفتح العربي على إجماله، وهناك نواح أخرى تضارعها في الإنتاج أو تزيد عليها، ومنها خطاب النبي - عليه السلام - إلى المقوقس، وتلك السمعة «الخارجية» التي جعلت له هذه المكانة، وجعلته أهلا لأن يخاطبه النبي - عليه السلام - في أمر المصريين جميعا، مع خطابه لهرقل في الوقت نفسه، كأنه لا يملك من أمر مصر ما يملكه المقوقس.
ومن نواحي البحث المنتج صفة المقوقس التي رشحته للتعاهد باسم مصر، والتزام الإنجاز والتنفيذ بعد ارتحال الجيش الروماني من البلاد، ومنها البواعث النفسية التي تحبب إليه أن يبقى في مصر ويخرجها من دولة الروم أبدا، غير مبال بانتقال سلطان الدولة إلى أيدي الفاتحين من أبناء دين غير دينه، فكل هذه النواحي المنتجة تؤدي إلى شيء من الترجيح القوي، إن لم يكن من شأنها أن تؤدي إلى القطع والجزم في جانب الإثبات أو جانب النفي والإنكار، ولكنها على ذلك أهملت أسوأ الإهمال، ولم يعرها «المؤرخون النساخون» بعض ما أعاروه كعادتهم للمقارنة بين النصوص والموازنة بين الأرقام، وسرد أقوال الشهود على وقائع ليست من وقائع الشهادة والحكاية في التاريخ، ولا في حوادث كل يوم.
وهذه نماذج من أقوال المؤرخين في هذه المسألة، نحسبها نماذج لأكثر من باب واحد من أبواب التاريخ، فهي مثال لتاريخ النساخين ومثال لتاريخ ذوي الأغراض، ومثال للتاريخ الذي يكتبه المعاصرون وينظرون فيه إلى حوادث الزمن القديم، فيحكمون عليها كأنها تقع اليوم، وتنبعث من دواعي السياسة أو الشعور التي تدور عليها حوادث القرن التاسع عشر أو القرن العشرين. •••
صفحة غير معروفة